روح المعاني - ج ٦

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٦

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٣

تعالى عنه حين شاورهم في التاريخ فاتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة لأنه الوقت الذي أعز الله فيه الإسلام والحين الذي أمن فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبنيت المساجد وعبد الله تعالى كما يجب فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل ، وفهمنا الآن بنقلهم أن قوله تعالى : (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي نؤرخ به الآن ، فإن كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم أخذوه من هذه الآية فهو الظن بهم لأنهم أعلم الناس بتأويل كتاب الله تعالى وأفهمهم بما فيه من الإشارات ، وإن كان ذلك عن رأي واجتهاد فقد علمه تعالى وأشار إلى صحته قبل أن يفعل إذ لا يعقل قول القائل فعلته أول يوم إلا بالإضافة إلى عام معلوم أو شهر معلوم أو تاريخ كذلك وليس هاهنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينة لفظ أو حال فتدبره ففيه معتبر لمن اذكر وعلم لمن رأى بعين فؤاده واستبصر انتهى. ولا يخفى على المطلع على التاريخ أن ما وقع كان عن اجتهاد وأن قوله : وليس هاهنا إضافة إلخ محل نظر ، ويستفاد من الآية أيضا على ما قيل النهي عن الصلاة في مساجد بنيت مباهاة أو رياء أو سمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله تعالى ، وألحق بذلك كل مسجد بني بمال غير طيب.

وروي عن شقيق ما يؤيد ذلك. وروي عن عطاء لما فتح الله الأمصار على عمر رضي الله تعالى عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه ، ومن حمل التطهير فيها على ما نطقت به الأخبار السابقة قال : يستفاد منها سنية الاستنجاء بالماء ، وجاء من حديث البزار تفسيره بالجمع بين الماء والحجر وهو أفضل من الاقتصار على أحدهما ، وفسره بعضهم بالتخلص عن المعاصي والخصال المذمومة وهو معنى مجازي له ، وإذا فسر بما يشمل التطهير من الحدث الأكبر والخبث والتنزه من المعاصي ونحوها كان فيه من المدح ما فيه ، وجوز في جملة (فِيهِ رِجالٌ) ثلاثة أوجه أن تكون مستأنفة مبينة لأحقية القيام في ذلك المسجد من جهة الحال بعد بيان الأحقية من جهة المحل ، وأن تكون صفة للمبتدإ جاءت بعد خبره ، وأن تكون حالا من الضمير في (فِيهِ) وعلى كل حال ففيها تحقيق وتقرير لاستحقاق القيام فيه ، وقرئ «أن يطهروا» بالإدغام.

(وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) أي يرضى عنهم ويكرمهم ويعظّم ثوابهم وهو المراد بمحبة الله تعالى عند الأشاعرة وأشياعهم وذكروا أن المحبة الحقيقية لا يوصف بها سبحانه ، وحمل بعضهم التعبير بها هنا على المشاكلة ، والمراد من المطهرين إما أولئك الرجال أو الجنس ويدخلون فيه (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) أي مبنيه فهو مصدر كالغفران واستعمل بمعنى المفعول ، وعن أبي علي أن البنيان جمع واحده بنيانة ولعل مراده أنه اسم جنس جمعي واحده ما ذكر وإلا فليس بشيء ، والتأسيس وضع الأساس وهو أصل البناء وأوله ، ويستعمل بمعنى الإحكام وبه فسره بعضهم هنا ، واختار آخرون التفسير الأول لتعديه بعلى في قوله سبحانه : (عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ) فإن المتبادر تعلقه به ، وجوز تعلقه بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في أسس وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى ، والمراد من الرضوان طلبه بالطاعة مجازا وإن شئت قدرت المضاف ليكون المتعاطفان من أعمال العبد ، والهمزة للإنكار ، والفاء للعطف على مقدر كما قالوا في نظائره أي أبعد ما علم حالهم فمن أسس بنيانه على تقوى وخوف من الله تعالى وطلب مرضاته بالطاعة (خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ) أي طرفه ، ومنه أشفى على الهلاك أي صار على شفاء وشفي المريض لأنه صار على شفا البرء والسلامة ويثنى على شفوان والجرف بضمتين البئر التي لم تطو ، وقيل : هو الهوة وما يجرفه السيل من الأودية لجرف الماء له أي أكله وإذهابه. وقرأ أبو بكر وابن عامر وحمزة «جرف» بالتخفيف وهو لغة فيه (هارٍ) أي متصدع مشرف على السقوط وقيل ساقط ، وهو نعت لجرف وأصله هاور أو هاير فهو مقلوب ووزنه فالع ، وقيل : إنه حذفت عينه اعتباطا فوزنه فال ، والإعراب على رائه كباب ، وقيل : إنه لا قلب فيه ولا

٢١

حذف وأصله هور أو هير على وزن فعل بكسر العين ككتف فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفا ، والظاهر أنه وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى فيما سبق ، وفيه استعارة تصريحية تحقيقية حيث شبه الباطل والنفاق بشفا جرف هار في قلة الثبات ثم استعير لذلك والقرينة المقابلة ، وقوله تعالى : (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) ترشيح ، وباؤه إما للتعدية أو للمصاحبة ، ووضع في مقابلة الرضوان تنبيها على أن تأسيس ذلك على أمر يحفظه مما يخاف ويوصله إلى ما أدنى مقتضياته الجنة ، وتأسيس هذا على ما هو بصدد الوقوع في النار ساعة فساعة ثم المصير إليها لا محالة ، والاستعارة فيما تقدم مكنية حيث شبهت فيه التقوى بقواعد البناء تشبيها مضمرا في النفس ودل عليه ما هو من روادفه ولوازمه وهو التأسيس والبنيان ، واختار غير واحد أن معنى الآية أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة هي التقوى وطلب الرضا بالطاعة خير أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها فأدى به ذلك لخوره وقلة استمساكه إلى السقوط في النار ، وإنما اختير ذلك على ما قيل لما أنه أنسب بتوصيف أهل مسجد الضرار بمضارة المسلمين والكفر والتفريق والإرصاد وتوصيف أهل مسجد التقوى بأنهم يحبون أن يتطهروا بناء على أن المراد التطهير عن المعاصي والخصال المذمومة لأنه المقتضي بزعم البعض لمحبة الله تعالى لا التطهير المذكور في الأخبار ، وأمر الاستعارة على هذا التوجيه على طرز ما تقدم في التوجيه الأول ، وجوز أن يكون في الجملة الأولى تمثيل لحال من أخلص لله تعالى وعمل الأعمال الصالحة بحال من بنى بناء محكما يستوطنه ويتحصن به ، وأن يكون البنيان استعارة أصلية والتأسيس ترشيحا أو تبعية وكذا جوز التمثيل في الجملة الثانية وإجراء ذلك فيها ظاهر بعد اعتبار إجرائه في مقابلة ، وفاعل «أنهار» إما ضمير البنيان وضمير (بِهِ) للمؤسس وإما للشفا وضمير ـ به ـ للبنيان وإليه يميل ظاهر التفسير المار آنفا.

وظاهر الأخبار أن ذلك المسجد إذا وقع في النار فقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة أنه قال في الآية : والله ما تناهى أن وقع في النار. وذكر لنا أنه حفرت فيه بقعة فرئي منه الدخان.

وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال فيها : مضى حين خسف به إلى النار. وعن سفيان بن عيينة يقال : إنه بقعة من نار جهنم. وأنت تعلم أني والحمد لله تعالى مؤمن بقدرته سبحانه على أتم وجه وأنه جل جلاله فعال لما يريد لكني لا أؤمن بمثل هذه الظواهر ما لم يرد فيها خبر صحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ نافع وابن عامر «أسّس» بالبناء للمفعول في الموضعين ، وقرئ «أساس بنيانه وأس بنيانه» على الإضافة ونسب ذلك إلى علي بن نصر «وأسّس» بفتحات ونسبت إلى عاصم «وإساس» بالكسر ، قيل : وثلاثتها جمع أس وفيه نظر ، ففي الصحاح الأس أصل البناء وكذلك الأساس والأسس مقصور منه وجمع الأس مثل أساس عس وعساس وجمع الأساس أسس مثل قذال وقذل وجمع الأسس أساس مثل سبب وأسباب انتهى. وجوز في أسس أن يكون مصدرا. وقرأ عيسى بن عمرو «وتقوى» بالتنوين ، وخرج ذلك ابن جني على أن الألف للإلحاق كما في أرطى ألحق بجعفر لا للتأنيث كألف تترى في رأى والألم يجوز تنوينه. وقرأ ابن مسعود «فانهار به قواعده في نار جهنم» (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لأنفسهم أو الواضعين للأشياء في غير مواضعها أي لا يرشدهم إلى ما فيه صلاحهم إرشادا موجبا له لا محالة.

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا) أي بناؤهم الذي بنوه ، فالبنيان مصدر أريد به المفعول كما مر ، ووصفه بالمفرد مما يرد على مدعي الجمعية وكذا الإخبار عنه بقوله سبحانه : (رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) واحتمال تقدير مضاف وجعل الصفة وكذا الخبر له خلاف الظاهر. نعم قيل : الإخبار بريبة لا دليل فيه على عدم الجمعية لأنه يقال : الحيطان منهدمة

٢٢

والجبال راسية ؛ وجوز بعضهم كون البنيان باقيا على المصدرية و (الَّذِي) مفعوله ، والريبة اسم من الريب بمعنى الشك وبذلك فسرها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والمراد به شكهم في نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم المضمر في قلوبهم وهو عين النفاق ، وجعل بنيانهم نفس الريبة للمبالغة في كونه سببا لها. قال الإمام : وفي ذلك وجوه.

أحدها : أن المنافقين عظم فرحهم ببنيانه فلما أمر بتخريبه ثقل عليهم وازداد غيظهم وارتيابهم في نبوتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وثانيها : أنه لما أمر بتخريبه ظنوا أن ذلك للحسد فارتفع أمانهم عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعظم خوفهم فارتابوا في أنهم هل يتركون على حالهم أو يؤمر بقتلهم ونهب أموالهم. وثالثها : أنهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في البناء فلما أمر بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر ذلك والصحيح هو الأول. ويمكن كما قال العلامة الطيبي أن يرجح الثاني بأن تحمل الريبة على أصل موضوعها ويراد منها قلق النفس واضطرابها.

وحاصل المعنى لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا سببا للقلق والاضطراب والوجل في القلوب ووصف بنيانهم بما وصف للإيذان بكيفية بنائهم له وتأسيسه على ما عليه تأسيسه مما علمت وللإشعار بعلة الحكم ، وقيل : وصف بذلك للدلالة على أن المراد بالبنيان ما هو المبنى حقيقة لا ما دبروه من الأمور فإن البناء قد يطلق على تدبير الأمر وتقديره كما في قولهم كم أبني وتهدم وعليه قوله :

متى يبلغ البنيان يوما تمامه

إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم

وحاصله أن الوصف للتأكيد وفائدته دفع المجاز ، وهذا نظير ما قالوا في قوله سبحانه : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] وفيه بحث.

والاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) من أعم الأوقات أو أعم الأحوال وما بعد إلا في محل النصب على الظرفية أي لا يزال بنيانهم ريبة في كل وقت إلا وقت تقطع قلوبهم أو في كل حال إلا حال تقطعها أي تفرقها وخروجها عن قابلية الإدراك وهذا كناية عن تمكن الريبة في قلوبهم التي هي محل الإدراك وإضمار الشرك بحيث لا يزول منها ما داموا أحياء إلا إذا تقطعت وفرقت وحينئذ تخرج منها الريبة وتزول ، وهو خارج مخرج التصوير والفرض ، وقيل : المراد بالتقطع ما هو كائن بالموت من تفرق أجزاء البدن حقيقة وروي ذلك عن بعض السلف. وأخرج ابن المنذر وغيره عن أيوب قال : كان عكرمة يقرأ «إلا أن تقطع قلوبهم في القبور» وقيل : المراد إلا أن يتوبوا ويندموا ندامة عظيمة تفتت قلوبهم وأكبادهم فالتقطع كناية أو مجاز عن شدة الأسف. وروي ذلك عن ابن أبي حاتم عن سفيان ، وتقطع من التفعل بإحدى التاءين والبناء للفاعل أي تتقطع. وقرئ «تقطّع» على بناء المجهول من التفعيل وعلى البناء للفاعل منه على أن الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي إلا أن تقطع أنت قلوبهم بالقتل ، وقرئ على البناء للمفعول من الثلاثي مذكرا ومؤنثا.

وقرأ الحسن «إلى أن تقطع» على الخطاب ، وفي قراءة عبد الله «ولو قطعت قلوبهم» على إسناد الفعل مجهولا إلى قلوبهم. وعن طلحة ولو قطعت قلوبهم على خطاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ، ويصح أن يعني بالخطاب كل مخاطب ، وكذا يصح أن يجعل ضمير تقطع مع نصب قلوبهم للريبة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بجميع الأشياء التي من جملتها ما ذكر من أحوالهم (حَكِيمٌ) وفي جميع أفعاله التي من جملتها أمره سبحانه الوارد في حقهم. هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) إشارة إلى وصف المغرورين الذين ما ذاقوا طعم المحبة ولا هب عليهم نسيم العرفان ، ومن هنا صححوا لأنفسهم أفعالا فقالوا : لنصدقن (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) أي إنهم نقضوا العهد لما ظهر لهم ما سألوه ، والبخل كما قال أبو حفص : ترك

٢٣

الإيثار عند الحاجة إليه (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ) وهو ما لا يعلمونه من أنفسهم (وَنَجْواهُمْ) أي ما يعلمونه منها دون الناس ، وقيل : السر ما لا يطلع عليه إلا عالم الأسرار والنجوى ما يطلع عليه الحفظة (وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) أرادوا التثبيط على المؤمنين ببيان بعض شدائد الغزو وما دروا أن المحب يستعذب المر في طلب وصال محبوبه ويرى الحزن سهلا والشدائد لذائذ في ذلك ، ولا خير فيمن عاقه الحر والبرد ، ورد عليهم بأنهم آثروا بمخالفتهم النار التي هي أشد حرا ويشبه هؤلاء المنافقين في هذا التثبيط أهل البطالة الذين يثبطون السالكين عن السلوك ببيان شدائد السلوك وفوات اللذائذ الدنيوية (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) فأفنوا كل ذلك في طلب مولاهم جل جلاله (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) المشاهدات والمكاشفات والقربات (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالبغية.

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) أي الذين أضعفهم حمل المحبة (وَلا عَلَى الْمَرْضى) بداء الصبابة حتى ذابت أجسامهم بحرارة الفكر وشدائد الرياضة (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) وهم المتجردون من الأكوان (حَرَجٌ) إثم في التخلف عن الجهاد الأصغر (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) بأن أرشدوا الخلق إلى الحق (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) غرامة وخسرانا ، قيل : كل من يرى الملك لنفسه يكون ما ينفق غرامة عنده وكل من يرى الأشياء لله تعالى وهي عارية عنده يكون ما ينفق غنما عنده (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) أي الذين سبقوا إلى الوحدة من أهل الصنف الأول (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) وهم الذين هجروا مواطن النفس (وَالْأَنْصارِ) وهم الذين نصروا القلب بالعلوم الحقيقية على النفس (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) في الاتصاف بصفات الحق (بِإِحْسانٍ) أي بمشاهدة من مشاهدات الجمال والجلال (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بما أعطاهم من عنايته وتوفيقه (وَرَضُوا عَنْهُ) بقبول ما أمر به سبحانه وبذل أموالهم ومهجهم في سبيله عز شأنه (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) من جنات الأفعال والصفات (تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ) وهي أنهار علوم التوكل والرضا ونحوهما ووراء هذه الجنات المشتركة بين المتعاطفات جنة الذات وهي مختصة بالسابقين (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) وهم الذين لم ترسخ فيهم ملكة الذنب وبقي منهم فيهم نور الاستعداد ولهذا لانت شكيمتهم واعترفوا بذنوبهم ورأوا قبحها وأما من رسخت فيه ملكة الذنب واستولت عليه الظلمة فلا يرى ما يفعل من القبائح إلا حسنا (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) حيث كانوا في رتبة النفس اللوامة التي لم يصر اتصالها بالقلب وتنورها بنوره ملكة لها ولهذا تنقاد له تارة وتعمل أعمالا صالحة وذلك إذا استولى القلب عليها وتنفر عنه أخرى وتفعل أفعالا سيئة إذا احتجبت عنه بظلمتها وهي دائما بين هذا وذاك حتى يقوى اتصالها بالقلب ويصير ذلك ملكة لها وحينئذ يصلح أمرها وتنجو من المخالفات ، ولعل قوله سبحانه : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) إشارة إلى ذلك وقد تتراكم عليها الهيئات المظلمة فترجع القهقرى ويزول استعدادها وتحجب عن أنوار القلب وتهوي إلى سجين الطبيعة فتهلك مع الهالكين ، وترجح أحد الجانبين على الآخر يكون بالصحبة فإن أدركها التوفيق صحبت الصالحين فتحلت بأخلاقهم وعملت أعمالهم فكانت منهم ، وإن لحقها الخذلان صحبت المفسدين واختلطت بهم فتدنست بخلالهم وفعلت أفاعيلهم فصارت من الخاسرين أعاذنا الله تعالى من ذلك ، ولله در من قال :

عليك بأرباب الصدور فمن غدا

مضافا لأرباب الصدور تصدرا

وإياك أن ترضى صحابة ناقص

فتنحط قدرا عن علاك وتحقرا

فرفع أبو من ثم خفض مزمل

يبين قولي مغريا ومحذرا

وقد يكون ترجح جانب الاتصال بأسباب أخر كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً

٢٤

تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) لأن المادة مادة الشهوات فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأخذ من ذلك ليكون أول حالهم التجرد لتنكسر قوى النفس وتضعف أهواؤها وصفاتها فتتزكى من الهيئات المظلمة وتتطهر من خبث الذنوب ورجس دواعي الشيطان (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) بإمداد الهمة وإفاضة أنوار الصحبة (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) أي سبب لنزول السكينة فيهم ، وفسروا السكينة بنور يستقر في القلب وبه يثبت على التوجه إلى الحق ويتخلص عن الطيش (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) لأن النفس تتأثر فيه بصفاء الوقت وطيب الحال وذوق الوجدان بخلاف ما إذا كان مبنيا على ضد ذلك فإنها تتأثر فيه بالكدورة والتفرقة والقبض.

وأصل ذلك أن عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت وتسخيره فيلزم أن يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما تباشره من الأعمال ، ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت محلا للتبرك لما أنها كانت مبنية بيد خليل الله تعالى عليه الصلاة والسلام بنية صادقة ونفس شريفة ، ونحن نجد أيضا أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع وضد ذلك في بعضها ، ولست أعني إلا وجود ذوي النفوس الحساسة الصافية لذلك وإلا فالنفوس الخبيثة تجد الأمر على عكس ما تجده أرباب تلك النفوس ، والصفراوي يجد السكر مرا ، والجعل يستخبث رائحة الورد : ومن هنا كان المنافق في المسجد كالسمك في اليبس والمخلص فيه كالسمكة في الماء (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) أي أهل إرادة وسعي في التطهر عن الذنوب ، وهو إشارة إلى أن صحبة الصالحين لها أثر عظيم ، ويتحصل من هذا وما قبله الإشارة إلى أنه ينبغي رعاية المكان والإخوان في حصول الجمعية ، وجاء عن القوم أنه يجب مراعاة ذلك مع مراعاة الزمان في حصول ما ذكر (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) ولو لا محبته إياهم لما أحبوا ذلك. وعن سهل : الطهارة على ثلاثة أوجه : طهارة العلم من الجهل ، وطهارة الذكر من النسيان ، وطهارة الطاعة من المعصية. وقال بعضهم : الطهارة على أقسام كثيرة : فطهارة الأسرار من الخطرات ، وطهارة الأرواح من الغفلات ، وطهارة القلوب من الشهوات وطهارة العقول من الجهالات ، وطهارة النفوس من الكفريات ، وطهارة الأبدان من الزلات. وقال آخر : الطهارة الكاملة طهارة الأسرار من دنس الأغيار والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل.

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ

٢٥

دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(١٢٩)

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) إلخ ترغيب للمؤمنين في الجهاد ببيان حال المتخلفين عنه ، ولا ترى كما نقل الشهاب ترغيبا في الجهاد أحسن ولا أبلغ مما في هذه الآية لأنه أبرز في صورة عقد عاقده رب العزة جل جلاله ، وثمنه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ولم يجعل المعقود عليه كونهم مقتولين فقط بل كونهم قاتلين أيضا لإعلاء كلمة الله تعالى ونصرة دينه سبحانه ، وجعله مسجلا في الكتب السماوية وناهيك به من صك ، وجعل وعده حقا ولا أحد أوفى من واعده فنسيئته أقوى من نقد غيره ، وأشار

٢٦

إلى ما فيه من الرحب والفوز العظيم وهو استعارة تمثيلية.

صور جهاد المؤمنين وبذل أموالهم وأنفسهم فيه وإثابة الله تعالى لهم على ذلك الجنة بالبيع والشراء ، وأتى بقوله سبحانه : (يُقاتِلُونَ) إلخ بيانا لمكان التسليم وهو المعركة ، وإليه الإشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الجنة تحت ظلال السيوف» ثم أمضاه جل شأنه بقوله ذلك الفوز العظيم ، ومن هنا أعظم الصحابة رضي الله تعالى عنهم أمر هذه الآية. فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في المسجد (إِنَّ اللهَ اشْتَرى) إلخ فكثر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفي ردائه على عاتقه فقال : يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال : نعم. فقال الأنصاري : بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل. ومن الناس من قرر وجه المبالغة بأنه سبحانه عبر عن قبوله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله تعالى وإثابته إياهم بمقابلتها الجنة بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد أنفس المؤمنين وأموالهم والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة الجنة ، ولم يعكس بأن يقال : إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ليدل على أن المقصد بالعقد هو الجنة وما بذله المؤمنون في مقابلتها وسيلة إليها بكمال العناية بهم وبأموالهم ثم إنه تعالى لم يقل بالجنة بل قال عز شأنه : (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) مبالغة في تقرير وصول الثمن إليهم واختصاصه بهم كأنه قيل : بالجنة الثابتة لهم المختصة بهم ، ومن هنا يعلم أن هذه القراءة أبلغ من قراءة الأعمش ونسبت أيضا إلى عبد الله رضي الله تعالى عنه بالجنة على أنها أوفق بسبب النزول. فقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وغيره أنهم قالوا : «قال عبد الله بن رواحة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اشترط لربك ولنفسك ما شئت. قال : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا : فما لنا؟ قال : الجنة قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت إن الله اشترى الآية».

وقيل : عبر بذلك مدحا للمؤمنين بأنهم بذلوا أنفسهم وأموالهم بمجرد الوعد لكمال ثقتهم بوعده تعالى مع أن تمام الاستعارة موقوف على ذلك إذ لو قيل بالجنة لاحتمل كون الشراء على حقيقته لأنها صالحة للعوضية بخلاف الوعد بها ، واعترض بأن مناط دلالة ما عليه النظم الجليل على الوعد ليس كونه جملة ظرفية مصدرة بأن فإن ذلك بمعزل من الدلالة على الاستقبال بل هو الجنة التي يستحيل وجودها في عالم الدنيا ولو سلم ذلك بكون العوض الجنة الموعود بها لأنفس الوعد بها ، على أن حديث احتمال كون الشراء حقيقة لو قيل بالجنة لا يخلو عن نظر كما قيل لأن حقيقة الشراء مما لا يصح منه تعالى لأنه جل شأنه مالك الكل والشراء إنما يكون ممن لا يملك ، ولهذا قال الفقهاء : طلب الشراء يبطل دعوى الملكية ، نعم قد لا يبطل في بعض الصور كما إذا اشترى الأب دارا لطفله من نفسه فكبر الطفل ولم يعلم ثم باعها الأب وسلمها للمشتري ثم طلب الابن شراءها منه ثم علم بما صنع أبوه فادعى الدار فإنه تقبل دعواه ولا يبطلها ذلك الطلب كما يقتضيه كلام الأستروشني لكن هذا لا يضرنا فيما نحن فيه ، ومن المحققين من وجه دلالة ما في النظم الكريم على الوعد بأنه يقتضي بصريحه عدم التسليم وهو عين الوعد لأنك إذا قلت : اشتريت منك كذا بكذا احتمل النقد بخلاف ما إذا قلت : بأن لك كذا فإنه في معنى لك على كذا وفي ذمتي ، واللام هنا ليست للملك إذ لا يناسب شراء ملكه بملكه كالممهورة إحدى خدمتيها فهي للاستحقاق وفيه إشعار بعدم القبض ، وأما كون تمام الاستعارة موقوفا على ذلك فله وجه أيضا حيث كان المراد بالاستعارة الاستعارة التمثيلية إذ لولاه لصح جعل الشراء مجازا عن الاستبدال مثلا وهو مما لا ينبغي الالتفات إليه مع تأتّي التمثيل المشتمل من البلاغة واللطائف على ما لا يخفى ، لكن أنت خبير بأن الكلام بعد لا يخلو عن بحث ، ومما أشرنا إليه من فضيلة التمثيل يعلم انحطاط

٢٧

القول باعتبار الاستعارة أو المجاز المرسل في (اشْتَرى) وحده كما ذهب إليه البعض ، وقوله تعالى : (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) قيل بيان لمكان التسليم كما أشير إليه فيما تقدم ، وذلك لأن البيع سلم كما قال الطيبي ، وغيره ، وقيل : بيان لما لأجله الشراء كأنه لما قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى) إلخ ، قيل : لما ذا فعل ذلك؟ فقيل : ليقاتلوا في سبيله تعالى وقيل : بيان للبيع الذي يستدعيه الاشتراء المذكور كأنه قيل : كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة ، فقيل : يقاتلون في سبيله عز شأنه وذلك بذل منهم لأنفسهم وأموالهم إلى جهته تعالى وتعريض لهما للهلاك ، وقيل : بيان لنفس الاشتراء وقيل : ذكر لبعض ما شمله الكلام السابق اهتماما به على أن معنى ذلك أنه تعالى اشترى من المؤمنين أنفسهم بصرفها في العمل الصالح وأموالهم ببذلها فيما يرضيه وهو في جميع ذلك خبر لفظا ومعنى ولا محل له من الإعراب ، وقيل : إنه في معنى الأمر كقوله سبحانه : (تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [الصف : ١١] ووجه ذلك بأنه أتى بالمضارع بعد الماضي لإفادة الاستمرار كأنه قيل : اشتريت منكم أنفسكم في الأزل وأعطيت ثمنها الجنة فسلموا المبيع واستمروا على القتال ، ولا يخفى ما في بعض هذه الأقوال من النظر. وانظر هل ثم مانع من جعل الجملة في موضع الحال كأنه قيل : اشترى منهم ذلك حال كونهم مقاتلين في سبيله فإني لم أقف على من صرح بذلك مع أنه أوفق الأوجه بالاستعارة التمثيلية تأمل.

وقوله سبحانه : (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) بيان لكون القتال في سبيل الله تعالى بذلا للنفس وأن المقاتل في سبيله تعالى باذل لها وإن كانت سالمة غانمة ، فإن الإسناد في الفعلين ليس بطريق اشتراط الجمع بينهما ولا اشتراط الاتصاف بأحدهما البتة بل بطريق وصف الكل بحال البعض ، فإنه يتحقق القتال من الكل سواء وجد الفعلان أو أحدهما منهم أو من بعضهم بل يتحقق ذلك وإن لم يصدر منهم أحدهما أيضا كما إذا وجد المضاربة ولم يوجد القتل في أحد الجانبين ، ويفهم كلام بعضهم أنه يتحقق الجهاد بمجرد العزيمة والنفير وتكثير السواد وإن لم توجد مضاربة وليس بالبعيد لما أن في ذلك تعريض النفس للهلاك أيضا ، والظاهر أن أجور المجاهدين مختلفة قلة وكثرة وإن كان هناك قدر مشترك بينهم. ففي صحيح مسلم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة ألا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم». وفي رواية أخرى «ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم وما من غازية أو سرية تحنق وتصاب إلا أتم أجورهم». وزعم بعضهم أنهم في الأجر سواء ولا ينقص أجرهم بالغنيمة ، واستدلوا عليه بما في الصحيحين من أن المجاهد يرجع بما نال من أجر وغنيمة ، وبأن أهل بدر غنموا وهم ـ هم ـ ويرد عليه أن خبر الصحيحين مطلق وخبر مسلم مقيد فيجب حمله عليه ، وبأنه لم يجىء نص في أهل بدر أنهم لو لم يغنموا لكان أجرهم على قدر أجرهم وقد غنموا فقط ، وكونهم هم ـ هم ـ لا يلزم منه أن لا يكون وراء مرتبتهم مرتبة أفضل منها ، والقول بأن في السند أبا هانئ وهو مجهول فلا يعول على خبره غلط فاحش فإنه ثقة مشهور روى عنه الليث بن سعد ، وحيوة ، وابن وهب. وخلائق من الأئمة ، ويكفي في توثيقه احتجاج مسلم به في صحيحه ، ومثل هذا ما حكاه القاضي عن بعضهم من أن تعجل ثلثي الأجر إنما هو في غنيمة أخذت على غير وجهها إذ لو كانت كذلك لم يكن ثلث الأجر ، وكذا ما قيل : من أن الحديث محمول على من خرج بنية الغزو والغنيمة معا فإن ذلك ينقص ثوابه لا محالة ، فالصواب أن أجر من لم يغنم أكثر من أجر من غنم لصريح ما ذكرناه الموافق لصرائح الأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم. ويعلم من ذلك أن أجر من قتل أكثر من أجر من قتل لكون الأول من الشهداء دون الثاني ، وظاهر ما أخرجه مسلم من رواية أبي هريرة «من قتل في سبيل الله تعالى فهو شهيد ومن مات في سبيل الله تعالى فهو شهيد» أن القتل في سبيل الله تعالى والموت فيها سواء

٢٨

في الأجر وهو الموافق لمعنى قوله تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [النساء : ١٠٠] واستدل له أيضا بعض العلماء بغير ذلك مما لا دلالة فيه عليه كما نص عليه النووي رحمه‌الله تعالى ، وتقديم حالة القاتلية في الآية على حالة المقتولية للإيذان بعدم الفرق بينهما في كونهما مصداقا لكون القتال بذلا للنفس ، وقرأ حمزة. والكسائي بتقديم المبني للمفعول رعاية لكون الشهادة عريقة في هذا الباب إيذانا بعدم مبالاتهم بالموت في سبيل الله تعالى بل بكونه أحب إليهم من السلامة كما قال كعب بن زهير في حقهم :

لا يفرحون إذا نالت رماحهم

قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا

لا يقع الطعن إلا في نحورهم

وما لهم عن حياض الموت تهليل

وفيه على ما قيل دلالة على جراءتهم حيث لم ينكسروا لأن قتل بعضهم ، ومن الناس من دفع السؤال بعدم مراعاة الترتيب في هذه القراءة بأن الواو لا تقتضيه ، وتعقب بأن ذلك لا يجدي لأن تقديم ما حقه التأخير في أبلغ الكلام لا يكون بسلامة الأمير كما لا يخفى (وَعْداً عَلَيْهِ) مصدر مؤكد لمضمون الجملة لأن معنى الشراء بأن لهم الجنة وعد لهم بها على الجهاد في سبيله سبحانه ، وقوله تعالى : (حَقًّا) نعت له و (عَلَيْهِ) في موضع الحال من (حَقًّا) لتقدمه عليه ، وقوله سبحانه : (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) متعلق بمحذوف وقع نعتا لوعدا أيضا أي وعدا مثبتا في التوراة والإنجيل كما هو مثبت في القرآن فالمراد إلحاق ما لا يعرف مما يعرف إذ من المعلوم ثبوت هذا الحكم في القرآن ، ثم إن ما في الكتابين إما أن يكون أن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشترى الله تعالى منهم أنفسهم وأموالهم بذلك أو أن من جاهد بنفسه وماله له ذلك ، وفي كلا الأمرين ثبوت موافق لما في القرآن ، وجوز تعلق الجار باشترى ووعدا وحقا (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من حقية الوعد ، والمقصود من مثل هذا التركيب عرفا نفي المساواة أي لا أحد مثله تعالى في الوفاء بعهده ، وهذا كما يقال : ليس في المدينة أفقه من فلان فإنه يفيد عرفا أنه أفقه أهلها ، ولا يخفى ما في جعل الوعد عهدا وميثاقا من الاعتناء بشأنه (فَاسْتَبْشِرُوا) التفات إلى خطابهم لزيادة التشريف والاستبشار إظهارا لسرورهم ، وليست السين فيه للطلب ، والفاء لترتيبه أو ترتيب الأمر به على ما قبله أي فإذا كان كذلك فاظهروا السرور بما فزتم من الجنة ، وإنما قال سبحانه : (بِبَيْعِكُمُ) مع أن الابتهاج به باعتبار أدائه إلى الجنة لأن المراد ترغيبهم في الجهاد الذي عبر عنه بالبيع ، ولم يذكر العقد بعنوان الشراء لأن ذلك من قبله سبحانه لا من قبلهم والترغيب على ما قيل إنما يتم فيما هو من قبلهم ، وقوله تعالى : (الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) لزيادة تقرير بيعهم وللإشعار بتميزه على غيره فإنه بيع الفاني بالباقي ولأن كلا البدلين له سبحانه وتعالى ، ومن هنا كان الحسن إذا قرأ الآية يقول : أنفس هو خلقها وأموال هو رزقها (وَذلِكَ) أي البيع الذي أمرتم به (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا فوز أعظم منه ، وما في ذلك من البعد إشارة إلى بعد منزلة المشار إليه وسمو رتبته في الكمال ؛ والجملة تذييل مقرر لمضمون الأمر السابق ، ويجوز أن يكون تذييلا للآية الكريمة والإشارة إلى الجنة التي جعلت ثمنا بمقابلة ما بذلوا من أنفسهم وأموالهم ، وفي ذلك إعظام للثمن ومنه يعلم حال المثمن ، ونقل عن الأصمعي أنه أنشد للصادق رضي الله تعالى عنه :

أثامن بالنفس النفيسة ربها

فليس لها في الخلق كلهم ثمن

بها أشتري الجنات إن أنا بعتها

بشيء سواها إن ذلكم غبن

إذا ذهبت نفسي بدنيا أصبتها

فقد ذهبت مني وقد ذهب الثمن

والمشهور عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها ، وهو ظاهر في أن المبيع هو الأبدان ، وبذلك صرح بعض الفضلاء في حواشيه على تفسير البيضاوي حيث قال : إن الله تعالى اشترى من

٢٩

المؤمن الذي هو عبارة عن الجوهر الباقي بدنه الذي هو مركبه وآلته ، والظاهر أنه أراد بالجوهر الباقي الجوهر المجرد المخصوص وهو النفس الناطقة ، ولا يخفى أن جمهور المتكلمين على نفي المجردات وإنكار النفس الناطقة وأن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس ، وبذلك أبطل بعض أجلّة المتأخرين من أفاضل المعاصرين القول بخلق الأفعال لما يلزم عليه من كون الفاعل والقابل واحدا ، وقد قالوا : بامتناع اتحادهما ، والإنصاف إثبات شيء مغاير للبدن والهيكل المحسوس في الإنسان ، والمبيع أما ذاك ومعنى بيعه تعريضه للمهالك والخروج عن التعلق الخاص بالبدن وإما البدن ومعنى بيعه ظاهر إلا أنه ربما يدعي أن المتبادر من النفس غير ذلك كما لا يخفى على ذوي النفوس الزكية النبيون نعت للمؤمنين ، وقطع لأجل المدح أي هم التائبون ويدل على ذلك قراءة عبد الله. وأبي «التائبين» بالياء على أنه منصوب على المدح أو مجرور على أنه صفة للمؤمنين.

وجوز أن يكون (التَّائِبُونَ) مبتدأ والخبر محذوف أي من أهل الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا لقوله تعالى : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) فإن كلا فيه عام ، والحسنى بمعنى الجنة.

وقيل : الخبر قوله تعالى : (الْعابِدُونَ) وما بعده خبر بعد خبر ، وقيل : خبره (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وقيل : إنه بدل من ضمير (يُقاتِلُونَ) والأول أظهر إلا أن يكون الموعود بالجنة عليه هو المجاهد المتصف بهذه الصفات لا كل مجاهد وبذلك يشعر ما أخرجه ابن أبي شيبة. وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : الشهيد من كان فيه الخصال التسع وتلا هذه الآية.

وأورد عليه أنه ينافي ذلك ما صح من حديث مسلم من أن من قتل في سبيل الله تعالى وهو صابر محتسب مقبل غير مدبر كفرت خطاياه إلا الدين فإنه ظاهر في أن المجاهد قد لا يكون متصفا بجميع ما في الآية من الصفات وإلا لا يبقى لتكفير الخطايا وجه ، وكأنه من هنا اختار الزجاج كونه مبتدأ والخبر محذوف كما سمعت إذ في الآية عليه تبشير مطلق المجاهدين بما ذكر وهو المفهوم من ظواهر الأخبار. نعم دل كثير منها على أن الفضل الوارد في المجاهدين مختص بمن قاتل لتكون كلمة الله تعالى هي العليا وأن من قاتل للدنيا والسمعة استحق النار. وفي صحيح مسلم ما يقتضي ذلك فليفهم ، والمراد من التائبين على ما أخرجه ابن جرير ، وابن المنذر ، وغيرهما عن الحسن وقتادة الذين تابوا عن الشرك ولم ينافقوا. وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن الضحاك أنهم الذين تابوا عن الشرك والذنوب ، وأيد ذلك بأن التائبين في تقدير الذين تابوا وهو من ألفاظ العموم يتناول كل تائب فتخصيصه بالتائب عن بعض المعاصي تحكم. وأجيب بأن ذكرهم بعد ذكر المنافقين ظاهر في حمل التوبة على التوبة عن الكفر والنفاق ، وأيضا لو حملت التوبة على التوبة عن المعاصي يكون ما ذكر بعد من الصفات غير تام الفائدة مع أن من اتصف بهذه الصفات الظاهر اجتنابه للمعاصي ، والمراد من العابدين الذين أتوا بالعبادة على وجهها ، وقال الحسن : هم الذين عبدوا الله تعالى في أحايينهم كلها أما والله ما هو بشهر ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين ولكن كما قال العبد الصالح : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) [مريم : ٣١] وقال قتادة : هم قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم ، (الْحامِدُونَ) أي الذين يحمدون الله تعالى على كل حال كما روي عن غير واحد من السلف ، فالحمد بمعنى الوصف بالجميل مطلقا ، وقيل : هو بمعنى الشكر فيكون في مقابلة النعمة أي الحامدون لنعمائه تعالى وأنت تعلم أن الحمد في كل حال أولى وفيه تأس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فقد أخرج ابن مردويه وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون على السراء والضراء» وجاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتاه الأمر يسره قال : الحمد لله الذي بنعمته

٣٠

تتم الصالحات وإذا أتاه الأمر يكرهه قال : الحمد لله على كل حال» (السَّائِحُونَ) أي الصائمون ، فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن ذلك فأجاب بما ذكر» وإليه ذهب جلة من الصحابة والتابعين.

وجاء عن عائشة «سياحة هذه الأمة الصيام» ، وهو من باب الاستعارة لأن الصوم يعوق عن الشهوات كما إن السياحة تمنع منها في الأكثر ، أو لأنه رياضة روحانية ينكشف بها كثير من أحوال الملك والملكوت فشبه الاطلاع عليها بالاطلاع على البلدان والأماكن النائية إذ لا يزال المرتاض يتوصل من مقام إلى مقام ويدخل من مدائن المعارف إلى مدينة بعد أخرى على مطايا الفكر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أن السائحين هم المهاجرون وليس في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سياحة إلا الهجرة.

وأخرج هو وأبو الشيخ عن عكرمة أنهم طلبة العلم لأنهم يسيحون في الأرض لطلبه ، وقيل : هم المجاهدون لما أخرج الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما «عن أبي أمامة أن رجلا استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السياحة فقال : إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى» والمختار ما تقدم كما أشرنا إليه ، وإنما لم تحمل السياحة على المعنى المشهور لأنها نوع من الرهبانية ، وقد نهى عنها وكانت كما أخرج ابن جرير عن وهب بن منبه في بني إسرائيل (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) أي في الصلوات المفروضات كما روي عن الحسن ، فالركوع والسجود على معناهما الحقيقي ، وجعلهما بعضهم عبارة عن الصلاة لأنهما أعظم أركانها فكأنه قيل : المصلون (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أي الإيمان (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي الشرك كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الأمرين ، ولو أبقى لفظ النظم الجليل على عمومه لكان له وجه بل قيل إنه الأولى ، والعطف هنا على ما في المغني إنما كان من جهة إن الأمر والنهي من حيث هما أمر ونهي متقابلان بخلاف بقية الصفات لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر وهو ترك المعروف والناهي عن المنكر آمر بالمعروف فأشير إلى الاعتداد بكل من الوصفين وأنه لا يكفي فيه ما يحصل في ضمن الآخر ، وحاصله على ما قيل : إن العطف لما بينهما من التقابل أو لدفع الإيهام.

ووجه بعض المحققين ذلك بأن بينهما تلازما في الذهن والخارج لأن الأوامر تتضمن النواهي ومنافاة بحسب الظاهر لأن أحدهما طلب فعل والآخر طلب ترك فكانا بين كمال الاتصال والانقطاع المقتضي للعطف بخلاف ما قبلهما ، وقيل : إن العطف للدلالة على أنهما في حكم خصلة واحدة كأنه قيل : الجامعون بين الوصفين ، ويرد على ظاهره أن (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) في حكم خصلة واحدة أيضا فكان ينبغي فيهما العطف على ما ذكر إذ معناه الجامعون بين الركوع والسجود ويدفع بأدنى التفات ، وأما العطف في قوله سبحانه : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) أي فيما بينه وعينه من الحقائق والشرائع فقيل للإيذان بأن العدد قد تم بالسابع من حيث إن السبعة هو العدد التام والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ولذلك يسمى واو الثمانية ، وإليه مال أبو البقاء وغيره ممن أثبت واو الثمانية وهو قول ضعيف لم يرضه النحاة كما فصله ابن هشام وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه ، وقيل : إنه للتنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل وهذا مجملها ، يعني أنه من ذكر أمر عام شامل لما قبله وغيره ، ومثله يؤتى به معطوفا نحو زيد وعمرو وسائر قبيلته كرماء فلمغايرته بالإجمال والتفصيل والعموم والخصوص عطف عليه ، وقيل : هو عطف عليه ، وقيل : هو عطف على ما قبله من الأمر والنهي لأن من لم يصدق فعله قوله لا يجدي أمره نفعا ولا يفيد نهيه منعا.

وقال بعض المحققين : إن المراد بحفظ الحدود ظاهره وهي إقامة الحد كالقصاص على من استحقه ؛ والصفات الأول إلى قوله سبحانه : و (الْآمِرُونَ) صفات محمودة للشخص في نفسه وهذه له باعتبار غيره فلذا تغاير

٣١

تعبير الصنفين فترك العاطف في القسم الأول وعطف في الثاني ، ولما كان لا بد من اجتماع الأول في شيء واحد ترك فيها العطف لشدة الاتصال بخلاف هذه فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به ، وهذا هو الداعي لإعراب (التَّائِبُونَ) مبتدأ موصوفا بما بعده و (الْآمِرُونَ) خبره فكأنه قيل : الكاملون في أنفسهم المكملون لغيرهم وقدم الأول لأن المكمل لا يكون مكملا حتى يكون كاملا في نفسه ، وبهذا يتسق النظم أحسن اتساق من غير تكلف وهو وجه وجيه للعطف في البعض وترك العطف في الآخر ، خلا أن المأثور عن السلف كابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وغيره تفسير الحافظين لحدود الله بالقائمين على طاعته سبحانه وهو مخالف لما في هذا التوجيه لعل الأمر فيه سهل والله تعالى أعلم بمراده (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجليلة ، ووضع المؤمنين موضع ضمير هم للتنبيه على أن ملاك الأمر هو الإيمان وأن المؤمن الكامل من كان كذلك ، وحذف المبشر به إشارة إلى أنه أمر جليل لا يحيط به نطاق البيان (ما كانَ) أي ما صح في حكم الله عزوجل وحكمته وما استقام (لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله تعالى على الوجه المأمور به (أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) به سبحانه (وَلَوْ كانُوا) أي المشركون (أُولِي قُرْبى) أي ذوي قرابة لهم ، وجواب (لَوْ) محذوف لدلالة ما قبله عليه ، والجملة معطوفة على جملة أخرى قبلها محذوفة حذفا مطردا أي لو لم يكونوا أولى قربى ولو كانوا كذلك (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ) أي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين (أَنَّهُمْ) أي المشركين (أَصْحابُ الْجَحِيمِ) بأن ماتوا على الكفر أو نزل الوحي بأنهم مطبوع على قلوبهم لا يؤمنون أصلا ، وفيه دليل على صحة الاستغفار لأحيائهم الذين لا قطع بالطبع على قلوبهم ، والمراد منه في حقهم طلب توفيقهم للإيمان ، وقيل : إنه يستلزم ذلك بطريق الاقتضاء فلا يقال : إنه لا فائدة في طلب المغفرة للكافر ، والآية على الصحيح نزلت في أبي طالب ، فقد أخرج أحمد ، وابن أبي شيبة ، والبخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الدلائل. وآخرون عن المسيب بن حزن قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال النبي عليه الصلاة والسلام : أي عم قل : لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرضها عليه وأبو جهل وعبد الله يعاودانه بتلك المقالة فقال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول : لا إله إلا الله فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت (ما كانَ لِلنَّبِيِ) الآية.

واستبعد ذلك الحسين بن الفضل بأن موت أبي طالب قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين وهذه السورة من أواخر ما نزل بالمدينة. قال الواحدي : وهذا الاستبعاد مستبعد فأي بأس أن يقال : كان عليه الصلاة والسلام يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول الآية فإن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة ، وذكر نحوا من هذا صاحب التقريب ، وعليه لا يراد بقوله : فنزلت في الخبر أن النزول كان عقيب القول بل يراد أن ذلك سبب النزول ، فالفاء فيه للسببية لا للتعقيب. واعتمد على هذا التوجيه كثير من جلة العلماء وهو توجيه وجيه ، خلا أنه يعكر عليه ما أخرجه ابن سعد وابن عساكر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : أخبرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموت أبي طالب فبكى فقال : «اذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه ففعلت وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستغفر له أياما ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه جبريل عليه الصلاة والسلام بهذه الآية (ما كانَ لِلنَّبِيِ) إلخ» فإنه ظاهر في أن النزول قبل الهجرة لأن عدم الخروج من البيت فيه مغيا به ، اللهم إلا أن يقال بضعف الحديث لكن لم نر من تعرض له ، والأولى في الجواب عن أصل الاستبعاد أن يقال : إن كون هذه السورة من أواخر ما نزل باعتبار الغالب كما تقدم فلا ينافي نزول شيء منها في المدينة. والآية على هذا دليل على أن أبا طالب مات كافرا وهو المعروف من مذهب أهل السنة والجماعة.

٣٢

وروى ابن إسحاق في سيرته عن العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من خبر طويل «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي طالب في مرض موته وقد طمع فيه : أي عم فأنت فقلها يعني لا إله إلا الله أستحل بها لك الشفاعة يوم القيامة ـ وحرض عليه عليه الصلاة والسلام بذلك ـ فقال : والله يا ابن أخي لو لا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها ولا أقولها إلا لأسرك بها فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بإذنه فقال : يا ابن أخي لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم أسمع» واحتج بهذا ونحوه من أبياته المتضمنة للإقرار بحقية ما جاء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشدة حنوه عليه ونصرته له صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشيعة الذاهبون إلى موته مؤمنا وقالوا : إنه المروي عن أهل البيت وأهل البيت أدرى ، وأنت تعلم قوة دليل الجماعة فالاعتماد على ما روي عن العباس دونه مما تضحك منه الثكلى ، والأبيات على انقطاع أسانيدها ليس فيها النطق بالشهادتين وهو مدار فلك الإيمان ، وشدة الحنو والنصرة مما لا ينكره أحد إلا أنها بمعزل عما نحن فيه ، وأخبار الشيعة عن أهل البيت أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت. نعم لا ينبغي للمؤمن الخوض فيه كالخوض في سائر كفار قريش من أبي جهل وأضرابه فإن له مزية عليهم بما كان يصنعه مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من محاسن الأفعال ، وقد روي نفع ذلك له في الآخرة أفلا ينفعه في الدنيا في الكف عنه وعدم معاملته معاملة غيره من الكفار. فعن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وقد ذكر عنده عمه : «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار» وجاء في رواية أنه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل ينفعه ذلك؟ فقال : نعم وجدته في غمرات النار فأخرجته إلى ضحضاح من نار. وسبه عندي مذموم جدا ولا سيما إذا كان فيه إيذاء لبعض العلويين إذ قد ورد «لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات ـ ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».

وزعم بعضهم أن الآية نزلت في غير ذلك. فقد أخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن مسعود قال : «خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما إلى المقابر فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فصلى ركعتين فقام إليه عمر فدعاه ثم دعانا فقال : ما أبكاكم؟ قلنا : بكينا لبكائك قال : إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي وأنزل على (ما كانَ لِلنَّبِيِ) إلخ فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة من الرقة فذاك الذي أبكاني» ولا يخفى أن الصحيح في سبب النزول هو الأول. نعم خبر الاستئذان في الاستغفار لأمه عليه الصلاة والسلام وعدم الإذن جاء في رواية صحيحة لكن ليس فيها أن ذلك سبب النزول. فقد أخرج مسلم ، وأحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، والنسائي عن أبي هريرة قال : «أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال عليه الصلاة والسلام : استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت» واستدل بعضهم بهذا الخبر ونحوه على أن أمه عليه الصلاة والسلام ممن لا يستغفر له ، وفي ذلك نزاع شهير بين العلماء ، ولعل النوبة تفضي إلى تحقيق الحق فيه إن شاء الله تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) آزر بقوله (وَاغْفِرْ لِأَبِي) [الشعراء : ٨٦] أي بأن توفقه للإيمان وتهديه إليه كما يلوح به تعليله بقوله : (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٨٦] والجملة استئناف لتقرير ما سبق ودفع ما يتراءى بحسب الظاهر من المخالفة ، وأخرج أبو الشيخ وابن عساكر من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال : لما مات أبو طالب قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رحمك الله وغفر لك لا أزال أستغفر لك حتى ينهاني الله تعالى فأخذ المسلمون يستغفرون لموتاهم الذين ماتوا وهم مشركون فأنزل الله تعالى (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآية فقالوا : قد استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل سبحانه (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ) وقرأ طلحة «وما استغفر»

٣٣

وعنه «وما يستغفر» على حكاية الحال الماضية لا أن الاستغفار سوف يقع بعد يوم القيامة كما يتوهم مما سيأتي إن شاء الله تعالى ، والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي لم يكن استغفاره عليه‌السلام لأبيه ناشئا عن شيء من الأشياء إلا عن موعدة (وَعَدَها) أي إبراهيم عليه‌السلام (إِيَّاهُ) أي أباه بقوله : (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة : ٤] ، وقوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) [مريم : ٤٧] فالوعد كان من إبراهيم عليه‌السلام.

ويدل على ذلك ما روي عن الحسن ، وحماد الراوية ، وابن السميفع ، وابن نهيك ، ومعاذ القارئ أنهم قرءوا «وعدها أباه» بالموحدة ، وعد ذلك أحد الأحرف الثلاث (١) التي صحفها ابن المقفع في القرآن مما لا يلتفت إليه بعد قراءة غير واحد من السلف به وإن كانت شاذة. وحاصل معنى الآية ما كان لكم الاستغفار بعد التبين واستغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام إنما كان عن موعدة قبل التبين ، ومآله أن استغفار إبراهيم عليه‌السلام كان قبل التبين وينبئ عن ذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أي لإبراهيم عليه‌السلام (أَنَّهُ) أي إن أباه (عَدُوٌّ لِلَّهِ) أي مستمر على عداوته تعالى وعدم الإيمان به وذلك بأن أوحى إليه عليه‌السلام أنه مصرّ على الكفر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ذلك التبين كان بموته كافرا وإليه ذهب قتادة ، وقيل : والأنسب بوصف العداوة هو الأول والأمر فيه هين.

(تَبَرَّأَ مِنْهُ) أي قطع الوصلة بينه وبينه ، والمراد تنزه عن الاستغفار له وتجانب كل التجانب ، وفيه من المبالغة ما ليس في تركه ونظائره (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) أي لكثير التأوه ، وهو عند جماعة كناية عن كمال الرأفة ورقة القلب.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، وغيرهما عن عبد الله بن شداد قال : قال رجل : يا رسول الله ما الأوّاه؟ قال : الخاشع المتضرع الدعاء. وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم أنه الدعاء المستكن إلى الله تعالى كهيئة المريض المتأوه من مرضه وهو قريب مما قبله : وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد ، وقتادة ، وعطاء ، والضحاك ، وعكرمة إنه الموقن بلغة الحبشة ، وعن عمرو بن شرحبيل أنه الرحيم بتلك اللغة وأطلق ابن مسعود تفسيره بذلك ، وعن الشعبي أنه المسبح. وأخرج البخاري في تاريخه أنه الذي قلبه معلق عند الله تعالى. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان وغيره عن كعب أن إبراهيم وصف بالأواه لأنه كان إذا ذكر النار قال أوه من النار أوه. وأخرج أبو الشيخ عن أبي الجوزاء مثله ، وإذا صح تفسير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له لا ينبغي العدول عنه. نعم ما ذهب إليه الجماعة غير مناف له ومناسبته لما نحن فيه ظاهرة كما لا يخفى ، وقد صرح غير واحد أنه فعال للمبالغة من التأوه ، وقياس فعله أن يكون ثلاثيا لأن أمثلة المبالغة إنما يطرد أخذها منه ، وحكى قطرب له فعلا ثلاثيا فقال : يقال آه يئوه كقام يقوم أوها وأنكره عليه غيره وقال : لا يقال إلا أوه وتأوه قال المثقب العبدي :

إذا ما قمت أرحلها بليل

تأوه آهة الرجل الحزين

وأصل التأوه قوله آه ونحوه مما يقوله الحزين. وفي الدرة للحريري أن الأفصح أن يقال في التأوه أوه بكسر الهاء وضمها وفتحها والكسر أغلب ، وعليه قول الشاعر :

فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها

ومن بعد أرض بيننا وسماء

وقد شدد بعضهم الواو وأسكن الهاء فقال أوه ، وقلب بعضهم الواو ألفا فقال آه ، ومنهم من حذف الهاء وكسر الواو فقال أو ثم ذكر أن تصريف الفعل من ذلك أوه وتأوه وأن المصدر الآهة والأهة وإن من ذلك قول المثقب السابق

__________________

(١) ثانيها في عزة وشقاق حيث قرأ غرة بالمعجمة وثالثها شان يغنيه حيث قرأ يعنيه بالياء المفتوحة والعين المهملة ا ه منه

٣٤

(حَلِيمٌ) أي صبور على الأذى صفوح عن الجناية ، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان من حلمه عليه‌السلام أنه إذا آذاه الرجل من قومه قال له : هداك الله تعالى ، ولعل تفسيره بالسيد على ما روي عن الحبر مجاز ، والجملة استئناف لبيان ما جملة عليه الصلاة والسلام على الموعدة بالاستغفار لأبيه مع شكاسته عليه وسوء خلقه معه كما يؤذن بذلك قوله عليه الصلاة والسلام : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم : ٦٤] ، وقيل : استئناف لبيان ما حمله على الاستغفار. وأورد عليه أنه يشعر بظاهره أن استغفار إبراهيم عليه‌السلام لأبيه كان عن وفور الرحمة وزيادة الحلم وهو يخالف صدر الآية حيث دل على أنه كان عن موعدة ليس إلا ، ولعل المراد أن سبب الاستغفار ليس إلا الموعدة الناشئة عما ذكر فلا إشكال. وفيها تأكيد لوجوب الاجتناب بعد التبين كأنه قيل : إنه عليه الصلاة والسلام تبرأ منه بعد التبين وهو في كمال رقة القلب والحلم فلا بد أن يكون غيره أكثر منه اجتنابا وتبرءوا ، وجوز بعضهم أن يكون فاعل وعد ضمير الأب و (إِيَّاهُ) ضمير إبراهيم عليه الصلاة والسلام أي إلا عن موعدة وعدها إبراهيم أبوه وهي الوعد بالإيمان.

قال شيخ مشايخنا صبغة الله أفندي الحيدري : لعل هذا هو الأظهر في التفسير فإن ظاهر هذا السياق أن هذه الآية دفع لما يرد على الآية الأولى من النقض باستغفار إبراهيم لأبيه الكافر ويكفي فيه مجرد كونه في حياة أبيه حيث يحمل ذلك على طلب المغفرة له بالتوفيق للإيمان كما قرر سابقا من غير حاجة إلى حديث الموعدة فيصير (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) كالحشو على التوجيه الأول للضميرين بخلاف هذا التوجيه فإن محصله عليه هو أنه لا يرد استغفار إبراهيم لأبيه نقضا على ما ذكرنا إذ هو إنما صدر عن ظن منه عليه الصلاة والسلام بإيمانه حيث سبق وعده به معه عليه الصلاة والسلام فظن أنه وفى بالوعد وجرى على مقتضى العهد فاستغفر له فلما تبين له أنه لن يفي ولن يؤمن قط أو لم يف ولم يؤمن تبرأ منه.

ويمكن أن يوجه ذكر الموعدة على التوجيه الأول أيضا بأن يقال : أراد سبحانه وتعالى تضمين الجواب بكون ذلك الاستغفار في حال حياة المستغفر له وحمله على الطلب المذكور فائدة أخرى هي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لغاية تصلبه في الدين وفرط تعصبه على اليقين ما كان يستغفر له وإن كان جائزا لكن تأوه وتحلم فاستغفر له وفاء بالموعدة التي وعدها إياه فتفطن انتهى ، وأنت تعلم أنه على التوجيه الثاني لا يستقيم ما قالوه في استئناف الجملة من أنه لبيان الحامل وكان عليه أن يذكر وجه ذلك عليه ، وأيضا قوله رحمه‌الله تعالى في بيان الفائدة : لكنه تأوه وتحلم حيث نسب فيه الحلم إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بصيغة التفعل مع وصفه تعالى له عليه الصلاة والسلام بالحليم عثرة لا يقال لصاحبها لعا ، وحمل ذلك على المشاكلة مع إرادة فعل مما لا يوافق غرضه وسوق كلامه ، فالحق الذي ينبغي أن يعول عليه التفسير الأول للآية وهو الذي يقتضيه ما روي عن الحسن ، وغيره من سلف الأمة رضي الله تعالى عنهم. وذكر حديث الموعدة لبيان الواقع في نفس الأمر مع ما فيه من الإشارة إلى تأكيد الاجتناب وتقوية الفرق كأنه قيل : فرق بين بين الاستغفار الذي نهيتم عنه واستغفار إبراهيم عليه‌السلام فإن استغفاره كان قبل التبين وكان عن موعدة دعاه إليها فرط رأفته وحلمه وما نهيت عنه ليس كذلك. بقي أن هذه الآية يخالفها ظاهر ما رواه البخاري في الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يلقى إبراهيم عليه‌السلام أباه يوم القيامة وعلى وجهه قترة وغبرة فيقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام : ألم أقل لك لا تعصني فيقول أبوه : اليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام : يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال : يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار. ورواه غيره بزيادة فيتبرأ منه فإن

٣٥

الآية ظاهرة في انقطاع رجاء إبراهيم عليه‌السلام اتصاف أبيه بالإيمان وجزمه بأنه لا يغفر له ولذلك تبرأ منه وترك الاستغفار له فإن الاستغفار له مع الجزم بأنه لا يغفر له مما لا يتصور وقوعه من العارف لا سيما مثل الخليل عليه الصلاة والسلام ، وقد صرحوا بأن طلب المغفرة للمشرك طلب للتكذيب الله سبحانه نفسه ، والحديث ظاهر في أنه عليه الصلاة والسلام يطلب ذلك له يوم القيامة ولا ييأس من نجاته إلا بعد المسخ فإذا مسخ يئس منه وتبرأ.

وأجاب الحافظ ابن حجر عن المخالفة بجوابين بحث فيهما بعض فضلاء الروم ، ومن الغريب قوله في الجواب الثاني : إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يتيقن موت أبيه على الكفر لجواز أن يكون آمن في نفسه ولم يطلع عليه الصلاة والسلام على ذلك ويكون وقت تبريه منه بعد الحالة التي وقعت في الحديث فإنه مخالف مخالفة ظاهرة لما يفهم من الآية من أن التبين والتبري كان كل منهما في الدنيا ، وأجاب ذلك البعض بأنا لا نسلم التخالف بين الآية والحديث ، وإنما يكون بينهما ذلك لو كان في الحديث دلالة على وقوع الاستغفار من إبراهيم لأبيه وطلب الشفاعة له وليس فليس ، وقوله : يا رب إنك وعدتني إلخ أراد به عليه الصلاة والسلام محض الاستفسار عن حقيقة الحال فإنه اختلج في صدره الشريف أن هذه الحال الواقعة على أبيه خزي له وأن خزي الأب خزي الابن فيؤدي ذلك إلى خلف الوعد المشار إليه بقوله : إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون ، وأنت خبير بأن الخبر ظاهر في الشفاعة ، وهي استغفار كما يدل عليه كلام المتكلمين في ذلك المقام. ويزيد ذلك وضوحا أن الحاكم أخرج عن أبي هريرة أيضا وصححه ، وقال على شرط مسلم : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يلقى رجل أباه يوم القيامة فيقول : يا أبت أي ابن كنت لك؟ فيقول : خير ابن. فيقول : هل أنت مطيعي اليوم؟ فيقول : نعم. فيقول خذ بإزرتي فيأخذ بإزرته ثم ينطلق حتى يأتي الله تعالى وهو يفصل بين الخلق فيقول : يا عبدي ادخل من أي أبواب الجنة شئت فيقول : أي رب وأبي معي فإنك وعدتني أن لا تخزيني قال فيمسخ أباه ضبعا فيهوى في النار فيأخذ بأنفه فيقول سبحانه : يا عبدي هذا أبوك فيقول : لا وعزتك» ، وقال الحافظ المنذري : إنه في صحيح البخاري إلا أنه قال : «يلقى إبراهيم أباه» وذكر القصة إذ يفهم من ذلك أن الرجل في حديث الحاكم هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام وطلبه المغفرة لأبيه فيه وإدخاله الجنة أظهر منهما في حديث البخاري وما ذكره الزمخشري مخالفا على ما قيل : لما شاع عن المعتزلة أن امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي لا بالعقل لأن العقل يجوز أن يغفر الله تعالى للكافر ، ألا ترى إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي طالب : لأستغفرن لك ما لم أنه لا ينفع في هذا الغرض إلا إذا ضم إليه عدم علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذلك بالوحي إلى يوم القيامة وهو مما لا يكاد يقدم عليه عاقل فضلا عن فاضل.

وأجاب بعض المعاصرين أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان عالما بكفر أبيه ومتيقنا بأن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به إلا أن الشفقة والرأفة الطبيعية غلبت عليه حين رأى أباه في عرصات يوم القيامة وعلى وجهه قترة فلم يملك نفسه أن طلب ما طلب ، ونظير ذلك من وجه قول نوح عليه الصلاة والسلام لربه سبحانه : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) [هود : ٤٥] ولا يخفى أنه من الفساد بمكان ومثله ما قيل : إنه ظن استثناء أبيه من عموم (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨ ، ١١٦] لأن الله وعده أن لا يخزيه فقدم على الشفاعة له ، ولعمري لا يقدم عليه إلا جاهل بجهله.

أما الأول فلأن الأنبياء عليهم‌السلام أجل قدرا من أن تغلبهم أنفسهم على الإقدام على ما فيه تكذيب الله تعالى نفسه ، وأما الثاني فلأنه لو كان لذلك الظن أصل ما كان يتبرأ منه عليه‌السلام في الدنيا بعد أن تبين له أنه عدو لله وهو الأواه الحليم.

٣٦

وقيل : إن الأحسن في الجواب التزام أن ما في الخبرين ليس من الشفاعة في شيء ويقال : إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ظن أن خزي أبيه في معنى الخزي له فطلب بحكم وعد الله سبحانه إياه أن لا يخزيه تخليصه من ذلك حسبما يمكن فخلصه منه بمسخ ذيخا ، ولعل ذلك مما يعده إبراهيم عليه‌السلام تخليصا له من الخزي لاختلاف النوع وعدم معرفة العارفين لأبيه بعد أنه أبوه فكأن الأبوة انقطعت من البين ويؤذن بذلك أنه بعد المسخ يأخذ سبحانه بأنفه فيقول له عليه‌السلام : يا عبدي هذا أبوك؟ فيقول : لا وعزتك ، ولعل المراد من التبري في الرواية السابقة في الخبر الأول هو هذا القول ، وتوسيط حديث تحريم الجنة على الكافرين ليس لأن إبراهيم عليه‌السلام كان طالبا إدخال أبيه فيها بل لإظهار عدم إمكان هذا الوجه من التخليص إقناطا لأبيه وإعلاما له بعظم ما أتى به ، ويحمل قوله عليه‌السلام في خبر الحاكم حين يقال له : يا عبدي ادخل من أي أبواب الجنة شئت أي رب وأبي معي على معنى أأدخل وأبي واقف معي ، والمراد لا أدخل وأبي في هذه الحال وإنما أدخل إذا تغيرت ، ويكون قوله عليه‌السلام : فإنك وعدتني أن لا تخزيني تعليلا للنفي المدلول عليه بالاستفهام المقدر وحينئذ يرجع الأمر إلى طلب التخليص عما ظنه خزيا له أيضا فيمسخ ضبعا لذلك. ولا يرد أن التخليص ممكن بغير المسخ المذكور لأنا نقول : لعل اختيار ذلك المسخ دون غيره من الأمور الممكنة ما عدا دخول الجنة لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه ، وقد ذكروا أن حكمة مسخه ضبعا دون غيره من الحيوانات أن الضبع أحمق الحيوانات ومن حمقه أنه يغفل عما يجب له التيقظ ولذلك قال علي كرم الله تعالى وجهه : لا أكون كالضبع يسمع الكدم فيخرج له حتى يصاد وآزر لما لم يقبل النصيحة من أشفق الناس عليه زمان إمكان نفعها له وأخذ بإزرته حين لا ينفعه ذلك شيئا كان أشبه الخلق بالضبع فمسخ ضبعا دون غيره لذلك ، ولم يذكروا حكمة اختيار المسخ دون غيره وهو لا يخلو عن حكمة والجهل بها لا يضر انتهى.

ولا يخفى ما في هذا الجواب من التكلف ، وأولى منه التزام كون فاعل وعد ضمير الأب وضمير (إِيَّاهُ) راجعا إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكون التبين والتبري واقعين في الآخرة حسبما تضمنه الخبران السابقان ، فحينئذ لا يبعد أن يكون إبراهيم مستغفرا لأبيه بعد وعده إياه بالإيمان طالبا له الجنة لظن أنه وفى بوعده حتى يمسخ ذيخا ، لكن لا يساعد عليه ظاهر الآية ولا المأثور عن سلف الأمة وإن صح كون الآية عليه دفعا لما يرد على الآية الأولى من النقض أيضا بالعناية ، ولعل أخف الأجوبة مئونة كون مراد إبراهيم عليه الصلاة والسلام من تلك المحاورة التي تصدر منه في ذلك الموقف إظهار العذر فيه لأبيه وغيره على أتم وجه لا طلب المغفرة حقيقة ، وهذا كما قال المعتزلة في سؤال موسى عليه‌السلام رؤية الله تعالى مع العلم بامتناعها في زعمهم ، والقول بأن أهل الموقف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغيرهم من سائر المؤمنين والكفار سواء في العلم بامتناع المغفرة للمشرك مثلا في حيز المنع ، وربما يدعى عدم المساواة لظاهر طلب الكفار العفو والإخراج من النار ونحو ذلك بل في الخبرين السابقين ما يدل على عدم علم الأب بحقيقة الحال وأنه لا يغفر له فتأمل ذاك والله سبحانه يتولى هداك «وبقي أيضا» أنه استشكل القول بأن استغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه حتى تبين له أنه عدو لله كان في حياته بما في سورة الممتحنة من قوله سبحانه : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) [الممتحنة : ٤] إلى قوله سبحانه : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة : ٤] حيث منع من الاقتداء به فيه ولو كان في حياته لم يمنع منه لأنه يجوز الاستغفار بمعنى طلب الإيمان لإحياء المشركين. وأجيب بأنه إنما منع من الاقتداء بظاهره وظن أنه جائز مطلقا كما وقع لبعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك بإذن الله تعالى الهادي.

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) أي ما يستقيم من لطف الله تعالى وأفضاله أن يصف قوما بالضلال عن طريق

٣٧

الحق ويذمهم ويجري عليهم أحكامه (بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) للإسلام (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ) بالوحي صريحا أو دلالة (ما يَتَّقُونَ) أي ما يجب اتقاؤه من محذورات الدين فلا ينزجروا عما نهوا عنه ، وكأنه تسلية للذين استغفروا للمشركين قبل البيان حيث أفاد أنه ليس من لطفه تعالى أن يذم المؤمنين ويؤاخذهم في الاستغفار قبل أن يبين أنه غير جائز لمن تحقق شركه لكنه سبحانه يذم ويؤاخذ من استغفر لهم بعد ذلك. والآية على ما روي عن الحسن نزلت حين مات بعض المسلمين قبل أن تنزل الفرائض فقال إخوانهم : يا رسول الله إخواننا الذين ماتوا قبل نزول الفرائض ما منزلتهم وكيف حالهم؟ وعن مقاتل والكلبي أن قوما قدموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل تحريم الخمر وصرف القبلة إلى الكعبة ثم رجعوا إلى قومهم فحرمت الخمر وصرفت القبلة ولم يعلموا ذلك حتى قدموا بعد زمان إلى المدينة فعلموا ذلك فقالوا : يا رسول الله قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن في ضلال فأنزل الله تعالى الآية ، وحمل الإضلال فيها على ما ذكرنا هو الظاهر وليس من الاعتزال في شيء كما توهم وكأنه لذلك عدل عنه الواحدي حيث زعم أن المعنى ما كان الله لوقع في قلوبهم الضلالة : واستدل بها على أن الغافل وهو من لم يسمع النص والدليل السمعي غير مكلف ، وخص ذلك المعتزلة بما لم يعلم بالعقل كالصدق في الخبر ورد الوديعة فإنه غير موقوف على التوقيف عندهم وهو تفريع على قاعدة الحسن والقبح العقليين ولأهل السنة فيها مقال (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعليل لما سبق أي إن الله تعالى عليم بجميع الأشياء التي من جملتها حاجتهم إلى البيان فيبين لهم ، وقيل : إنه استئناف لتأكيد الوعيد المفهوم مما قبله ، وكذا قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من غير شريك له فيه.

(يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) وقال غير واحد : إنه سبحانه لما منعهم عن الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى وتضمن ذلك وجوب التبري عنهم رأسا بين لهم أن الله سبحانه مالك كل موجود ومتولي أمره والغالب عليه ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصر إلا منه تعالى ليتوجهوا إليه جل شأنه بشراشرهم متبرءين عما سواه غير قاصدين إلا إياه (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) قال أصحاب المعاني المراد ذكر التوبة على المهاجرين والأنصار إلا أنه جيء في ذلك بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشريفا لهم وتعظيما لقدرهم ، وهذا كما قالوا في ذكره تعالى في قوله سبحانه : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال : ٤١] إلخ أي عفا سبحانه عن زلات سبقت منهم يوم أحد ويوم حنين ، وقيل : المراد ذكر التوبة عليه عليه الصلاة والسلام وعليهم ، والذنب بالنسبة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من باب خلاف الأولى نظرا إلى مقامه الجليل ، وفسر هنا على ما روي عن ابن عباس بالإذن للمنافقين في التخلف ، وبالنسبة إليهم رضي الله تعالى عنهم لا مانع من أن يكون حقيقيا إذ لا عصمة عندنا لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويفسر بما فسر أولا.

وجوز أيضا أن يكون من باب خلاف الأولى بناء على ما قيل : إن ذنبهم كان الميل إلى القعود عن غزوة تبوك حيث وقعت في وقت شديد ، وقد تفسر التوبة بالبراءة عن الذنب والصون عنه مجازا حيث إنه لا مؤاخذة في كل وظاهر الإطلاق الحقيقة ، وفي الآية ما لا يخفى من التحريض والبعث على التوبة للناس كلهم (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) ولم يتخلفوا عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) أي في وقت الشدة والضيق ، والتعبير عنه بالساعة لزيادة تعيينه وكانت تلك الشدة حالهم في غزوة تبوك فإنهم كانوا في شدة من الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد وفي شدة من الزاد تزودوا التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنخة وبلغت بهم الشدة أن قسم التمرة اثنان ، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء كما روي عن قتادة ، وفي شدة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وفي شدة زمان من حمارة القيظ ومن الجدب والقحط ، ومن هنا قيل لتلك الغزوة غزوة العسرة ولجيشها جيش العسرة.

٣٨

ووصف المهاجرين والأنصار بالاتباع في هذه الساعة للإشارة إلى أنهم حريون بأن يتوب الله عليهم لذلك وفيه أيضا تأكيد لأمر التحريض السابق (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) بيان لتناهي الشدة وبلوغها الغاية القصوى وهو إشراف بعضهم إلى أن يميلوا إلى التخلف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : هو إشراف بعضهم إلى أن يميلوا عن الثبات على الإيمان وحمل ذلك على مجرد الهم والوسوسة ، وقيل : كان ميلا من ضعفائهم وحديثي عهدهم بالإسلام. وفي (كادَ) ضمير الشأن و (قُلُوبُ) فاعل (يَزِيغُ) والجملة في موضع الخبر لكاد ولا تحتاج إلى رابط لكونها خبرا عن ضمير الشأن وهو المنقول عن سيبويه وإضمار الشأن على ما نقل عن الرضى ليس بمشهور في أفعال المقاربة إلا في كاد وفي الناقصة إلا في كان وليس ، وجوز أن يكون اسم كاد ضمير القوم والجملة في موضع الخبر أيضا والرابط عليه الضمير في (مِنْهُمْ) وهذا على قراءة (يَزِيغُ) بالياء التحتانية وهي قراءة حمزة ، وحفص ، والأعمش وأما على قراءة «تزيغ» بالتاء الفوقانية وهي قراءة الباقين فيحتمل أن يكون (قُلُوبُ) اسم كاد و «تزيغ» خبرها وفيه ضمير يعود على اسمها ولا يصح هذا على القراءة الأولى لتذكير ضمير يزيغ ، وتأنيث ما يعود إليه وقد ذكر هذا الوجه منتخب الدين الهمداني وأبو طالب المكي وغيرهما. وتعقبه في الكشف بأن في جعل القلوب اسم كاد خلاف وضعه من وجوب تقديم اسمه على خبره كما ذكره الشيخ ابن الحاجب في شرح المفصل. وفي البحر أن تقديم خبر كاد على اسمها مبني على جواز تركيب كان يقوم زيد وفيه خلاف والأصح المنع ، وأجاب بعض فضلاء الروح بأن أبا علي جوز ذلك وكفى به حجة ، وبأن عليه كلام ابن مالك في التسهيل وكذا كلام شراحه ومنهم أبو حيان وجرى عليه في ارتشافه أيضا ، ولا يعبأ بمخالفته في البحر إذ مبني ذلك القياس على باب كان وهو لا يصادم النص عن أي علي ، على أن في كون أبي حيان من أهل القياس منعا ظاهرا فألحق الجواز ، ويحتمل أن يكون اسم كاد ضميرا يعود على جمع المهاجرين والأنصار أي من بعد ما كاد الجمع ، وقدر ابن عطية مرجع الضمير القوم أي من بعد ما كاد القوم. وضعف بأنه أضمر في كاد ضمير لا يعود إلا على متوهم ، وبأن خبرها يكون قد رفع سببيا وقد قالوا : إنه لا يرفع إلا ضميرا عائدا على اسمها وكذا خبر سائر أخواتها ما عدا عسى في رأى ، ولا يخفى ورود هذا أيضا على توجيهي القراءة الأولى لكن الأمر على التوجيه الأول سهل. وجوز الرضى تخريج الآية على التنازع وهو ظاهر على القراءة الثانية ويتعين حينئذ إعمال الأول إذ لو أعمل الثاني لوجب أن يقال في الأول «كادت» كما قرأ به أبي رضي الله تعالى عنه.

ولا يجوز كاد إلا عند الكسائي فإنه يحذف الفاعل ، وكأن الرضي لم يبال بما لزم على هذا التخريج من تقديم خبر كاد على اسمه لما عرفت من أنه ليس بمحذور على ما هو الحق. وذهب أبو حيان إلى أن (كادَ) زائدة ومعناها مراد ككان ولا عمل لها في اسم ولا خبر ليخلص من القيل والقال ، ويؤيده قراءة ابن مسعود «من بعد ما زاغت» بإسقاط كاد ، وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في نحو لم يكد مع أنها عاملة معمولة فهذا أولى.

وقرأ الأعمش «تزيغ» بضم التاء ، وجعلوا الضمير على قراءة ابن مسعود للمتخلفين سواء كانوا من المنافقين أم لا كأبي لبابة (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) تكرير للتأكيد بناء على أن الضمير للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم ، والتأكيد يجوز عطفه بثم كما صرح به النحاة وإن كان كلام أهل المعاني يخالفه ظاهرا ، وفيه تنبيه على أن توبته سبحانه في مقابلة ما قاسوه من الشدائد كما دل عليه التعليق بالموصول ، ويحتمل أن يكون الضمير للفريق ، والمراد أنه تاب عليهم لكيدودتهم وقربهم من الزيغ لأنه جرم محتاج إلى التوبة عليه فلا تكرار لما سبق ، وقوله : (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) استئناف تعليلي فإن صفة الرأفة والرحمة من دواعي التوبة والعفو ، وجوز كون الأول عبارة عن إزالة الضرر والثاني عن إيصال النفع ، وأن يكون أحدهما للسوابق والآخر للواحق (وَعَلَى الثَّلاثَةِ) عطف على (النَّبِيِ) ، وقيل :

٣٩

إن (تابَ) مقدر في نظم الكلام لتغاير هذه التوبة والتوبة السابقة وفيه نظر ، أي وتاب على الثلاثة (الَّذِينَ خُلِّفُوا) أي خلف أمرهم وأخر عن أمر أبي لبابة وأصحابه حيث لم يقبل منهم معذرة مثل أولئك ولا ردت ولم يقطع في شأنهم بشيء إلى أن نزل الوحي بهم ، فالإسناد إليهم إما مجاز أو بتقدير مضاف في النظم الجليل ، وقد يفسر المتعدي باللازم أي الذين تخلفوا عن الغزو وهم : كعب بن مالك من بني سلمة ، وهلال بن أمية من بني واقف ، ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف ، ويقال فيه ابن ربيعة ، وفي مسلم ، وغيره وصفه بالعامري وصوب كثير من المحدثين العمري بدله.

وقرأ عكرمة ، وزر بن حبيش وعمرو بن عبيد «خلفوا» بفتح الخاء واللام خفيفة أي خلفوا الغازين بالمدينة أو فسدوا من الخالفة وخلوف الفم ، وقرأ علي بن الحسين ومحمد الباقر وجعفر الصادق رضي الله تعالى عنهم وأبو عبد الرحمن السلمي «خالفوا» ، وقرأ الأعمش : «وعلى المخلفين» وظاهر قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ) أنه غاية للتخليف بمعنى تأخير الأمر أي أخر أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض (بِما رَحُبَتْ) أي برحبها وسعتها لإعراض الناس عنهم وعدم مجالستهم ومحادثتهم لهم لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم بذلك وهو مثل لشدة الحيرة ، والمراد أنهم لم يقروا في الدنيا مع سعتها وهو كما قيل :

كأن بلاد الله وهي فسيحة

على الخائف المطلوب كفة حابل

(وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أي قلوبهم وعبر عنها بذلك مجازا لأن قيام الذوات بها ، ومعنى ضيقها غمها وحزنها كأنها لا تسع السرور لضيقها ، وفي هذا ترق من ضيق الأرض عليهم إلى ضيقهم في أنفسهم وهو في غاية البلاغة (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أي علموا أن لا ملجأ من سخطه إلا إلى استغفاره والتوبة إليه سبحانه ، وحمل الظن على العلم لأنه المناسب لهم (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أي وفقهم للتوبة (لِيَتُوبُوا) أو أنزل قبول توبتهم في القرآن وأعلمهم بها ليعدهم المؤمنون في جملة التائبين أو رجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى ليستقيموا على التوبة ويستمروا عليها ، وقيل : التوبة ليست هي المقبولة ، والمعنى قبل توبتهم من التخلف ليتوبوا في المستقبل إذ صدرت منهم هفوة ولا يقنطوا من كرمه سبحانه (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) المبالغ في قبول التوبة لمن تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة (الرَّحِيمُ) المتفضل عليهم بفنون الآلاء مع استحقاقهم لأفانين العقاب.

أخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والبيهقي من طريق الزهري قال : أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال : «سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزاة تبوك قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزاة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله تعالى بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر ، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة ، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلما يريد غزاة إلا ورى بغيرها حتى كانت الغزوة فغزاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حر شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز ، واستقبل عدوا كثيرا فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم وأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ ـ يريد الديوان ـ قال كعب فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما

٤٠