روح المعاني - ج ٦

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٦

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٣

يستقبلون التابوت وكان يوضع في قبة موسى عليه‌السلام ، على أنه قد قيل : إن الاستقبال في بيت المقدس كان للتابوت أيضا وكانوا يضعونه على الصخرة فيكون استقباله استقبالها ، وأما استقبالهم في مصر فيحتمل أنه كان للكعبة كما روي عن الحسن وما في الحديث محمول على آخر أحوالهم ، ويحتمل أنه كان للصخرة حسبما هو اليوم ويحتمل غير ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة الحال ، وقيل : معنى (قِبْلَةً) متقابلة ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فيها ، قيل : أمروا بذلك في أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيؤذونهم ويفتنونهم في دينهم ، وهو مبني على أن المراد بالبيوت المساكن فلا يصح كما لا يخفى ، ولعل التوجيه على ذلك هو أنهم أمروا بالصلاة ليستعينوا ببركتها على مقصودهم فقد قال سبحانه : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة : ٤٥ ، ١٥٣] وهي في المساجد أفضل فتكون أرجى للنفع (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بحصول مقصودهم ، وقيل : بالنصرة في الدنيا إجابة لدعوتهم والجنة في العقبى ، وإنما ثني الضمير أولا لأن التبوء للقوم واتخاذ المعابد مما يتولاه رؤساء القوم بتشاور ، ثم جمع ثانيا لأن جعل البيوت مساجد والصلاة فيها مما يفعله كل أحد مع أن في إدخال موسى وهارون عليهما‌السلام مع القوم في الأمرين المذكورين ترغيبا لهم في الامتثال ، ثم وجد ثالثا لأن بشارة الأمة وظيفة صاحب الشريعة وهي من الأعظم أسر وأوقع في النفس ، ووضع المؤمنين موضع ضمير القوم لمدحهم بالإيمان وللإشعار بأنه المدار في التبشير (قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً) أي ما يتزين به من اللباس والمراكب ونحوها وتستعمل مصدرا (وَأَمْوالاً) أنواعا كثيرة من المال كما يشعر به الجمع والتنوين ، وذكر ذلك بعد الزينة من ذكر العام بعد الخاص للشمول ، وقد يحمل على ما عداه بقرينة المقابلة ، وفسر بعضهم الزينة بالجمال وصحة البدن وطول القامة ونحوه (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أي لكي يضلوا عنها وهو تعليل للإيتاء السابق ، والكلام إخبار من موسى عليه‌السلام بأن الله تعالى إنما أمدهم بالزينة والأموال استدراجا ليزدادوا إثما وضلالة كما أخبر سبحانه عن أمثالهم بقوله سبحانه : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران : ١٧٨] وإلى كون اللام للتعليل ذهب الفراء. والظاهر أنه حقيقة فيكون ذلك الضلال مراد الله تعالى ، ولا يلزم ما قاله المعتزلة من أنه إذا كان مرادا يلزم أن يكونوا مطيعين به بناء على أن الإرادة أمر أو مستلزم له لما أنه قد تبين بطلان هذا المبنى في الكلام ، وقدر بعضهم حذرا من ذلك لئلا يضلوا كما قدر في (شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا) [الأعراف : ١٧] شهدنا أن لا تقولوا ولا حاجة إليه ، وقيل : إن التعليل مجازي لأنهم لما ضلوا بسبب ذلك جعل إيتاؤه كأنه للضلال فيكون في اللام استعارة تبعية ، وقال الأخفش : اللام للعاقبة فيكون ذلك إخبارا منه عليه‌السلام لممارسته لهم وتفرسه بهم أو لعلمهم بالوحي على ما قيل بأن عاقبة ذلك الإيتاء الضلال.

والفرق بين التعليل المجازي وهذا إن قلنا بأنه معنى مجازي أيضا أن في التعليل ذكر ما هو سبب لكن لم يكن إيتاؤه لكونه سببا وفي لام العاقبة لم يذكر سبب أصلا وهي كاستعارة أحد الضدين للآخر ، وقال ابن الأنباري : إنها للدعاء ولا مغمز على موسى عليه‌السلام في الدعاء عليهم بالضلال إما لأنه عليه‌السلام علم بالممارسة أو نحوها أنه كائن لا محالة فدعا به وحاصله أنه دعاء بما لا يكون إلا ذلك فهو تصريح بما جرى قضاء الله تعالى به ، ونحوه لعن الله تعالى الشيطان وإما لأنه ليس بدعاء حقيقة ، وليس النظر إلى تنجيز المسئول وعدمه بل النظر إلى وصفهم بالعتو وإبلاء عذره عليه‌السلام في الدعوة فهو كناية إيمائية على هذا ، وما قيل : هذا شهادة بسوء حالهم بطريق الكناية في الكناية لأن الضلالة رديف الإضلال وهو منع اللطف فكنى بالضلال عن الإضلال والإضلال رديف كونهم كالمطبوع عليهم فكان هذا كشفا وبيانا لحالهم بطريق الكناية فهو على ما فيه شيء عنه غني لأن الطبع مصرح به بعد بل النظر هاهنا إلى

١٦١

الزبدة والخلاصة من هذه المطالب كلها ، ويشعر كلام الزمخشري باختيار كونها للدعاء ، وفي الانتصاف أنه اعتزال أدق من دبيب النمل يكاد الاطلاع عليه يكون كشفا ، والظاهر أنها للتعليل ، وقال صاحب الفرائد : لو لا التعليل لم يتجه قوله : (إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً) ولم ينتظم وأورده عليه أيضا أنه ينافي غرض البعثة وهو الدعوة إلى الإيمان والهدى ، ولا يخفى أن دفع هذا يعلم مما قدمنا آنفا. وأما وجه انتظام الكلام فهو كما قال غير واحد : إن موسى عليه‌السلام ذكر قوله : (إِنَّكَ آتَيْتَ) إلخ تمهيدا للتخلص إلى الدعاء عليهم أي إنك أوليتهم هذه النعمة ليعبدوك ويشكروك فما زادهم ذلك إلا طغيانا وكفرا وإذا كانت الحال هذه فليضلوا عن سبيلك ولو دعا ابتداء لم يحسن إذ ربما لم يعذر فقدم الشكاية منهم والنعي بسوء صنيعهم ليتسلق منه إلى الدعاء مع مراعاة تلازم الكلام من إيراد الأدعية منسوقة نسقا واحدا وعدم الاحتياج إلى الاعتذار عن تكرير النداء كما احتاج القول بالتعليل إلى الاعتذار عنه بأنه للتأكيد وللإشارة إلى أن المقصود عرض ضلالهم وكفرانهم تقدمة للدعاء عليهم بعد. وادعى الطيبي أنه لا مجال للقول بالاعتراض لأنه إنما يحسن موقعه إذا التذت النفس بسماعه ، ولذا عيب قول النابعة :

لعل زيادا لا أبا لك غافل

وفي كلامه ميل إلى القول بأن اللام للدعاء وهو لدى المنصف خلاف الظاهر ، وما ذكروه له لا يفيده ظهورا. وقرئ «ليضلّوا» بضم الياء وفتحها (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) أي أهلكها كما قال مجاهد ، فالطمس بمعنى الإهلاك ، وفعله من باب ضرب ودخل ، ويشهد له قراءة «اطمس» بضم الميم ، ويتعدى ولا يتعدى ، وجاء بمعنى محو الأثر والتغيير وبهذا فسره أكثر المفسرين قالوا : المعنى ربنا غيرها عن جهة نفعها إلى جهة لا ينتفع بها.

وأنت تعلم أن تغييرها عن جهة نفعها إهلاك لها أيضا فلا ينافي ما أخرجه ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن الضحاك أنه بعد هذا الدعاء صارت دراهمهم ودنانيرهم ونحاسهم وحديدهم حجارة منقوشة. وعن محمد القرظي قال : سألني عمر بن عبد العزيز عن هذه الآية فأخبرته أن الله تعالى طمس على أموال فرعون وآل فرعون حتى صارت حجارة فقال عمر : مكانك حتى آتيك فدعا بكيس مختوم ففكه فإذا فيه البيضة مشقوقة وهي حجارة وكذا الدراهم والدنانير وأشباه ذلك. وفي رواية عنه أنه صار سكرهم حجارة وأن الرجل بينما هو مع أهله إذ صارا حجرين وبينما المرأة قائمة تخبز إذ صارت كذلك ، وهذا مما لا يكاد يصح أصلا وليس في الآية ما يشير إليه بوجه ، وعندي أن أخبار تغيير أموالهم إلى الحجارة لا تخلو عن وهن فلا يعول عليها ، ولعل الأولى أن يراد من طمسها إتلافها منهم على أتم وجه ، والمراد بالأموال ما يشمل الزينة من الملابس والمراكب وغيرها (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي اجعلها قاسية واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان كما هو قضية شأنهم (فَلا يُؤْمِنُوا) جواب للدعاء أعني (اشْدُدْ) دون (اطْمِسْ) فهو منصوب ، ويحتمل أن يكون دعاء بلفظ النهي نحو إلهي لا تعذبني فهو مجزوم ، وجوز أن يكون عطفا على (لِيُضِلُّوا) وما بينهما دعاء معترض فهو حينئذ منصوب أو مجزوم حسبما علمت من الخلاف في اللام (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي يعاينوه ويوقنوا به بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك ، والمراد به جنس العذاب الأليم. وأخرج غير واحد عن ابن عباس تفسيره بالغرق.

واستدل بعضهم بالآية على أن الدعاء على شخص بالكفر لا يعد كفرا إذا لم يكن على وجه الاستيجاز والاستحسان للكفر بل كان على وجه التمني لينتقم الله تعالى من ذلك الشخص أشد انتقام ، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام خواهر زادة ، فقولهم : الرضا بكفر الغير كفر ليس على إطلاقه عنده بل هو مقيد بما إذا كان على وجه الاستحسان ، لكن قال صاحب الذخيرة : قد عثرنا على رواية عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن الرضا بكفر الغير

١٦٢

كفر من غير تفصيل ، والمنقول عن علم الهدى أبي منصور الماتريدي التفصيل ففي المسألة اختلاف ، قيل : والمعول عليه أن الرضا بالكفر من حيث إنه كفر كفر وإن الرضا به لا من هذه الحيثية بل من حيثية كونه سببا للعذاب الأليم أو كونه أثرا من آثار قضاء الله تعالى وقدره مثلا ليس بكفر وبهذا يندفع التنافي بين قولهم : الرضا بالكفر كفر ، وقولهم : الرضا بالقضاء واجب بناء على حمل القضاء فيه على المقضي ، وعلى هذا لا يتأتى ما قيل : إن رضا العبد بكفر نفسه كفر بلا شبهة على إطلاقه بل يجري فيه التفصيل السابق في الرضا بكفر الغير أيضا ، ومن هذا التحقيق يعلم ما في قولهم : إن من جاءه كافر ليسلم فقال له : اصبر حتى أتوضأ أو أخره يكفر لرضاه بكفره في زمان من النظر ، ويؤيده ما في الحديث الصحيح في فتح مكة أن ابن أبي سرح أتى به عثمان رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : يا رسول الله بايعه فكف صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده عن بيعته ونظر إليه ثلاث مرات كل ذلك يأبى أن يبايعه فبايعه بعد الثلاث ثم أقبل صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه فقال : أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ قالوا : وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك ألا أومأت إلينا بعينك فقال عليه الصلاة والسلام : إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين ، وقد أخرجه ابن أبي شيبة ، وأبو داود. والنسائي. وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص وهو معروف في السير فإنه ظاهر في أن التوقف مطلقا ليس كما قالوه كفرا فليتأمل.

(قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) هو خطاب لموسى وهارون عليهما‌السلام ، وظاهره أن هارون عليه‌السلام دعا بمثل ما دعا موسى عليه‌السلام حقيقة لكن اكتفي بنقل دعاء موسى عليه‌السلام لكونه الرسول بالاستقلال عن نقل دعائه وأشرك بالبشارة إظهارا لشرفه عليه‌السلام ، ويحتمل أنه لم يدع حقيقة لكن أضيفت الدعوة إليه أيضا بناء على أن دعوة موسى في حكم دعوته لمكان كونه تابعا ووزيرا له ، والذي تضافرت به الآثار أنه عليه‌السلام كان يؤمن لدعاء أخيه والتأمين دعاء ، فإن معنى آمين استجب وليس اسما من أسمائه تعالى كما يروونه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، قيل : ولكونه دعاء استحب الحنفية الإسرار به ، وفيه نظر لأن الظاهر أن مدار استحباب الإسرار والجهر ليس كونه دعاء فإن الشافعية استحبوا الجهر به مع أن المشهور عنهم أنهم قائلون أيضا بكونه دعاء ، وظاهر كلام بعض المحققين أن إضافة الرب إلى ضمير المتكلم مع الغير في المواقع الثلاثة تشعر بأنه عليه‌السلام كان يؤمن لدعاء موسى عليه‌السلام ولا يخفى ما في ذلك الإشعار من الخفاء. وقرئ «دعواتكما» بالجمع ووجهه ظاهر (فَاسْتَقِيما) فامضيا لأمري واثبتا على ما أنتم عليه من الدعوة وإلزام الحجة ولا تستعجلا فإن ما طلبتماه كائن في وقته لا محالة. أخرج ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : يزعمون أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة ، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج مثله وأخرج الترمذي عن مجاهد أن الدعوة أجيبت بعد أربعين سنة ولم يذكر الزعم (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) بعادات الله تعالى في تعليق الأمور بالحكم والمصالح أو سبيل الجهلة في عدم الوثوق بوعد الله سبحانه ، والنهي لا يقتضي صحة وقوع المنهي عنه فقد كثر نهي الشخص عما يستحيل وقوعه منه ، ولعل الغرض منه هنا مجرد تأكيد أمر الوعد وإفادة أن في تأخير إنجازه حكما إلهية. وعن ابن عامر أنه قرأ (وَلا تَتَّبِعانِ) بالنون الخفيفة المكسورة لالتقاء الساكنين ، ووجه ذلك ابن الحاجب بأن (لا) نافية والنون علامة الرفع ، والجملة إما في موضع الحال من الضمير المرفوع في ـ استقيما ـ كأنه قيل : استقيما غير متبعين ، والجملة المضارعية المنفية ـ بلا ـ الواقعة حالا يجوز اقترانها بالواو وعدمه خلافا لمن زعم وجوب عدم الاقتران بالواو إلا أن يقدر مبتدأ ، وإما معطوفة على الجملة الطلبية التي قبلها وهي وإن كانت خبرية لفظا إلا أنها طلبية معنى لأن المراد منها النهي كما في قوله تعالى : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [الصف : ١١] و (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) [البقرة : ٨٣] والنهي المخرج بصورة الخبر

١٦٣

أبلغ من النهي المخرج بصورته ، ويجوز أن تعتبر الجملة مستأنفة للإخبار بأنهما لا يتبعان سبيل الجاهلين ، ومن الناس من جعل (لا) في قراءة العامة نافية أيضا وهو ضعيف لأن النفي لا يؤكد على الصحيح ، وقيل : (لا) ناهية والنون نون التوكيد الخفيفة كسرت لالتقاء الساكنين وهو تخريج لين فإن الكسائي وسيبويه لا يجيزانه لأنهما يمنعان وقوع الخفيفة بعد الألف سواء كانت ألف التثنية أو الألف الفاصلة بين نون الإناث ونون التوكيد نحو هل تضربنان يا نسوة ، وأيضا النون الخفيفة إذا لقيها ساكن لزم حذفها عند الجمهور ولا يجوز تحريكها ، لكن يونس والفراء أجازا ذلك وفيه عنهما روايتان إبقاؤها ساكنة لأن الألف لخفتها بمنزلة الفتحة وكسرها على أصل التقاء الساكنين وعلى هذا يتم ذاك التخريج.

وقيل : إن هذه النون هي نون التوكيد الثقيلة إلا أنها خففت وهو كما ترى ، وعنه أيضا «ولا تتبعان» بتخفيف التاء الثانية وسكونها وبالنون المشددة من تبع الثلاثي ، وأيضا «ولا تتبعان» وهي كالأولى إلا أن النون ساكنة على إحدى الروايتين عمن تقدم في تسكين النون الخفيفة بعد الألف على الأصل واغتفار التقاء الساكنين إذا كان الأول ألفا كما في محياي. ثم اعلم أنه اشتهر في تعليل كسر النون في قراءة العامة بأنه لالتقاء الساكنين وظاهره أنه بذلك زال التقاء الساكنين وليس كذلك إذ الساكنان هما الألف والنون الأولى ولا شيء منهما بمتحرك وإنما المتحرك النون الثانية ، ومن هنا قال بعض محققي النحاة : إن أصل التحريم ليتأتى الإدغام وكونه بالكسر تشبيها بنون التثنية ، والتقاء الساكنين أعني الألف والنون الأولى غير مضر لما قالوا من جوازه إذا كان الأول حرف مد والثاني مدغما في مثله كما في ـ دابة ـ لارتفاع اللسان بهما معا حينئذ وقد حقق ذلك في موضعه فليراجع هذا والله تعالى أعلم.

ومن باب الإشارة في الآيات : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) أشار سبحانه إلى أنهم يستمعون لكن حكمهم حكم الأصم في عدم الانتفاع وذلك لعدم استعدادهم حقيقة أو حكما بأن كان ولكن حجب نوره رسوخ الهيئات المظلمة ، وكذا يقال فيما بعد ، ثم إنه تعالى رفع ما يتوهم من أن كونهم في تلك الحالة ظلم منه سبحانه لهم بقوله جل شأنه : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) بسلب حواسهم وعقولهم مثلا (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث طلب استعدادهم الغير المجعول ذلك (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) لذهولهم بتكاثف ظلمات المعاصي على قلوبهم (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) بحكم سابقة الصحبة وداعية الهوى اللازمة للجنسية الأصلية ، وهذا التعارف قد يبقى إذا اتحدوا في الوجهة واتفقوا في المقصد وقد لا يبقى وذلك إذا اختلفت الأهواء وتباينت الآراء فحينئذ تتفاوت الهيئات المستفادة من لواحق النشأة فيقع التناكر وعوارض العادة (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) لما ينتفعون به (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) من جنسهم ليتمكنوا من الاستفاضة منه (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ) بإنجاء من اهتدى به وإثابته وإهلاك من أعرض عنه وتعذيبه لظهور أسباب ذلك بوجوده (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فيعاملوا بخلاف ما يستحقون (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إنكار للقيامة لاحتجابهم بما هم فيه من الكثافة (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) سلب لاستقلاله في التأثير وبيان لأنه لا يملك إلا ما أذن الله تعالى فيه ، وهذا نوع من توحيد الأفعال وفيه إرشاد لهم بأنه لا يملك استعجال ما وعدهم به (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي تزكية لنفوسكم بالوعد والوعيد والزجر عن الذنوب المتسببة للعقاب والتحريض على الطاعة الموجبة بفضل الله تعالى للثواب (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) أي دواء للقلوب من أمراضها التي هي أشد من أمراض الأبدان كالشك والنفاق والحسد والحقد وأمثال ذلك بتعليم الحقائق والحكم الموجبة لليقين والتصفية والتهيؤ لتجليات الصفات الحقة (وَهُدىً) لأرواحكم إلى الشهود الذاتي (وَرَحْمَةٌ) بإفاضة الكمالات اللائقة بكل مقام من المقامات الثلاثة بعد حصول الاستعداد في مقام

١٦٤

النفس بالموعظة ومقام القلب بالتصفية ومقام الروح بالهداية للمؤمنين بالتصديق أولا ثم باليقين ثانيا ثم بالعيان ثالثا.

وذكر بعضهم الموعظة للمريدين والشفاء للمحبين والهدى للعارفين والرحمة للمستأنسين والكل مؤمنون إلا أن مراتب الإيمان متفاوتة والخطاب في الآية لهم وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر ، ويقال : إنه سبحانه بدأ بالموعظة لمريض حبه لأنها معجون لإسهال شهواته فإذا تطهر عن ذلك يسقيه شراب ألطافه فيكون ذلك شفاء له مما به فإذا شفي يغذيه بهدايته إلى نفسه فإذا كمل بصحبته يطهره بمياه رحمته من وسخ المرض ودرن الامتحان (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ) بتوفيقه للقبول في المقامات (وَبِرَحْمَتِهِ) بالمواهب الخلقية والعملية والكشفية فيها (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) لا بالأمور الفانية القليلة المقدار الدنية القدر (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من الخسائس والمحقرات ، وفسر بعضهم الفضل بانكشاف صباح الأزل لعيون أرواح المريدين وزيادة وضوحه في لحظة حتى تطلع شموس الصفات. وأقمار الذات فيطيرون في أنوار ذلك بأجنحة الجذبات إلى حيث شاء الله تعالى والرحمة بتتابع مواجيد الغيوب للقلوب بنعت التفريد بلا انقطاع ، ومن هنا قال ضرغام أجمة التصوف أبو بكر الشبلي قدس‌سره : وقتي سرمد وبحري بلا شاطئ ؛ وقيل : فضله الوصال ورحمته الوقاية عن الانفصال ، وقيل : فضله إلقاء نيران المحبة في قلوب المريدين ورحمته جذبه أرواح المشتاقين ، وقيل : فضله سبحانه على العارفين كشف الذات وعلى المحبين كشف الصفات وعلى المريدين كشف أنوار الآيات ورحمته جل شأنه على العارفين العناية وعلى المحبين الكفاية وعلى المريدين الرعاية. وقال الجنيد : فضل الله تعالى في الابتداء ورحمته في الانتهاء وهو مناسب لما قلنا ، وقال الكتاني : فضل الله تعالى النعم الظاهرة ورحمته النعم الباطنة وقيل غير ذلك ، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ) أي أخبروني ما أنزل الله سبحانه من رزق معنوي كالمعارف الحقانية وكالآداب الشرعية (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً) كالقسم الأول حيث أنكرتموه على أهله ورميتموه بالزندقة (وَحَلالاً) كالقسم الثاني حيث قبلتموه (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) في الحكم بالتحليل والتحريم (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) في ذلك ، ثم إنه سبحانه أوعد المفترين بقوله عز ومن قائل : (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ) إلخ ، ففي الآية إشارة إلى سوء حال المنكرين على من تحلى بالمعارف الإلهية ، ولعل منشأ ذلك زعمهم انحصار العلم فيما عندهم ولم يعلموا أن وراء علومهم علوما لا تحصى يمنّ الله تعالى بها على من يشاء ، وفي قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤] إشارة إلى ذلك فما أولاهم بأن يقال لهم : (ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥] ومن العجيب أنهم إذا سمعوا شيئا من أهل الله تعالى مخالفا لما عليه مجتهدوهم ردوه وقالوا : زيغ وضلال واعتمدوا في ذلك على مجرد تلك المخالفة ظنا منهم أن الحق منحصر فيما جاء به أحد أولئك المجتهدين مع أن الاختلاف لم يزل قائما بينهم على ساق.

على أنه قد يقال لهم : ما يدريكم أن هذا القائل الذي سمعتم منه ما سمعتم وأنكرتموه أنه مجتهد أيضا كسائر مجتهديكم؟ فإن قالوا : إن للمجتهد شروطا معلومة وهي غير موجودة فيه قلنا : هذه الشروط التي وضعت للمجتهد في دين الله تعالى هل هي منقولة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صريحا أو صنعتموها أنتم من تلقاء أنفسكم أو صنعها المجتهد؟ فإن كانت منقولة عن الرسول عليه الصلاة والسلام فأتوا بها واتلوها وصححوا نقلها إن كنتم صادقين وهيهات ذاك ، وإن كان الواضع لها أنتم ـ وأنتم أجهل من ابن يوم ـ فهي رد عليكم ولا حبا ولا كرامة على أن في اعتبارها أخذا بكلام من ليس مجتهدا وأنتم لا تجوزونه ، وإن كان الواضع لها المجتهد فإثبات كونه مجتهدا متوقف على اعتبار تلك الشروط واعتبار تلك الشروط متوقف على إثبات كونه مجتهدا وهل هذا إلا دور وهو محال لو تعقلونه ، وأيضا لم لا يجوز أن تكون تلك الشروط شروطا للمجتهد النقلي وهناك مجتهد آخر شرطه تصفية النفس وتزكيتها وتخلقها بالخلق الرباني

١٦٥

وتهيؤها واستعدادها لقبول العلم من الله تعالى وأي مانع من أن يخلق الله تعالى العلم فيمن صفت نفسه وتهيأت بالفقر واللجأ إلى الله تعالى وصدق عزمه في الأخذ ولم يتكل على حوله وقوته كما يخلقه فيمن استوفى شروط الاجتهاد عندكم فاجتهد وصرف فكره ونظره؟ والقول بأنه سبحانه إنما يخلق العلم في هذا دون ذاك حجر على الله تعالى وخروج عن الإنصاف كما لا يخفى ، فلا ينبغي للمصنف العارف بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده إلا أن يسلم لمن ظهرت فيه آثار التصفية والتهيؤ وسطعت عليه أنوار التخلق بالخلق الرباني ما أتى به ولو لم يأت به مجتهد ما لم يخالف ما علم مجيئه من الدين بالضرورة ، ويأبى الله تعالى أن يأتي ذلك بمثل ما ذكر.

لكن ذكر مولانا الإمام الرباني ومجدد الألف الثاني قدس‌سره في بعض مكتوباته الفارسية أنه لا يجوز تقليد أهل الكشف في كشفهم لأن الكشف لا يكون حجة على الغير وملزما له ، وقد يقال : ليس في هذا أكثر من منع تقليد أهل الكشف ، ومحل النزاع الإنكار عليهم ورميهم والعياذ بالله تعالى بالزندقة وليس في الكلام أدنى رائحة منه كما لا يخفى (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) بصنفي العلمين وإفاضتهما بعد تهيئة الاستعداد لقبولهما (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) ذلك ولا يعرفون قدره فيمنعون عن الزيادة (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) إخبار منه تعالى بعظيم اطلاعه سبحانه على الخواطر وما يجري في الضمائر فلا يخفى عليه جل شأنه خاطر ولا ضمير (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ثم أخبر جل وعلا عن سلطان إحاطته على كل ذرة من العرش إلى ما تحت الثرى بقوله تبارك اسمه : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي إن علمه سبحانه محيط بما في العالم السفلي والعلوي فكل ذرة من ذراته داخلة في حيطة علمه كيف لا وكلها قائمة به جل شأنه ينظر إلى كل في كل آن نظر الحفظ والرعاية ولو لا ذلك لهلكت الذرات واضمحلت سائر الموجودات (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) إذ لم يبق منهم بقية يخاف بسببها من حرمان (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لامتناع فوات شيء من الكمالات واللذات منهم (الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الحقيقي (وَكانُوا يَتَّقُونَ) بقاياهم وظهور تلوناتهم (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بوجود الاستقامة والأخلاق المبشرة بجنة النفوس (وَفِي الْآخِرَةِ) بظهور أنوار الصفات والحقائق عليهم المبشرة بجنة القلوب ؛ والظاهر أن الموصول بيان للأولياء ، فالولي هو المؤمن المتقي على الكمال ولهم في تعريفه عبارات شتى تقدم بعضها.

وفي الفتوحات : هو الذي تولاه الله تعالى بنصرته في مقام مجاهدته الأعداء الأربعة الهوى والنفس والشيطان والدنيا ، وفيها تقسيم الأولياء إلى عدة أقسام منها الأقطاب والأوتاد والأبدال والنقباء والنجباء وقد ورد ذلك مرفوعا وموقوفا من حديث عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأنس ، وحذيفة بن اليمان ، وعبادة بن الصامت ، وابن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وابن مسعود ، وعوف بن مالك ، ومعاذ بن جبل ، وواثلة بن الأسقع ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة ، وأبي الدرداء ، وأم سلمة ، ومن مرسل الحسن ، وعطاء ، وبكر بن خنيس ، ومن الآثار عن التابعين ومن بعدهم ما لا يحصى. وقد ذكر ذلك الجلال السيوطي في رسالة مستقلة له وشيد أركانه ، وأنكره ـ كما قدمنا ـ بعضهم والحق مع المثبتين ، وأنا والحمد لله تعالى منهم وإن كنت لم أشيد قبل أركان ذلك ، والأئمة والحواريون والرجبيون والختم والملامية والفقراء وسقيط الرفرف ابن ساقط العرش والأمناء والمحدثون إلى غير ذلك ، وعد الشيخ الأكبر قدس‌سره منهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والبيان الذي في الآية صادق عليهم عليهم‌السلام على أتم وجه ، ونسب إليه رضي الله تعالى عنه القول بتفضيل الولي على النبي والرسول وخاض فيه كثير من المنكرين حتى كفروه وحاشاه بسبب ذلك ، وقد صرح في غير موضع من فتوحاته وكذا من سائر تأليفه بما ينافي هذا القول حسبما فهمه المنكرون ،

١٦٦

وقد ذكر في كتاب القربة أنه ينبغي لمن سمع لفظة من عارف متحقق مبهمة كأن يقول الولاية هي النبوة الكبرى أو الولي العارف مرتبته فوق مرتبة الرسول أن يتحقق المراد منها ولا يبادر بالطعن ، ثم ذكر في بيان ما ذكر ما نصه : اعلم أنه لا اعتبار للشخص من حيث ما هو إنسان فلا فضل ولا شرف في الجنس بالحكم الذاتي وإنما يقع التفاضل بالمراتب ، فالأنبياء صلوات الله تعالى عليهم ما فضلوا الخلق إلا بها ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له مرتبة الولاية والمعرفة والرسالة ومرتبة الولاية والمعرفة دائمة الوجود ومرتبة الرسالة منقطعة فإنها تنقطع بالتبليغ والفضل للدائم الباقي ، والولي العارف مقيم عنده سبحانه والرسول خارج وحالة الإقامة أعلى من حالة الخروج ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيثية كونه وليا وعارفا أعلى وأشرف من حيثية كونه رسولا وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشخص بعينه واختلفت مراتبه لا أن الولي منا أرفع من الرسول نعوذ بالله تعالى من الخذلان ، فعلى هذا الحد يقول تلك الكلمة أصحاب الكشف والوجود إذ لا اعتبار عندنا إلا للمقامات ولا نتكلم إلا فيها لا في الأشخاص ، فإن الكلام في الأشخاص قد يكون بعض الأوقات غيبة ، والكلام على المقامات والأحوال من صفات الرجال ، ولنا في كل حظ شرب معلوم ورزق مقسوم انتهى ، وهو صريح في أنه قدس‌سره لا يقول هو ولا غيره من الطائفة بأن الولي أفضل من النبي حسبما ينسب إليه ، وقد نقل الشعراني عنه أنه قال : فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليا لا دخولا فكدت أحترق ، فينبغي تأويل جميع ما يوهم القول بذلك كأخباره في كتابة التجليات وغيره باجتماعه ببعض الأنبياء عليهم‌السلام وإفادته لهم من العلم ما ليس عندهم. وكقول الشيخ عبد القادر الجيلي قدس‌سره وقد تقدم : يا معاشر الأنبياء أوتيتم الألقاب وأوتينا ما لم تؤتوه إلى غير ذلك ، فإن اعتقاد أفضلية ولي من الأولياء على نبي من الأنبياء كفر عظيم وضلال بعيد ، ولو ساغ تفضيل ولي على نبي لفضل الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه على أحد من الأنبياء لأنه أرفع الأولياء قدرا كما ذهب إليه أهل السنة ونص عليه الشيخ قدس‌سره في كتاب القربة أيضا مع أنه لم يفضل كذلك بل فضل على من عداهم كما نطق به «ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين أفضل من أبي بكر الصديق» فمتى لم يفضل الصديق وهو الذي وقر في صدره ما وقر ونال من الكمال ما لا يحصر فكيف يفضل غيره؟.

وفضل كثير من الشيعة عليا كرم الله تعالى وجهه وكذا أولاده الأئمة الطاهرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين على كثير من الأنبياء والمرسلين من أولي العزم وغيرهم ولا مستند لهم في ذلك إلا أخبار كاذبة وأفكار غير صائبة.

وبالجملة متى رأينا الشخص مؤمنا متقيا حكمنا عليه بالولاية نظرا لظاهر الحال ووجب علينا معاملته بما هو أهله من التوقير والاحترام غير غالين فيه بتفضيله على رسول أو نبي أو نحو ذلك مما عليه العوام اليوم في معاملة من يعتقدونه وليا التي هي أشبه شيء بمعاملة المشركين من يعتقدونه إلها نسأل الله تعالى العفو والعافية ، ولا يشترط فيه صدور كرامة على يده كما يشترط في الرسول صدور معجزة ، ويكفيه الاستقامة كرامة كما يدل عليه ما اشتهر عن أبي يزيد قدس‌سره ، بل الولي الكامل لا التفات له إليها ولا يود صدورها على يده إلا إذا تضمنت مصلحة للمسلمين خاصة أو عامة. وفي الجواهر والدر للشعراني سمعت شيخنا يقول : إذا زل الولي ولم يرجع لوقته عوقب بالحجاب ، وهو أن يحبب إليه إظهار خرق العوائد المسماة في لسان العامة كرامات فيظهر بها ويقول : لو كنت مؤاخذا بهذه الذلة لقبض عني التصريف وغاب عنه أن ذلك استدراج بل ولو سلم من الزلة فالواجب خوفه من المكر والاستدراج ، وقال بعضهم : الكرامة حيض الرجال ومن اغتر بالكرامات بالكرى مات. وأضر الكرامات للولي ما أوجب الشهرة فإن الشهرة آفة ، وقد نقل عن الخواص أنها تنقص مرتبة الكمال ، وأيد ذلك بالأثر المشهور خص بالبلاء من عرفه الناس. نعم ذكر في أسرار القرآن أن الولاية لا تتم إلا بأربع مقامات الأول مقام المحبة. والثاني مقام الشوق. والثالث مقام العشق.

١٦٧

والرابع مقام المعرفة ، ولا تكون المحبة إلا بكشف الجمال ولا يكون الشوق إلا باستنشاق نسيم الوصال ولا يكون العشق إلا بدنو الأنوار ولا تكون المعرفة إلا بالصحبة ، وتتحقق الصحبة بكشف الألوهية مع ظهور أنوار الصفات ، ولحصول ذلك آثار وعلامات مذكورة فيه فليراجعه من أرادها ؛ والكلام في هذا المقام كثير وكتب القوم ملأى منه وما ذكرناه كفاية لغرضنا. وأحسن ما يعتمد عليه في معرفة الولي اتباع الشريعة الغراء وسلوك المحجة البيضاء فمن خرج عنها قيد شبر بعد عن الولاية بمراحل فلا ينبغي أن يطلق عليه اسم الولي ولو أتى بألف ألف خارق ، فالولي الشرعي اليوم أعز من الكبريت الأحمر ولا حول ولا قوة إلا بالله :

أما الخيام فإنها كخيامهم

وأرى نساء الحي غير نسائها

(لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي لما سبق لهم في الأزل من حسن العناية ، أو لا تبديل لحقائقه سبحانه الواردة عليهم وأسمائه تعالى المنكشفة لهم وأحكام تجلياته جل وعلا النازلة بهم ، أو لا تبديل لفطرهم التي فطرهم عليها ، ويقال لكل محدث ـ كلمة ـ لأنه أثر الكلمة (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) أي لا تتأثر به (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) لا يملك أحد سواه منها شيئا فسيكفيكهم الله تعالى ويقهرهم و (هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بما ينبغي أن يفعل بهم. (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي إن كل من في ذلك تحت ملكه سبحانه وتصرفه وقهره لا يقدرون على شيء من غير إذنه فهو كالتأكيد لما أفادته الآية السابقة أو أن من فيها من الملائكة والثقلين الذين هم أشرف الممكنات عبيد له سبحانه لا يصلح أحد منهم للربوبية فما لا يعقل أحق بأن لا يصلح لذلك فهو كالدليل على قوله سبحانه : (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ) إلا ما يتوهمونه ويتخيلونه شريكا ولا شركة له في الحقيقة (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) إشارة إلى سكون العشاق والمشتاقين في الليل إذا مد أطنابه ونشر جلبابه وميلهم إلى مناجاة محبوبهم وانجذابهم إلى مشاهدة مطلوبهم وتلذذهم بما يرد عليهم من الواردات الإلهية واستغراقهم بأنواع التجليات الربانية ، ومن هنا قال بعضهم : لو لا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا ، وهذه حالة عشاق الحضرة وهم العشاق الحقيقيون نفعنا الله تعالى بهم ، وأنشد بعض المجازيين :

أقضي نهاري بالحديث وبالمنى

ويجمعني بالليل والهم جامع

نهاري نهار الناس حتى إذا بدا

لي الليل هزتني إليك المضاجع

(وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي ألبسه سربال أنوار القدرة لتقضوا فيها حاجاتكم الضرورية ، وقيل : الإشارة بذلك إلى ليل الجسم ونهار الروح أي جعل لكم ليل الجسم لتسكنوا فيه ونهار الروح لتبصروا به حقائق الأشياء وما تهتدون به (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) كلام الله تعالى فيقيمون بواطنه وحدوده ويطلعون به على صفاته وأسمائه سبحانه (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) أي معلولا يجانسه (سُبْحانَهُ) أي أنزهه جل وعلا من ذلك (هُوَ الْغَنِيُ) الذي وجوده بذاته وبه وجود كل شيء وذلك ينافي الغنى وأكد غناه جل شأنه بقوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ) إلخ ، وقوله سبحانه : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) إلخ أمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتلو عليهم نبأ نوح عليه‌السلام في صحة توكله على الله تعالى ونظره إلى قومه وشركائهم بعين الغنى وعدم المبالاة بهم وبمكائدهم ليعتبروا به حاله عليه الصلاة والسلام فإن الأنبياء عليهم‌السلام في ملة التوحيد والقيام بالله تعالى وعدم الالتفات إلى الخلق سواء ، أو أمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يتلو نبأ نوح مع قومه ليتعظ قومه وينزجروا عما هم عليه مما يفضي إلى إهلاكهم (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) أي إيمانا حقيقيا (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) أي منقادين ، أي إن صح إيمانكم يقينا فعليه توكلوا بشرط أن لا يكون لكم فعل ولا تروا لأنفسكم ولا لغيركم قوة ولا تأثيرا بل تكونوا منقادين كالميت بين يدي مغسله ، فإن شرط

١٦٨

صحة التوكل فناء بقايا الأفعال والقوى (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما) أي على ما أنتما عليه من الدعوة شكرا لتلك الإجابة ، وقيل : أي استقيما على معرفتكما مقام السؤال وهو مقام الرضوان والبسط ليستجاب لكما بعد إذا دعوتما فإن من لم يعرف مقام السؤال قد يوقعه في غير مقامه فيسيء الأدب فلا يستجاب له ، وقيل : إن هذا عتاب لهما عليهما‌السلام أي قد أجيب دعوتكما لضعفكما عن تحمل وارد امتحاني فاستقيما بعد ذلك على تحمل بلائي والصبر فيه فإنه اللائق بشأنكما ، وقد قيل : المعرفة تقتضي الرضا بالقضاء والسكون في البلاء ، وقيل : أي استقيما في دعائكما والاستقامة في الدعاء على ما قال ذو النون المصري أن لا يغضب الداعي لتأخير الإجابة ولا يسأل سؤال خصوص نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ

١٦٩

وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)(١٠٩)

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) من جاوز المكان إذا قطعه وتخطاه ، وهو متعد إلى المفعول الأول الذي كان فاعلا في الأصل بالباء وإلى الثاني بنفسه ، والمعنى جعلناهم مجاوزين البحر بأن جعلناه يبسا وحفظناهم حتى بلغوا الشط. وقرأ الحسن «وجوزنا» بالتضعيف ، وفعل بمعنى فاعل فهو من التجويز المرادف للمجاوزة بالمعنى السابق وليس بمعنى نفذ لأنه لا يحتاج إلى التعدية بالباء ويتعدى إلى المفعول الثاني بفي كما في قوله :

ولا بد من جار يجيز سبيلها

كما جوز السكي في الباب فيتق

فكان الواجب هنا من حيث اللغة أن يقال : وجوزنا بني إسرائيل البحر أي نفذناهم وأدخلناه فيه ، وفي الآية إشارة إلى انفصالهم عن البحر وإلى مقارنة العناية الإلهية لهم عند الجواز كما هو المشهور في الفرق بين أذهبه وذهب به (فَأَتْبَعَهُمْ) قال الراغب : يقال تبعه وأتبعه إذا قفا أثره إما بالجسم أو بالارتسام والائتمار وظاهره أن الفعلين بمعنى.

وقال بعض المحققين : يقال تبعته حتى أتبعته إذا كان سبقك فلحقته ، فالمعنى هنا أدركهم ولحقهم (فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ) حتى تراءت الفئتان وكاد يجتمع الجمعان (بَغْياً وَعَدْواً) أي ظلما واعتداء ، وهما مصدران منصوبان على الحال بتأويل اسم الفاعل أي باغين وعادين أو على المفعولية لأجله أي للبغي والعدوان.

وقرأ الحسن «وعدوا» بضم العين والدال وتشديد الواو ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما أخبر موسى وهارون عليهما‌السلام بإجابة دعوتهما أمر موسى عليه‌السلام بإخراج بني إسرائيل من مصر ليلا وكانوا كما ذكره غير واحد ستمائة ألف فخرج بهم على حين غفلة من فرعون وملئه فلما أحسن بذلك خرج هو وجنوده على أثرهم مسرعين فالتفت القوم فإذا الطامة الكبرى وراءهم فقالوا : يا موسى هذا فرعون وجنوده وراءنا وهذا البحر أمامنا فكيف الخلاص فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق اثني عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم وصار لكل سبط طريق فسلكوا ووصل فرعون ومن معه إلى الساحل وهم قد خرجوا من البحر ومسلكهم باق على حاله فسلكه بمن معه أجمعين فلما دخل آخرهم وهم أولهم بالخروج غشيهم من اليم ما غشيهم (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) أي لحقه ، والمراد بلحوقه إياه وقوعه فيه وتلبسه بأوائله ، وقيل : معنى أدركه قارب إدراكه كجاء الشتاء فتأهب لأن حقيقة اللحوق تمنعه من القول الذي قصة سبحانه بقوله جل شأنه : (قالَ آمَنْتُ) إلخ ، ومن الناس من أبقى الإدراك على ظاهره وحمل القول على النفسي وزعم أن الآية دليل على ثبوت الكلام النفسي ، ونظر فيه بأن قيام الاحتمال يبطل صحة الاستدلال ، وأيّا ما كان فليس المراد الإخبار بإيمان سابق كما قيل بل إنشاء إيمان (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) أي بأنه ، وقدر الجار لأن الإيمان وكذا الكفر متعد بالباء ومحل مدخوله بعد حذفه الجر أو النصب فيه خلاف شهير وجعله متعديا بنفسه فلا تقدير لأنه في أصل وضعه كذلك مخالفة للاستعمال المشهور فيه. وقرأ حمزة والكسائي «إنه» بالكسر على إضمار القول أي وقال إنه أو على الاستئناف لبيان إيمانه أو الإبدال من جملة آمنت ؛ والجملة الاسمية يجوز إبدالها من الفعلية ، والاستئناف على البدلية باعتبار المحكي لا الحكاية لأن الكلام في الأول ، والجملة الأولى في كلامه مستأنفة والمبدل من المستأنف مستأنف والضمير للشأن ، وعبر عنه تعالى بالموصول وجعل صلته إيمان بني إسرائيل به تعالى ولم يقل كما قال السحرة (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) [الأعراف : ١٢١ ، ١٢٢] للإشعار

١٧٠

برجوعه عن الاستعصاء واتباعه لمن كان يستتبعهم طمعا في القبول والانتظام معهم في سلك النجاة (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي الذين أسلموا نفوسهم لله تعالى أي جعلوها خالصة سالمة له سبحانه ، وأراد بهم إما بني إسرائيل خاصة وإما الجنس وهم إذ ذاك داخلون دخولا أولياء ، والظاهر أن الجملة على التقديرين معطوفة على جملة (آمَنْتُ) وإيثار الاسمية لادعاء الدوام والاستمرار.

وقيل : إنها على جملة الأول معطوفة وعلى الثاني تحتمل الحالية أيضا من ضمير المتكلم أي آمنت مخلصا لله تعالى منتظما في سلك الراسخين في ذلك ، ولقد كرر المعنى الواحد بثلاث عبارات وبالغ ما بالغ حرصا على القبول المقتضي للنجاة وليت بعض ذلك قد كان حين ينفعه الإيمان وذلك قبل اليأس ، فإن إيمان اليأس غير مقبول كما عليه الأئمة الفحول (آلْآنَ) الاستفهام للإنكار والتوبيخ ، والظرف متعلق بمحذوف يقدر مؤخرا أي الآن تؤمن حين يئست من الحياة وأيقنت بالممات ، وقدر مؤخرا ليتوجه الإنكار والتوبيخ إلى تأخير الإيمان إلى حد يمتنع قبوله فيه ، والكلام على تقدير القول أي فقيل له ذلك وهو معطوف على على (قالَ) ، وهذا إلى (آيَةً) حكاية لما جرى منه سبحانه من الغضب على المخذول ومقابلة ما أظهره بالرد الشنيع وتقريعه بالعصيان والإفساد إلى غير ذلك ، وفي حذف الفعل المذكور وإبراز الخبر المحكي في صورة الإنشاء من الدلالة على عظم السخط وشدة الغضب ما لا يخفى. والقائل له ذلك قيل : هو الله تعالى ، وقيل : هو جبريل عليه‌السلام ، وقيل : إنه ميكائيل عليه‌السلام. فقد أخرج أبو الشيخ عن أبي أمامة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لي جبريل عليه‌السلام : ما أبغضت شيئا من خلق الله تعالى ما أبغضت إبليس يوم أمر بالسجود فأبى أن يسجد وما أبغضت شيئا أشد بغضا من فرعون فلما كان يوم الغرق خفت أن يعتصم بكلمة الإخلاص فينجو فأخذت قبضة من حمأة فضربت بها في فيه فوجدت الله تعالى عليه أشد غضبا مني فأمر ميكائيل فأتاه فقال الآن» إلخ وما تضمنه هذا الخبر من فعل جبريل عليه‌السلام جاء في غير ما خبر. ومن ذلك ما أخرجه الطيالسي وابن حبان وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، والترمذي ، والحاكم وصححاه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لي جبريل : لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في في فرعون مخافة أن تدركه الرحمة» واستشكل هذا التعليل.

وفي الكشاف أن ذلك من زيادات الباهتين لله تعالى وملائكته عليهم‌السلام : وفيه جهالتان : إحداهما أن الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس فحال البحر لا يمنعه. والأخرى أن من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر لأن الرضا بالكفر كفر ، وارتضاه ابن المنير قائلا : لقد أنكر منكرا وغضب لله تعالى وملائكته عليهم‌السلام كما يجب لهم ، والجمهور على خلافه لصحة الحديث عند الأئمة الثقات كالترمذي المقدم على المحدثين بعد مسلم. وغيره ، وقد خاضوا في بيان المراد منه بحيث لا يبقى فيه إشكال.

ففي إرشاد العقل السليم أن المراد بالرحمة الرحمة الدنيوية أي النجاة التي هي طلبة المخذول وليس من ضرورة إدراكها صحة الإيمان كما في إيمان قوم يونس عليه‌السلام حتى يلزم من كراهته ما لا يتصور في شأن جبريل عليه‌السلام من الرضا بالكفر إذ لا استحالة في ترتب هذه الرحمة على مجرد التفوه بكلمة الإيمان وإن كان ذلك في حالة البأس واليأس فيحمل دسه عليه‌السلام على سد باب الاحتمال البعيد لكمال الغيظ وشدة الحرد انتهى.

ولا يخفى أن حمل الرحمة على الرحمة الدنيوية بعيد ويكاد يأبى عنه ما أخرجه ابن جرير والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لي جبريل عليه‌السلام : لو رأيتني يا محمد وأنا أغط فرعون بإحدى يدي وأدس من الحال في فيه مخافة أن تدركه رحمة الله تعالى فيغفر له» فإنه رتب فيه المغفرة على إدراك

١٧١

الرحمة وهو ظاهر في أنه ليس المراد بها الرحمة الدنيوية لأن المغفرة لا تترب عليها وإنما يترتب عليها النجاة.

وقال بعض المحققين : إنما فعل جبريل عليه‌السلام ما فعل غضبا عليه لما صدر منه وخوفا أنه إذا كرر ذلك ربما قبل منه على سبيل خرق العادة لسعة بحر الرحمة الذي يستغرق كل شيء ، وأما الرضا بالكفر فالحق أنه ليس بكفر مطلقا بل إذا استحسن وإنما الكفر رضاه بكفر نفسه كما في التأويلات لعلم الهدى انتهى ، وقد تقدم آنفا ما يتعلق بهذه المسألة فتذكره فما في العهد من قدم ، نعم قيل : إن الرضا بكفر نفسه إنما يكون وهو كافر فلا معنى لعده كفرا والكفر حاصل قبله ، وهو على ما له وما عليه بحث آخر لا يضر فيما نحن فيه.

والطيبي بعد أن أجاب بما أجاب أردف ذلك بقوله : على أنه ليس للعقل مجال في مثل هذا النقل الصحيح إلا التسليم ونسبة القصور إلى النفس ، وقد يقال : إن الخبر متى خالف صريح العقل أو تضمن نسبة ما لا يتصور شرعا في حق شخص إليه ولم يمكن تأويله على وجه يوافق حكم العقل ويندفع به نسبة النقص لا يكون صحيحا ، واتهام الراوي بما يوهن أمر روايته أهون من اتهام العقل الصريح ونسبة النقص إليه دون نسبة النقص إلى من شهد الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعصمته وكماله فتأمل والله تعالى الموفق ، وقوله سبحانه : (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) في موضع الحال من فاعل الفعل العامل في الظرف جيء به لتشديد التوبيخ والتقريع على تأخير الإيمان إلى هذا الآن ببيان أنه لم يكن تأخيره لما عسى يعد عذرا بل كان ذلك على طريقة الرد والاستعصاء والإفساد فإن قوله تعالى : (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) عطف على (عَصَيْتَ) داخل في حيز الحال والتحقيق أي وقد كنت من المفسدين الغالين في الضلال والإضلال عن الإيمان فهذا عبارة عن فساده الراجح إلى نفسه والساري إلى غيره من الظلم والتعدي وصد بني إسرائيل عن السبيل والأول عن عصيانه الخاص به ، وقوله جل شأنه : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) تهكم به وتخييب له وحسم لأطماعه بالمرة ، والمراد فاليوم نخرجك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا ملابسا ببدنك عاريا عن الروح إلا أنه عبر عن ذلك بالتنجية مجازا ، وجعل الجار والمجرور في موضع الحال من ضمير المخاطب لذلك مع ما فيه من التلويح بأن مراده بالإيمان هو النجاة ، وقيل : معنى الحال عاريا عن اللباس أو تام الأعضاء كاملها.

وجعل بعض الأفاضل الكلام على التجريد ، وجوز أن يكون الباء زائدة ـ وبدنك ـ بدل بعض من ضمير المخاطب كأنه قيل : ننجي بدنك ، وجعل الباء للآلة ليكون على وزن قولك ـ أخذته بيدك ـ ونظرته بعينك ـ إيذانا بحصول هذا المطلوب البعيد التناول وجه لكنه غير وجيه كما لا يخفى ، وقيل : التنجية الإلقاء على النجوة وهي المكان المرتفع ، قيل : وسمي به لنجاته عن السيل ، وإلى هذا ذهب يونس بن حبيب النحوي ، فقد أخرج ابن الأنباري. وأبو الشيخ عنه أنه قال : المعنى نجعلك على نجوة من الأرض كي يراك بنو إسرائيل فيعرفوا أنك قد مت ، وجاء تفسير البدن بالدرع ، وروي ذلك عن محمد بن كعب وأبي ، وكانت له درع من ذهب يعرف بها ، وفي رواية أنها كانت من لؤلؤ.

وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن أبي جهضم موسى بن سالم أنه كان لفرعون شيء يلبسه يقال له البدن يتلألأ ، وقرأ يعقوب «ننجيك» من باب الافعال وهو بمعنى التفعيل بمعنييه السابقين ، وأخرج ابن الأنباري عن محمد بن السميفع اليماني ، ويزيد البربري أنهما قرءا «ننحيك» بالحاء المهملة ونسبت إلى أبي بن كعب ، وأبي السمال أي نجعلك في ناحية ونلقيك على الساحل. وقرأ أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه «بأبدانك» على صيغة الجمع بجعل كل عضو بمنزلة البدن فأطلق الكل على الجزء مجازا وعلى هذا جمع الإجرام في قوله :

وكم موطن لولاي طحت كما هوى

بإجرامه من قلة النيق منهوي

١٧٢

أو بإرادة دروعك بناء على أن المخذول كان لابسا درعا على درع. وأخرج ابن الأنباري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ «بندائك» أي بدعائك (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) أي لتكون لمن يأتي بعدك من الأمم إذا سمعوا حال أمرك ممن شاهد حالك وما عراك عبرة ونكالا من الطغيان أو حجة تدلهم على أن الإنسان وإن بلغ الغاية القصوى من عظم الشأن وعلو الكبرياء وقوة السلطان فهو مملوك مقهور بعيد عن مظان الألوهية والربوبية ، وقيل : المراد بمن خلفه من بقي بعده من بني إسرائيل أي لتكون لهم علامة على صدق موسى عليه‌السلام إذا كان في نفوسهم من عظمته ما خيل إليه أنه لا يهلك فكذبوا لذلك خبر موسى عليه‌السلام بهلاكه حتى عاينوه على ممرهم من الساحل أحمر قصيرا كأنه ثور وروي هذا عن مجاهد. وقرئ «لمن خلفك» فعلا ماضيا أي حل مكانك ، ونسب إلى ابن السميقع ، وأبي السمال أنهما أيضا قرءا «لمن خلقك» بفتح اللام والقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر الآيات فإن إفراده سبحانه إياك بالإلقاء إلى الساحل دليل على أنه قصد منه جل شأنه لكشف تزويرك وإماطة الشبهات في أمرك وبرهان نير على كمال علمه وقدرته وحكمته وإرادته وهو معنى لا بأس به يصح أن توجه به الآية على القراءة المشهورة أيضا. ذكر في النشر أن مما لا يوثق بنقله قراءة ابن السميقع ، وأبي السمال «ننحيك» بالحاء و «لمن خلقك» بالقاف ، وفي تعليل تنجيته بما ذكر كما قاله بعض المحققين إيذان بأنها ليست لإعزازة أو لفائدة أخرى عائدة إليه بل لكمال الاستهانة به وتفضيحه على رءوس الأشهاد وزيادة تفظيع حاله كمن يقتل ثم يجر جسده في الأسواق ويطرح جيفة في الميدان أو يدار برأسه في النواحي والبلدان ، واللام الأولى متعلقة بالفعل قبلها والثانية بمحذوف وقع حالا من «آية» أي كائنة لمن خلقك ، وجاد الرد على هذا المخذول على طرز ما أتى به في قوله : (آمَنْتُ أَنَّهُ) إلخ في اشتماله على المبالغة كما لا يخفى على من تفكر في الآية ، وقد قرر فحوى المحكي بقوله سبحانه : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) أي لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها ، وهو اعتراض تذييلي جيء به عند الحكاية لذلك ، ولهذه الآية وأشباهها وقع الإجماع على كفر المخذول وعدم قبول إيمانه ، ويشهد لذلك أيضا ما رواه ابن عدي ، والطبراني من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خلق الله تعالى يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا وخلق فرعون في بطن أمه كافرا» فهو من أهل النار المخلدين فيها بلا ريب وبذلك قال الشيخ الأكبر قدس‌سره في أول كتابه الفتوحات في الباب الثاني والستين منه حيث ذكر أن الذين خذلهم الله تعالى من العباد جعلهم طائفتين ، طائفة لا تضرهم الذنوب التي وقعت منهم وإليهم الإشارة بقوله تعالى : (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) [البقرة : ٢٦٨] وهؤلاء لا تمسهم النار بما تاب الله تعالى عليهم واستغفار الملأ الأعلى ودعائهم لهم.

وقسم الطائفة الأخرى إلى قسمين قسم أخرجهم من النار بالشفاعة هم طائفة من المؤمنين وأهل التوحيد ماتوا ولم تكفر عنهم خطاياهم ، وقسم آخر أبقاهم في النار وهم المجرمون خاصة الذين يقال لهم يوم القيامة : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس : ٥٩] ولهم يقال : أهل النار لأنهم الذين يعمرونها ، وهم على أربع طوائف كلهم في النار لا يخرجون منها. الطائفة الأولى المتكبرون على الله تعالى كفرعون وأشباهه ممن ادعى الربوبية لنفسه ونفاها عن الله تعالى فقال : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨] وقال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] يريد به ما في السماء غيري وكذلك نمرود وغيره.

والثانية المشركون وهم الذين أثبتوا الله تعالى إلا أنهم جعلوا معه آلهة أخرى وقالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] والثالثة المعطلة وهم الذين نفوا الإله جملة واحدة فلم يثبتوا للعالم إلها أصلا. والرابعة المنافقون وهم الذين أظهروا الإيمان للقهر الذي حكم عليهم وهم في نفوسهم على ما هم عليه من اعتقاد إحدى هذه

١٧٣

الطوائف الثلاث فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل النار الذين لا يخرجون منها من الجن والإنس انتهى. وهو صريح فيما قلنا إلا أنه ذهب في موضع آخر من الكتاب المذكور إلى خلافه فقال في الباب السابع والستين ومائة ما حاصله :

إن الله تعالى لما علم أنه قد طبع على كل قلب مظهر للجبروت والكبرياء وأن فرعون في نفسه أذل الأذلاء أمر موسى وهارون عليهما‌السلام أن يعاملاه بالرحمة واللين لمناسبة باطنه واستنزال ظاهره من جبروته وكبريائه فقال سبحانه : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] ولعل وعسى من الله تعالى واجبتان فتذكر بما يقابله من اللين والمسكنة ما هو عليه في باطنه ليكون الظاهر والباطن على السواء فما زالت تلك الخميرة معه تعمل في باطنه مع الترجي الإلهي الواجب فيه وقوع المترجى ويتقوى حكمها إلى حين انقطاع يأسه من اتباعه وحال الغرق بينه وبين أطماعه لجأ إلى ما كان مستترا في باطنه من الذلة والافتقار ليتحقق عند المؤمنين وقوع الرجاء الإلهي فقال : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فرفع الاشكال من الاشكال كما قالت السحرة لما آمنت : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) [الأعراف: ١٢١ ، ١٢٢] أي الذي يدعوان إليه فجاءت بذلك لدفع الارتياب ورفع الإشكال ، وقوله : (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) خطاب منه للحق تعالى لعلمه أنه سبحانه يسمعه ويراه فخاطبه الحق بلسان الغيب وسمعه الآن أظهرت ما قد كنت تعلمه وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين لأتباعك ، وما قال له (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) فهي كلمة بشرى له عرفنا بها لنرجو رحمته مع إسرافنا وإجرامنا ثم قال سبحانه: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) يعني لتكون النجاة لمن يأتي بعدك آية أي علامة إذا قال ما قال ما قلته تكون له النجاة مثل ما كانت لك ، وما في الآية أن بأس الآخرة لا يرتفع وأن إيمانه لم يقبل وإنما فيها أن بأس الدنيا لا يرتفع عمن نزل به إذا آمن في حال نزوله إلا قوم يونس عليه‌السلام فقوله سبحانه : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) بمعنى أن العذاب لا يتعلق إلا بظاهرك وقد أريت الخلق نجاته من العذاب فكان ابتداء الغرق عذابا فصار الموت فيه شهادة خالصة بريئة لم يتخللها معصية فقبض على أفضل عمل وهو التلفظ بالإيمان كل ذلك حتى لا يقنط أحد من رحمة الله تعالى والأعمال بخواتيمها فلم يزل الإيمان بالله تعالى يجول في باطنه وقد حال الطابع الإلهي الذاتي في الخلق بين الكبرياء واللطائف الإنسانية فلم يدخلها قط كبرياء ، وأما قوله تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٥] فكلام محقق في غاية الوضوح فإن النافع هو الله تعالى فما نفعهم إلا هو سبحانه ، وقوله عزوجل : (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) [غافر : ٨٥] فيعني بذلك الإيمان عند رؤية البأس الغير المعتاد ، وقد قال تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) فغاية هذا الإيمان أن يكون كرها وقد أضافه الحق سبحانه إليه والكراهة محلها القلب والإيمان كذلك والله تعالى لا يأخذ العبد بالأعمال الشاقة عليه من حيث ما يجده من المشقة فيها بل يضاعف له فيها الأجر ، وأما في هذا الموطن فالمشقة منه بعيدة بل جاء طوعا في إيمانه وما عاش بعد ذلك بل قبض ولم يؤخر لئلا يرجع إلى ما كان عليه من الدعوى ولو قبض ركاب البحر الذين قال سبحانه فيهم : (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧] عند نجاتهم لماتوا موحدين وقد حصلت لهم النجاة ، ثم قوله تعالى في تتميم قصته هذه : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) على معنى قد ظهرت نجاتك آية أي علامة على حصول النجاة فغفل أكثر الناس عن هذه الآية فقضوا على المؤمن بالشقاء ، وأما قوله تعالى : (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) [هود : ٩٨] فليس فيه أنه يدخلها معهم بل قال جل وعلا : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦] ولم يقل أدخلوا فرعون وآله ، ورحمة الله تعالى أوسع من أن لا يقبل إيمان المضطر وأي اضطرار أعظم من اضطرار فرعون في حال الغرق؟ والله تبارك وتعالى يقول: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل : ٦٢] فقرن للمضطر إذا دعاه بالإجابة

١٧٤

وكشف السوء عنه ، وهذا آمن لله تعالى خالصا وما دعاه في البقاء في الحياة الدنيا خوفا من العوارض وأن يحال بينه وبين هذا الإخلاص الذي جاءه في هذه الحال فرجح جانب لقاء الله تعالى على البقاء بالتلفظ بالإيمان وجعل ذلك الغرق نكال الآخرة والأولى فلم يكن عذابه أكثر من غم الماء الأجاج وقبضه على أحسن صفة ، وهذا هو الذي يعطيه ظاهر اللفظ وهو معنى قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) [النازعات : ٢٦] يعني في أخذه نكال الآخرة والأولى.

وقدم سبحانه : ذكر الآخرة على الأولى ليعلم أن ذلك العذاب أعني عذاب الغرق هو نكال الآخرة وهذا هو الفضل العظيم انتهى ، وهو نص في إيمانه بل في كونه من الشهداء بناء على أن الموت غرقا شهادة للمؤمنين كما أجمع عليه أئمة الدين على خلاف في موت من قصر في تعلم السباحة غريقا هل يعد شهادة أم لا؟ فإن بعض الشافعية ذهب إلى أن المقصر المذكور إذا مات غريقا مات عاصيا لا شهيدا ، وإنما الشهيد من مات كذلك وكان عارفا بالسباحة أو غير مقصر في تعلمها لكن لا يتعلم وكأن الشيخ قدس‌سره لا يقول بهذا التفصيل أو كان يعلم أن فرعون كان ممن يعلم السباحة أو ممن لم يقصر في تعلمها أو أنه يقول : إن الإيمان كفر عنه كل معصية قبله ومن جملة ذلك معصية التقصير مثلا التي هي دون قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] و (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨] بألف ألف مرتبة لكن لا أدري هل الغريق شهيد في شريعة موسى عليه‌السلام كما هو كذلك في شريعتنا أم هذا الأمر من خواص هذه الشريعة التي أنعم الله تعالى على أهلها بما أنعم كرامة لنبيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد ذهب قدس‌سره في كتابه فصوص الحكم إلى نحو ما ذهب إليه أخيرا في كتابه الفتوحات ، وقد اعترض عليه بذلك غير واحد وهو عندي ليس بأعظم من قوله قدس‌سره بإيمان قوم نوح عليه‌السلام وكثير من أضرابهم ونجاتهم يوم القيامة وقد نص على ذلك في الفصوص ، والعجب أنه لم يكثر معترضوه في ذلك كثرتهم في القول بإيمان فرعون ؛ وقد انتصر له بعض الناس ومنهم في المشهور الجلال الدواني وله رسالة في ذلك أتى فيها بما لا يعد شيئا عند أصاغر الطلبة ، لكن في تاريخ حلب للفاضل الحلبي كما قال مولانا الشهاب إنها ليست للجلال وإنما هي لرجل يسمى محمد بن هلال النحوي وقد ردها القزويني وشنع عليه وقال : إنما مثله مثل رجل خامل الذكر لما قدم مكة بال في زمزم ليشتهر بين الناس ، وفي المثل خالف تعرف ، ويؤيد كونها ليست للجلال أنه شافعي المذهب كما يشهد لذلك حاشيته على الأنوار. وفي فتاوى ابن حجر أن بعض فقهائنا كفر من ذهب إلى إيمان فرعون مع ما عليه تلك الرسالة من اختلال العبارة وظهور الركاكة وعدم مشابهتها لسائر تأليفاته ، ولو لا خوف الإطالة لسردتها عليك ، وبالجملة ظواهر الآي صريحة في كفر فرعون وعدم قبول إيمانه ، ومن ذلك قوله سبحانه : (وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت : ٣٨ ـ ٤٠] فإنه ظاهر في استمرار فرعون على الكفر والمعاصي الموجبة لما حل به كما يدل عليه التعبير بكان والفعل المضارع ومع الإيمان لا استمرار ، على أن نظمه في سلك من ذكر معه ظاهر أيضا في المدعى. وألحق بعضهم بذلك قوله تعالى: (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) [طه : ٣٩] بناء على أن (عَدُوٌّ) صفة مشبهة وهي للثبوت فيدل على ثبوت عداوته لله تعالى وعداوته لرسوله عليه‌السلام وثبوت إحدى العداوتين كاف في سوء حاله خلافا لمن وهم ، وقد صرحوا أيضا بأن إيمان البأس واليأس غير مقبول ولا شك أن إيمان المخذول كان من ذلك القبيل وإنكاره مكابرة ، وقد حكي إجماع الأئمة

١٧٥

المجتهدين على عدم القبول ومستندهم فيه الكتاب والسنة ، وما ينقل عن الإمام مالك من القبول لم يثبت عند المطلعين على أقوال المجتهدين واختلافاتهم. نعم صرح الإمام القاضي عبد الصمد من ساداتنا الحنفية في تفسيره بأن مذهب الصوفية أن الإيمان ينتفع به ولو عند معاينة العذاب ، وهذا الإمام متقدم على الشيخ الأكبر قدس‌سره بنحو مائة سنة ، وحينئذ تشكل حكاية الإجماع إلا أن يقال : بعدم تسليم صحة ذلك عن الصوفية الذين هم من أهل الاجتهاد المعول عليهم لما فيه من المخالفة للأدلة الظاهرة في عدم النفع فلا يخل ذلك بالإجماع بالإجماع. وفي الزواجر أنه على تقدير التسليم لا يضرنا ذلك في دعوى إجماع الأمة على كفر فرعون لأنا لم نحكم بكفره لأجل إيمانه عند البأس فحسب بل لما انضم إليه من أنه لم يؤمن بالله تعالى إيمانا صحيحا بل كان تقليدا محضا بدليل قوله : (إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) فكأنه اعترف بأنه لا يعرف الله تعالى وإنما سمع من بني إسرائيل أن للعالم إلها فآمن بذلك الإله الذي سمع بني إسرائيل يقرون بوجوده وهذا هو محض التقليد الذي لا يقبل لا سيما من مثل فرعون الذي كان دهريا منكرا لوجود الصانع فإنه لا بد له من برهان قطعي يزيل ما هو عليه من الاعتقاد الخبيث البالغ نهاية القبح والفحش ، وأيضا لا بد في إسلام الدهري ونحوه ممن كان قد دان بشيء أن يقر ببطلان ذلك الشيء الذي كفر به فلو قال : آمنت بالذي لا إله غيره لم يكن مسلما ، وفرعون لم يعترف ببطلان ما كان كفر به من نفي الصانع وادعاء الإلهية لنفسه الخبيثة ، وقوله : (إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) لا يدرى ما الذي أراد به فلذا صرح الأئمة بأن آمنت بالذي لا إله غيره لا يحصل الإيمان للاحتمال فكذا ما قاله ، وعلى التنزيل فالإجماع منعقد على أن الإيمان بالله تعالى مع عدم الإيمان بالرسول لا يصح فلو سلمنا أن فرعون آمن بالله تعالى إيمانا صحيحا فهو لم يؤمن بموسى عليه‌السلام ولا تعرض له أصلا فلم يكن إيمانه نافعا ، ألا ترى أن الكافر لو قال ألوفا من المرات أشهد أن لا إله إلا الله أو إلا الذي آمن به المسلمون لا يكون مؤمنا حتى يقول وأن محمدا رسول الله.

والسحرة تعرضوا في إيمانهم للإيمان بموسى عليه‌السلام بقولهم : آمنا برب العالمين رب موسى وهارون فلا يقال : إن إيمان فرعون طرز إيمانهم لذلك على أن إيمانهم حين آمنوا كان بمعجزة موسى عليه‌السلام والإيمان بالله تعالى مع الإيمان بمعجزة الرسول إيمان بالرسول فهم آمنوا بموسى عليه‌السلام بخلاف فرعون فإنه لم يتعرض للإيمان به عليه‌السلام أصلا بل في ذكره بني إسرائيل دونه مع أنه الرسول العارف بالإله وما يليق به والهادي إلى طريقه إشارة ما إلى بقائه على كفره به. وما ذكره الشيخ الأكبر قدس‌سره في توجيه آية (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) إلخ خارج عن ذوق الكلام العربي وتجشم تكلف لا معنى له ، ويرشدك إلى بعض ذلك أنه قدس‌سره حمل قوله تعالى : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ) إلخ على العتب والبشرى ، مع أنه لا يخفى أنه لو صح إيمانه وإسلامه لكان الأنسب بمقام الفضل الذي إليه طمح نظر الشيخ أن يقال له : الآن نقبلك ونكرمك لاستلزام صحة إيمانه رضا الحق عنه ومن وقع له الرضا لا يخاطب بمثل ذلك الخطاب كما لا يخفى على من له وقوف على أساليب كلام العرب ومحاوراتهم ، وأيضا كيف يخاطب بمثل ذلك الخطاب كما لا يخفى على من له وقوف على أساليب كلام العرب ومحاوراتهم ، وأيضا كيف يخاطب من محا الإيمان عصيانه وإفساده بما هو ظاهر في التأنيب المحض والتقريع الصرف والتوبيخ البحت فما ذلك إلا لإقامة أعظم نواميس الغضب عليه وتذكيره بقبائحه التي قدمها وإعلامه بأنها هي التي منعته عند النطق بالإيمان إلى حيث لا ينفعه وكذا تأويله (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) [غافر : ٨٥] بأن النافع هو الله تعالى مع أن اصطلاح الكتاب والسنة نسبة الأشياء إلى أسبابها إيجابا وسلبا ، فإذا قيل : لا ينفع الإيمان فليس معناه الشرعي إلا الحكم عليه بأنه باطل لا يعتد به ؛ وأي معنى سوغ تخصيص نفع الله تعالى بهذه الحالة التي هي حالة وقوع العذاب مع النظر إلى ما هو الواقع من أن الله تعالى هو النافع حقيقة في كل وقت ولو نفعهم لما استأصلهم بالعذاب ، وقوله تعالى : (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) [غافر : ٧٨] دليل

١٧٦

واضح على أن المراد (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) [غافر : ٨٥] أنهم باقون مع ذلك الإيمان على الكفر إلى غير ذلك مما لا يخفى على الناظر في كلامه قدس‌سره ، فالذي ينبغي أن يعول عليه ما ذهب أولا إليه ، وقد قالوا : إذا اختلف كلام إمام يؤخذ منه بما يوافق الأدلة الظاهرة ويعرض عما خالفها ، ولا شك أن ما ذهب إليه أولا هو الموافق لذلك ، على أنه لو لم يكن له قدس‌سره إلا القول بقبول إيمانه لا يلزمنا اتباعه في ذلك والأخذ به لمخالفته ما دل عليه الكتاب والسنة وشهدت به أئمة الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المجتهدين ، وجلالة قائله لا توجب القبول ، فقد قال مالك ، وغيره : ما من أحد إلا مأخوذ من قوله ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه : لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال، وكأن الشيخ قدس‌سره قال ذلك من طريق النظر والنظر يخطئ ويصيب ، وعن علم أن للنبي عليه الصلاة والسلام اجتهادا جاء الوحي بخلافه لم يستعظم ما قيل في الشيخ وإن كان هو ـ هو ـ على أنه لو كان قال ذلك من طريق الكشف إلا أنه أبدى الاستدلال تفهيما وإرشادا إلى أن فهمه لم يخالف ما يدل عليه الكتاب لم يلزمنا أيضا تقليده بل قد مر عن الإمام الرباني قدس‌سره أنه لا يجوز تقليد الكشف ، وصرح غير واحد بأنه ليس بحجة على الغير كالإلهام ولا يثبت به حكم شرعي. وأنت تعلم أنه لو كان كل من القولين من طريق الكشف يلزم انقسام الكشف إلى صواب وخطأ كالنظر ضرورة عدم اجتماع الإيجاب والسلب على الكذب ولا على الصدق وهو ظاهر ، وقد قال بعضهم : بالانقسام ويخفى وجهه ، ومن الناس من أول كلام الشيخ المثبت لقبول الإيمان بأن المراد بفرعون فيه النفس الأمارة وبموسى وهارون المأمورين بالقول اللين موسى الروح وهارون القلب وأخذ يقرر الكلام على هذا السنن ، ولا يخفى أن ارتكاب ذلك على ما فيه من التكلف الظاهر الكلف في كلام الشيخ ما يأباه ولعله خلاف مطمح نظره ولذلك لم يرتكبه أجلة أصحابه بل أبقوا كلامه على ظاهره وهو الظاهر ، وإكفار بعض المنكرين له فيه ضلال وأي ضلال وظلم عظيم موجب للنكال ، فإن له قدس‌سره في ذلك مستندا كغيره المقابل له وإن اختلفا في القوة والضعف ، على أن الوقوف على حقيقة هذه المسألة ليس مما كلفنا به فلا يضر الجهل بها في الدين والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) كلام مستأنف سيق لبيان النعم الفائضة عليهم أثر نعمة الإنجاء على وجه الإجمال وإخلالهم بشكرها ، وبوأ بمعنى أنزل كأباء والاسم منه البيئة بالكسر كما في القاموس ، وجاء بوأه منزلا وبوأه في منزل وكذا بوأت له مكانا إذا سويته ، وهو مما يتعدى لواحد ولاثنين أي أنزلناهم بعد أن أنجيناهم وأهلكنا أعداءهم (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي منزلا صالحا مرضيا وهو اسم مكان منصوب على الظرفية ، ويحتمل المصدرية بتقدير مضاف أي بمكان مبوأ وبدونه ، وقد يجعل مفعولا ثانيا ، وأصل الصدق ضد الكذب لكن جرت عادة العرب على أنهم إذا مدحوا شيئا أضافوه إلى الصدق فقالوا : رجل صدق مثلا إذا كان كاملا في صفته صالحا للغرض المطلوب منه كأنهم لاحظوا أن كل ما يظن به فهو صادق ، والمراد بهذا المبوأ كما رواه ابن المنذر. وغيره عن الضحاك الشام ومصر ، فإن بني إسرائيل الذين كانوا في زمان موسى عليه‌السلام وهم المرادون هنا ملكوا ذلك حسبما ذهب إليه جمع من الفضلاء.

وأخرج أبو الشيخ ، وغيره عن قتادة أن المراد به الشام وبيت المقدس واختاره بعضهم بناء على أن أولئك لم يعودوا إلى مصر بعد ذلك ، وأنت تعلم أنه ينبغي أن يراد ببني إسرائيل عن القولين ما يشمل ذريتهم بناء على أنهم ما دخلوا الشام في حياة موسى عليه‌السلام وإنما دخلها أبناؤهم وقد تقدم لك ما يتعلق بهذه المقام فتذكره.

وقيل : المراد به أطراف المدينة إلى جهة الشام ، وببني إسرائيل بنو إسرائيل الذين كانوا على عهد نبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي اللذائذ ؛ قيل : وقد يفسر بالحلال (فَمَا اخْتَلَفُوا) في

١٧٧

أمور دينهم بل كانوا متبعين أمر رسولهم عليه‌السلام (حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي إلا بعد ما علموا بقراءة التوراة والوقوف على أحكامها ، وقيل : المعنى ما اختلفوا في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بعد ما علموا صدق نبوته بنعوته المذكورة في كتابهم وتظاهر معجزاته ، وهو ظاهر على القول الأخير في المراد من بني إسرائيل المبوءين ، وأما على القول الأول ففيه خفاء لأن أولئك المبوءين الذين كانوا في عصر موسى عليه‌السلام لم يختلفوا في أمر نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرورة لينسب إليهم ذلك الاختلاف حقيقة ، وليس هذا نظير قوله تعالى : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [الأعراف : ١٤١] الآية ولا قوله سبحانه : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) [البقرة : ٩١] ليعتبر المجاز ، وزعم الطبرسي أن المعنى أنهم كانوا جميعا على الكفر لم يختلفوا فيه حتى أرسل إليهم موسى عليه‌السلام ونزلت التوراة فيها حكم الله تعالى فمنهم من آمن ومنهم من أصر على كفره وليس بشيء أصلا كما لا يخفى (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيميز بين المحق والمبطل بالإثابة والعقوبة (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) أي في شك ما يسير ، والخطاب قيل : له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد إن كنت في ذلك على سبيل الفرض والتقدير لأن الشك لا يتصور منه عليه الصلاة والسلام لانكشاف الغطاء له ولذا عبر ـ بإن ـ التي تستعمل غالبا فيما لا تحقق له حتى تستعمل في المستحيل عقلا وعادة كما في قوله سبحانه : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) [الزخرف: ٨١] وقوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣٥] وصدق الشرطية لا يتوقف على وقوعها كما هو ظاهر ؛ والمراد بالموصول القصص ، أي إن كنت في شك من القصص المنزلة إليك التي من جملتها قصة فرعون وقومه وأخبار بني إسرائيل (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) فإن ذلك محقق عندهم ثابت في كتبهم حسبما أنزلناه إليك ، وخصت القصص بالذكر لأن الأحكام المنزلة إليه عليه الصلاة والسلام ناسخة لأحكامهم مخالفة لها فلا يتصور سؤالهم عنها ، والمراد بالكتاب جنسه فيشمل التوراة والإنجيل وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ويؤيده أنه قرئ «الكتب» بالجمع ، وفسر الموصول بمن لم يؤمن من أهل الكتاب لأن إخبارهم بما يوافق ما أنزل المترتب على السؤال أجدى في المقصود ، وفسره بعضهم بالمؤمنين منهم كعبد الله بن سلام. وتميم الداري ونسب ذلك إلى ابن عباس والضحاك ومجاهد.

وتعقب بأن ابن سلام وغيره إنما أسلموا بالمدينة وهذه السورة مكية ، وينبغي أن يكون المراد الاستدلال على حقية المنزل والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة على ما ذكر وأن القرآن مصدق لها ، ومحصل ذلك أن الفائدة دفع الشك إن طرأ لأحد غيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبرهان أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوبيخهم على ترك الإيمان أو تهييج الرسول عليه الصلاة والسلام وزيادة تثبيته ، وليس الغرض إمكان وقوع الشك له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصلا ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام حين جاءته الآية على ما أخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن قتادة: «لا أشك ولا أسأل».

وزعم الزجاج أن إن نافية وقوله سبحانه : (فَسْئَلِ) جواب شرط مقدر أي ما كنت في شك مما أنزلنا إليك فإن أردت أن تزداد يقينا فاسأل وهو خلاف الظاهر وفيما ذكر غنى عنه ، ومثله ما قيل : إن الشك بمعنى الضيق والشدة بما يعاينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تعنت قومه وأذاهم أي إن ضقت ذرعا بما تلقى من أذى قومك وتعنتهم فاسأل أهل الكتاب كيف صبر الأنبياء عليهم‌السلام على أذى قومهم وتعنتهم فاصبر كذلك بل هو أبعد جدا من ذلك ، وقيل : الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به أمته أو لكل من يسمع أي إن كنت أيها السامع في شك مما أنزلنا على لسان نبينا إليك فاسأل ، (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) على هذا نظير قوله سبحانه : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) [النساء : ١٧٤] وفي جعل القراءة صلة الموصول إشارة إلى أن الجواب لا يتوقف على أكثر منها ، وفي الآية تنبيه على أن من خالجته شبهة في الدين ينبغي له

١٧٨

مراجعة من يزيلها من أهل العلم بل المسارعة إلى ذلك حسبما تدل عليه الفاء الجزائية بناء على أنها تفيد التعقيب (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُ) الواضح الذي لا محيد عنه ولا ريب في حقيته (مِنْ رَبِّكَ) القائم بما يصلح شأنك (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) أي بالتزلزل عما أنت عليه من الحزم واليقين ودم على ذلك كما كنت من قبل ، والامتراء الشك والتردد وهو أخف من التكذيب فلذا ذكر أولا ، وعقب بقوله سبحانه : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي بشيء منها (فَتَكُونَ) بذلك (مِنَ الْخاسِرِينَ) أنفسا وأعمالا ، والتعبير بالخاسرين أظهر في التحذير من التعبير بالكافرين ، وفائدة النهي في الموضعين التهييج والإلهاب نظير ما مر ، والمراد بذلك إعلام أن الامتراء والتكذيب قد بلغا في القبح والمحذورية إلى حيث ينبغي أن ينهى عنهما من لا يمكن أن يتصف بهما فكيف بمن يمكن اتصافه وفيه قطع لأطماع الكفرة.

(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ) إلخ بيان لمنشإ إصرار الكفرة على ما هم عليه من الكفر والضلال إلى حيث لا ينتفعون بالإيمان أي إن الذين ثبتت عليهم (كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي حكمه وقضاؤه المفسر عند الأشاعرة بإرادته تعالى الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال بأنهم يموتون على الكفر أو يخلدون في النار (لا يُؤْمِنُونَ) إذ لا يمكن أن ينتقض قضاؤه سبحانه وتتخلف إرادته جل جلاله (لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) واضحة المدلول مقبولة لدى العقول (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) الإغراق ونحوه وحينئذ يقال لهم ـ الصيف ضيعت اللبن ـ وفسر الزمخشري بقول الله تعالى الذي كتبه في اللوح وأخبر سبحانه به الملائكة أنهم يموتون كفارا وجعل تلك كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد ، ولا ضير في تفسير الكلمة بذلك إلا أن جعل الكتابة كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد مبني على مذهب الاعتزال ، والذي عليه أهل السنة أن أفعال العباد بأسرها معلومة له تعالى ومرادة ولا يكون إلا ما أراده سبحانه ، وعلمه عز شأنه وإرادته متوافقان ولا تجوز المخالفة بينهما ولا يتعلق علمه سبحانه إلا بما عليه الشيء في نفسه ولا يريد إلا ما علم ولا يقدر إلا ما يريد ولا جبر هناك ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ، وفسره المولى الكوراني في شرحه للمقدمات الأربع المذكورة في توضيح الأصول بأن العبد مجبور باختياره وفصله بما لا مزيد عليه ، وبإثبات الاستعداد وأنه غير مجعول تتضح الحجة البالغة وبسط الكلام في علم الكلام ، وقد تقدم بعض ما ينفع في هذا المقام ، وإن أردت ما يطمئن به الخاطر وتنشرح له الضمائر فعليك برسائل ذلك المولى في هذا الشأن فإنها واضحة المسالك في تحصيل الإيقان (فَلَوْ لا كانَتْ) كلام مستأنف لتقرير هلاكهم ولو لا هنا تحضيضية فيها معنى التوبيخ كهلا ومثلها ما في قول الفرزدق :

تعدون عقر النيب أفضل مجدكم

بني ضوطرى لو لا الكميّ المقنعا

ويشهد لذلك قراءة أبي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما «فهلا» ، والتوبيخ على ما نقل عن السفاقسي على ترك الإيمان المذكور بعد ، «وكان» كما اختاره بعض المحققين ناقصة ، وقوله تعالى : (قَرْيَةٌ) اسمها ، وجملة قوله سبحانه : (آمَنَتْ) خبرها ، وقوله جل شأنه : (فَنَفَعَها إِيمانُها) معطوف على الخبر ، أي فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكت هلاك الاستئصال آمنت قبل معاينة العذاب ولم تؤخر إيمانها إلى حين معاينته كما أخر فرعون إيمانه فنفعها ذلك بأن يقبله الله تعالى منها ، ويكشف بسببه العذاب عنها ، وذهب السمين وغيره إلى أنها تامة و (قَرْيَةٌ) فاعلها وجملة (آمَنَتْ) صفة «ونفعها» معطوفة عليها. وتعقب بأنه يلزم حينئذ أن يكون التحضيض والتوبيخ على الوجود مع أنه ليس بمراد. وأجيب بأنه لا مانع من أن يكون التحضيض على الصفة وحينئذ لا غبار على ما قيل ، وأيا ما كان

١٧٩

فالمراد بالقرية أهلها مجازا شائعا والقرينة هنا أظهر من أن تخفى ، وقوله تبارك وتعالى : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) استثناء منقطع كما قال الزجاج وسيبويه والكسائي. وأكثر النحاة أي لكن قوم يونس (لَمَّا آمَنُوا) عند ما رأوا أمارات العذاب ولم يؤخروا إلى حلوله (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ) أي الذل والهوان (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بعد ما أظلهم وكاد ينزل بهم (وَمَتَّعْناهُمْ) بمتاع الدنيا بعد كشف العذاب عنهم (إِلى حِينٍ) أي زمان من الدهر مقدر لهم في علم الله تعالى. ونقل عن ابن عباس أن المراد إلى يوم القيامة فهم اليوم أحياء إلا أن الله تعالى سترهم عن الناس على حد ما يقال في الخضر عليه‌السلام ، ورأيت في بعض الكتب ما يوافقه إلا أنه ذكر فيه أنهم يظهرون أيام المهدي ويكونون من جملة أنصاره ثم يموتون والكل مما لا صحة له. وقال آخرون : الاستثناء متصل ، ويراد من القرية أهلها المشرفون على الهلاك.

وقيل : العاصون ويعتبر النفي الذي يشعر به التحضيض وهو مشعر بالأمر أيضا ولذا جعلوه في حكمه إلا أنه لا يصح اعتباره على تقدير الاتصال لما يلزمه من كون الإيمان من المستثنين غير مطلوب وهو غير مطلوب بل فاسد ، وقيل : لا مانع من ذلك على ذلك التقدير لأن أهل القرى محضوضون على الإيمان النافع وليس قوم يونس محضوضين عليه لأنهم آمنوا ، والذوق يأبى إلا اعتبار النفي فقط حال اعتبار الاتصال» ويكون قوله سبحانه : (لَمَّا آمَنُوا) استئنافا لبيان نفع إيمانهم. وقرئ «إلا قوم» بالرفع على البدل من قرية المراد بها أهلها ، وأيد بذلك القول بالاتصال واعتبار النفي لأن البدل لا يكون إلا في غير الموجب ، وخرج بعضهم هذه القراءة على أن (إِلَّا) بمعنى غير وهي صفة ظهر إعرابها فيما بعدها كما في قوله على رأي :

وكل أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلا الفرقدان

وظاهر كلامهم أن الاستثناء مطلقا من قرية ، وعن الزمخشري أنه على الأول من القرية لا من الضمير في (آمَنَتْ) وعلل بأن المنقطع بمعنى لكن فيتوسط بين الكلامين المتغايرين فلا يعتمد ما لا يستقل ولأنه لا مدخل للوصف أعني الإيمان في المستثنى منه فالاستثناء عن أصل الكلام ، وأما على الثاني فهو استثناء من الضمير من حيث المعنى جعل في اللفظ منه أو من القرية إذ لا فرق في قولك : كان القوم منطلقين إلا زيدا بين جعله من الاسم أو من الضمير في الخبر لأن الحكم إنما يتم بالخبر ، وإنما الفرق في نحو ضربت القوم العالمين إلا زيدا ، ثم قال : ونظير هذا في الوجهين قوله تعالى : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ) [الحجر : ٥٨ ، ٥٩] ووجه ذلك ظاهر. وفي الكشف أن وجه الشبه اختلاف معنى الهلاك على الوجهين كاختلاف معنى الإرسال هنالك على الوجهين ، وكأنه عنى بالهلاك المأخوذ قيدا في قوله فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكناها فتدبر. وفي (يُونُسَ) لغات تثليث النون مهموزا وغير مهموز والمتواتر منها الضم بلا همز.

وكان من قصة هؤلاء القوم على ما روي عن غير واحد أن يونس عليه‌السلام بعث إلى أهل نينوى من أرض الموصل وكانوا أهل كفر وشرك فدعاهم إلى الإيمان بالله تعالى وحده وترك ما يعبدون من الأصنام فأبوا عليه وكذبوه فأخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث فلما كانت الليلة الثالثة ذهب عنهم من جوف الليل فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رءوسهم ليس بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل ، وجاء أنه غامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا فهبط حتى غشي مدينتهم واسودت أسطحتهم فلما أيقنوا بالهلاك طلبوا نبيهم فلم يجدوه فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة وفرقوا بين الوالدة وولدها من الناس

١٨٠