روح المعاني - ج ٦

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٦

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٣

الظلم من شيم النفوس فإن تجد

ذا عفة فلعلة لم يظلم

وروي ذلك عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر رضي الله تعالى عنهم ، وقيل : المعنى لا تقتدوا بالمرائين والجاهلين وقرناء السوء ، وقيل : لا تصحبوا الأشرار ولا تجالسوا أهل البدع (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) أمر بإقامة الصلاة المفروضة على ما علمت ، وقد ذكروا أن الصلاة معراج المؤمن ، وفي الأخبار ما يدل على علو شأنها والأمر غني عن البيان (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) قال الواسطي : أنوار الطاعات تذهب بظلم المعاصي.

وقال يحيى بن معاذ : إن الله سبحانه لم يرض للمؤمن بالذنب حتى ستر ولم يرض بالستر حتى غفر ولم يرض بالغفران حتى بدل فقال سبحانه : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) وقال تعالى : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) ذلك الذي ذكر من إقامة الصلاة في الأوقات المشار إليها وإذهاب الحسنات السيئات ذكرى للذاكرين تذكير لمن يذكر حاله عند الحضور مع الله تعالى في الصفاء والجمعية والأنس والذوق (وَاصْبِرْ) بالله سبحانه في الاستقامة ومع الله تعالى بالحضور في الصلاة وعدم الركون إلى الغير (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الذين يشاهدونه في حال القيام بالحقوق (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) فيه حض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) قيل : القرى فيه إشارة إلى القلوب (وَأَهْلُها) إشارة إلى القوى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) متساوية في الاستعداد متفقة على دين التوحيد (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) في الوجهة والاستعداد (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) بهدايته إلى التوحيد وتوفيقه للكمال فإنهم متفقون في المذهب والمقصد متوافقون في السيرة والطريقة قبلتهم الحق ودينهم التوحيد والمحبة وإن اختلفت عباراتهم كما قيل :

عباراتنا شتى وحسنك واحد

وكل إلى ذاك الجمال يشير

(وَلِذلِكَ) الاختلاف (خَلَقَهُمْ) وذلك ليكونوا مظاهر جماله وجلاله ولطفه وقهره ، وقيل : ليتم نظام العالم ويحصل قوام الحياة الدنيا (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي أحكمت وأبرمت (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) لأن جهنم رتبة من مراتب الوجود لا يجوز في الحكمة تعطيلها وإبقاؤها في كتم العدم مع إمكانها (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) لما اشتملت عليه من مقاساتهم الشدائد من أممهم مع ثباتهم وصبرهم وإهلاك أعدائهم (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) السورة (الْحَقُ) الذي لا ينبغي المحيد عنه (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) وتخصيص هذه السورة بالذكر لما أشرنا إليه ، وقيل : للتشريف ، وإلّا فالقرآن كله كذلك ، والكل يغرف من بحره على ما يوافق مشربه ، ومن هنا قيل : العموم متعلقون بظاهره ، والخصوص هائمون بباطنه ، وخصوص الخصوص مستغرقون في تجلي الحق سبحانه فيه (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ) على اختلاف معانيها (وَالْأَرْضِ) كذلك (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) أي كل شأن من الشئون فإن الكل منه (فَاعْبُدْهُ) أسقط عنك حظوظ نفسك وقف مع الأمر بشرط الأدب (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) لا تهتم بما قد كفيته واهتم بما ندبت إليه (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيجازي كلا حسبما تقتضيه الحكمة والله تعالى ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق لا رب غيره ولا يرجى إلّا خيره.

انتهى ما وفقنا له من تفسير سورة هود بمنّ من بيده الكرم والجود ، ونسأله سبحانه أن ييسر لنا إتمام ما قصدناه ، ويوفقنا لفهم معاني كلامه على ما يحبه ويرضاه ، والحمد لله حق حمده ، والصلاة والسلام على من لا نبي من بعده ، وعلى آله وصحبه وجنده وحزبه ، ما غردت الأقلام في رياض التحرير ، ووردت الأفهام من حياض التفسير.

٣٦١

سورة يوسف

مكية كلها على المعتمد ، وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا : إلا ثلاث آيات من أولها ، واستثنى بعضهم رابعة ، وروي قوله سبحانه : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) [يوسف : ٧] وكل ذلك واه جدا لا يلتفت إليه ، وما اعتمدناه كغيرنا هو الثابت عن الحبر ، وقد أخرجه النحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عنه ، وأخرجه الأخير عن ابن الزبير وهو الذي يقتضيه ما أخرجه الحاكم وصححه عن رفاعة بن رافع من حديث طويل يحكي فيه قدوم رافع مكة وإسلامه وتعليم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إياه هذه السورة ، و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] وآيها مائة وإحدى عشرة آية بالإجماع على ما نقل عن الداني وغيره ، وسبب نزولها على ما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه أنزل القرآن على رسول الله عليه الصلاة والسلام فتلاه على أصحابه زمانا فقالوا : يا رسول الله لو قصصت علينا فنزلت ، وقيل : هو تسلية الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عما يفعله به قومه بما فعلت إخوة يوسف عليه‌السلام به ، وقيل : إن اليهود سألوه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحدثهم بأمر يعقوب وولده وشأن يوسف وما انتهى إليه فنزلت ، وقيل : إن كفار مكة أمرتهم اليهود أن يسألوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فسألوه فنزلت ؛ ويبعد القولين الأخيرين فيما زعموا ما أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن حبرا من اليهود دخل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فوافقه وهو يقرأ سورة يوسف فقال : يا محمد من علمكها؟ قال : الله علمنيها فعجب الحبر لما سمع منه فرجع إلى اليهود فقال لهم : والله إن محمدا ليقرأ القرآن كما أنزل في التوراة فانطلق بنفر منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة ونظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه فجعلوا يستمعون إلى قراءة سورة يوسف فتعجبوا وأسلموا عند ذلك ، وفي القلب من صحة الخبر ما فيه ، ووجه مناسبتها للتي قبلها اشتمالها على شرح ما قاساه بعض الأنبياء عليهم‌السلام من الأقارب ، وفي الأولى ذكر ما لقوا من الأجانب ، وأيضا قد وقع فيما قبل (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١] وقوله سبحانه : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) [هود : ٧٣] ووقع هنا حال يعقوب مع أولاده وما صارت إليه عاقبة أمرهم مما هو أقوى شاهد على الرحمة ، وقد جاء عن ابن عباس وجابر بن زيد أن يونس نزلت ثم هود ثم يوسف وعد هذا وجها آخر من وجوه المناسبة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ

٣٦٢

الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦)

(الر) الكلام فيه وفي نظائره شهير وقد تقدم لك منه ما فيه إقناع ، والإشارة في قوله سبحانه : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) إليه في قول : وإلى (آياتُ) هذه السورة في آخر ، وأشير إليها مع أنها لم تذكر بعد لتنزيلها لكونها مترقبة منزلة المتقدم أو لجعل حضورها في الذهن بمنزلة الوجود الخارجي والإشارة بما يشار به للبعيد ، أما على الثاني فلأن ما أشير إليه لما لم يكن محسوسا نزل منزلة البعيد لبعده عن حيز الإشارة أو العظمة وبعد مرتبته وعلى غيره لذلك ، أو لأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار كالمتباعد.

وزعم بعضهم أن الإشارة إلى ما في اللوح وهو بعيد ، وأبعد من ذلك كون الإشارة إلى التوراة والإنجيل أو الآيات التي ذكرت في سورة هود ؛ والمراد بالكتاب إما هذه السورة أو القرآن ، وقد تقدم لك في يونس ما يؤنسك تذكره هنا فتذكر (الْمُبِينِ) من أبان بمعنى بان أي ظهر فهو لازم أي الظاهر أمره في كونه من عند الله تعالى وفي إعجازه أو الواضح معانيه للعرب بحيث لا تشتبه عليهم حقائقه ولا تلتبس عليهم دقائقه وكأنه على المعنيين حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فارتفع واستتر ولا يعد هذا من حذف الفاعل المحظور فلا حاجة إلى القول بأن الإسناد مجازي فرارا منه ، أو بمعنى بين بمعنى أظهر فهو متعد والمفعول مقدر أي المظهر ما فيه هدى ورشد ، أو ما سألت عنه اليهود (١) أو ما أمرت أن تسأل عنه من السبب الذي أحلّ بني إسرائيل بمصر ، أو الأحكام والشرائع وخفايا الملك والملكوت وأسرار النشأتين وغير ذلك من الحكم والمعارف والقصص.

وعن ابن عباس ومجاهد الاقتصار على الحلال والحرام وما يحتاج إليه في أمر الدين ، وأخرج ابن جرير عن خالد بن معدان عن معاذ رضي الله تعالى عنه أنه قال في ذلك : بين الله تعالى فيه الحروف التي سقطت عن ألسن الأعاجم ، وهي ستة أحرف : الطاء والظاء والصاد والضاد والعين والحاء المهملتان والمذكور في ـ الفرهنك وغيره ـ من الكتب المؤلفة في اللغة الفارسية أن الأحرف الساقطة ثمانية ، ونظم ذلك بعضهم فقال :

هشت حرفست آنكه اندر فارسي نايد همي

تا نياموزى نباشى اندرين معنى معاف

بشنو اكنون تا كدام است أن حروف وياد كير

ثا وحا وصاد وطا وظا وعين وقاف

ومع هذا فالأمر مبني على الشائع الغالب وإلّا فبعض هذه الأحرف موجود في بعض كلماتهم كما لا يخفى على المتتبع ، ولعل الوصف على الأقوال الأول أمدح منه على قول الأخير ، والظاهر أن ذلك وصف له باعتبار الشرف الذاتي ، قوله سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) وصف له باعتبار الشرف الإضافي وضمير الغائب للكتاب السابق

__________________

(١) وفي الكلام على هذا براعة استهلال فافهم ا ه منه.

٣٦٣

ذكره فإن كان المراد به القرآن كله كما هو الظاهر المناسب للحال فذاك وإن كان المراد به هذه السورة فتسميته قرآنا لأنه اسم جنس يقع على الكثير والقليل فكما يطلق على الكل يطلق على البعض ، نعم إنه غلب على الكل عند الإطلاق معرفا لتبادره ، وهل وصل بالغلبة إلى حد العلمية أو لا؟ فيه خلاف ، وإلى الأول ذهب البيضاوي قدس‌سره فتلزمه الألف واللام ومع ذلك لم يهجر المعنى الأول ، ووقع في كتب الأصول أنه وضع تارة للكل خاصة ، وأخرى لما يعمه ، والبعض أعني الكلام المنقول في المصحف تواترا ، ونظر فيه بأن الغلبة ليس لها وضع ثان وإنما هي تخصيص لبعض أفراد الموضوع له ، ولذا لزمت العلم بها اللام أو الإضافة إلّا أن يدعى أن فيها وضعا تقديريا كذا قيل ؛ وممن صرح ـ بأن التعيين بالغلبة قسيم للتعيين بالوضع ـ العلامة الزرقاني وغيره لكن تعقبه الحمصي فقال : إن دلالة الإعلام بالغلبة على تعيين مسماها بالوضع وإن كان غير الوضع الأول فليتأمل.

وعن الزجاج وابن الأنباري أن الضمير لنبأ يوسف وإن لم يذكر في النظم الكريم ، وقيل : هو للإنزال المفهوم من الفعل ، ونصبه على أنه مفعول مطلق ، (وَقُرْآناً) هو المفعول به ، والقولان ضعيفان كما لا يخفى ، ونصب (قُرْآناً) على أنه حال وهو بقطع النظر عما بعده وعن تأويله بالمشتق حال موطئة للحال التي هي (عَرَبِيًّا) وإن أول بالمشتق أي مقروءا فحال غير موطئة ؛ و (عَرَبِيًّا) إما صفته على رأي من يجوز وصف الصفة ، وإما حال من الضمير المستتر فيه على رأي من يقول بتحمل المصدر الضمير إذا كان مؤولا باسم المفعول مثلا ، وقيل : (قُرْآناً) بدل من الضمير ، و (عَرَبِيًّا) صفته ، وظاهر صنيع أبي حيان يقتضي اختياره ، ومعنى كونه (عَرَبِيًّا) أنه منسوب الى العرب باعتبار أنه نزل بلغتهم وهي لغة قديمة.

أخرج ابن عساكر في التاريخ عن ابن عباس أن آدم عليه‌السلام كان لغته في الجنة العربية فلما أكل من الشجرة سلبها فتكلم بالسريانية فلما تاب ردّها الله تعالى عليه ، وقال عبد الملك بن حبيب : كان اللسان الأول الذي هبط به آدم عليه‌السلام من الجنة عربيا الى أن بعد وطال العهد حرف وصار سريانيا وهو منسوب الى أرض سورية وهي أرض الجزيرة. وبها كان نوح عليه‌السلام وقومه قبل الغرق ، وكان يشاكل اللسان العربي إلا أنه محرف وكان أيضا لسان جميع من في السفينة إلا رجلا واحدا يقال له : جرهم فإنه كان لسانه العربي الأول فلما خرجوا من السفينة تزوج إرم بن سام بعض بناته وصار اللسان العربي في ولده عوص أبي عاد وعبيل وجاثر أبي ثمود وجديس وسميت عاد باسم جرهم لأنه كان جدّهم من الأم وبقي اللسان السرياني في ولد أرفخشد بن سام الى أن وصل الى قحطان من ذريته وكان باليمن فنزل هناك بنو إسماعيل عليه‌السلام فتعلم منهم بنو قحطان اللسان العربي ، وقال ابن دحية : العرب أقسام : الأول عاربة وعرباء ـ وهم الخلص ـ وهم تسع قبائل من ولد إرم بن نوح ، وهي عاد وثمود وأميم وعبيل وطسم وجديس وعمليق وجرهم ووبار ومنهم تعلم إسماعيل عليه‌السلام العربية ، والثاني المتعربة قال في الصحاح : وهم الذين ليسوا بخلص وهم بنو قحطان ، والثالث المستعربة وهم الذين ليسوا بخلص أيضا ـ وهم بنو إسماعيل ـ وهم ولد معد بن عدنان بن أدد ا ه.

وقال ابن دريد في الجمهرة العرب العاربة سبع قبائل : عاد وثمود وعمليق وطسم وجديس وأميم وجاسم وقد انقرض أكثرهم إلا بقايا متفرقين في القبائل ، وأول من انعدل لسانه عن السريانية الى العربية يعرب بن قحطان وهو مراد الجوهري بقوله : إنه أول من تكلم بالعربية ، واستدل بعضهم على أنه أول من تكلم بها بما أخرجه ابن عساكر في التاريخ بسند رواه عن أنس بن مالك موقوفا ولا أراه يصح ذكر فيه تبلبل الألسنة ببابل وأنه أول من تكلم بالعربية.

وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه ، والبيهقي في شعب الإيمان من طريق سفيان الثوري عن جعفر بن

٣٦٤

محمد عن أبيه عن جابر رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) إلخ ثم قال : «ألهم إسماعيل عليه‌السلام هذا اللسان العربي إلهاما» وقال الشيرازي في كتاب الألقاب : أخبرنا أحمد بن إسماعيل المداني أخبرنا محمد بن أحمد بن إسحاق الماشي حدثنا محمد بن جابر حدثنا أبو يوسف بن السكيت قال : حدثني الأثرم عن أبي عبيدة حدثنا مسمع بن عبد الملك عن محمد بن علي بن الحسين عن آبائه رضي الله تعالى عنهم أجمعين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل عليه‌السلام وهو ابن أربع عشرة سنة» وروي أيضا عن ابن عباس أن إسماعيل عليه‌السلام أول من تكلم بالعربية المحضة ، وأريد بذلك ـ على ما قاله بعض الحفاظ ـ عربية قريش (١) التي نزل بها القرآن وإلا فاللغة العربية مطلقا كانت قبل إسماعيل عليه‌السلام وكانت لغة حمير وقحطان وقال محمد بن سلام : أخبرني يونس عن أبي عمرو بن العلاء قال : العرب كلها ولد إسماعيل إلا حميرا وبقايا جرهم وقد جاورهم وأصهر إليهم ، وذكر ابن كثير أن من العرب من ليس من ذريته كعاد وثمود وطسم وجديس وأميم وجرهم والعماليق وأمم غيرهم لا يعلمهم إلا الله سبحانه كانوا قبل الخليل عليه‌السلام وفي زمانه وكان عرب الحجاز من ذريته (٢) وأما عرب اليمن ـ وهم حمير ـ فالمشهور كما قال ابن ماكولا : إنهم من قحطان واسمه مهزم وهو ابن هود ، وقيل : أخوه ، وقيل : من ذريته ، وقيل : قحطان هو هود ، وحكى ابن إسحاق ، وغيره أنه من ذرية إسماعيل ، والجمهور على أن العرب القحطانية من عرب اليمن وغيرهم ليسوا من ذريته عليه‌السلام وأن اللغة العربية مطلقا كانت قبله وهي إحدى اللغات التي علمها آدم عليه‌السلام وكان يتكلم بها وبغيرها أيضا وكثر تكلمه فيما قيل : بالسريانية ، وادعى بعضهم أنها أول اللغات وأن كل لغة سواها حدثت بعدها إما توقيفا أو اصطلاحا ، واستدلوا على أسبقيتها وجودا بأن القرآن كلام الله تعالى وهو عربي وفيه ما فيه ، وهي أفضل اللغات حتى حكى شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أبي يوسف عليه الرحمة كراهة التكلم بغيرها لمن يحسنها من غير حاجة ، وبعدها في الفضل على ما قيل : الفارسية الدرية (٣) حتى روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه جواز قراءة القرآن بها سواء في ذلك ما كان ثناء كالإخلاص وغيره. وسواء كانت عن عجز عن العربية أم لا ، وروي عن صاحبيه جواز القراءة في الصلاة بغير العربية لمن لا يحسنها وفي النهاية والدراية أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتب فكانوا يقرءون ما كتب في الصلاة حتى لانت ألسنتهم.

وقد عرض ذلك على النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه ، نعم الصحيح ان الإمام رجع عن ذلك ، وفي النفحة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية للشرنبلالي ما ملخصه : حرمة كتابة القرآن بالفارسية إلا أن يكتبه بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته وحرمة مسه لغير الطاهر اتفاقا كقراءته وعدم صحة الصلاة بافتتاحها بالفارسية وعدم صحتها بالقراءة بها إذا كانت ثناء واقتصاره عليها مع القدرة على العربية وعدم الفساد بما هو ذكر وفسادها بما ليس ذكرا بمجرد قراءته ولا يخرج عن كونه أميا وهو يعلم الفارسية فقط وتصح الصلاة بدون قراءة للعجز عن العربية على الصحيح عند الإمام وصاحبيه ، وأطال الكلام في ذلك ، وفي معراج الدراية من تعمد قراءة القرآن او كتابته بالفارسية فهو مجنون أو زنديق والمجنون يداوى والزنديق يقتل ، وروي ذلك عن أبي بكر محمد بن الفضل البخاري

__________________

(١) وصححوا أن العربية المحضة كانت بتوقيف منه تعالى لاسماعيل عليه‌السلام فليحفظ ا ه منه.

(٢) ذكر بعضهم أنهم كانوا أربعة إخوة قحطان وقاحط ومقحط وفالغ وفي قحطان الخلاف ا ه منه

(٣) وفي رواية عنه أنه لا فرق في ذلك بين الفارسية وغيرها من اللغات كالهندية ا ه منه

٣٦٥

ومع هذا لا ينكر فضل الفارسية ، ففي الحديث «لسان أهل الجنة العربي والفارسي الدري» وقد اشتهر ذلك لكن ذكر الذهبي في تاريخه عن سفيان أنه قال : بلغنا أن الناس يتكلمون يوم القيامة بالسريانية فإذا دخلوا الجنة تكلموا بالعربية. وأخرج الطبراني والحاكم والبيهقي وآخرون عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «أحبوا العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي».

وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة ما يعضده ، ولا يخفى على الخبير بمزايا الكلام أن في الكلام العربي من لطائف المعاني ودقائق الأسرار ما لا يستقل بأدائه لسان (١) ويليه في ذلك الكلام الفارسي فإن كان هذا مدار الفضل فلا ينبغي أن يتنازع اثنان في أفضلية العربي ثم الفارسي مما وصل إلينا من اللغات وإن كان شيئا آخر فالظاهر وجوده في العربي الذي اختار سبحانه إنزال القرآن به لا غير ، وقد قسم لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم من هذا اللسان ما لم يقسم لأحد من فصحاء العرب ، فقد أخرج ابن عساكر في تاريخه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال : «يا رسول الله ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال : كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل عليه‌السلام فحفظنيها فحفظتها».

وأخرج البيهقي من طريق يونس عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه من حديث فيه طول قال رجل «يا رسول الله ما أفصحك ما رأينا الذي هو أعرب منك؟ قال : حق لي فإنما أنزل القرآن علي بلسان عربي مبين» ، هذا وجوز أن يكون العربي منسوبا إلى عربة وهي ناحية دار إسماعيل عليه‌السلام قال الشاعر :

وعربة أرض ما يحل حرامها

من الناس إلا اللوذعي الحلاحل

والمراد لغة أهل هذه الناحية ، واستدل جماعة منهم الشافعي رضي الله تعالى عنه وابن جرير وأبو عبيدة والقاضي أبو بكر بوصف القرآن بكونه عربيا على أنه لا معرب فيه ، وشدد الشافعي التكبير على من زعم وقوع ذلك فيه ، وكذا أبو عبيدة فإنه قال : من زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول.

ووجه ابن جرير ما ورد عن ابن عباس وغيره في تفسير ألفاظ منه أنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطية كذا بأن ذلك مما اتفق فيه توارد اللغات ، وقال غيره : بل كان للعرب التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لأهل سائر الألسنة في أسفار لهم فعلقت من لغاتهم ألفاظ غيرت بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاورتها حتى جرت مجرى العربي الفصيح ووقع بها البيان ، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن.

وقال آخرون : كل تلك الألفاظ عربية صرفة ولكن لغة العرب متسعة جدا ولا يبعد أن تخفى على الأكابر الأجلة ، وقد خفي على ابن عباس معنى فاطر وفاتح ، ومن هنا قال الشافعي في الرسالة : لا يحيط باللغة إلا نبي.

وذهب جمع الى وقوع غير العربي فيه ، وأجابوا عن الآية بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن العربية ، فالقصيدة الفارسية لا تخرج عن كونها فارسية بلفظة عربية.

وقال غير واحد : المراد أنه عربي الأسلوب ، واستدلوا باتفاق النحاة على أن منع صرف نحو إبراهيم للعلمية والعجمة ، ورد بأن الأعلام ليست محل خلاف وإنما الخلاف في غيرها ، وأجيب بأنه إذا اتفق على وقوع الأعلام فلا مانع من وقوع الأجناس ونظر فيه ، واختار الجلال السيوطي القول بالوقوع ، واستدل عليه بما صح عن أبي ميسرة

__________________

(١) وكذا في العربي ثم الفارسي من الاتساع ما لا يخفى ا ه منه

٣٦٦

التابعي الجليل أنه قال : في القرآن من كل لسان ، وروي مثله عن سعيد بن جبير ووهب بن منبه.

وذكر أن حكمة وقوع تلك الألفاظ فيه أنه حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء فلا بد أن تقع فيه الإشارة الى أنواع اللغات لتتم إحاطته بكل شيء فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالا للعرب وأيضا لما كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مرسلا الى كل أمة ناسب أن يكون في كتابه المبعوث به من لسان كل قوم شيء ، وقد أشار الى الوجه الأول ابن النقيب.

وقال أبو عبد الله القاسم بن سلام بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء : والمنع عن أهل العربية الصواب تصديق القولين جميعا وذلك أن هذه الأحرف أصولها عجمية كما قال الفقهاء لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية ثم نزل القرآن ، وقد اختلطت هذه الأحرف بكلام العرب فمن قال : إنها عربية فهو صادق ، ومن قال : إنها عجمية فهو صادق ، ومال الى هذا القول الجواليقي وابن الجزري وآخرون ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة إبراهيم عليه‌السلام ما يتعلق بهذا المبحث أيضا فليتفطن وليتأمل.

واحتج الجبائي بالآية على كون القرآن مخلوقا من أربعة أوجه : الأول وصفه بالإنزال ، والقديم لا يجوز عليه ذلك ، الثاني وصفه بكونه عربيا ، والقديم لا يكون عربيا ولا فارسيا ، الثالث أن قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) يدل على أنه سبحانه قادر على إنزاله غير عربي وهو ظاهر الدلالة على حدوثه.

الرابع أن قوله عزّ شأنه (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) يدل على تركبه من الآيات والكلمات وكل ما كان مركبا كان محدثا ضرورة أن الجزء الثاني غير موجود حال وجود الجزء الأول.

وأجاب الأشاعرة عن ذلك كله بأن قصارى ما يلزم منه أن المركب من الحروف والكلمات محدث وذلك مما لا نزاع لنا فيه ، والذي ندعي قدمه شيء آخر نسميه الكلام النفسي وهو مما لا يتصف بالإنزال ولا بكونه عربيا ولا غيره ولا بكونه مركبا من الحروف ولا غيرها ، وقد تقدم لك في المقدمات ما ينفعك هنا فلا تغفل.

(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لكي تفهموا معانيه وتحيطوا بما فيه من البدائع أو تستعملوا فيه عقولكم فتعلموا أنه خارج عن طوق البشر مشتمل على ما يشهد له أنه منزل من عند خلاق القوى والقدر ، وهذا بيان لحكمة إنزاله بتلك الصفة ، وصرح غير واحد أن ـ لعل ـ مستعملة بمعنى لام التعليل على طريق الاستعارة التبعية ، ومراده من ذلك ظاهر ، وجعلها للرجاء من جانب المخاطبين وإن كان جائزا لا يناسب المقام.

وزعم الجبائي أن المعنى أنزله لتعقلوا معانيه في أمر الدين فتعرفوا الأدلة الدالة على توحيده وما كلفكم به ، وفيه دليل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان والعمل الصالح من حصل منه ذلك ومن لم يحصل ، وفيه أنه بمعزل عن الاستدلال به على ما ذكر كما لا يخفى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) أي نخبرك ونحدثك من قص أثره إذا اتبعه كأن المحدث يتبع ما حدث به وذكره شيئا فشيئا ومثل ذلك تلي (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) أي أحسن الاقتصاص فنصبه على المصدرية إما لإضافته الى المصدر أو لكونه في الأصل صفة مصدر أي قصصا أحسن القصص ، وفيه مع بيان الواقع إيهام لما في اقتصاص أهل الكتاب من القبح والخلل ، والمفعول به محذوف أي مضمون هذا القرآن ، والمراد به هذه السورة ، وكذا في قوله عزوجل : (بِما أَوْحَيْنا) أي بسبب إيحائنا.

(إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) والتعرض لعنوان قرآنيتها لتحقيق أن الاقتصاص ليس بطريق الإلهام أو الوحي غير المتلو ، ولعل كلمة (هذَا) للإيماء الى تعظيم المشار اليه.

٣٦٧

وقيل : فيها إيماء الى مغايرة هذا القرآن لما في قوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) بأن يكون المراد بذلك المجموع وفيه تأمل ، وأحسنيته لأنه قد قص على أبدع الطرائق الرائعة الرائقة ، وأعجب الأساليب الفائقة اللائقة كما لا يكاد يخفى على من طالع القصة من كتب الأولين وإن كان لا يميز الغث من السمين ولا يفرق بين الشمال واليمين ، وجوز أن يكون هذا المذكور مفعول (نَقُصُ).

وصرح غير واحد أن الآية من باب تنازع الفعلين ، والمذهب البصري أولى هنا إما لفظا فظاهر وإما معنى فلأن القرآن كما سمعت السورة وإيقاع الإيحاء عليها أظهر من إيقاع (نَقُصُ) باعتبار اشتمالها على القصة وما هو أظهر أولى بإعمال صريح الفعل فيه ، وفيه من تفخيم القرآن وإحضار ما فيه من الإعجاز وحسن البيان ما ليس في إعمال (نَقُصُ) صريحا ، وجوز تنزيل أحد الفعلين منزلة اللازم ، ويجوز أن يكون (أَحْسَنَ) مفعولا به لنقص ، والقصص : إما فعل بمعنى مفعول كالنبإ والخبر أو مصدر سمي به المفعول كالخلق والصيد أي نقص عليك أحسن ما يقصه من الأنباء وهو قصة آل يعقوب عليه‌السلام ، ووجه أحسنيتها اشتمالها على حاسد ومحسود ومالك ومملوك وشاهد ومشهود وعاشق ومعشوق وحبس وإطلاق وخصب وجدب وذنب وعفو وفراق ووصال وسقم وصحة وحل وارتحال وذل وعز وقد أفادت أنه لا دافع لقضاء الله تعالى ولا مانع من قدره وأنه سبحانه إذا قضى لإنسان بخير ومكرمة فلو أن أهل العالم اجتمعوا على دفع ذلك لم يقدروا وأن الحسد سبب الخذلان والنقصان ، وأن الصبر مفتاح الفرج ، وأن التدبير من العقل وبه يصلح أمر المعاش الى غير ذلك مما يعجز عن بيانه بنان التحرير.

وقيل : إنما كانت و (أَحْسَنَ) لأن غالب من ذكر فيها كان مآله الى السعادة ، وقيل : المقصوص أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية لا قصة آل يعقوب فقط ، والمراد بهذا القرآن ما اشتمل على ذلك ، (أَحْسَنَ) ليس أفعل تفضيل بل هو بمعنى حسن كأنه قيل : حسن القصص من باب إضافة الصفة الى الموصوف أي القصص الحسن ، والقول عليه عند الجمهور ما ذكرنا ، قيل : ولكونها بتلك المثابة من الحسن تتوفر الدواعي إلى نقلها ولذا لم تتكرر كغيرها من القصص ، وقيل : سبب ذلك من افتتان امرأة ونسوة بأبدع الناس جمالا ، ويناسب ذلك عدم التكرار لما فيه من الإغضاء والستر ، وقد صحح الحاكم في مستدركه حديث النهي عن تعليم النساء سورة يوسف ، وقال الأستاذ أبو إسحاق : إنما كرر الله تعالى قصص الأنبياء وساق هذه القصة مساقا واحدا إشارة إلى عجز العرب كأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لهم : إن كان من تلقاء نفسي فافعلوا في قصة يوسف ما فعلت في سائر القصص وهو وجه حسن إلا أنه يبقى عليه أن تخصيص سورة يوسف لذلك يحتاج الى بيان فإن سوق قصة آدم عليه‌السلام مثلا مساقا واحدا يتضمن الإشارة إلى ذلك أيضا بعين ما ذكر ، وقال الجلال السيوطي : ظهر لي وجه في سوقها كذلك وهو أنها نزلت بسبب طلب الصحابة أن يقص عليهم فنزلت مبسوطة تامة ليحصل لهم مقصود القصص من الاستيعاب وترويح النفس بالإحاطة ولا يخفى ما فيه ، وكأنه لذلك قال : وأقوى ما يجاب به أن قصص الأنبياء إنما كررت لأن المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم والحاجة داعية الى ذلك كتكرير تكذيب الكفار للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فكلما كذبوا أنزلت قصة منذرة بحلول العذاب كما حل بالمكذبين ، ولهذا قال سبحانه في آيات : (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) [الأنفال : ٣٨] (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) [الأنعام : ٦] وقصة يوسف لم يقصد منها ذلك ، وبهذا أيضا يحصل الجواب عن عدم تكرير قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين وقصة موسى مع الخضر وقصة الذبيح ، ثم قال : فإن قلت : قد تكررت قصة ولادة يحيى وولادة عيسى عليهما‌السلام مرتين وليست من قبيل ما ذكرت قلت الأولى في سورة ـ كهيعص ـ وهي مكية أنزلت خطابا لأهل مكة ، والثانية في سورة آل عمران وهي مدنية

٣٦٨

أنزلت خطابا لليهود ولنصارى نجران حين قدموا ولهذا اتصل بهذا ذكر المحاجة والمباهلة ا ه.

واعترض بأن قصة آدم عليه‌السلام كررت مع أنه ليس المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم ، وأجيب بأنها وإن لم يكن المقصود بها إفادة ما ذكر إلّا أن فيها من الزجر عن المعصية ما فيها فهي أشبه قصة بتلك القصص التي كررت لذلك فافهم (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ) أي قبل إيحائنا إليك ذلك (لَمِنَ الْغافِلِينَ) عنه لم يخطر ببالك ولم يقرع سمعك ، وهذا تعليل لكونه موحى كما ذكره بعض المحققين والأكثر في مثله ترك الواو ، والتعبير عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكذا العدول عن ـ لغافلا ـ إلى ما في النظم الجليل عند بعض ، ويمكن أن يقال : إن الشيء إذا كان بديعا وفيه نوع غرابة إذا وقف عليه قيل للمخاطب : كنت عن هذا غافلا فيجوز أن يقصد الإشارة إلى غرابة تلك القصة فيكون كالتأكيد لما تقدم إلّا أن فيه ما لا يخفى وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واللام فارقة ، وجملة (كُنْتَ) إلخ خبر ـ إن ـ (إِذْ قالَ يُوسُفُ) نصب بإضمار ـ اذكر ـ بناء على تصرفها ، وذكر الوقت كناية عن ذكر ما حدث فيه والكلام شروع في إنجاز ما وعد سبحانه ، وحكى مكي أن العامل في (إِذْ) الغافلين.

وقال ابن عطية : يجوز أن يكون العامل فيها (نَقُصُ) وروي ذلك عن الزجاج على معنى نقص عليك الحال (إِذْ) إلخ. وهي للوقت المطلق المجرد عن اعتبار المضي ، وفي كلا الوجهين ما فيه.

واستظهر أبو حيان بقاءها على معناها الأصلي وأن العامل فيها (قالَ يا بُنَيَ) كما تقول : إذ قام زيد قام عمرو ، ولا يخلو عن بعد ، وجوز الزمخشري كونها بدلا من (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) على تقدير جعله مفعولا به وهو بدل اشتمال ، وأورد أنه إذا كان بدلا من المفعول يكون الوقت مقصوصا ولا معنى له ، وأجيب بأن المراد لازمه وهو اقتصاص قول يوسف عليه‌السلام فإن اقتصاص وقت القول ملزوم لاقتصاص القول.

واعترض بأنه يكون بدل بعض أو كل لا اشتمال ، وأجيب بأنه إنما يلزم ما ذكر لو كان الوقت بمعنى القول وهو إما عين المقصوص أو بعضه ، أما لو بقي على معناه وجعل مقصوصا باعتبار ما فيه فلا يرد الاعتراض.

هذا ولم يجوزوا البدلية على تقدير نصب (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) على المصدرية ، وعلل ذلك بعدم صحة المعنى حينئذ وبقيام المانع عربية ، أما الأول فلأن المقصوص في ذلك الوقت لا الاقتصاص. وأما الثاني فلأن أحسن الاقتصاص مصدر فلو كان الظرف بدلا وهو المقصود بالنسبة لكان مصدرا أيضا وهو غير جائز لعدم صحة تأويله بالفعل ، وأورد على هذا أن المصدر كما يكون ظرفا نحو أتيتك طلوع الشمس يكون الظرف أيضا مصدرا ومفعولا مطلقا لسدّه مسدّ المصدر كما في قوله :

ولم تغتمض عيناك ليلة أرمد

فإنهم صرحوا ـ كما في التسهيل وشروحه ـ أن ليلة مفعول مطلق أي اغتماض ليلة ، وما ذكر من حديث التأويل بالفعل فهو من الأوهام الفارغة ، نعم إذا ناب عن المصدر ففي كونه بدل اشتمال شبهة وهو شيء آخر غير ما ذكر ، وعلى الأول أنه وإن لم يشتمل الوقت على الاقتصاص فهو مشتمل على المقصوص فلم لم تجز البدلية بهذه الملابسة؟ ورد بأن مثل هذه الملابسة لا تصحح البدلية ، ونقل عن الرضي أن الاشتمال ليس كاشتمال الظرف على المظروف بل كونه دالّا عليه إجمالا ومتقاضيا له بوجه ما بحيث تبقى النفس عند ذكر الأول متشوقة إلى الثاني منتظرة له فيجيء الثاني مبينا لما أجمل فيه فإن لم يكن كذلك يكن بدل غلط وعلى هذا يقال في عدم صحة البدلية : إن النفس إنما تتشوق لذكر وقت الشيء لا لذكر وقت لازمه ووقت القول ليس وقتا للاقتصاص ، و (يُوسُفُ) علم

٣٦٩

أعجمي لا عربي مشتق من الأسف وسمي به لأسف أبيه عليه أو أسفه على أبيه أو أسف من يراه على مفارقته لمزيد حسنه كما قيل ، وإلّا لانصرف لأنه ليس فيه غير العلمية ولا يتوهمن أن فيه وزن الفعل أيضا إذ ليس لنا فعل مضارع مضموم الأول والثالث ، وكذا يقال في يونس ، وقرئ بفتح السين وكسرها على ما هو الشائع في الأسماء الأعجمية من التغيير لا على أنه مضارع بني للمفعول أو للفاعل من آسف لأن القراءة المشهورة شهدت بعجميته ولا يجوز أن يكون أعجميا وغير أعجمي قاله غير واحد لكن في الصحاح أن يعفر ولد الأسود الشاعر إذا قلته بفتح الياء لم تصرفه لأنه مثل يقتل.

وقال يونس : سمعت رؤبة يقول : أسود بن يعفر بضم الياء وهذا ينصرف لأنه قد زال عنه شبه الفعل ا ه.

وصرحوا بأن هذا مذهب سيبويه ، وأن الأخفش خالفه فمنع صرفه لعروض الضم للاتباع ، وعلى هذا يحتمل أن يقال : إنه عربي ومنه من الصرف على قراءة الفتح والكسر للعلمية ووزن الفعل. وكذا على قراءة الضم بناء على ما يقوله الأخفش ويلتزم كون ضم ثالثه اتباعا لضم أوله ، وأجيب بأنه لو كان عربيا لوقع فيه الخلاف كما وقع في يعفر ، والظاهر أن أعجميته متحققة عندهم ولذا التزموا منعه من الصرف لها وللعلمية ولا الالتفات لذلك الاحتمال.

وقرأ طلحة بن مصرف ـ يؤسف ـ بالهمز وفتح السين ، وقد جاء فيه الضم والكسر مع الهمز أيضا فيكون فيه ست لغات (لِأَبِيهِ) يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم».

نسب كأن عليه من شمس الضحى

نورا ومن ضوء الصباح عمودا

(يا أَبَتِ) أصله يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في كون كل منهما من حروف الزيادة ويضم الى الاسم في آخره ولهذا قلبها هاء في الوقف ابن كثير وابن عامر ، وخالف الباقون فأبقوها تاء في الوقف وكسرت لأنها عوض عن الياء التي هي أخت الكسرة فحركت بحركة تناسب أصلها لا لتدل على الياء ليكون ذلك كالجمع بين عوضين أو بين العوض والمعوض ، وجعل الزمخشري هذه الكسرة كسرة الياء زحلقت الى التاء لما فتح ما قبلها للزوم فتح ما قبل تاء التأنيث ، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر (١) ، والأعرج بفتحها لأن أصلها وهو الياء إذا حرك حرك بالفتح ، وقيل : لأن أصل (يا أَبَتِ) يا أبتا بأن قلبت الياء ألفا ثم حذفت وأبقيت فتحتها دليلا عليها ، وتعقب بأن يا أبتا ضعيف (٢) كيا أبتي حتى قيل : إنه يختص بالضرورة كقوله يا أبتا علك أو عساكا وقال الفراء وأبو عبيدة وأبو حاتم : إن الألف المحذوفة من يا أبتا للندبة ، ورد بأن الموضع ليس موضع ندبة ، وعن قطرب أن الأصل ـ يا أبة ـ بالتنوين فحذف والنداء باب حذف ، ورد بأن التنوين لا يحذف من المنادى المنصوب نحو يا ضاربا رجلا ، وقرئ بضم التاء إجراء لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء من غير اعتبار التعويض ، وأنت تعلم أن ضم المنادى المضاف شاذ وإنما لم تسكن مع أن الباء التي وقعت هي عوضا عنها تسكن لأنها حرف صحيح منزل منزلة الاسم فيجب تحريكها ككاف الخطاب.

وزعم بعضهم أن الياء أبدلت تاء لأنها تدل على المبالغة والتعظيم في نحو علامة ونسابة والأب والأم مظنة التعظيم فعلى هذا لا حذف ولا تعويض ، والتاء حينئذ اسم ، فقد صرحوا أن الاسم إذا كان على حرف واحد وأبدل لا

__________________

(١) المروي عن ابن عامر أنه قرأ به في القرآن ا ه منه

(٢) لما فيه من الجمع بين عوضين ، وفي الثاني الجمع بين العوض والمعوض ا ه منه.

٣٧٠

يخرج عن الاسمية ، وقال الكوفيون : إن التاء لمجرد التأنيث وياء بالإضافة مقدرة ، ويأباه عدم سماع يا أبتي في السعة ، وكذا سماع فتحها على ما قيل ، وتعقب بأن تاء لات للتأنيث عند الجمهور وكذا تاء ربت ، وثمت وهي مفتوحة (إِنِّي رَأَيْتُ) أي في المنام كما يقتضيه كلام ابن عباس وغيره ، وكذا قوله سبحانه : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ) وهذا تأويل رؤياي ، فإن مصدر رأي الحلمية الرؤيا ومصدر البصرية الرؤية في المشهور ، ولذا خطئ المتنبي في قوله :

ورؤياك أحلى في العيون من الغمض

وذهب السهيلي وبعض اللغويين الى أن الرؤيا سمعت من العرب بمعنى الرؤية ليلا ومطلقا ، واستدل بعضهم لكون رأي حلمية بأن ذلك لو وقع يقظة وهو أمر خارق للعادة لشاع وعد معجزة ليعقوب عليه‌السلام أو إرهاصا ليوسف عليه‌السلام ، وأجيب بأنه يجوز أن يكون في زمان يسير من الليل والناس غافلون ، والحق أنها حلمية ، ومثل هذا الاحتمال مما لا يلتفت إليه.

وقرأ أبو جعفر «أني» (١) بفتح الياء (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) وهي جربان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفيلق والمصبح والفزع ووثاب وذو الكتفين والضروج فقد روي عن جابر أن سنانا اليهودي جاء الى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسف فسكت فنزل جبريل عليه‌السلام فأخبره بذلك فقال عليه الصلاة والسلام : هل أنت مؤمن إن أخبرتك؟ قال : نعم فعد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ذكر فقال اليهودي : أي والله إنها لأسماؤها.

وأخرج السهيلي عن الحارث بن أبي أسامة نحو ذلك إلا أنه ذكر النطح بدل المصبح ، وأخرج الخبر الأول جماعة من المفسرين وأهل الأخبار وصححه الحاكم ، وقال : إنه على شرط مسلم ، وقال أبو زرعة وابن الجوزي : إنه منكر موضوع.

وقرأ الحسن وطلحة بن سليمان وغيرهما (أَحَدَ عَشَرَ) بسكون العين لتوالي الحركات وليظهر جعل الاسمين اسما واحدا (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) عطف على ما قبل.

وزعم بعضهم أن الواو للمعية وليس بذاك وتخصيصهما بالذكر وعدم الاندراج في عموم الكواكب لاختصاصهما بالشرف وتأخيرهما لأن سجودهما أبلغ وأعلى كعبا فهو من باب لا يعرفه فلان ولا أهل بلده ، وتقديم الشمس على القمر لما جرت عليه عادة القرآن إذا جمع الشمس والقمر ، وكان ذلك إما لكونها أعظم جرما وأسطع نورا وأكثر نفعا من القمر وإما لكونها أعلى مكانا منه وكون فلكها أبسط من فلكه على ما زعمه أهل الهيئة وكثيرين من غيرهم ، وإما لأنها مفيضة النور عليه كما ادعاه غير واحد ، واستأنس له بقوله سبحانه : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) [يونس : ٥] وإنما أورد الكلام على هذا الأسلوب ولم يطو ذكر العدد لأن المقصود الأصلي أن يتطابق المنام ومن هو في شأنهم وبترك العدد يفوت ذلك (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) استظهر في البحر أن (رَأَيْتُهُمْ) تأكيد لما تقدم تطرية للعهد كما في قوله تعالى : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) واختار الزمخشري التأسيس وأن الكلام جواب سؤال مقدر كأن يعقوب عليه‌السلام قال له عند قوله : (رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) كيف رأيتها؟ سائلا عن حال رؤيتها فقال : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) وكأنه لا يرى أن رأي

__________________

(١) قوله : وقرأ أبو جعفر إلخ هكذا بخطه ولعلها من غير المتواتر عنه.

٣٧١

الحلمية مما تتعدى الى مفعولين كالعلمية ليلتزم كون المفعول الثاني للفعل الأول محذوفا ، ويرى أنها تتعدى لواحد كالبصرية فلا حذف ، و (ساجِدِينَ) حال عنده كما يشير إليه كلامه ، والمشهور عند الجمهور أنها تتعدى الى مفعولين ولا يحذف ثانيهما اقتصارا.

وجوز أن يكون مذهبه القول بالتعدي الى ما ذكر إلا أنه يقول بجواز ما منعوه من الحذف ، وأنت تعلم أن ما استظهره في البحر سالم عن المخالفة والنظرية أمر معهود في الكتاب الجليل (١) وإنما أجريت هذه المتعاطفات مجرى العقلاء في الضمير جمع الصفة لوصفها بوصف العقلاء أعني السجود سواء كان المراد منه التواضع أو السجود الحقيقي وإعطاء الشيء الملابس لآخر من بعض الوجوه حكما من أحكامه إظهارا لأثر الملابسة والمقاربة شائع في الكلام القديم والحديث ، وفي الكلام على ما قيل : استعارة مكنية بتشبيه المذكورات بقوم عقلاء ساجدين والضمير والسجود قرينة أو أحدهما قرينة تخييلية والآخر ترشيح.

وذهب جماعة من الفلاسفة الى أن الكواكب أحياء ناطقة ، واستدل لهم بهذه الآية ونظائرها وكثير من ظواهر الكتاب والسنة يشهد لهم ، وليس في القول بذلك إنكار ما هو من ضروريات الدين ، وتقديم الجار والمجرور لإظهار العناية والاهتمام مع ما في ضمنه على ما قيل : من رعاية الفواصل ، وكانت هذه الرؤية فيما قيل : ليلة الجمعة ، وأخرج أبو الشيخ عن ابن منبه أنها كانت ليلة القدر ، ولعله لا منافاة لظهور إمكان كون ليلة واحدة ليلة القدر وليلة الجمعة ، واستشكل كونها في ليلة القدر بأنها من خواص هذه الأمة ، وأجيب بأن ما هو من الخواص تضعيف ثواب العمل فيها الى ما قص الله سبحانه وكان عمره عليه‌السلام حين رأى ذلك اثنتي عشرة سنة فيما يروى عن وهب.

وقيل : سبع عشرة سنة ، وكان قد رأى قبل وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال : إياك أن تذكر هذا لإخوتك ، وتعبير هذه العصي لإحدى عشرة هو بعينه تعبيرا لأحد عشر كوكبا فإن كلا منهما إشارة الى إخوته ، وليس في الرؤيا الأولى ما يشير الى ما يشير إليه الشمس والقمر في الرؤية الثانية ، ولا ضرورة الى التزام القول باتحاد المنامين بأن يقال : إنه عليه‌السلام رأى في كل أحد عشر شيئا إلا أن ذلك في الأول عصي وفي الثاني كواكب ، ويكون عطف الشمس والقمر على ما قبله من قبيل عطف ميكائيل وجبريل عليهما‌السلام على الملائكة كما يوهمه كلام بعضهم ، وعبرت الشمس بأبيه والقمر بأمه اعتبارا للمكان والمكانة.

وروى ذلك عن قتادة وعن السدي أن القمر خالته لأن أمه راحيل قد ماتت ، والقول : بأن الله تعالى أحياها بعد لتصديق رؤياه لا يخفى حاله ، وعن ابن جريج أن الشمس أمّه والقمر أبوه وهو اعتبار للتأنيث والتذكير ، وقد تعبر الشمس بالملك وبالذهب وبالزوجة الجميلة والقمر بالأمير والكواكب بالرؤساء وكذا بالعلماء أيضا.

وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أن رؤية القمر تؤوّل على أحد سبعة عشر وجها ، ملك أو وزير أو نديم الملك أو رئيس أو شريف أو جارية أو غلام أو أمر باطل أو وال أو عالم مفسد أو رجل معظم أو والد أو والدة أو زوجة أو بعل لها أو ولد أو عظمة ولعل ذلك مبني على اختلاف الرائي وكيفية الرؤية ، وزعم بعضهم أنه عليه‌السلام لم يكن رأي الكواكب ولا الشمس والقمر وإنما رأى إخوته وأبويه إلا أنه عبر عنهم بذلك على طريقة الاستعارة التصريحة وهو

__________________

(١) وزعم بعضهم أن أحد الفعلين من الرؤية والآخر من الرؤيا وهو كما ترى ا ه منه.

٣٧٢

خلاف الظاهر جدا ويكاد يعدّ من كلام النائم ، ويؤيد ظاهر ما نقله كثير من المفسرين أنه عليه‌السلام رأى الكواكب والشمس والقمر قد نزلت فسجدت له فقص ذلك على أبيه (قالَ يا بُنَيَ) صغره للشفقة ويسمي النحاة مثل هذا تصغير التحبيب ، وما ألطف قول بعض المتأخرين :

قد صغر الجوهر في ثغره

لكنه تصغير تحبيب

ويحتمل أن يكون لذلك لصغر السن ، وفتح الياء قراءة حفص ، وقرأ الباقون بكسرها ، والجملة استئناف مبني على سؤال كأنه قيل : فما ذا قال الأب بعد سماع هذه الرؤية العجيبة من ابنه؟ فقيل : قال : (يا بُنَيَ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) أي فيحتالوا لإهلاكك حيلة عظيمة لا تقدر على التقضي عنها أو خفية لا تتصدى لمدافعتها ، وإنما قال له ذلك لما أنه عليه‌السلام عرف من رؤياه أن سيبلغه الله تعالى مبلغا جليلا من الحكمة ويصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين فخاف عليه حسد الإخوة وبغيهم فقال له ذلك صيانة لهم من الوقوع فيما لا ينبغي في حقه وله من معاناة المشاق ومقاساة الأحزان وإن كان واثقا بأنهم لا يقدرون على تحويل ما دلت عليه الرؤيا وأنه سبحانه سيحقق ذلك لا محالة وطمعا في حصوله بلا مشقة وليس ذلك من الغيبة المحظورة في شيء ، والرؤيا ـ مصدر رأي ـ الحلمية الدالة على ما يقع في النوم سواء كان مرئيا أم لا على ما هو المشهور ، والرؤية ـ مصدر رأي ـ البصرية الدالة على إدراك مخصوص ، وفرق بين مصدر المعنيين بالتأنيثين ، ونظير ذلك القربة للتقرب المعنوي بعبادة ونحوها ، والقربى للتقرب النسبي وحقيقتها عند أهل السنة كما قال محيي الدين النووي نقلا عن المازني : إن الله سبحانه يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان وهو سبحانه يخلق ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة ، وقد جعل سبحانه تلك الاعتقادات علما على أمور أخر يخلقها في ثاني الحال ، ثم إن ما يكون علما على ما يسر يخلقه بغير حضرة الشيطان. وما يكون علما على ما يضر يخلقه بحضرته ، ويسمى الأول رؤيا وتضاف إليه تعالى إضافة تشريف ، والثاني حلما وتضاف الى الشيطان كما هو الشائع من إضافة الشيء المكروه إليه ، وإن كان الكل منه تعالى ، وعلى ذلك جاء قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الرؤيا من الله تعالى والحلم من الشيطان» وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنها من الله تعالى فليحمد الله تعالى وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله تعالى من الشيطان الرحيم ومن شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لن تضره». وصح عن جابر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليستعذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم وليتحول عن جنبه الذي كان عليه» ولا يبعد جعل الله تعالى ما ذكر سببا للسلامة عن المكروه كما جعل الله الصدقة سببا لدفع البلاء وإن لم نعرف وجه مدخلية البصق عن اليسار والتحول عن الجنب الذي كان عليه مثلا في السببية ، وقيل هي أحاديث الملك الموكل بالأرواح إن كانت صادقة ووسوسة الشيطان والنفس إن كانت كاذبة ، ونسب هذا الى المحدثين ، وقد يجمع بين القولين بأن مقصود القائل بأنها اعتقادات يخلقها الله تعالى في قلب إلخ أنها اعتقادات تخلق كذلك بواسطة حديث الملك أو بواسطة وسوسة الشيطان مثلا والمسببات في المشهور عن الأشاعرة مخلوقة له تعالى عند الأسباب لا بها فتدبر.

وقال غير واحد من المتفلسفة هي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة الى الحس المشترك ، والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ فتتصور بما فيها مما يليق بها من المعاني الحاصلة هناك ، ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبها فترسلها الى الحس المشترك فتصير مشاهدة ، ثم إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية استغنت عن التعبير وإلا احتاجت اليه.

٣٧٣

وذكر بعض أكابر الصوفية ما يقرب من هذا ، وهو : أن الرؤيا من أحكام حضرة المثال المقيد المسمى بالخيال وهو قد يتأثر من العقول السماوية والنفوس الناطقة المدركة للمعاني الكلية والجزئية فيظهر فيه صور مناسبة لتلك المعاني وقد يتأثر من القوى الوهمية المدركة للمعاني الجزئية فقط فيظهر فيه صورة تناسبها ، وهذا قد يكون بسبب سوء مزاج الدماغ وقد يكون بسبب توجه النفس بالقوة الوهمية الى إيجاد صورة من الصور كمن يتخيل صورة محبوبه الغائب عنه تخيلا قويا فتظهر صورته في خياله فيشاهده ، وهي أول مبادئ الوحي الإلهي في أهل العناية لأن الوحي لا يكون إلا بنزول الملك وأول نزوله في الحضرة الخيالية ثم الحسية ، وقد صح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح» والمرئي على ما قال بعضهم : سواء كان على صورته الأصلية أو لا قد يكون بإرادة المرئي. وقد يكون بإرادة الرائي وقد يكون بإرادتهما معا. وقد يكون لا بإرادة من شيء منهما ، فالأول كظهور الملك على نبي من الأنبياء عليهم‌السلام في صورة من الصور وظهور الكمل من الأناسي على بعض الصالحين في صور غير صورهم ، والثاني كظهور روح من الأرواح الملكية أو الإنسانية باستنزال الكامل إياه الى عالمه ليكشف معنى ما مختصا علمه به ، والثالث كظهور جبريل عليه‌السلام للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم باستنزاله إياه وبعث الحق سبحانه إياه إليه صلى الله تعالى عليه وسلم ، والرابع كرؤية زيد مثلا صورة عمرو في النوم من غير قصد وإرادة منهما ، وكانت رؤيا يوسف عليه‌السلام من هذا القسم لظهور أنها لو كانت بإرادة الأخوة لعلموا فلم يكن للنهي عن الاقتصاص معنى ، ويشير الى انها لم تكن بقصده قوله بعد : (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) [يوسف : ١٠٠].

هذا والمنقول عن المتكلمين أنها خيالات باطلة وهو من الغرابة بمكان بعد شهادة الكتاب والسنة بصحتها ، ووجه ذلك بعض المحققين بأن مرادهم أن كون ما يتخيله النائم إدراكا بالبصر رؤية ، وكون ما يتخيله إدراكا بالسمع سمعا باطل فلا ينافي حقيقة ذلك بمعنى كونه أمارة لبعض الأشياء كذلك الشيء نفسه أو ما يضاهيه ويحاكيه ، وقد مر الكلام في ذلك فتيقظ.

والمشهور الذي تعاضدت فيه الروايات أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ، ووجه ذلك عند جمع أنه صلى الله تعالى عليه وسلم بقي حسبما أشارت عائشة رضي الله تعالى عنها ستة أشهر يرى الوحي مناما ثم جاءه الملك يقظة وستة أشهر بالنسبة الى ثلاث وعشرين سنة جزء من ست وأربعين جزءا.

وذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه عليه الصلاة والسلام على ستة وأربعين نوعا : مثل النفث في الروع ، وتمثل الملك له بصورة دحية رضي الله تعالى عنه مثلا وسماعه مثل صلصلة الجرس الى غير ذلك ، ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال ، وذكر الحافظ العسقلاني أن كون الرؤيا الصادقة جزء من كذا من النبوة إنما هو باعتبار صدقها لا غير وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا وليس كذلك ، وقد تقدم لك أن في بعض الروايات ما فيه مخالفة لما في هذه الرواية من عدة الأجزاء ، ولعل المقصود من كل ذلك على ما قيل : مدح الرؤيا الصادقة والتنويه برفعة شأنها لا خصوصية العدد ولا حقيقة الجزئية.

وقال ابن الأثير في جامع الأصول : روى قليل أنها جزء من خمسة وأربعين جزءا وله وجه مناسبة بأن عمره صلى الله تعالى عليه وسلم لم يستكمل ثلاثا وستين بأن يكون توفي عليه الصلاة والسلام بأثناء السنة الثالثة والستين ورواية أنها جزء من أربعين جزءا تكون محمولة على كون عمره عليه الصلاة والسلام ستين وهو رواية لبعضهم ، وروي أنها جزء من سبعين جزءا ولا أعلم لذلك وجها ا ه.

وأنت تعلم أن سبعين كثيرا ما يستعمل في التكثير فلعله هو الوجه ، والغرض الإشارة الى كثرة أجزاء النبوة فتدبر ،

٣٧٤

والمراد ـ بإخوته ـ هاهنا على ما قيل : الإخوة الذين يخشى غوائلهم ومكائدهم من بني علاته الأحد عشر ، وهم يهوذا وروبيل وشمعون ولاوي وريالون ويشجر ودينه بنو يعقوب (١) من ليا بنت ليان بن ناهر وهي بنت خالته ، ودان ويفتالى وجاد وآشر بنوه عليه‌السلام من سريتين له زلفة وبلهة (٢) وهم المشار إليهم بالكواكب ، وأما بنيامين الذي هو شقيق يوسف عليه‌السلام وأمهما راحيل التي تزوجها يعقوب عليه‌السلام بعد وفاة أختها ليا أو في حياتها (٣) إذ لم يكن جمع الأختين إذ ذاك محرما فليس بداخل تحت هذا النهي إذ لا تتوهم مضرته ولا تخشى معرته ولم يكن معهم في الرؤيا إذ لم يكن معهم في السجود.

وتعقب بأن المشهور أن بني علاته عليه‌السلام عشرة وليس فيهم من اسمه دينه ، ومن الناس من ذكر ذلك في عداد أولاد يعقوب إلا أنه قال : هي أخت يوسف ، وبناء الكلام عليه ظاهر الفساد بل لا تكاد تدخل في الإخوة إلا باعتبار التغليب لأنه جمع أخ فهو مخصوص بالذكور ، فلعل المختار أن المراد من الإخوة ما يشمل الأعيان والعلات ، ويعد بنيامين بدل دينه إتماما لأحد عشر عدة الكواكب المرئية ، والنهي عن الاقتصاص عليه ـ وإن لم يكن ممن تخشى غوائله ـ من باب الاحتياط وسد باب الاحتمال ، ومما ذاع كل سر جاوز الاثنين شاع ، ويلتزم القول بوقوع السجود منه كسائر أهله وإسناد الكيد الى الإخوة باعتبار الغالب فلا إشكال كذا قيل ، وهو على علاته أولى مما قيل : إن المراد بإخوته ما لا يدخل تحته بنيامين ودينه لأنهما لا تخشى معرتهما ولا يتوهم مضرتهما فهم حينئذ تسعة وتكمل العدة بأبيه وأمه أو خالته ويكون عطف الشمس والقمر من قبيل عطف جبريل وميكائيل على الملائكة ، وفيه من تعظيم أمرهما ما فيه لما أن في ذلك ما فيه ، ونصب (فَيَكِيدُوا) بأن مضمرة في جواب النهي وعدي باللام مع أنه مما يتعدى بنفسه كما في قوله تعالى : فيكيدوني لتضمينه ما يتعدى بها وهو الاحتيال كما أشرنا اليه ، وذلك لتأكيد المعنى بإفادة معنى الفعلين المتضمن والمضمن جميعا ولكون القصد الى التأكيد والمقام مقامه أكد الفعل بالمصدر وقرر بالتعليل بعد ، وجعل اللام زائدة كجعله مما يتعدى بنفسه وبالحرف خلاف الظاهر ، وقيل : إن الجار والمجرور من متعلقات التأكيد على معنى فيكيدوا كيدا لك وليس بشيء ؛ وجعل بعضهم اللام للتعليل على معنى فيفعلوا لأجلك وإهلاكك كيدا راسخا أو خفيا ؛ وزعم أن هذا الأسلوب آكد من أن يقال فيكيدوك كيدا إذ ليس فيه دلالة على كون نفس الفعل مقصود الإيقاع وفيه نوع مخالفة للظاهر أيضا فافهم.

وقرأ الجمهور (رُؤْياكَ) بالهمز من غير إمالة ، والكسائي «رؤياك» بالإمالة وبغير همز وهي لغة أهل الحجاز (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ) أي لهذا النوع (عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة فلا يألو جهدا في تسويل إخوتك وإثارة الحسد فيهم حتى يحملهم على ما لا خير فيه وإن كانوا ناشئين في بيت النبوة ، والظاهر أن القوم كانوا بحيث يمكن أن يكون للشيطان عليهم سبيل ، ويؤيد هذا أنهم لم يكونوا أنبياء ، والمسألة خلافية فالذي عليه الأكثرون سلفا وخلفا أنهم لم يكونوا أنبياء أصلا ، أما السلف فلم ينقل عن الصحابة منهم أنه قال بنبوتهم ولا يحفظ عن أحد من التابعين أيضا ، وأما أتباع التابعين فنقل عن ابن زيد أنه قال بنبوتهم وتابعه شرذمة قليلة ، وأما الخلف فالمفسرون فرق : فمنهم من قال بقول ابن زيد كالبغوي ، ومنهم من بالغ في رده كالقرطبي وابن كثير ، ومنهم من حكى القولين بلا ترجيح كابن الجوزي ،

__________________

(١) سألت بعض اليهود عن ضبطها فقال : لياء بهمزة بعد الياء والله تعالى أعلم ا ه منه.

(٢) وادعى بعضهم أن السريتين كانتا أختين أيضا ، وقد جمع بينهما ولم يحل ذلك لأحد بعده ا ه منه.

(٣) وإلى هذا ذهب اليهود ا ه منه.

٣٧٥

ومنهم من لم يتعرض للمسألة لكن ذكر ما يشعر بعدم كونهم أنبياء كتفسيره الأسباط بمن نبئ من بني إسرائيل والمنزل إليهم بالمنزل إلى أنبيائهم كأبي الليث السمرقندي والواحدي ، ومنهم من لم يذكر شيئا من ذلك ولكن فسر الأسباط بأولاد يعقوب فحسبه ناس قولا بنبوتهم وليس نصا فيه لاحتمال أن يريد بالأولاد ذريته لابنيه لصلبه ، وذكر الشيخ ابن تيمية في مؤلف له خاص في هذه المسألة ما ملخصه : الذي يدل عليه القرآن واللغة والاعتبار أن إخوة يوسف عليه‌السلام ليسوا بأنبياء وليس في القرآن ولا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بل ولا عن أحد من أصحابه رضي الله تعالى عنهم خبر بأن الله تعالى نبأهم وإنما احتج من قال : بأنهم نبئوا بقوله تعالى في آيتي [البقرة: ١٣٦ ، ١٤٠] [والنساء : ١٦٣] و (الْأَسْباطِ) وفسر ذلك بأولاد يعقوب والصواب أنه ليس المراد بهم أولاده لصلبه بل ذريته كما يقال لهم : بنو إسرائيل ، وكما يقال لسائر الناس : بنو آدم ، وقوله تعالى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف : ١٥٩] (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) [الأعراف : ١٦٠] صريح في أن الأسباط هم الأمم من بني إسرائيل وكل سبط أمة ، وقد صرحوا بأن الأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من بني إسماعيل ، وأصل السبط كما قال أبو سعيد الضرير : شجرة واحدة ملتفة كثيرة الأغصان فلا معنى لتسمية الأبناء الاثني عشر أسباطا قبل أن ينتشر عنهم الأولاد ، فتخصيص الأسباط في الآية ببنيه عليه‌السلام لصلبه غلط لا يدل عليه اللفظ ولا المعنى ومن ادعاه فقد أخطأ خطأ بينا والصواب أيضا أنهم إنما سموا أسباطا من عهد موسى عليه‌السلام ، ومن حينئذ كانت فيهم النبوة فإنه لم يعرف فيهم نبي قبله إلا يوسف ، ومما يؤيد ذلك أنه سبحانه لما ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم قال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) [الأنعام : ٨٤] الآيات فذكر يوسف ومن معه ولم يذكر الأسباط ولو كان إخوة يوسف قد نبئوا كما نبئ لذكروا كما ذكر ، وأيضا إن الله تعالى ذكر للأنبياء عليهم‌السلام من المحامد والثناء ما يناسب النبوة وإن كان قبلها ؛ وجاء في الحديث «أكرم الناس يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نبي ابن نبي» فلو كانت إخوته أنبياء كانوا قد شاركوه في هذا الكرم ، وهو سبحانه لما قص قصتهم وما فعلوا بأخيهم ذكر اعترافهم بالخطيئة وطلبهم الاستغفار من أبيهم ولم يذكر من فضلهم ما يناسب النبوة وإن كان قبلها ، بل ولا ذكر عنهم توبة باهرة كما ذكر عمن ذنبه دون ذنبهم ، ولم يذكر سبحانه عن أحد من الأنبياء قبل النبوة ولا بعدها أنه فعل مثل هذه الأمور العظيمة من عقوق الوالد وقطيعة الرحم وإرقاق المسلم وبيعه الى بلاد الكفر. والكذب البين الى غير ذلك مما حكاه عنهم ، بل لو لم يكن دليل على عدم نبوتهم سوى صدور هذه العظائم منهم لكفى لأن الأنبياء معصومون عن صدور مثل ذلك قبل النبوة وبعدها عند الأكثرين ، وهي أيضا أمور لا يطيقها من هو دون البلوغ فلا يصح الاعتذار بأنها صدرت منهم قبله وهو لا يمنع الاستنباء بعد ، وأيضا ذكر أهل السير أن إخوة يوسف كلهم ماتوا بمصر وهو أيضا مات بها لكن أوصى بنقله الى الشام فنقله موسى عليه‌السلام ولم يذكر في القرآن أن أهل مصر قد جاءهم نبي قيل موسى غير يوسف ولو كان منهم نبي لذكر ، وهذا دون ما قبله في الدلالة كما لا يخفى.

والحاصل أن الغلط في دعوى نبوتهم (١) إنما جاء من ظن أنهم هم الأسباط وليس كذلك إنما الأسباط أمة عظيمة ، ولو كان المراد بالأسباط أبناء يعقوب لقال سبحانه ويعقوب وبنيه فإنه أبين وأوجز لكنه عبر سبحانه بذلك إشارة الى أن النبوة حصلت فيهم من حين تقطيعهم أسباطا من عهد موسى عليه‌السلام فليحفظ.

هذا ولما نبهه عليه‌السلام على أن لرؤياه شأنا عظيما وحذره مما حذره شرع في تعبيرها وتأويلها على وجه

__________________

(١) سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى أن منهم من استدل على نبوتهم بغير ذلك ، وأن فيه ما فيه ا ه منه.

٣٧٦

إجمالي فقال : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي يصطفيك ويختارك للنبوة كما روي عن الحسن ، أو للسجود لك كما روي عن مقاتل ، أو لأمور عظام كما قال الزمخشري ، فيشمل ما تقدم وكذا يشمل إغناء أهله ودفع القحط عنهم ببركته وغير ذلك ، ولعل خير الأقوال وسطها ؛ وأصل الاجتباء من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك وفسروه بالاختيار لأنه إنما يجتبي ما يختار.

وذكر بعضهم أن اجتباء الله تعالى العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي يتحصل منه أنواع من المكرمات بلا سعي من العبد وذلك مختص بالأنبياء عليهم‌السلام ومن يقاربهم من الصديقين والشهداء والصالحين ، والمشار إليه بذلك إما الاجتباء لمثل تلك الرؤيا فالمشبه والمشبه به متغايران ، وإما لمصدر الفعل المذكور وهو المشبه والمشبه به ، (وَكَذلِكَ) في محل نصب صفة لمصدر مقدر وقدم تحقيق ذلك ، وقيل هنا : إن الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وليس الأمر كذلك ، ولا يخفى ما في ذكر الرب مضافا إلى ضمير المخاطب من اللطف ، وإنما لم يصرح عليه‌السلام بتفاصيل ما تدل عليه الرؤيا حذرا من إذاعته على ما قيل (وَيُعَلِّمُكَ) ذهب جمع إلى أنه كلام مبتدأ غير داخل تحت التشبيه أراد به عليه‌السلام تأكيد مقالته وتحقيقها وتوطين نفس يوسف عليه‌السلام بما أخبر به على طريق التعبير والتأويل أي وهو (يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي ذلك الجنس من العلوم ، أو طرفا صالحا فتطلع على حقيقة ما أقول ولا يخفى ما فيه من تأكيد ما سبق والبعث على تلقي ما سيأتي بالقبول ، وعلل عدم دخوله تحت التشبيه بأن الظاهر أن يشبه الاجتباء بالاجتباء والتعليم غير الاجتباء فلا يشبه به ، ونظر فيه بأن التعليم نوع من الاجتباء والنوع يشبه بالنوع ، وقيل : العلة في ذلك أنه يصير المعنى ويعلمك تعليما مثل الاجتباء بمثل هذه الرؤيا ولا يخفى سماجته فإن الاجتباء وجه الشبه بين المشبه والمشبه به ولم يلاحظ في التعليم ذلك.

وقال بعض المحققين : لا مانع من جعله داخلا تحت التشبيه على أن المعنى بذلك الإكرام بتلك الرؤيا أي كما أكرمك بهذه المبشرات يكرمك بالاجتباء والتعليم ولا يحتاج في ذلك إلى جعله تشبيهين وتقدير كذلك ، وأنت تعلم أن المنساق إلى الفهم هو العطف ولا بأس فيما قرّره هذا المحقق لتوجيهه ، نعم للاستئناف وجه وجيه وإن لم يكن المنساق إلى الفهم ؛ والظاهر أن المراد من تأويل الأحاديث تعبير الرؤيا إذ هي إخبارات غيبية يخلق الله تعالى بواسطتها اعتقادات في قلب النائم حسبما يشاؤه ولا حجر عليه تعالى ، أو أحاديث الملك إن كانت صادقة أو النفس أو الشيطان إن لم تكن كذلك ، وذكر الراغب أن التأويل من الأول وهو الرجوع ، وذلك ردّ الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كان أو فعلا ، فالأول كقوله سبحانه : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٧] والثاني كقوله وللنوى قبل يوم البين تأويل وجاء الأول بمعنى السياسة التي يراعى مآلها يقال : ألنا وائل علينا ا ه.

وشاع التأويل في إخراج الشيء عن ظاهره ، و (الْأَحادِيثِ) جمع تكسير لحديث على غير قياس كما قالوا : باطل وأباطيل ، وليس باسم جمع له لأن النحاة قد شرطوا في اسم الجمع أن لا يكون على وزن يختص بالجمع كمفاعيل ، وممن صرح بأنه جمع الزمخشري في المفصل ، وهو مراده من اسم الجمع في الكشاف فإنه كغيره كثيرا ما يطلق اسم الجمع على الجمع المخالف للقياس فلا مخالفة بين كلاميه ، وقيل : هو جمع أحدوثة ، وردّ بأن الأحدوثة الحديث المضحك كالخرافة فلا يناسب هنا ، ولا في أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام أن يكون جمع أحدوثة ، وقال ابن هشام : الأحدوثة من الحديث ما يتحدث به ولا تستعمل إلّا في الشر ، ولعل الأمر ليس كما ذكروا ، وقد نص المبرد على أنها ترد في الخير ، وأنشد قول جميل وهو مما سار وغار :

وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها

أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها

٣٧٧

من الخفرات البيض ود جليسها

إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها

وقيل : إنهم جمعوا حديثا على أحدوثة ثم جمعوا الجمع على أحاديث كقطيع أو أقطعة وأقاطيع ، وكون المراد من تأويل الأحاديث تعبير الرؤيا هو المروي عن مجاهد والسدي وعن الحسن أن المراد عواقب الأمور ، وعن الزجاج أن المراد بيان معاني أحاديث الأنبياء والأمم السالفة والكتب المنزلة.

وقيل : المراد بالأحاديث الأمور المحدثة من الروحانيات والجسمانيات ، وبتأويلها كيفية الاستدلال بها على قدرة الله تعالى وحكمته وجلالته والكل خلاف الظاهر فيما أرى (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بأن يصل نعمة الدنيا بنعمة الآخرة ، أو بأن يضم إلى النبوة المستفادة من الاجتباء الملك ويجعله تتمة لها ، أو بأن يضم إلى التعليم الخلاص من المحن والشدائد وتوسيط ذكر التعليم لكونه من لوازم النبوة والاجتباء ولرعاية ترتيب الوجود الخارجي ولأن التعليم وسيلة إلى إتمام النعمة فإن تعبيره لرؤيا صاحبي السجن ورؤيا الملك صار ذريعة إلى الخلاص من السجن والاتصال بالرئاسة العظمى.

وفسر بعضهم الاجتباء بإعطاء الدرجات العالية كالملك والجلالة في قلوب الخلق وإتمام النعمة بالنبوة ، وأيد بأن إتمام عبارة عما تصير به النعمة كاملة خالية عن جهات النقصان وما ذاك في حق البشر إلّا النبوة فإن جميع مناصب الخلق ناقصة بالنسبة إليها.

وجوز أن تعد نفس الرؤيا من نعم الله تعالى عليه فيكون جميع النعم الواصلة إليه بحسبها مصداقا لها تماما لتلك النعمة ولا يخلو عن بعد ، وقيل : المراد من الاجتباء إفاضة ما يستعد به لكل خير ومكرمة ، ومن تعليم تأويل الأحاديث تعليم تعبير الرؤيا ، ومن إتمام النعمة عليه تخليصه من المحن على أتم وجه بحيث يكون مع خلاصة منها ممن يخضع له ، ويكون في تعليم التأويل إشارة إلى استنبائه لأن ذلك لا يكون إلّا بالوحي وفيه أن تفسير الاجتباء بما ذكر غير ظاهر ، وكون التعليم فيه إشارة إلى الاستنباء في حيز المنع وما ذكر من الدليل لا يثبته ، فإن الظاهر أن إخوته كانوا يعلمون التأويل وإلّا لم ينهه أبوه عليه‌السلام عن اقتصاص رؤياه عليهم خوف الكيد ، وكونهم أنبياء إذ ذاك مما لم يذهب إليه ذاهب ولا يكاد يذهب إليه أصلا ، نعم ذكروا أنه لا يعرف التعبير كما ينبغي إلّا من عرف المناسبات التي بين الصور ومعانيها وعرف مراتب النفوس التي تظهر في حضرة خيالاتهم بحسبها فإن أحكام الصورة والواحدة تختلف بالنسبة إلى الأشخاص المختلفة المراتب وهذا عزيز الوجود ، وقد ثبت الخطأ في التعبير من علماء أكابر ، فقد روى أبو هريرة أن رجلا أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : «إني رأيت ظلة ينطف منها السمن والعسل وأرى الناس يتكففون في أيديهم فالمستكثر والمستقل وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض فأراك يا رسول الله أخذت به فعلوت ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به ثم وصل له فعلا فقال أبو بكر رضي الله تعالى : أي رسول الله بأبي أنت وأمي والله لتدعني فلأعبرها فقال عليه الصلاة والسلام : عبرها ، فقال عليه الصلاة والسلام عبرها ، فقال : أما الظلة فظلة الإسلام ، وأما ما ينطف من السمن والعسل فهو القرآن لينه وحلاوته ، وأما المستكثر والمستقل فالمستكثر من القرآن والمستقل منه : وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله تعالى ثم يأخذ به رجل بعدك فيعلو به ثم آخر بعده فيعلو به ثم آخر بعده فيعلو به ثم آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به أي رسول الله لتحدثني أصبت أم أخطأت؟ فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : أصبت بعضا وأخطأت بعضا ، فقال : أقسمت بأبي أنت وأمي لتحدثني يا رسول الله ما الذي أخطأت؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «لا تقسم» ا ه اللهم إلّا أن يدعي أن المراد التعليم على الوجه الأكمل

٣٧٨

بحيث لا يخطئ من يخطئ به ، وهو يستدعي كون الرجل بحيث يعرف المناسبات ومراتب النفوس ويلتزم القول بأن ذلك لا يكون إلّا نبيا ، واختير أن المراد بالاجتباء الاصطفاء للنبوة ، وبتعليم التأويل ما هو الظاهر.

وبإتمام النعمة تخليصه من المكاره ، ويكون قوله عليه‌السلام : (يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) إشارة إجمالية منه إلى تعبير الرؤيا كما لا يخفى على من له ذوق وهو أيضا متضمن للبشارة ، وهذا إرداف لها بما هو أجل في نظر يوسف عليه‌السلام ووجه توسيط التعليم عليه لا يخفى.

وحاصل المعنى كما أكرمك بهذه المبشرة الدالة على سجود إخوتك لك ورفعة شأنك عليهم يكرمك بالنبوة والعلم الذي تعرف به تأويل أمثال ما رأيت وإتمام نعمته عليك (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) بالخلاص من المكاره وهي في حق يوسف عليه‌السلام مما لا يخفى (١) وفي حق آل يعقوب ، والمراد بهم أهله من بنيه وغيرهم وأصله أهل ، وقيل : أول ، وقد حققناه في غير ما كتاب ؛ ولا يستعمل إلّا فيمن له خطر مطلقا ولا يضاف لما لا يعقل ولو كان ذا خطر بخلاف أهل فلا يقال : آل الحجام ولا آل الحرم ، ولكن أهل الحجام وأهل الحرم ، نعم قد يضاف لما نزل منزلة العاقل كما في قول عبد المطلب وانصر على آل الصليب (٢) وعابديه اليوم آلك وفيه رد على أبي جعفر الزبيدي حيث زعم عدم جواز إضافته إلى الضمير لعدم سماعه مضافا إليه ، ويعقوب كابنه اسم أعجمي لا اشتقاق له فما قيل : من أنه إنما سمي بذلك لأنه خرج من بطن أمه عقب أخيه العيص غير مرضي عند الجلة الفاقة والقحط وتفرق الشمل ، وغير ذلك مما يعم أو يخص ، ومنهم من فسر الآل بالبنين وإتمام النعمة بالاستنباء ، وجعل حاصل المعنى يمنّ عليك وعلى سائر أبناء يعقوب بالنبوة ، واستدل بذلك على أنهم صاروا بعد أنبياء.

وفي إرشاد العقل السليم أن رؤية يوسف عليه‌السلام إخوته كواكب يهتدى بأنوارها من نعم الله تعالى عليهم لدلالتها على مصير أمرهم إلى النبوة فيقع كل ما يخرج من القوة إلى الفعل من كمالاتهم بحسب ذلك تماما لتلك النعمة لا محالة ، وأنت تعلم أن ما ذكر لا يصلح دليلا على أنهم صاروا أنبياء لما علمت من الاحتمالات ، والدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال ورؤيتهم كواكب يهتدى بأنوارها بمعزل عن أن تكون دليلا على أن مصيرهم إلى النبوة ، وإنما تكون دليلا على أن مصيرهم إلى كونهم هادين للناس وهو مما لا يلزمه النبوة فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم : «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» ونحن لا ننكر أن القوم صاروا هادين بعد أن منّ الله تعالى عليهم بالتوبة بل هم لعمري حينئذ من أجلة أصحاب نبيهم ، وقد يقال أيضا : إنه لو دلّ رؤيتهم كواكب على أن مصيرهم إلى النبوة لكانت رؤية أمه قمرا أدل على ذلك ولا قائل به.

وقال بعضهم : لا مانع من أن يراد ـ بآل يعقوب ـ سائر بنيه ، و ـ بإتمام النعمة ـ إتمامها بالنبوة لكن لا يثبت بذلك نبوتهم بعد لجواز أن يراد (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بالنبوة (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) بشيء آخر كالخلاص من المكروه مثلا ، وهذا كقولك : أنعمت على زيد وعلى عمرو وهو لا يقتضي أن يكون الإنعام عليهما من نوع واحد لصدق الكلام بأن يكون قد أنعمت على زيد بمنصب وعلى عمرو بإعطائه ألف دينار ، أو بتخليصه من ظالم مثلا وهو ظاهر.

__________________

(١) قوله : في حق آل يعقوب إلخ هو خبر مقدم ، وقوله ، الآتي الفاقة والقحط إلخ ، مبتدأ مؤخر ا ه منه.

(٢) بناء على أن الصليب اسم لما يعلقه النصارى في أعناقهم ويعبدونه فليفهم ا ه منه.

٣٧٩

ورجح بعضهم حمل الآل على ما يعم الأبناء بأنه لو كان المراد الأبناء لكان الأظهر الأخصر وعلى إخوتك بدل ما في النظم الجليل ، وقيل إنما اختار ذلك عليه لأنه يتبادر من الإخوة الذي نهى عن الاقتصاص عليهم فلا يدخل بنيامين ، والمراد إدخاله ، وقيل : المراد ـ بآل يعقوب ـ أتباعه الذين على دينه.

وقيل : يعقوب خاصة على أن الآل بمعنى الشخص ولا يخفى ما في القولين من البعد ، وأبعدهما الأخير ومن جعل إتمام النعمة إشارة إلى الملك جعل العطف باعتبار أنهم يغتنمون آثاره من العز والجاه والمال هذا.

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(٢٣)

(كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) أي إتماما كائنا كإتمام نعمته على أبويك من قبل هذا الوقت أو من قبلك ، والاسمان الكريمان عطف بيان ـ لأبويك ـ والتعبير عنهما بالأب مع كونهما أبا جده وأبا أبيه للإشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء عليهم‌السلام وتذكير معنى الولد سر أبيه ليطمئن قلبه بما أخبر به ، وإتمام النعمة على إبراهيم إما بالنبوة ، وإما باتخاذه خليلا وإما بإنجائه من نار عدوه وإما من ذبح ولده وإما بأكثر من واحد من هذه وعلى إسحاق إما بالنبوة أو بإخراج يعقوب من صلبه أو بإنجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم على رواية أنه الذبيح ، وذهب إليه غير واحد ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه ، وأمر التشبيه على سائر الاحتمالات سهل إذ لا يجب أن يكون من كل وجه والاقتصار في المشبه به على ذكر إتمام النعمة من غير

٣٨٠