روح المعاني - ج ٦

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٦

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٣

حديث نفس أو وسوسة شيطان ، وقد استعيرت لذلك ، وأصلها ما جمع من أخلاط النبات وحزمه وإضافتها على معنى من أي أضغاث من أحلام ، وأورد عليه أن الأضغاث إذا استعيرت للأحلام الباطلة والأحلام مذكورة ، ولفظ هي المقدر عبارة عن رؤيا مخصوصة فقد ذكر المستعار والمستعار له ، وذلك مانع من الاستعارة على الصحيح عندهم ، وقد أجاب الكثير عن ذلك بما لا يخلو عن بحث ، وذكر بعض المحققين في تقرير ذاك وجهين.

الأول أنه يريد أن حقيقة الأضغاث أخلاط النبات فشبه به التخاليط والأباطيل مطلقا سواء كانت أحلاما أم غيرها ، ويشهد له قول الصحاح والأساس : ضغث الحديث خلطه ، ثم أريد هنا بواسطة الإضافة أباطيل مخصوصة فطرفا الاستعارة أخلاط النبات والأباطيل الملفقات ، فالأحلام ورؤيا الملك خارجان عنهما فلا يضر ذكرهما كما إذا قلت : رأيت أسد قريش فهو قرينة أو تجريد ، وقوله : تخاليطها تفسير له بعد التخصيص ، وقوله : وقد استعيرت لذلك إشارة إلى التخاليط. الثاني أن الأضغاث استعيرت للتخاليط الواقعة في الرؤيا الواحدة فهي أجزاؤها لا عينها فالمستعار منه حزم النبات والمستعار له أجزاء الرؤيا ، وهذا كما إذا استعرت الورد للخد ، ثم قلت : شممت ورد هند مثلا فإنه لا يقال : إنه ذكر فيه الطرفان ا ه ، ولا يخفى ما فيه من التكلف وارتكاب غير الظاهر.

واستظهر بعضهم كون (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) من قبيل لجين الماء ، ولا يخفى أنه سالم عما أورد على الزمخشري (١) إلّا أن صاحب الأساس قد صرح بأن ذلك من المجاز ، والمتبادر منه المجاز المتعارف الذي لا يطلق على ما ذكر ، ولعل الأمر في ذلك سهل ، والأحلام جمع حلم بضمة وبضمتين المنامات الباطلة على ما نص عليه جمع ، وقال بعضهم : الرؤيا والحلم عبارة عما يراه النائم مطلقا لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن ، وغلب الحلم على خلافه ، وفي الحديث «الرؤيا من الله تعالى والحلم من الشيطان» وقال التوربشتي : الحلم عند العرب يستعمل استعمال الرؤيا والتفريق من الاصطلاحات التي سنها الشارع صلى الله تعالى عليه وسلّم للفصل بين الحق والباطل كأنه كره أن يسمي ما كان من الله تعالى وما كان من الشيطان باسم واحد فجعل الرؤيا عبارة عن القسم الصالح لما فيها من الدلالة على مشاهدة الشيء بالبصر والبصيرة ، وجعل الحلم عبارة عما كان من الشيطان لأن أصل الكلمة لم تستعمل إلّا فيما يخيل للحالم في منامه من قضاء الشهوة بما لا حقيقة له ا ه وهو كلام حسن ، ومما يشهد له في دعوى كون الحلم يستعمل عند العرب استعمال الرؤيا البيت السابق الذي أنشده المبرد كما لا يخفى ، وإنما قالوا (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) بالجمع مع أن الرؤيا ما كانت إلّا واحدة للمبالغة في وصف ذلك بالبطلان ، وهذا كما يقال : فلان يركب الخيل ويلبس عمائم الخز لمن لا يركب إلّا فرسا واحدا وما له إلّا عمامة فردة.

وفي الفرائد لما كانت (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) مستعارة لما ذكر وهي تخاليطها وأباطيلها وهي متحققة في رؤيا واحدة بحسب أنها متركبة من أشياء كل منها حلم فكانت أحلاما ، قال الشهاب : وهو واه وإن استحسنه العلامة الطيبي ، نعم ليس هذا من إطلاق الجمع على الواحد لوجود ذلك في هذا الجنس إذ الإضافة على معنى في ، ثم نقل عن الرضي أنه قال في شرح الشافية إن جمع القلة ليس بأصل في الجمع لأنه لا يذكر إلّا حيث يراد بيان القلة فلا يستعمل لمجرد الجمعية والجنسية كما يستعمل له جمع الكثرة ، يقال : فلان حسن الثياب في معنى حسن الثوب ولا يحسن حسن الثوب ، وكم عندك من الثوب أو من الثياب ولا يحسن من الأثواب ا ه ، ثم قال : وقد ذكره الشريف في

__________________

(١) لا يخفى أن صاحب الأساس قد يطلق المجاز على غير ما هو المتعارف فافهم ا ه منه.

٤٤١

شرح المفتاح وهو مخالف لما ذكروه هنا فتأمله ، ولعل ما ذكر بعد تسليمه إنما هو في جمع القلة الذي معه جمع كثرة كما ذكره في المثال لا في ذلك وجمع القلة الذي ليس معه جمع كثرة كما هنا ، فإنا لم نجد في كتب اللغة جمعا لمفرد هذا الجمع غير هذا الجمع ، وقد ذكر غير واحد أن جمع القلة إذا لم يوجد معه جمع كثرة يستعمل استعمال جمع الكثرة ، ثم لا يخفى حسن موقع الأضغاث مع السنابل ، فيا لله در شأن التنزيل ما أبدع رياض بلاغته.

(وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ) أي المنامات الباطلة (بِعالِمِينَ) لأنها لا تأويل لها وإنما التأويل للمنامات الصادقة ، وهذا إما لشيوع الأحلام في أباطيلها وإما لكون اللام للعهد والمعهود الأضغاث منها ، والكلام وارد على أسلوب. (*) على لاحب لا يهتدي بمناره (*) وهو إشارة إلى كبرى قياس ساقوه للعذر عن جهلهم كأنهم قالوا هذه رؤيا باطلة وكل رؤيا كذلك لا نعلم تأويلها أي لا تأويل لها حتى نعلمه ينتج هذه رؤيا لا تأويل لها.

وجوز أن يكون المراد من الأحلام الرؤى (١) مطلقا ، وأل فيه للجنس ، والكلام اعتراف منهم بقصور علمهم وأنهم ليسوا بنحارير في تأويل الرؤى مع أن لها تأويلا ، واختاره ابن المنير وادعى أنه الظاهر (٢) ، وأن قول الملك لهم أولا (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) دليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها لأنه أتى بكلمة الشك فجاء اعترافهم بالقصور مطابقا لشك الملك الذي أخرجه مخرج استفهامهم عن كونهم عالمين ، وأن قول الفتى : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) إلى قوله : (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) دليل على ذلك أيضا.

وذكر بعض المحققين أنه يشعر به عدولهم عما وقع في كلام الملك من العبارة المعبرة عن مجرد الانتقال من الدال إلى المدلول حيث لم يقولوا بتعبير الأحلام ، أو عبارتها إلى التأويل المنبئ عن التصرف ، والتكلف في ذلك لما بين الآئل والمآل من البعد ، واعترض بأنه على هذا يبقى قولهم : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) ضائعا إذ لا دخل له في العذر ، وأجيب بأنه يمكن أن يكون المقصود منه إزالة خوف الملك من تلك الرؤيا فلا يبقى ضائعا.

وقال صاحب الكشف : إن وجه ذلك أن يجعل الأول جوابا مستقلا ، والثاني كذلك أي هاهنا أمران : أحدهما من جانب الرائي ، والثاني من جانب المعبر ، ووجه تقديم الظرف على عامله إنا أصحاب الآراء والتدابير وعلمنا بذلك رصين لا بتأويل الرؤى ، ووجهه على الأول ظاهر ، وادعى أن المقام يطابقه ، ووروده على ذلك الأسلوب مقوله لا موهن خلافا لما في الانتصاب ، ويقوى عند اختيار الوجه الثاني إذا كان الخطاب لجلسائه وأهل مشورته من أهل الحل والعقد لأن الأغلب على أمثالهم الجهل بمثل هذا العلم الذي لا يعلمه إلّا أفراد من الناس (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما) أي صاحبي يوسف عليه‌السلام وهو الشرابي (وَادَّكَرَ) بالدال غير المعجمة عند الجمهور ، وأصله اذتكر أبدلت التاء دالا وأدغمت الدال فيها.

وقرأ الحسن ـ اذكر ـ بابدال التاء ذالا معجمة وإدغام الذال المعجمة فيها ، والقراءة الأولى أفصح ، والمعنى على كليهما تذكر ما سبق له مع يوسف عليه‌السلام (بَعْدَ أُمَّةٍ) أي طائفة من الزمان ومدة طويلة.

__________________

(١) هي جمع رؤيا.

(٢) وكذا ادعى أبو حيان في البحر ا ه منه.

٤٤٢

وقرأ الأشهب العقيلي «إمة» بكسر الهمزة وتشديد الميم أي نعمة عليه بعد نعمة ، والمراد بذلك خلاصه من القتل والسجن وإنعام ملكه عليه ، وعلى هذا جاء قوله (١) :

ألا لا أرى إمة أصبحت به

فتتركه الأيام وهي كما هي

وقال ابن عطية : المراد به نعمة أنعم الله تعالى بها على يوسف عليه‌السلام وهي تقريب إطلاقه ولا يخفى بعده ، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم ـ وأمة (٢) ـ وأمه بفتح الهمزة والميم المخففة وهاء منونة من أمه يأمه أمها إذا نسي ، وجاء في المصدر ـ أمه ـ بسكون الميم أيضا فقد روي عن مجاهد وعكرمة وشبيل بن عزرة الضبعي أنهم قرءوا بذلك ولا عبرة بمن أنكر ، والجملة اعتراض بين القول والمقول ، وجوز أن تكون حالا من الموصول أو من ضميره في الصلة ، ويحتاج ذلك إلى تقدير قد على المشهور ، وقيل : معطوفة على نجا وليس بشيء ـ كما قال بعض المحققين ـ لأن حق كل من الصلة والصفة أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصول والموصوف عند المخاطب كما عند المتكلم ، ومن هنا قيل : الأوصاف قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها أوصاف ، وأنت تعلم أن تذكره بعد أمة إنما علم بهذه الجملة فلا معنى لنظمه مع نجاته المعلومة من قبل في سلك الصلة (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) أي أخبركم بتأويل ذلك الذي خفي أمره بالتلقي ممن عنده علمه لا من تلقاء نفسي ولذلك لم يقل أفتيكم في ذلك ، وعقبه بقوله : (فَأَرْسِلُونِ) إلى من عنده علمه ، وأراد به يوسف عليه‌السلام وإنما لم يصرح به حرصا على أن يكون هو المرسل إليه فإنه لو ذكره فلربما أرسلوا غيره وضمير الجمع إما لأنه أراد الملك وحده لكن خاطبه بذلك على سبيل التعظيم كما هو المعروف في خطاب الملوك ، ويؤيده ما روي أنه لما سمع مقالة القوم جثى بين يدي الملك وقال : إن في السجن رجلا عالما يعبر الرؤيا فابعثوني إليه فبعثوه وكان السجن ـ على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ في غير مدينة الملك ، وقيل : كان فيها ، قال أبو حيان ويرسم الناس اليوم سجن يوسف عليه‌السلام في موضع على النيل بينه وبين الفسطاط ثمانية أميال ، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه كان يقرأ ـ أنا آتيكم ـ مضارع أتى من الإتيان فقيل له : إنما هو (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ) فقال : أهو كان ينبئهم؟! (٣) ، وأخرج ابن المنذر وغيره عن أبيّ أنه قرأ أيضا كذلك. وفي البحر أنه كذا في الإمام أيضا (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) في الكلام حذف أي فأرسلوه فأتاه فقال : يا يوسف ، ووصفه بالمبالغة في الصدق حسبما علمه وجرب أحواله في مدة إقامته معه في السجن لكونه بصدد اغتنام آثاره واقتباس أنواره ، فهو من باب براعة الاستهلال ، وفيه إشارة إلّا أنه ينبغي للمستفتي أن يعظم المفتي ، واستدل بذلك على أنهما لم يكذبا على يوسف في منامهما وأنهما كذبا في قولهما : كذبنا إن ثبت. (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) أي في رؤيا ذلك ، وإنما لم يصرح به لوضوح مرامه بقرينة ما سبق من معاملتهما ولدلالة مضمون الحادثة عليه حيث إن مثله لا يقع في عالم الشهادة ، والمعنى بين لنا مآل ذلك وحكمه ، وعبر عن ذلك بالإفتاء ، ولم يقل كما قال هو وصاحبه أولا (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) ـ تفخيما لشأنه عليه‌السلام حيث عاين رتبته في الفضل ـ ولم يقل : أفتني مع أنه المستفتي وحده إشعارا بأن الرؤيا ليست له بل لغيره ممن له ملابسة بأمور العامة وأنه في ذلك

__________________

(١) وقوله* ثم بعد الفلاح والملك والأمة ووارتهم هناك قبور* ا ه منه.

(٢) أي جماعة من التابعين ا ه منه.

(٣) لعله لم يرد إلّا مجرد ترجيح قراءته ا ه منه.

٤٤٣

معبر وسفير ، ولذا لم يغير (١) لفظ الملك ، ويؤذن بهذا قوله : (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) أي إلى الملك ومن عنده ، أو إلى أهل البلد فأنبئهم بما أفتيت (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) ذلك ويعلمون بمقتضاه ، أو يعلمون فضلك ومكانك مع ما أنت فيه من الحال فتتخلص منه ، والجملة عند أبي حيان على الأول كالتعليل للرجوع ، وعلى الثاني كالتعليل ـ لأفتنا ـ وإنما لم يبت القول بل قال : (لَعَلِّي) و (لَعَلَّهُمْ) مجاراة معه عليه‌السلام على نهج الأدب واحترازا عن المجازفة إذ لم يكن على يقين من الرجوع :

فبينما المرء في الأحياء مغتبط

إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير

ولا من علمهم بذلك فربما لم يعلموه إما لعدم فهمهم أو لعدم اعتمادهم (قالَ) مستأنف على قياس ما مرّ غير مرة (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) قرأ حفص بفتح الهمزة ، والجمهور بإسكانها ، وقرئ ـ دابا ـ بألف من غير همز على التخفيف ، وهو في كل ذلك مصدر ـ لدأب ـ وأصل معناه التعب ، ويكنى به عن العادة المستمرة لأنها تنشأ من مداومة العمل اللازم له التعب ، وانتصابه على الحال من ضمير (تَزْرَعُونَ) أي دائبين أو ذوي دأب ، وأفرد لأن المصدر الأصل فيه الإفراد ، أو على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف أي تدأبون دأبا.

والجملة حالية أيضا ، وعند المبرد مفعول مطلق ـ لتزرعون ـ وذلك عنده نظير قعد القرفصاء وليس بشيء ، وقد أول عليه‌السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب ، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة ، فأخبرهم بأنهم يواظبون على الزراعة سبع سنين ويبالغون فيها إذ بذلك يتحقق الخصب الذي هو مصداق البقرات السمان وتأويلها ، وقيل : المراد الأمر بالزراعة كذلك ، فالجملة خبر لفظا أمر معنى ، وأخرج على صورة الخبر مبالغة في إيجاب إيجاده حتى كأنه وقع وأخبر عنه ، وأيد بأن قوله تعالى : (فَما حَصَدْتُمْ) أي في كل سنة.

(فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) ولا تذروه كيلا يأكله السوس كما هو شأن غلال مصر ونواحيها إذا مضى عليها نحو عامين ، ولعله استدل على ذلك بالسنبلات الخضر يناسب كونه أمرا مثله ، قيل : لأنه لو لم يؤول ذلك بالأمر لزم عطف الإنشاء على الخبر لأن ـ ما ـ إما شرطية أو موصولة متضمنة لمعنى الشرط ، وعلى كل حال فلكون الجزء إنشاء تكون إنشائية معطوفة على خبرية.

وأجيب بأنا لا نسلم أن الجملة الشرطية التي جوابها إنشائي إنشائية ، ولو سلم فلا نسلم العطف بل الجملة مستأنفة لنصحهم وإرشادهم إلى ما ينبغي أن يفعلوه حيث لم يكن معتادا لهم كما كان الزرع كذلك ، أو هي جواب شرط مقدر أي إن زرعتم (فَما حَصَدْتُمْ) إلخ ، وأيضا يحتمل الأمر عكس ما ذكروه بأن يكون ذروه بمعنى تذروه ، وأبرز في صورة الأمر لأنه بإرشاده فكأنهم أمرهم به ، والتحقيق ما في الكشف من أن الأظهر أن (تَزْرَعُونَ) على أصله لأنه تأويل المنام بدليل قوله الآتي : (ثُمَّ يَأْتِي) وقوله : (فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ) اعتراض اهتماما منه عليه‌السلام بشأنهم قبل تتميم التأويل ، وفيه ما يؤكد أمر السابق واللاحق كأنه قد كان فهو يأمرهم بما فيه صلاحهم وهذا هو النظم المعجز انتهى.

وذكر بعضهم أن ـ ما حصدتم ـ إلخ على تقدير كون (تَزْرَعُونَ) بمعنى ازرعوا داخل في العبارة فإن أكل السبع العجاف السبع السمان وغلبة السنبلات اليابسات الخضر دال على أنهم يأكلون في السنين المجدبة ما حصل في السنين المخصبة ، وطريق بقائه تعلموه من يوسف عليه‌السلام فبقي لهم في تلك المدة ، وقيل : إن تزرعون

__________________

(١) قيل : لم يغير لفظ الملك لأن التعبير يكون على وفقه فافهم ا ه منه.

٤٤٤

على هذا التقدير وكذا ما بعده خارج عن العبارة ، والكل كما ترى (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) أي اتركوا ذلك في السنبل إلّا ما لا غنى عنه من القليل الذي تأكلونه في تلك السنين ، وفيه إرشاد إلى التقليل في الأكل.

وقرأ السلمي مما ـ يأكلون ـ بالياء على الغيبة أي يأكل الناس ، والاقتصار على استثناء المأكول دون البذر لكون ذلك معلوما من قوله عليه‌السلام : (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد السنين السبع المذكورات ، وإنما لم يقل من بعدهن قصدا (١) إلى تفخيم شأنهن (سَبْعٌ شِدادٌ) أي سبع سنين صعاب على الناس ، وحذف التمييز لدلالة الأول عليه (يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) أي ما ادخرتم في تلك السنين من الحبوب المتروكة في سنابلها لأجلهن ، وإسناد الأكل إليهن مع أنه حال الناس فيهن مجازي كما في قوله تعالى : (وَالنَّهارَ مُبْصِرا) [يونس : ٦٧ ، النمل : ٨٦ ، غافر : ٦١] واللام في (لَهُنَ) ترشيح لذلك ، وكان الداعي إليه التطبيق بين المعبر والمعبر به ، ويجوز أن يكون التعبير بذلك للمشاكلة لما وقع في الواقعة.

وفسر بعضهم الأكل بالإفناء كما في قولهم : أكل السير لحم الناقة أي أفناه وذهب به (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) أي تحرزونه وتخبئونه لبزور الزراعة (٢) مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي السنين الموصوفة بما ذكر الشدة وأكل المدخر من الحبوب (عامٌ) هو كالسنة لكن كثيرا ما يستعلم فيما فيه الراء والخصب ، والسنة فيما فيه الشدة والجدب ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة ، وكأنه تحاشيا عن ذلك وتنبيها من أول الأمر على اختلاف الحال بينه وبين السوابق عبر به دون السنة (فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ)

أي يصيبهم غيث أي مطر كما قال ابن عباس ومجاهد والجمهور فهو من غاث الثلاثي اليائي ، ومنه قول الأعرابية : غثنا ماشيتنا ؛ وقول بعضهم أذى البراغيث إذا البراغيث ، وقيل : هو من الغوث أي الفرج ، يقال : أغاثنا الله تعالى إذا أمدّنا برفع المكاره حين أظلتنا فهو رباعي واوي (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) من العصر المعروف أي يعصرون ما من شأنه أن يعصر من العنب والقصب والزيتون والسمسم ونحوها من الفواكه لكثرتها ، والتعرض لذكره كما قال بعض المحققين مع جواز الاكتفاء عنه بذكر الغيث المستلزم له عادة كما اكتفي به عن ذكر تصرفهم في الحبوب : إما لأن استلزام الغيث له ليس كاستلزامه للحبوب إذ المذكورات يتوقف صلاحها على أمور أخرى غير المطر ، وإما لمراعاة جانب المستفتي باعتبار حالته الخاصة به بشارة له ، وهي التي يدور عليها حسن موقع تغليبه على الناس في قراءة حمزة والكسائي بالفوقانية.

وعن ابن عباس تفسير ذلك بيحلبون وكأنه مأخوذ من العصر المعروف لأن في الحلب عصر الضرع ليخرج الدر وتكرير فيه إما كما قيل : للإشعار باختلاف ما يقع فيه زمانا وعنوانا ، وإما لأن المقام مقام تعداد منافع ذلك العام ، ولأجله قدم في الموضعين على العامل فإن المقام بيان أنه يقع في ذلك العام هذا وذاك لا بيان أنهما يقعان في ذلك العام كما يفيده التأخير ، وجوز أن يكون التقديم للقصر على معنى أن غيثهم في تلك السنين كالعدم بالنسبة إلى عامهم ذلك وأن يكون ذلك في الأخير لمراعاة الفواصل ، وفي الأول لرعاية حاله.

__________________

(١) وفي إرشاد العقل السليم لم يقل ذلك قصدا إلى الإرشاد إلى وصفهن فإن الضمير ساكت عن أوصاف المرجع بالكلية فتدبر ا ه منه.

(٢) البذر والبزر بمعنى كما في العين ، وهو الجب الذي يجعل في الأرض لينبت ، وقال ابن دريد على ما في المجمل : البذر بالذال في البقول والبزر بالزاي خلافه ا ه منه.

٤٤٥

وقرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما والأعرج وعيسى البصرة «يعصرون» على البناء للمفعول ، وعن عيسى ـ تعصرون ـ بالفوقانية مبنيا للمفعول أيضا من عصره الله تعالى إذا أنجاه أي ينجيهم الله سبحانه مما هم فيه من الشدة ، وهو مناسب لقوله : (يُغاثُ النَّاسُ) وعن أبي عبيدة وغيره أخذ المبني للفاعل من العصر بمعنى النجاة أيضا ، وفي البحر تفسير العصر والعصرة بالضم بالمنجاة ، وأنشد قول أبي زبيد في عثمان رضي الله تعالى :

صاديا يستغيث غير مغاث

ولقد كان عصرة المنجود

وقال ابن المنير : معناه عصيرون من أعصرت السحابة عليهم أي حان وقت عصر الرياح لها لتمطر فعلى صلة الفعل كما في عصرت الليمون على الطعام فحذفت وأوصل الفعل بنفسه ، أو تضمن أعصرت معنى مطرت فتعدى تعديته ، وفي الصحاح عصر القوم أي أمطروا ، ومنه قراءة بعضهم ، وفيه (يَعْصِرُونَ) وظاهره أن اللفظ موضوع لذلك فلا يحتاج إلى التضمين عليه ، وحكى النقاش أنه قرئ «يعصرون» بضم الياء وكسر الصاد وتشديدها من عصر مشددا للتكثير ، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «وفيه تعصرون» بكسر التاء والعين والصاد وتشديدها ، وأصله ـ يعتصرون ـ فأدغم التاء في الصاد ونقل حركتها إلى العين ، وأتبع حركة التاء لحركة العين ، واحتمل أن يكون من اعتصر العنب ونحوه أو من اعتصر بمعنى نجا ، ومن ذلك قوله :

لو بغير الماء حلقي شرق

كنت كالغصان بالماء اعتصاري

ثم إن أحكام هذا العام المبارك كما أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة علم آتاه الله تعالى علمه لم يكن فيما سئل عنه ، وروي مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وعنيا أن ذلك بالوحي وهو الظاهر ، ولقد أتى عليه‌السلام بما يدل على فضله في آخر فتواه على عكس ما فعل أولا عند الجواب عن رؤيا صاحبيه حيث أتى بذلك في أولها ووجه ذلك ظاهر ، وقيل : إن هذه البشارة منه عليه‌السلام لم تكن عن وحي بل لأن العادة جارية بأن انتهاء الجدب الخصب ، أو لأن السنة الإلهية على أن يوسع على عباده سبحانه بعد ما ضيق عليهم ، وفيه أنه لو كان كذلك لأجمل في البشارة ، وإن حصر الجدب يقتضي تغييره بخصب مالا على ذكره خصوصا على ما تقتضيه بعض القراءات من إغاثة بعضهم بعضا فإنها لا تعلم إلّا بالوحي ، ثم إنه عليه‌السلام بعد أن أفتاهم وأرشدهم وبشرهم كان يتوقع وقوع ما أخبر به ، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه عليه‌السلام كان بعد ذلك يصنع لرجل طعام اثنين فيقربه إلى الرجل فيأكل نصفه ويدع نصفه حتى إذا كان يوم قربه له فأكله كله ، فقال عليه‌السلام : هذا أول يوم من الشداد ، واستدل البلخي بتأويله لذلك على بطلان قول من يقول : إن الرؤيا على ما عبرت أولا فإنهم كانوا قد قالوا : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) فلو كان ما قالوه مؤثرا شيئا لأعرض عليه‌السلام عن تأويلها وفيه بحث ، فقد روى أبو داود وابن ماجه عن أبي رزين الرؤيا على جناح طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت ، ولا تقصها إلّا على وادّ وذي رأي ، ولعله إذا صح هذا يلتزم القول بأن الحكم على الرؤيا بأنها (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) وأنها لا ذيل لها ليس من التعبير في شيء ، وإلّا فالجمع بين ما هنا وبين الخبر مشكل.

وقال ابن العربي : إنه ينبغي أن يخص ذلك بما يحتمل من الرؤيا وجوها فيعبر بأحدها فيقع عليه ، واستدلوا بذلك أيضا على صحة رؤيا الكافر وهو ظاهر ، وقد ذكروا للاستفتاء عن الرؤيا آدابا : منها أن لا يكون ذلك عند طلوع الشمس أو عند غروبها أو في الليل ، وقالوا : إن تعبيرها مناما هو تعبيرها في نفسي الأمر فلا تحتاج إلى تعبير بعد ، وأكثروا القول فيما يتعلق بها ، وأكثر ما قيل مما لا يظهر لي سره ولا أرى بعض ذلك إلّا كأضغاث أحلام (وَقالَ الْمَلِكُ) بعد ما جاء السفير المعبر بالتعبير وسمع منه ما سمع من نقير وقطمير.

٤٤٦

(ائْتُونِي بِهِ) لما رأى من علمه وفضله وأخباره عما لا يعلمه إلّا اللطيف الخبير (فَلَمَّا جاءَهُ) أي يوسف عليه‌السلام (الرَّسُولُ) وهو صاحبه الذي استفتاه ، وقال له : إن الملك يريد أن تخرج إليه.

(قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) أي سيدك وهو الملك (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) أي فتشه عن شأنهن وحالهن ، وإنما لم يقل فاسأله أن يفتش عن ذلك حثا للملك على الجد في التفتيش لتتبين براءته وتتضح نزاهته فإن السؤال عن شيء مما يهيج الإنسان ويحركه للبحث لأنه يأنف من الجهل ، ولو قال : سله أن يفتش لكان تهييجا له عن الفحص عن ذلك ، وفيه جراءة عليه فربما امتنع منه ولم يلتفت إليه ، وإنما لم يتعرض عليه‌السلام لامرأة العزيز مع أنها الأصل الأصيل لما لاقاه تأدبا وتكرما ، ولذا حملها ذلك على الاعتراف بنزاهته وبراءة ساحته ، وقيل : احترازا عن مكرها حيث اعتقدها باقية في ضلالها القديم ، وأما النسوة فقد كان يطمع في صدعهن بالحق وشهادتهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم ، ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي ولم يصرح بمراودتهن له واكتفى بالإيماء إلى ذلك بقوله : (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) مجاملة معهن واحترازا عن سوء مقالتهن وانتصابهن عند رفعهن إلى الملك للخصومة عن أنفسهن متى سمعن بنسبته لهن إلى الفساد ، وفي الكشاف أنه عليه‌السلام أراد بهذا أنه كيد عظيم لا يعلمه إلّا الله تعالى ، أو استشهد بعلم الله تعالى على أنهن كدنه وأنه بريء مما قرف به ، أو أراد الوعيد لهن ـ أي عليم بكيدهن ـ فمجازيهن عليه انتهى.

وكان الحصر على الأول من قربه من زيد يعلم وصلوحه لإفادته عنده (١) أو من اقتضاء المقام لأنه إذا حمله على السؤال ثم أضاف علمه إلى الله تعالى دلّ به على عظمته ، وأن الكنه غير مأمول الوصول لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله ، وهذا هو الوجه ، وفيه زيادة تشويق وبعث إلى تعرف الأمر ، فالجملة عليه تتميم لقوله : (فَسْئَلْهُ) إلخ والكيد اسم لما كدنه به ، وعلى الوجه الثاني تكون تذييلا كأنه (٢) قيل : احمله على التعرف يتبين له براءة ساحتي فإن الله سبحانه يعلم أن ذلك كان كيدا منهن وإذا كان كيدا يكون لا محالة بريئا ، والكيد هو الحدث ؛ وعلى الثالث تحتملهما ؛ والمعنى بعث الملك على الغضب له والانتقام له والانتقام منهن ، وإلّا لم يتلاءم الكلام ولا يطابق كرم يوسف عليه‌السلام الذي عجب منه نبينا عليه الصلاة والسّلام ؛ فقد أخرج غير واحد عن ابن عباس وابن مسعود عنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم أنه قال : «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله تعالى يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى اشترطت أن يخرجوني ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر أن كان حليما ذا أناة» ودعاؤه له صلّى الله تعالى عليه وسلّم قيل : إشارة إلى ترك العزيمة بالرخصة وهي تقديم حق الله تعالى بتبليغ التوحيد والرسالة على براءة نفسه ، وجعله العلامة الطيبي من قبيل قولك لمن تعظمه : رضي الله تعالى عنك ما جوابك عن كلامي ، وقيل : يمكن أن يقال : إن في براءته النفس من حق الله تعالى ما فيها فإنها إذا تحققت عندهم وقع ما تلاها موقع القبول ، وقد ذكر أن الاجتهاد (٣) في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها ، فقد قال صلّى الله تعالى عليه وسلّم : «من كان يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم».

__________________

(١) أي صاحب الكشاف ا ه منه.

(٢) وقال الطيبي : كأنه قال : والله تعالى شاهدي وشهادة الله تعالى تلك الأمارات الدالة على براءته ا ه ولا يحتاج إلى هذا ففي الكيد غنية على أنه حسن ا ه منه.

(٣) وزعم بعضهم أن الآية تدل على ذلك وفيه نظر ا ه منه.

٤٤٧

وأخرج مسلم من رواية أنس أن رسول الله عليه الصّلاة والسّلام «كان مع إحدى نسائه فمرّ به رجل فدعاه ، وقال : هذه زوجتي ، فقال : يا رسول الله من كنت أظن به فلم أكن أظن بك؟! فقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» وكأنه لهذا كان الزمخشري وكان ساقط الرجل قد أثبت على القضاة أن رجله لم تقطع في جناية ولا فساد بل سقطت من ثلج أصابها في بعض الأسفار ، وكان يظهر مكتوب القضاة في كل بلد دخله خوفا من تهمة السوء (١) فلعله عليه‌السلام خشي أن يخرج ساكتا عن أمر ذنبه غير متضحة براءة ساحته عما سجن فيه وقرف به من أن يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره ويجعلوه سلما إلى حط قدره ونظر الناس إليه بعين الاحتقار فلا يعلق كلامه في قلوبهم ولا يترتب على دعوته قبولهم ، وفي ذلك من تعري التبليغ عن الثمرة ما فيه ، وما ذكره صلّى الله تعالى عليه وسلّم «ولو كنت مكانه» إلخ كان تواضعا منه عليه الصلاة والسلام لا أنه لو كان مكانه بادر وعجل وإلّا فحلمه صلى الله تعالى عليه وسلم وتحمله واهتمامه بما يترتب عليه قبول الخلق أوامر الحق سبحانه وتعالى أمر معلوم لدى الخواص والعموم ، وزعم ابن عطية أنه يحتمل أن يكون عليه‌السلام أراد بالرب العزيز كما قيل في قوله : (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) [يوسف : ٢٣] ففي ذلك استشهاد به وتقريع له وليس بشيء ، ومثله ما قيل : إن ضمير كيدهن ليس عائدا على النسوة المذكورات بل عائد على الجنس فافهم.

وقرأ أبو حيوة وأبو بكر عن عاصم في رواية «النسوة» بضم النون ، وقرأت فرقة ـ اللائي ـ بالياء وهو كاللاء جمع التي (قالَ) استئناف مبني على السؤال كما سبق كأنه قيل : فما كان بعد ذلك؟ فقيل : قال الملك إثر ما بلغه الرسول الخبر وأحضرهن : (ما خَطْبُكُنَ) أي شأنكن ، وأصله الأمر العظيم الذي يحق لعظمته أن يكثر فيه التخاطب ويخطب له (إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ) وخادعتنه (عَنْ نَفْسِهِ) ورغبتنه في طاعة مولاته هل وجدتن فيه ميلا إليكن؟ (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) تنزيها له وتعجيبا من نزاهته عليه‌السلام وعفته (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) بالغن في نفي جنس السوء عنه بالتنكير وزيادة (مِنْ) ، وفي الكشف في توجيه كون السؤال المقدر في نظم الكلام عن وجدانهن فيه الميل ، وذلك لأنه سؤال عن شأنهن معه عند المراودة ، وأوله الميل ثم ما يترتب عليه ، وحمله (٢) على السؤال يدعي النزاهة الكلية فيكون سؤال الملك منزلا عليه إذ لا يمكن ما بعده إلّا إذا سلم الميل ، وجوابهن عليه ينطبق لتعجبهن عن نزاهته بسبب التعجب من قدرة الله تعالى على خلق عفيف مثله ليكون التعجب منها على سبيل الكناية فيكون أبلغ وأبلغ ، ثم نفيهن (٣) العلم مطلقا وطرفا أي طرف دهم من سوء أي سوء فضلا عن شهود الميل معهن ا ه ، وهو من الحسن بمكان.

وما ذكره ابن عطية ـ من أن النسوة قد أجبن بجواب جيد يظهر منه براءة أنفسهن جملة وأعطين يوسف عليه‌السلام بعض براءة وذلك أن الملك لما قرّرهن أنهن راودنه قلن جوابا عن ذلك وتنزيها لأنفسهن : (حاشَ لِلَّهِ) ويحتمل أن يكون في جهته عليه‌السلام ، وقولهن : (ما عَلِمْنا) إلخ ليس بإبراء تام ، وإنما هو شرح القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في جهتهنّ ـ ناشئ ـ عن الغفلة عما قرّره المولى صاحب الكشف (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) وكانت حاضرة المجلس ، قيل : أقبلت النسوة عليها يقررنها ، وقيل : خافت أن يشهد عليها بما قالت يوم قطعن أيديهن فأقرت قائلة : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) أي ظهر وتبين بعد خفاء قاله الخليل ، وهو مأخوذ من الحصة وهي القطعة من

__________________

(١) ويناسب هذا ما تقدم عن أبي حيان في «اذكرني عند ربك» فتذكر فما في العهد من قدم ا ه منه.

(٢) أي يوسف عليه‌السلام ا ه منه.

(٣) قد صرح غير واحد أن المراد بالعلم هنا الإدراك ا ه منه.

٤٤٨

الجملة أي تبينت حصة الحق من حصة الباطل ، والمراد تميز هذا عن هذا ، وإلى ذلك ذهب الزجاج أيضا ، وقيل: هو من حص شعره إذا استأصله بحيث ظهرت بشرة رأسه ، وعلى ذلك قوله :

قد حصت البيضة رأسي فما

أطعم نوما غير تهجاع

ويرجع هذا إلى الظهور أيضا ، وقيل : هو من حصحص البعير إذا ألقى مباركة ليناخ ، قال حميد بن ثور الهلالي يصف بعيرا :

فحصحص في صم الصفا ثفناته

وناء بسلمى نوأة ثم صمما

والمعنى الآن ثبت الحق واستقر ، وذكر الراغب وغيره أن حص وحصحص ـ ككف وكفكف وكب وكبكب ـ وقرئ بالبناء للمفعول على معنى أقر الحق في مقره ووضع في موضعه ، و (الْآنَ) من الظروف المبنية في المشهور (١) وهو اسم للوقت الحاضر جميعه كوقت فعل الإنشاء حال النطق به أو الحاضر بعضه كما في هذه الآية ، وقوله سبحانه : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) [الأنفال : ٦٦] وقد يخرج عند ابن مالك عن الظرفية كخبر «فهو يهوي في النار الآن حين انتهى إلى مقرها» فإن الآن فيه في موضع رفع على الابتداء ، و «حين» خبره وهو مبني لإضافته إلى جملة صدرها ماض وألفه منقلبة عن واو لقولهم في معناه : الأوان ، وقيل : عن ياء لأنه من آن يئين إذا قرب ، وقيل : أصله أو أن قلبت الواو ألفا ثم حذفت لالتقاء الساكنين ، ورد بأن الواو قبل الألف لا تقلب كالجواد والسواد ، وقيل : حذفت الألف وغيرت الواو إليها كما في راح ورواح استعملوه مرة على فعل وأخرى على فعال كزمن وزمان ، واختلفوا في علة بنائه فقال الزجاج : بني لتضمنه معنى الإشارة لأن معناه هذا الوقت ، وردّ بأن المتضمن معنى الإشارة بمنزلة اسم الإشارة وهو لا تدخله ال ، وقال أبو علي : لتضمنه معنى لام التعريف لأنه استعمل معرفة وليس علما وأل فيه زائدة ، وضعف (٢) بأن تضمن اسم معنى حرف اختصارا ينافي زيادة ما لا يعتد به هذا مع كون المزيد غير المضمن معناه فكيف إذا كان إياه ، وقال المبرد وابن السراج : لأنه خالف نظائره إذ هو نكرة في الأصل استعمل من أول وضعه باللام ، وبابها أن تدخل على النكرة وإليه ذهب الزمخشري ، ورده ابن مالك بلزوم بناء الجماء الغفير ونحوه مما وقع في أول وضعه باللام ، وبأنه لو كانت مخالفة الاسم لسائر الأسماء موجبة لشبه الحرف واستحقاق البناء لوجب بناء كل اسم خالف الأسماء بوزن أو غيره ، وهو باطل بإجماع ، واختار أنه بني لشبه الحرف في ملازمة لفظ واحد لأنه لا يثنى ولا يجمع ولا يصغر بخلاف حين ووقت وزمان ومدة وردّه أبو حيان بما ردّ هو به على من تقدم ، وقال الفراء : إنما بني لأنه نقل من فعل ماض وهو آن بمعنى حان فبقي على بنائه استصحابا على حد أنهاكم عن قيل وقال ، وردّ بأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه أل كما لا تدخل على ما ذكر ، وجاز فيه الإعراب كما جاز فيه ، وذهب بعضهم إلى أنه معرب منصوب على الظرفية ، واستدل بقوله : كأنهما ملآن لم يتغيرا ، بكسر النون أي من الآن فحذفت النون والهمزة وجر فدل على أنه معرب وضعف (٣) باحتمال أن تكون الكسرة كسرة بناء ويكون في بناء الآن لغتان : الفتح والكسر كما في شتان إلّا أن الفتح أكثر وأشهر ، وفي شرح الألفية لابن الصائغ أن الذي قال : إن أصله أو أن يقول : بإعرابه كما أن وأنا معرب.

واختار الجلال السيوطي بإعرابه لأنه لم يثبت لبنائه علة معتبرة فهو عنده منصوب على الظرفية ، وإن دخلت من

__________________

(١) والدليل على اسميتها دخول أل وحرف الجر ا ه منه.

(٢) المضعف هو ابن مالك ا ه منه.

(٣) المضعف ابن مالك أيضا ا ه منه.

٤٤٩

جرّ وخروجه عن الظرفية غير ثابت ، وفي الاستدلال بالحديث السابق مقال ، وأيا ما كان فهو هنا متعلق ـ بحصحص ـ أي حصحص الحق في هذا الوقت (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) لا أنه راودني عن نفسي ، وإنما قالت ذلك بعد اعترافها تأكيدا لنزاهته عليه‌السلام ، وكذا قولها : (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) أي في قوله حين افتريت عليه (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) [يوسف : ٢٦] قيل : إن الذي دعاها لذلك كله التوخي لمقابلة الأعراف حيث لا يجدي الإنكار بالعفو ، وقيل : إنها لما تناهت في حبه لم تبال بانتهاك سترها وظهور سرها ، وفي إرشاد العقل السليم أنها لم ترد بقولها : (الْآنَ) إلخ مجرد ظهور ما ظهر بشهادة النسوة من مطلق نزاهته عليه‌السلام فيما أحاط به علمهن من غير تعرض لنزاهته في سائر المواطن خصوصا فيما وقع فيه التشاجر بمحضر العزيز ولا بحث عن حال نفسها وما صنعت في ذلك بل أرادت ظهور ما هو متحقق في نفس الأمر وثبوته من نزاهته عليه‌السلام في محل النزاع وخيانتها ، ولهذا قالت : (أَنَا راوَدْتُهُ) إلخ ، وأرادت ـ بالآن ـ زمان تكلمها بهذا الكلام لا زمان شهادتهن ا ه فافهم وتأمل هل ترى فوق هذه المرتبة نزاهة حيث لم يتمالك الخصماء من الشهادة بها على أتم وجه:

والفضل ما شهدت به الخصماء

وليت من نسب إليه السوء ـ وحاشاه ـ كان عنده عشر معشار ما كان عند أولئك النسوة الشاهدات من الإنصاف (ذلِكَ لِيَعْلَمَ) الذي ذهب إليه غير واحد أن ذلك إشارة إلى التثبت مع ما تلاه من القصة أجمع (١) فهو من كلام يوسف عليه‌السلام جعله فذلكة منه لما نهض له أولا من التشمر لطهارة ذيله وبراءة ساحته ، وقد حكى الله تعالى ما وقع من ذلك طبق الوجود مع رعاية ما عليه دأب القرآن من الإيجاز كحذف فرجع إلى ربه فأنهاه مقالة يوسف فأحضرهن سائلا قال : (ما خَطْبُكُنَ) إلخ ؛ وكذلك كما قيل في (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) إلخ ، وكذلك هذا أيضا لأن المعنى فرجع إليه الرسول قائلا فتش الملك عن كنه الأمر وبان له جلية الحق من عصمتك وأنك لم ترجع في ذلك المقام الدحض بمس ملام فعند ذلك قال عليه‌السلام : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ) العزيز (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ) في حرمته (بِالْغَيْبِ) أي بظهر الغيب ، وقيل : ضمير يعلم للملك ، وضمير (أَخُنْهُ) للعزيز ، وقيل : للملك أيضا لأن خيانة وزيره خيانة له ، والباء إما للملابسة أو للظرفية ، وعلى الأول هو حال من فاعل (أَخُنْهُ) أي تركت خيانته وأنا غائب عنه ، أو من مفعوله أي وهو غائب عني وهما متلازمان ، وجوز أن يكون حالا منهما وليس بشيء ، وعلى الثاني فهو ظرف لغو لما عنده أي (لَمْ أَخُنْهُ) بمكان الغيب وراء الإستار والأبواب المغلقة ، ويحتمل الحالية أيضا (وَأَنَّ اللهَ) أي وليعلم أن الله تعالى.

(لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) أي لا ينفذه ولا يسدّده بل يبطله ويزهقه فهداية الكيد مجاز عن تنفيذه ، ويجوز أن يكون المراد لا يهدي الخائنين (٢) بسبب كيدهم فأوقع الهداية المنفية على الكيد وهي واقعة عليهم تجوزا للمبالغة لأنه إذا لم يهد السبب علم منه عدم هداية مسببه بالطريق الأولى ، وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانته ، وبه في خيانته أمانة الله تعالى حين ساعدها على حبسه بعد ما رأوا الآيات الدالة على نزاهته عليه‌السلام ، ويجوز أن يكون مع

__________________

(١) وفي الكشاف صح ذلك لدلالة المعنى عليه ونحوه قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ) [الأعراف : ١٠٩ ، ١١٠] ، وفيه دغدغة ا ه منه.

(٢) في عبارة بعضهم بكيدهم فالباء إما متعلقة بالفعل أو متعلقة بالخائنين ، وفيه تنبيه على أنه تعالى يهدي كيد من لم يقصد الخيانة بكيده كيوسف عليه‌السلام في كيده إخوته كذا قيل ، فتدبر ا ه منه.

٤٥٠

ذلك تأكيدا لأمانته عليه‌السلام على معنى لو كنت خائنا لما هدى الله تعالى كيدي ولا سدّده ، وتوهم عبارة بعضهم عدم اجتماع التأكيد والتعريض ، والحق أنه لا مانع من ذلك ، وأراد بكيده تشمره وثباته ذلك ، وتسميته كيدا على فرض الخيانة على بابها حقيقة كما لا يخفى ، فما في الكشف من أنه سماه كيدا استعارة أو مشاكلة ليس بشيء ، وقيل : إن ضمير يعلم و (لَمْ أَخُنْهُ) لله تعالى أي ذلك ليعلم الله تعالى أني لم أعصه أي ليظهر أني غير عاص ويكرمني ويصير سبب رفع منزلتي وليظهر أن كيد الخائن لا ينفذ وأن العاقبة للمطيع لا للعاصي فهو نظير قوله تعالى : (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ) [البقرة : ١٤٣] وله نظائر أخر في القرآن كثيرة إلّا أن الله تعالى أخبر عن نفسه بذلك وأما غيره فلم يرد في الكتاب العزيز ، وفيه نوع إيهام التحاشي عنه أحسن على أن المقام لما تقدم ادعى.

__________________

تم الجزء الثاني عشر ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثالث عشر ، أوله (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي)

٤٥١
٤٥٢

الفهرس

تتمة تفسير سورة التوبة

الآيات : ٩٣ ـ ١١٠............................................................. ٣

الآيات : ١١١ ـ ٢٩........................................................... ٢٥

تفسير سورة يونس

الآيات : ١ ـ ١٩.............................................................. ٥٦

الآيات : ٢٠ ـ ٤١............................................................. ٨٧

الآيات : ٤٢ ـ ٨٩........................................................... ١١٧

الآيات : ٩٠ ـ ١٠٩......................................................... ١٦٩

تفسير سورة هود

الآيات : ١ ـ ٥.............................................................. ١٩٠

الآيات : ٦ ـ ١١............................................................. ٢٠٣

الآيات : ١٢ ـ ٤٩........................................................... ٢١٩

الآيات : ٥٠ ـ ٩٥........................................................... ٢٧٦

الآيات : ٩٦ ـ ١٢٣......................................................... ٣٢٦

تفسير سورة يونس

الآيات : ١ ـ ٦.............................................................. ٣٦٣

الآيات : ٧ ـ ٢٢............................................................. ٣٨٠

الآيات : ٢٣ ـ ٣٣........................................................... ٤٠٣

الآيات : ٣٤ ـ ٥٢........................................................... ٤٢٦

٤٥٣