روح المعاني - ج ٦

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٦

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٣

والسعادة وأن ذلك أمر قد فرغ منه كما يدل عليه ما أخرجه أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي يده كتابان فقال : «أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا : لا يا رسول الله أما تخبرنا؟ فقال للذي في يده اليمنى : هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ، ثم قال للذي في شماله : هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ، فقال أصحابه : ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال : سدّدوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل ، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ، ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده فنبذهما وقال : فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير» وجاء في حديث «الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه» وحمل ذلك بعضهم على ظهور الأمر للملك الموكل بالنطفة وإلا فالأمر قبل ذلك ، وبعضهم فسر الأم بالثبوت العلمي الذي يظهر المعلوم منه إلى هذا الوجود الخارجي وهو ضرب من التأويل كما لا يخفى ، ولا يأبى هذه الإشارة عند التأمل ما أخرجه الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن مردويه وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : «لما نزلت (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) قلت : يا رسول الله فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه ، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال : بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له» ، وقيل : كان الظاهر هنا التعبير بالمضارع إلا أنه عبر بالماضي إشارة إلى تحقق الوقوع وأتى بالموصول جمعا إيذانا بأن المراد ـ بشقي وسعيد ـ فريق شقي ، وفريق سعيد ، ولم يقل أشقياء وسعداء لأن الإفراد أوفق بما قبل ، وقيل : الإفراد أولا للإشارة إلى أن كل فريق من حيث اتصافه بالشقاوة أو السعادة كشيء واحد ، وجمع ثانيا لما أن دخول كل فريق في الجنة والنار ليس جملة واحدة بل جمعا جمعا وزمرة زمرة وله شواهد من الكتاب والسنة (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) أي في شك ، والفاء لترتيب النهي على ما قص من القصص وبين في تضاعيفها من العواقب الدنيوية والأخروية أي فلا تك في شك بعد أن بين لك ما بين (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) أي من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصت عليك سوء عاقبة عبادتهم ـ فمن ـ ابتدائية ، وجوز أن تكون بمعنى في ، و «ما» مصدرية ، وجوز أن تكون موصولة وفي الكلام مضاف محذوف أي من حال ما يعبدونه من أنه لا يضر ولا ينفع إذ لا معنى للمرية في أنفسهم (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) استئناف بياني وقع تعليلا في المعنى للنهي عن المرية ، والاستثناء إما من مصدر مقدر أو مفعول محذوف أي هم وآباؤهم سواء في الشرك ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم. أو ما يعبدون شيئا إلا مثل الذي عبدوه من الأوثان وقد بلغك ما لحق آباؤهم بسبب ذلك فيلحقهم مثله لأن التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات ، ومعنى (كَما يَعْبُدُ) كما كان عبد فحذف لدلالة (قَبْلُ) عليه ، وكأن اختيار هذا للإشارة إلى أن ذلك كان عادة مستمرة لهم (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ) يعني هؤلاء الكفرة (نَصِيبَهُمْ) حظهم من العذاب كما وفينا آباءهم حظوظهم. أو من الرزق فيكون عذرا لتأخر العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه ، وفي هذا من الإشارة إلى مزيد فضل الله تعالى وكرمه ما لا يخفى حيث لم يقطع رزقهم مع ما هم عليه من عبادة غيره ، وفي التعبير ـ بالنصيب ـ على الأول تهكم لأنه ما يطلب ويراد والعذاب بمعزل عن ذلك ، وتفسيره بما ذكر مروي عن ابن زيد ، و ـ بالرزق ـ عن أبي العالية ، وعن ابن عباس أن المراد به ما قدر من خير أو شر ، وقرأ ابن محيصن «لموفوهم» مخففا من أوفى (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) حال مؤكدة من النصيب كقوله تعالى : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة : ٢٥] وفائدته دفع توهم التجوز ، وإلى هذا ذهب العلامة الطيبي ، وقال : إنه الحق.

٣٤١

وفي الكشاف أنه جيء بهذه الحال عن النصيب الموفى لأنه يجوز أن يوفى وهو ناقص ويوفى وهو كامل ألا تراك تقول : وفيته شطر حقه وثلث حقه وحقه كاملا وناقصا انتهى ، وتعقبه أبو حيان بأن هذه مغلطة لأنه إذا قيل : وفيته شطر حقه فالتوفية إنما وقعت في الشطر وكذا ثلث حقه ، والمعنى أعطيته الشطر أو الثلث كاملا لم أنقصه منه شيئا ، وأما قولك : وفيته حقه كاملا فالحال فيه مؤكدة لأن التوفية تقتضي الإكمال ، وأما قولك : وفيته حقه ناقصا فغير صحيح للمنافاة انتهى.

وقال ابن المنير : إنه وهم لأن التوفية تقتضي عدم نقصان الموفى كاملا كان أو بعضا فقولك : وفيته نصف حقه يستلزم عدم نقصان النصف الموفى ، فالسؤال عن وجه انتصاب هذه الحال قائم بعد ، والأوجه أن يقال : استعملت التوفية بمعنى الإعطاء كما استعمل التوفي بمعنى الأخذ ، ومن قال : أعطيت فلانا حقه كان جديرا أن يؤكده بقوله : (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) انتهى. وفي الكشف أقول في تعليق التوفية بالنصف مع أن الكل حقه ما يدل على مطلوبه إذ لا فرق بين قولك : نصف حقه وحقه منصفا ، فجاز وفيته نصيبه منصفا ونصيبه ناقصا ، ويحسن فائدة التأكيد ويظهر أن الواهم من هو فتأمل (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي في شأن الكتاب وكونه من عند الله تعالى فآمن به قوم وكفر به آخرون فلا تبال باختلاف قومك فيما آتيناك من القرآن ، وقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) [هود : ١٢] وزعمهم «إنك افتريته».

وجوز رجوع الضمير إلى موسى وهو خلاف الظاهر ، وإن كان الاختلاف فيه عليه‌السلام هل هو نبي أم لا؟

مستلزما للاختلاف في كتابه هل هو من الله تعالى أم لا ، وقيل : إن ـ في ـ على هذا الاحتمال بمعنى على أي فاختلف قومه عليه وتعنتوا كما فعل قومك معك (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهي كلمة القضاء بتأخير العذاب إلى الأجل المعلوم على حسب الحكمة الداعية إلى ذلك (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لأوقع القضاء بين المختلفين من قومك بإنزال العذاب الذي يستحقه المبطلون ليتميزوا به عن المحقين ، وفي البحر إن الظاهر عود الضمير على قوم موسى ، قيل : وليس بذاك.

وقال ابن عطية : عوده على القومين أحسن عندي ، وتعقب بأن قوله سبحانه : (وَإِنَّ كُلًّا) إلخ ظاهر في التعميم بعد التخصيص وفيه نظر ، والأولى عندي الأول (وَإِنَّهُمْ) أي وإن كفار قومك أريد بالضمير بعض من رجع إليهم ضمير بينهم للأمن من الإلباس (لَفِي شَكٍ) عظيم (مِنْهُ) أي من القرآن وإن لم يجر له ذكر فإن ذكر إيتاء كتاب موسى ووقوع الاختلاف فيه لا سيما بصدد التسلية يناديه نداء غير خفي.

وقيل : الضمير للوعيد المفهوم من الكلام (مُرِيبٍ) أي موقع في الريبة ، وجوز أن يكون من أراب إذا صار ذا ريبة (وَإِنَّ كُلًّا) التنوين عوض عن المضاف إليه كما هو المعروف في تنوين كل عند قوم من النحاة ، وقيل : إنه تنوين تمكين لكنه لا يمنع تقدير المضاف إليه أيضا أي وإن كل المختلفين المؤمنين والكافرين.

وقال مقاتل : يعني به كفار هذه الأمة (لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) أي أجزية أعمالهم ، ولام (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) واقعة في جواب القسم أي والله ليوفينهم ، و (لَمَّا) بالتشديد وهو مع تشديد أن قراءة ابن عامر وحمزة وحفص وأبي جعفر ، وتخريج الآية على هذه القراءة مشكل حتى قال المبرد : إنها لحن وهو من الجسارة بمكان لتواتر القراءة وليته قال كما قال الكسائي : ما أدري ما وجه هذه القراءة ، واختلفوا في تخريجها فقال أبو عبيدة : إن أصل (لَمَّا) هذه لما منونا ، وقد قرئ كذلك ثم بني على فعلى وهو مأخوذ من لمته إذا جمعته ، ولا يقال : إنها «لما» المنونة وقف عليها بالألف ، وأجرى الوصل مجرى الموقف لأن ذلك على ما قال أبو حيان : إنما يكون في الشعر واستبعد هذا التخريج بأنه

٣٤٢

لا يعرف بناء فعلي من لمّ ، وبأنه يلزم لمن أمال فعلى أن يميلها ولم يملها أحد بالإجماع وبأنه كان القياس أن تكتب بالياء ولم تكتب بها ، وسيعلم إعراب الآية على هذا مما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وقيل : (لَمَّا) المخففة وشددت في الوقف ثم أجرى الوصل مجرى الوقف وحينئذ فالإعراب ما ستعرفه أيضا إن شاء الله تعالى وهو بعيد جدا ، وقيل : إنها بمعنى إلا ، وإلا تقع زائدة كما في قوله :

حلفت يمينا غير ذي مثنوية

يمين امرئ إلا بها غير آثم

فلا يبعد أن (لَمَّا) التي بمعناها زائدة وهو وجه ضعيف مبني على وجه ضعيف في إلا ، وعن المازني أن أن المشددة هنا نافية ، و (لَمَّا) بمعنى إلا غير زائدة وهو باطل لأنه لم يعهد تثقيل أن النافية ، ولنصب ـ كل ـ والنافية لا تنصب ، وقال الحوفي : (إِنَ) على ظاهرها ، و (لَمَّا) بمعنى إلا كما في قولك : نشدتك بالله إلا فعلت ، وضعفه أبو علي بأن (لَمَّا) هذه لا تفارق القسم قبلها وليس كما ذكر فقد تفارق ؛ وإنما يضعف ذلك بل يبطله كما قال أبو حيان : إن الموضع ليس موضع دخول إلا ألا ترى أنك لو قلت : إن زيدا إلا ضربت لم يكن تركيبا عربيا ؛ وقيل : إن (لَمَّا) هذه أصلها لمن ما فهي مركبة من اللام ومن الموصولة أو الموصوفة وما الزائدة فقلبت النون ميما للإدغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى منها ثم أدغم المثلان ، وإلى هذا ذهب المهدوي ، وقال الفراء وتبعه جماعة منهم نصر الشيرازي : إن أصلها لمن ما بمن الجارة وما الموصولة أو الموصوفة وهي على الاحتمالين واقعة على من يعقل فعمل بذلك نحو ما عمل على الوجه الذي قبله ، وقد جاء هذا الأصل في قوله :

وأنا لمن ما تضرب الكبش ضربة

على رأسه تلقي اللسان من الفم

واللام على هذين الوجهين قيل : موطئة للقسم ، ونقل عن الفارسي ـ وهو مخالف لما اشتهر عن النحاة ـ من أن الموطئة هي الداخلة على شرط مقدم على جواب قسم تقدم لفظا أو تقديرا لتؤذن بأن الجواب له نحو والله لئن أكرمتني لأكرمتك وليس ما دخلت عليه جواب القسم بل ما يأتي بعدها وكان مذهبه كمذهب الأخفش أنه لا يجب دخولها على الشرط ، وإنما هي ما دلت على أن ما بعدها صالح لأن يكون جوابا للقسم مطلقا ، وقيل : إنها اللام الداخلة في خبر إن ، ومن موصولا أو موصوفا على الوجه الأول من الوجهين هو الخبر والقسم وجوابه صلة أو صفة ، والمعنى وإن كلا للذين أو الخلق والله ليوفينهم ربّك ، ومن ومجرورها على الوجه الثاني في موضع الخبر لأن ، والجملة القسمية وجوابها صلة أو صفة أيضا لكن لما ، والمعنى وإن كلا لمن الذين أو لمن خلق والله ليوفينهم ربك ، قال في البحر : وهذان الوجهان ضعيفان جدا ولم يعهد حذف نون من وكذا حذف نون من الجارة إلا في الشعر إذا لقيت لام التعريف أو شبهها غير المدغمة نحو قولهم : ملمال يريدون من المال ، وفي تفسير القاضي وغيره أن الأصل لمن ما بمن الجارة قلبت النون ميما فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن ، وفيه أيضا ما فيه ، ففي المغني أن حذف هذه الميم استثقالا لم يثبت انتهى ، وقال الدماميني : كيف يستقيم تعليل الحذف بالاستثقال وقد اجتمعت في قوله تعالى : (عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) [هود : ٤٨] ثماني ميمات انتهى ، وأنشد الفراء على ما ذهب إليه قول الشاعر :

وإني لما أصدر الأمر وجهه

إذا هو أعيا بالسبيل مصادره

وزعم بعضهم أن لما بمعنى حين وفي الكلام حذف أي لما عملوا ما عملوا أو نحو ذلك والحذف في الكلام كثير نحو قوله :

إذا قلت : سيروا إن ليلى لعلها

جرى دون ليلى مائل القرن أعضب

أراد لعلها تلقاني أو تصلني أو نحو ذلك وهو كما ترى ، وقال أبو حيان بعد أن ذكر أن هذه التخريجات مما

٣٤٣

تنزه ساحة التنزيل عن مثلها : كنت قد ظهر لي وجه جار على قواعد العربية عار من التكلف وهو أن (لَمَّا) هذه هي الجازمة حذف فعلها المجزوم لدلالة المعنى عليه كما حذفوه في قولهم : قاربت المدينة ولما يريدون ولما أدخلها ، والتقدير هنا وإن كلّا لما ينقص من جزاء عمله ويدل عليه ليوفينهم ربك أعمالهم ، وكنت أعتقد أني ما سبقت إلى ذلك حتى تحققت أن ابن الحاجب وفق لذلك فرأيت في كتاب التحرير نقلا عنه أنه قال : (لَمَّا) هذه هي الجازمة حذف فعلها للدلالة عليه ، وقد ثبت الحذف في قولهم : خرجت ولما ، وسافرت ولما ونحوه ، وهو سائغ فصيح فيكون التقدير لما يتركوا أو لما يهملوا ويدل عليه تفصيل المجموعين ومجازاتهم ، ثم قال : وما أعرف وجها أشبه من هذا وإن كانت النفوس تستبعده من جهة أن مثله لم يقع في القرآن انتهى ، ولا يخفى عليك أن الأولى أن يقدر لما يوفوا أعمالهم أي إلى الآن لم يوفوها وسيوفونها ، وإلى ذلك ذهب ابن هشام لما يلزم على التقديرات السابقة على ما هو المشهور في معنى لما أنهم سينقصون من جزاء أعمالهم وأنهم سيتركون ويهملون ، وذلك بمعزل عن أن يراد وهو ظاهر ، وهذا وجه النظر الذي عناه ابن هشام في قوله معترضا على ابن الحاجب : وفي هذا التقدير نظر.

وقال الجلبي : وجهه أن الدال على المحذوف سابق عليه بكثير مع أن ذلك المحذوف ليس من لفظ هذا الذي قيل : إنه دال عليه وليس بذاك ، ثم المرجح عند كثير من المفسرين ما ذهب إليه الفراء ، وقرأ نافع وابن كثير أن ولما بالتخفيف وخرجت هذه القراءة على أن أن عاملة وإن خففت اعتبارا للأصل في العمل وهو شبه الفعل ولا يضر زوال الشبه اللفظي ، وإلى ذلك ذهب البصريون ، وذكر أبو حيان أن مذهبهم جواز إعمالها إذا خففت لكن على قلة إلا مع المضمر فلا يجوز إلا إن ورد في شعر ، ونقل عن سيبويه منهم أنه قال : أخبرني الثقة أنه سمع بعض العرب يقول : إن عمرا لمنطلق.

وزعم بعض من النحويين أن المكسورة إذا خففت لا تعمل ، وتأول الآية بجعل (كُلًّا) منصوبا بفعل مقدر أي إن أرى كلّا مثلا وليس بشيء ، وجعل هذا في البحر مذهب الكوفيين ، وفي الارتشاف أن الكوفيين لا يجوزون تخفيف المكسورة لا مهملة ولا معملة ، وذكر بعضهم مثله وأن ما يعدّها البصريون مخففة يعدها الكوفيون نافية ، واستثنى منهم الكسائي فإنه وافق البصريين ومذهبهم في ذلك هو الحق ، و (كُلًّا) اسمها واللام هي الداخلة على خبر إن وما موصولة خبر إن ، والجملة القسمية وجوابها صلة ، وإلى هذا ذهب الفراء ، واختار الطبري في اللام مذهبه ، وفي ما كونها نكرة موصوفة ، والجملة صفتها أي وإن كلا لخلق أو لفريق موفى عمله ، واختار أبو علي في اللام ما اختاراه ؛ وجعل الجملة القسمية خبرا وما مزيدة بين اللامين وقد عهدت زيادتها في غير ما موضع ، وقرأ أبو بكر عن عاصم بتخفيف إن وتشديد لما ، وقرأ الكسائي ، وأبو عمرو بعكس ذلك وتخريج القراءتين لا يخفى على من أحاط خبرا في تخريج القراءتين قبل ، وقرأ أبي ، والحسن بخلاف عنه ، وأبان بن تغلب ، وأن بالتخفيف كل بالرفع لما بالتشديد ، وخرجت على أن إن نافية وكل مبتدأ والجملة القسمية وجوابها خبره ، و (لَمَّا) بمعنى إلّا أي ما كل إلّا أقسم والله ليوفينهم ، وأنكر أبو عبيدة مجيء (لَمَّا) بمعنى إلّا في كلام العرب ، وقال الفراء : إن جعلها هنا بمعنى إلّا وجه لا نعرفه ، وقد قالت العرب مع اليمين بالله : لما قمت عنا وإلّا قمت عنا ، وأما في غير ذلك فلم نسمع مجيئها بمعنى إلّا لا في نثر ولا في شعر ؛ ويلزم القائل أن يجوز قام الناس لما زيدا على معنى إلّا زيدا ولا التفات إلى إنكارهما ، والقراءة المتواترة في (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [يس : ٣٢] و (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) [الطارق : ٤] تثبت ما أنكراه.

وقد نص الخليل ، وسيبويه ، والكسائي على مجيء ذلك ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، وكون العرب

٣٤٤

خصصت مجيئها كذلك ببعض التراكيب لا يضر شيئا فكم من شيء خص بتركيب دون ما أشبهه.

وقرأ الزهري ، وسليمان بن أرقم (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا) بتشديد الميم والتنوين ولم يتعرضوا في النقل عنهما لتشديد أن ولا لتخفيفها ، وهي في هذه القراءة مصدر من قولهم : لممت الشيء إذا جمعته كما مرّ ونصبها على الحالية من ضمير المفعول في (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) عند أبي البقاء وضعفه.

وقال أبو علي : إنها صفة لكل ويقدر مضافا إلى نكرة ليصح وصفه بالنكرة ، وكان المصدر حينئذ بمعنى اسم المفعول ، وذكر الزمخشري في معنى الآية على هذه القراءة أنه وإن كلّا ملمومين بمعنى مجموعين كأنه قيل : وإن كلّا جميعا كقوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [الحجر : ٣٠ ، ص : ٧٣] وجعل ذلك الطيبي منه ميلا إلى القول بالتأكيد.

وقال ابن جني : إنها منصوبة ـ بليوفينهم ـ على حد قولهم : قياما لأقومن ، والتقدير توفية جامعة لأعمالهم (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) وخبر (إِنَ) في ذلك جملة القسم وجوابه ، وروى أبو حاتم أن في مصحف أبي وإن من كل إلّا ليوفينهم وخرج على أن إن نافية ومن زائدة.

وقرأ الأعمش نحو ذلك إلّا أنه أسقط من وهو حرف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه والوجه ظاهر ، قيل : وقد تضمنت هذه الجملة عدة مؤكدات من أن واللام وما إذا كانت زائدة والقسم ونون التأكيد وذلك للمبالغة في وعد الطائعين ووعيد العاصين (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي أنه سبحانه بما يعمله كل فرد من المختلفين من الخير والشر عليم على أتم وجه بحيث لا يخفى عليه شيء من جلائله ودقائقه ، والجملة قيل : توكيد للوعد والوعيد فإنه سبحانه لما كان عالما بجميع المعلومات كان عالما بمقادير الطاعات والمعاصي وما يقتضيه كل فرد منها من الجزاء بمقتضى الحكمة وحينئذ تأتي توفية كل ذي حق حقه إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

وقرأ ابن هرمز «تعملون» على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) لما بين أمر المختلفين في التوحيد والنبوة ، وأطنب سبحانه في شرح الوعد والوعيد أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستقامة مثل الاستقامة التي أمر بها وهذا يقتضي أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوحي آخر ولو غير متلو كما قاله غير واحد ، والظاهر أن هذا أمر بالدوام على الاستقامة وهي لزوم المنهج المستقيم وهو المتوسط بين الإفراط والتفريط وهي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق فتشمل العقائد والأعمال المشتركة بينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين سائر المؤمنين والأمور الخاصة به عليه الصلاة والسلام من تبليغ الأحكام والقيام بوظائف النبوة وتحمل أعباء الرسالة وغير ذلك ، وقد قالوا : إن التوسط بين الإفراط والتفريط بحيث لا يكون ميل إلى أحد الجانبين قيد عرض شعرة مما لا يحصل إلّا بالافتقار إلى الله تعالى ونفي الحول والقوة بالكلية ، ومثلوا الأمر المتوسط بين ذينك الطرفين بخط يكون بين الشمس والظل ليس بشمس ولا ظل بل هو أمر فاصل بينهما ولعمري إن ذلك لدقيق ، ولهذا قالوا : لا يطيق الاستقامة إلّا من أيد بالمشاهدات القوية والأنوار السنية ثم عصم بالتشبث بالحق (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [الإسراء : ٧٤] وجعل بعض العارفين الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف إشارة إلى هذا المنهج المتوسط ، ومما يدل على شدة هذا الأمر ما أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال: لما نزلت هذه الآية قال صلى الله تعالى عليه وسلم : «شمروا شمروا» وما رئي بعدها ضاحكا.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما نزلت على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم آية أشد من هذه الآية ولا أشق ، واستدل بعض المفسرين على عسر الاستقامة بما شاع من قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم : «شيبتني

٣٤٥

هود» ، وأنت تعلم أن الأخبار متضافرة بضم سور أخرى إليها وإن اختلفت في تعيين المضموم كما مرّ أول السورة ، وحينئذ لا يخفى ما في الاستدلال من الخفاء ، ومن هنا قال صاحب الكشف : التخصيص بهود لهذه الآية غير لائح إذ ليس في الأخوات ذكر الاستقامة.

وذكر في قوت القلوب أنه لما كان القريب الحبيب صلى الله تعالى عليه وسلم شيبه ذكر البعد وأهله ثم قال : ولعل الأظهر أنه عليه الصلاة والسلام شيبه ذكر أهوال القيامة ، وكأنه ـ بأبي هو وأمي ـ شاهد منه يوما يجعل الوالدان شيبا انتهى.

وبعضهم استدل للتخصيص برؤيا أبي علي الشتري السابقة وفيه بعد تسليم صحة الرواية إن رؤيا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كانت حقا حيث إن الشيطان لا يتمثل به عليه الصلاة والسلام إلّا أنه من أين يجزم بضبط الرائي وتحقيقه ما رأى على أن مما يوهن أمر هذه الرؤيا ويقوي ظن عدم ثبوتها ما أخرجه ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «شيبتني هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبلي» وذكر الشهاب ما يقوي اعتراض صاحب الكشف من أنه ليس في الطرق المروية في هذا الباب الاقتصار على هود بل ذكر معها أخواتها وليس فيها الأمر المذكور مع أنه وقع في غيرها من آل حميم ، ثم ذكر أنه لاح له ما يدفع الاشكال ؛ وذلك أن مبنى هذه السورة الكريمة على إرشاده تعالى شأنه نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها وإلى ما يعتري من تصدى لهذه المرتبة السنية من الشدائد واحتماله لما يترتب عليه من الفوائد لا على التسلية إذ لا يطابق المقام حسبما تقدم لك عن صاحب الكشف ، ولما كانت هذه السورة جامعة لإرشاده من أول أمره إلى آخره وهذه الآية فذلكة لها فحينما نزلت هذه السورة هاله ما فيها من الشدائد وخاف من عدم القيام بأعبائها حتى إذا لقي الله تعالى في يوم الجزاء ربما مسه نصب من السؤال عنها فذكر القيامة في تلك السور يخوفه هولها لاحتمال تفريطه فيما أرشده الله تعالى له في هذه ، وهذا لا ينافي عصمته عليه الصلاة والسلام وقربه لكونه الأعلم بالله تعالى والأخوف منه ، فالخوف منها يذكره بما تضمنته هذه السورة فكأنها هي المشيبة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بينها ولذا بدأ بها في جميع الروايات ، ولما كانت تلك الآية فذلكة لها كانت هي المشيبة في الحقيقة فلا منافاة بين نسبة التشييب لتلك السور ولا لهذه السورة وحدها كما فعله من فعله ولا لتلك الآية كما وقع في تلك الرؤيا انتهى ، وسيأتي إن شاء الله تعالى وجه آخر لنسبة التشييب لهذه السورة فليتأمل ، وذهب بعض المحققين إلى كون الكاف في (كَما) بمعنى على كما في قولهم : كن كما أنت عليه أي على ما أنت عليه ، ومن هنا قال ابن عطية وجماعة : المعنى استقم على القرآن ، وقال مقاتل : امض على التوحيد ، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : استقم على الأخبار عن الله تعالى بصحة العزم ، والأظهر إبقاء ما على العموم أي استقم على جميع ما أمرت به ، والكلام في حذف مثل هذا الضمير أمر شائع ، وقد مرّ التنبيه عليه ، ومال بعضهم إلى كون الكاف للتشبيه حسبما هو الظاهر منها إلّا أنه قال : إنها في حكم مثل في قولهم : مثلك لا يبخل فكأنه قيل : استقم الاستقامة التي أمرت بها فرارا من تشبيه الشيء بنفسه ولا يخفى أنه ليس بلازم ، ومن الغريب ما نقل عن أبي حيان أنه قال في تذكرته : فإن قلت : كيف جاء هذا التشبيه للاستقامة بالأمر؟ قلت : هو على حذف مضاف تقديره مثل مطلوب الأمر أي مدلوله ، فإن قلت : الاستقامة المأمور بها هي مطلوب الأمر فكيف يكون مثلا لها؟ قلت : مطلوب الأمر كلي والمأمور جزئي فحصلت المغايرة وصح التشبيه كقولك : صل ركعتين كما أمرت ، وأبعد بعضهم فجعل الكاف بمعنى على واستفعل للطلب كاستغفر الله تعالى أي اطلب الغفران منه ، وقال : المعنى اطلب الإقامة على الدين.

(وَمَنْ تابَ مَعَكَ) أي تاب من الشرك وآمن معك فالمعية باعتبار اللازم من غير نظر إلى ما تقدمه وغيره ، وقد

٣٤٦

يقال : يكفي الاشتراك في التوبة والمعية فيها مع قطع النظر عن المثوب عنه ، وقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم يستغفر الله تعالى في اليوم أكثر من سبعين مرة ، واستظهر ذلك الجلبي ، و (مَنْ) على ما اختاره أبو حيان ، وجماعة عطف على الضمير المستكن في (فَاسْتَقِمْ) وأغنى الفصل بالجار والمجرور عن تأكيده بضمير منفصل لحصول الغرض به ، وفي الكلام تغليب لحكم الخطاب على الغيبة في لفظ الأمر ، واختار كثير أنه فاعل لفعل محذوف أي وليستقم من إلخ لأن الأمر لا يرفع الظاهر ، وحينئذ فالجملة معطوفة على الجملة الأولى ، ومن ذهب إلى الأول رجحه بعدم احتياجه إلى التقدير ودفع المحذور بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع.

وجوز أبو البقاء كونه منصوبا على أنه مفعول معه ، والمعنى استقم مصاحبا لمن تاب ، قيل : وهو في المعنى أتم وإن كان في اللفظ نوع نبوة عنه.

وقيل : إنه مبتدأ والخبر محذوف أي فليستقم ، وجوز كون الخبر (مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) أي لا تنحرفوا عما حدّ لكم بإفراط أو تفريط فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم ، وسمي ذلك طغيانا وهو مجاوزة الحدّ تغليظا أو تغليبا لحال سائر المؤمنين على حاله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وعن ابن عباس أن المعنى لا تطغوا في القرآن فتحلوا وتحرموا ما لم تؤمروا به.

وقال ابن زيد : لا تعصوا ربكم ، وقال مقاتل : لا تخلطوا التوحيد بالشرك ، ولعل الأول أولى.

(إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم على ذلك وهو تعليل للأمر والنهي السابقين كأنه قيل : استقيموا ولا تطغوا لأن الله تعالى ناظر لأعمالكم فيجازيكم عليها ، وقيل : إنه تتميم للأمر بالاستقامة ، والأول أحسن وأتم فائدة ، وقرأ الحسن ، والأعمش ـ يعملون ـ بياء الغيبة ، وروي ذلك عن عيسى الثقفي أيضا ، وفي الآية ـ على ما قال غير واحد ـ دليل على وجوب اتباع المنصوص عليه من غير انحراف بمجرد التشهي وإعمال العقل الصرف فإن ذلك طغيان وضلال ، وأما العمل بمقتضى الاجتهاد التابع لعلل النصوص فذلك من باب الاستقامة كما أمر على موجب النصوص الآمرة بالاجتهاد ، وقال الإمام : وعندي لا يجوز تخصيص النص بالقياس لأنه لما دلّ عموم النص على حكم وجب الحكم بمقتضاه لقوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) والعمل بالقياس انحراف عنه ، ولذا لما ورد القرآن بالأمر بالوضوء وجيء بالأعضاء مرتبة في اللفظ وجب الترتيب فيها ، ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل ، والبقر من البقر وجب اعتبارها ، وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به كل ذلك للأمر بالاستقامة كما أمر انتهى.

وأنت تعلم أن إيجاب الترتيب في الوضوء لذلك ليس بشيء ويلزمه أن يوجب الترتيب في الأوامر المتعاطفة بالواو مثل (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [البقرة : ٤٣ وغيرها] وكذا في نحو (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة : ٤٥] بعين ما ذكر في الوضوء وهو كما ترى ، وكأنه عفا الله تعالى عنه يجزم بأن الحنفية الذين لا يوجبون الترتيب في أعمال الوضوء طاغون خارجون عما حدّ الله تعالى لا احتمال للقول بأنهم مستقيمون وهو من الظلم بمكان (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي لا تميلوا إليهم أدنى ميل ، والمراد بهم المشركون كما روى ذلك ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وفسر الميل بميل القلب إليهم بالمحبة ، وقد يفسر بما هو أعم من ذلك كما يفسر (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بمن وجد منه ما يسمى ظلما مطلقا ، قيل : ولإرادة ذلك لم يقل إلى الظالمين ؛ ويشمل النهي حينئذ مداهنتهم وترك التغيير عليهم مع القدرة والتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم ومجالستهم من غير داع شرعي ، وكذا القيام لهم ونحو ذلك ، ومدار النهي على الظلم والجمع باعتبار جمعية المخاطبين ، وقيل : إن ذلك للمبالغة في النهي

٣٤٧

من حيث إن كونهم جماعة مظنة الرخصة في مداهنتهم مثلا ، وتعقب بأنه إنما يتم أن لو كان المراد النهي عن الركون إليهم من حيث إنهم جماعة وليس فليس (فَتَمَسَّكُمُ) أي فتصيبكم بسبب ذلك كما تؤذن به الفاء الواقعة في جواب النهي (النَّارُ) وهي نار جهنم ، وإلى التفسير الثاني ـ وما أصعبه على الناس اليوم بل في غالب الأعاصير من تفسير ـ ذهب أكثر المفسرين ، قالوا : وإذا كان حال الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الإفضاء إلى مساس الناس النار فما ظنك بمن يميل إلى الراسخين في الظلم كل الميل. ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتهم ، ويتعب قلبه وقالبه في إدخال السرور عليهم ، ويستنهض الرجل والخيل في جلب المنافع إليهم ، ويبتهج بالتزيي بزيهم والمشاركة لهم في غيهم. ويمد عينيه إلى ما متعوا به من زهرة الدنيا الفانية ، ويغبطهم بما أوتوا من القطوف الدانية غافلا عن حقيقة ذلك ذاهلا عن منتهى ما هنالك! وينبغي أن يعد مثل ذلك من الذين ظلموا لا من الراكنين إليهم بناء على ما روي أن رجلا قال لسفيان : إني أخيط للظلمة فهل أعدّ من أعوانهم ، فقال له : لا أنت منهم والذي يبيعك الإبرة من أعوانهم ، وما أحسن ما كتبه بعض الناصحين للزهري حين خالط السلاطين ، وهو ـ عافانا الله تعالى وإياك ـ أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله تعالى ويرحمك أصبحت شيخا كبيرا وقد أثقلتك نعم الله تعالى بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيك صلى الله تعالى عليه وسلم وليس كذلك أخذ الله تعالى الميثاق على العلماء ، قال سبحانه : (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : ١٨٧] واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤد حقا ولم يترك باطلا حين أدناك اتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم وجسرا يعبرون عليك إلى بلائهم وسلما يصعدون فيك إلى ضلالهم يدخلون الشك بك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم : ٥٩] فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك فقد دخله سقم وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد ، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء والسلام.

وعن الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملا ، وعن محمد بن سلمة : الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء ، وفي الخبر من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي الله تعالى في أرضه ، ولعمري إن الآية أبلغ شيء في التحذير عن الظلمة والظلم ، ولذا قال الحسن : جمع الدين في لاءين يعني ـ لا تطغوا ، ولا تركنوا ـ ويحكى أن الموفق أبا أحمد طلحة العباسي صلّى خلف الإمام فقرأ هذه الآية فغشي عليه فلما أفاق قيل له ، فقال : هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف الظالم.

هذا وخطاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بهذين النهيين بعد الأمر بالاستقامة للتثبيت عليها ، وقد تجعل تأكيدا لذلك إذا كان المراد به الدوام والثبات ، وعن أبي عمرو أنه قرأ «تركنوا» بكسر التاء على لغة تميم.

وقرأ قتادة ، وطلحة ، والأشهب ، ورويت عن أبي عمرو «تركنوا» بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وهي على ما في البحر لغة قيس ، وتميم.

وقال الكسائي : إنها لغة أهل نجد وشذ ـ تركن ـ بالفتح مضارع ركن كذلك ، وقرأ ابن أبي عبلة «ولا تركنوا» مبنيا للمفعول من أركنه إذا أماله ، وقراءة الجمهور «تركنوا» بفتح الكاف ، والماضي ـ ركن ـ بكسرها وهي لغة قريش ، وهي الفصحى ـ على ما قال الأزهري ـ وقرأ ابن وثاب ، وعلقمة ، والأعمش ، وابن مصرف ، وحمزة فيما يروى عنه

٣٤٨

«فتمسكم» بكسر التاء على لغة تميم أيضا (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) من أنصار يمنعون العذاب عنكم ، والمراد نفي أن يكون لكل نصير ، والمقام قرينة على ذلك ، والجملة في موضع الحال من ضمير (فَتَمَسَّكُمُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) من جهته تعالى إذ قد سبق في حكمه تعالى أن يعذبكم بركونكم إليهم ولا يبقى عليكم ، و (ثُمَ) قيل : لاستبعاد نصره سبحانه إياهم وقد أوعدهم العذاب على ذلك ، وأوجبه لهم وتعقب بأن أثر الحرف إنما هو في مدخوله ومدخول (ثُمَ) عدم النصرة وليس بمستبعد ، وإنما المستبعد نصر الله تعالى لهم ، فالظاهر أنها للتراخي في الرتبة لأن عدم نصر الله أشد وأفظع من عدم نصرة غيره ، وأجيب بما لا يخلو عن تكلف ، وأيا ما كان فالمقام مقام الواو إلّا أنه عدل عنها لما ذكر.

وجوز القاضي أن تكون منزلة منزلة الفاء بمعنى الاستبعاد فإنه سبحانه لما بين أنه معذبهم وأن أحدا لا يقدر على نصرهم أنتج ذلك أنهم لا ينصرون أصلا ، ووجه ذلك بأنه كان الظاهر أن يؤتى بالفاء التفريعية المقارنة للنتائج إذ المعنى أن الله تعالى أوجب عليكم عقابه ولا مانع لكم منه فإذن أنتم لا تنصرون فعدل عنه إلى العطف ـ بثم ـ الاستبعادية إلى الوجه الذي ذكره ، واستبعاد الوقوع يقتضي النفي ، والعدم الحاصل الآن فهو مناسب لمعنى تسبب النفي ، ودفع بذلك ما قيل عليه : إن الداخل على النتائج هي الفاء السببية لا الاستبعادية ولا يخفى قوة الاعتراض ، وفرق بين وجهي الاستبعاد السابق والتنزيل المذكور بأن المنفي على الأول نصرة الله تعالى لهم ، وعلى الثاني مطلق النصرة (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أي المكتوبة ، ومعنى إقامتها أداؤها على تمامها.

وقيل : المداومة عليها ، وقيل : فعلها في أول وقتها (طَرَفَيِ النَّهارِ) أي أوله وآخره وانتصابه على الظرفية ـ لأقم ـ ويضعف كونه ظرفا للصلاة ووجه انتصابه على ذلك إضافته إلى الظرف (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) أي ساعات منه قريبة من النهار فإنه من أزلفه إذا قربه.

وقال الليث : هي طائفة من أول الليل ، وكذا قال ثعلب ، وقال أبو عبيدة ، والأخفش ، وابن قتيبة : هي مطلق ساعاته وآناؤه وكل ساعة زلفة ، وأنشدوا للعجاج :

ناج طواه الأين مما وجفا

طي الليالي زلفا فزلفا

سماوة الهلال حتى احقوقفا

وهو عطف على (طَرَفَيِ النَّهارِ) ، و (مِنَ اللَّيْلِ) في موضع الصفة له ، والمراد بصلاة الطرفين قيل : صلاة الصبح والعصر ، وروي ذلك عن الحسن ، وقتادة ، والضحاك ، واستظهر ذلك أبو حيان بناء على أن طرف الشيء يقتضي أن يكون من الشيء ، والتزم أن أول النهار من الفجر ، وقد يطلق طرف الشيء على الملاصق لأوله وآخره مجازا فيمكن اعتبار النهار من طلوع الشمس مع صحة ما ذكروه في صلاة الطرف الأول بجعل التثنية هنا مثلها في قولهم : القلم أحد اللسانين إلّا أنه قيل بشذوذ ذلك.

وروي عن ابن عباس ـ واختاره الطبري ـ أن المراد صلاة الصبح والمغرب فإن كان النهار من أول الفجر إلى غروب الشمس فالمغرب طرف مجازا وهو حقيقة طرف الليل ، وإن كان من طلوع الشمس إلى غروبها فالصبح كالمغرب طرف مجازي ، وقال مجاهد ، ومحمد بن كعب القرظي : الطرف الأول الصبح ، والثاني الظهر ، والعصر ، واختار ذلك ابن عطية ، وأنت تعلم أن في جعل الظهر من الطرف الثاني خفاء وإنما الظهر نصف النهار والنصف لا يسمى ظرفا إلّا بمجاز بعيد ، والمراد بصلاة الزلف عند الأكثر صلاة المغرب والعشاء.

وروى الحسن في ذلك خبرا مرفوعا ، وعن ابن عباس أنه فسر صلاة الزلف بصلاة العتمة وهي ثلث الليل الأول

٣٤٩

بعد غيبوبة الشفق وقد تطلق على وقت صلاة العشاء الآخرة ، وأغرب من قال : صلاة الطرفين صلاة الظهر والعصر ، وصلاة الزلف صلاة المغرب ، والعشاء ، والصبح ، وقيل : معنى (زُلَفاً) قربا ، وحقه على هذا ـ كما في الكشاف ـ أن يعطف على الصلاة أي أقم الصلاة طرفي النهار وأقم زلفا من الليل أي صلوات تتقرب بها إلى الله عزوجل انتهى ، قيل : والمراد بها على هذا صلاة العشاء والتهجد وقد كان واجبا عليه عليه الصلاة والسلام ، أو العشاء ، والوتر على ما ذهب إليه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه ، أو المجموع كما يقتضيه ظاهر الجمع ، وقد تفسر بصلاة المغرب والعشاء ـ واختاره البعض ـ وقد جاء إطلاق الجمع على الاثنين فلا حاجة إلى التزام أن ذلك باعتبار أن كل ركعة قربة فتحقق قرب فوق الثلاث فيما ذكر.

وقرأ طلحة ، وابن أبي إسحاق ، وأبو جعفر «زلفا» بضم اللام إما على أنه جمع زلفة أيضا ولكن ضمت عينه اتباعا لفائه. أو على أنه اسم مفرد كعنق ، أو جمع زليف بمعنى زلفة كرغيف ورغف ، وقرأ مجاهد ، وابن محيصن بإسكان اللام كبسر بالضم والسكون في بسرة ، وهو على هذا ـ على ما في البحر ـ اسم جنس ، وفي رواية عنهما أنهما قرءا ـ زلفى ـ كحبلى وهو بمعنى زلفة فإن تاء التأنيث وألفه قد يتعاقبان نحو قربى وقربة ، وجوز أن تكون هذه الألف بدلا من التنوين إجراء للوصل مجرى الوقف (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) أي يكفرنها ويذهبن المؤاخذة عليها وإلّا فنفس السيئات أعراض وجدت فانعدمت ، وقيل : يمحينها من صحائف الأعمال ، ويشهد له بعض الآثار ، وقيل : يمنعن من اقترافها كقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥] وهو مع بعده في نفسه مخالف للمأثور عن الصحابة ، والتابعين رضي الله تعالى عنهم فلا ينبغي أن يعول عليه.

والظاهر أن المراد من الحسنات ما يعم الصلوات المفروضة وغيرها من الطاعات المفروضة وغيرها ، وقيل : المراد الفرائض فقط لرواية «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان الى رمضان مكفرات ما بينهن» وفيه أنه قد صح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : «إذا أمّن الإمام فأمّنوا فإن الملائكة تؤمن فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» وفي رواية تفرد بها يحيى بن نصير ـ وهو من الثقات ـ بزيادة «وما تأخر» وصح أن صيام يوم عرفة تكفر السنة الماضية والمستقبلة ، وأخرج أبو داود في السنن بإسناد حسن عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أكل طعاما ثم قال الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن لبس ثوبا وقال : الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في تكفير أفعال ليست بمفروضة ذنوبا كثيرة ، وقيل : المراد بها الصلوات المفروضة لما في بعض طرق خبر سبب النزول من أن أبا اليسر من الأنصار قبل امرأة ثم ندم فأتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره بما فعل فقال عليه الصلاة والسلام : «أنتظر أمر ربي فلما صلى صلاة قال صلى الله تعالى عليه وسلم : نعم اذهب بها فإنها كفارة لما عملت» وروي هذا القول عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن المسيب ، والظاهر أن ذلك منهم اقتصار على بعض مهم من أفراد ذلك العام ، وسبب النزول لا يأبى العموم كما لا يخفى ، وفي رواية عن مجاهد أنها قول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم ، وفيه ما فيه ، والمراد بالسيئات عند الأكثرين الصغائر لأن الكبائر لا يكفرها على ما قالوا : إلّا التوبة ، واستدلوا لذلك بما رواه مسلم من رواية العلاء «الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر» واستشكل بأن الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر بنص (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١] فما الذي تكفره الصلوات الخمس؟ وأجاب البلقيني بأن ذلك غير وارد لأن المراد بالآية أن تجتنبوا في جميع العمر ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت ، والذي في

٣٥٠

الحديث «إن الصلوات تكفر ما بينها» أي في يومها إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم فلا تعارض ، وتعقبه السمهودي بقوله : ولك أن تقول : لا يتحقق اجتناب الكبائر في جميع العمر إلّا مع الإتيان بالصلوات الخمس فيه كل يوم فالتكفير حاصل بما تضمنه الحديث فما فائدة الاجتناب المذكور في الآية ثم قال : ولك أن تجيب بأن ذلك من باب فعل شيئين كل منهما مكفر ، وقد قال بعض العلماء : إنه إذا اجتمعت مكفرات فحكمها أنها إذا ترتبت فالمكفر السابق وإن وقعت معا فالمكفر واحد منها يشاؤه الله تعالى ، وأما البقية فثوابها باق له وذلك الثواب على كل منها يكون بحيث يعدل تكفير الصغائر لو وجدت ، وكذا إذا فعل واحدا من الأمور المكفرة ولم يكن قد ارتكب ذنبا.

وفي شرح مسلم للنووي نحو ذلك غير أنه ذكر أنه لو صادف فعل المكفر كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر ، ويرد على قوله : إن المراد (إِنْ تَجْتَنِبُوا) في جميع العمر منع ظاهر ، والظاهر أن المراد من ذلك أن ثواب اجتناب الكبائر في كل وقت يكفر الصغائر الواقعة فيه ، وفي تفسير القاضي ما يؤيده ، وكذا ما ذكره الإمام حجة الإسلام في الكلام على التوبة من أن حكم الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها وأن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر بموجب قوله سبحانه : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما) إلخ ، ولكن اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة كمن يتمكن من امرأة ومن مواقعتها فكيف نفسه عن الوقوع ويقتصر على النظر واللمس فإن مجاهدته نفسه في الكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره فإن كان عنينا ولم يكن امتناعه إلّا بالضرورة للعجز أو كان قادرا ولكن امتنع لخوف من آخر فهذا لا يصلح للتكفير أصلا فكل من لا يشتهي الخمر بطبعه ولو أبيح له ما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي هي من مقدماته كسماع الملاهي والأوتار وهذا ظاهر يدل عليه أن الحسنات يذهبن السيئات ، ولا شك أن اجتناب الكبائر إذا قارن القصد حسنة وإنما قيدنا بذلك وإن كان الخروج عن عهدة النهي لا يتوقف عليه لأنه لا يثاب على الاجتناب بدون ذلك ، فالأولى في الجواب عن الإشكال أن يقال : «ما اجتنبت الكبائر» في الخبر ليس قيدا لأصل التكفير بل لشمول التكفير سائر الذنوب التي بين الصلوات الخمس فهو بمثابة استثناء الكبائر من الذنوب ، وكأنه قيل : الصلوات الخمس كفارة لجميع الذنوب التي بينها وتكفيرها للجميع في المدة التي اجتنبت فيها الكبائر أو مقيد باجتناب الكبائر وإلّا فليست الصلوات كفارة لجميع الذنوب بل للصغائر فقط ، وهذا وإن كان خلاف الظاهر من عود القيد لأصل التكفير لكن قرينة الآية دعت للعدول عنه إلى ذلك جمعا بين الأدلة ، ولا بدّ في هذا من اعتبار ما قالوا في اجتماع الأمور المكفرة للصغائر ، وذكر الحافظ ابن حجر بعد نقله لكلام البلقيني ما لفظه : وعلى تقدير ورود السؤال فالتخلص عنه سهل وذلك لأنه لا يتم اجتناب الكبائر إلّا بفعل الصلوات الخمس فمن لم يفعلها لم يعد مجتنبا للكبائر لأن تركها من الكبائر فيتوقف التكفير على فعلها انتهى ولا يخلو عن بحث ، وممن صرح بأن ما اجتنبت إلخ بمعنى الاستثناء نقلا عن بعضهم المحب الطبري ، فقد قال في أحكامه : اختلف العلماء في أمر تكفير الصغائر بالعبادات هل هو مشروط باجتناب الكبائر؟ على قولين : أحدهما نعم وهو ظاهر قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «ما اجتنبت الكبائر» فإن ظاهره الشرطية كما يقتضيه «إذا اجتنبت» الآتي في بعض الروايات ، فإذا اجتنبت الكبائر كانت مكفرة لها وإلّا فلا ، وإليه ذهب الجمهور على ما ذكره ابن عطية ، وقال بعضهم : لا يشترط ، والشرط في الحديث بمعنى الاستثناء والتقدير مكفرات لما بينها إلّا الكبائر وهو الأظهر.

هذا وقد ذكر الزركشي أنهم اختلفوا في أن التكفير هل يشترط فيه التوبة أم لا؟ فذهب إلى الاشتراط طائفة وإلى عدمه أخرى ، وفي البحر أن الاشتراط نص حذاق الأصوليين ، ولعل الخلاف مبني على الخلاف في اشتراط الاجتناب وعدمه فمن جعل اجتناب الكبائر شرطا في تكفير الصغائر لم يشترط التوبة وجعل هذه خصوصية لمجتنب الكبائر ولم

٣٥١

يشترطه إلّا من اشترطها ، ويدل عليه خبر أبي اليسر فإن الروايات متضافرة على أنه جاء نادما والندم توبة ، وأن إخباره صلى الله تعالى عليه وسلم له بأن صلاة العصر كفرت عنه ما فعل إنما وقع بعد ندمه لكن ظاهر إطلاق الحديث يقتضي أن التكفير كان بنفس الصلاة فإن التوبة بمجردها تجب ما قبلها فلو اشترطناها مع العبادات لم تكن العبادات مكفرة ، وقد ثبت أنها مكفرات فيسقط اعتبار التوبة معها انتهى ملخصا مع زيادة ، ولا يخفى أن هذا يحتاج إلى التزام القول بأن ندم أبي اليسر لم يكن توبة صحيحة وإلّا لكان التكفير به لأنه السابق ، وبعض التزم القول بكونه توبة صحيحة إلّا أنه توبة لم تقبل ولم تكفر الذنب ، وأنت تعلم أن في عدم تكفير التوبة الذنب مقالا ، والمنقول عن السبكي أنه قال : إن قبول التوبة عن الكفر مقطوع به تفضلا ، وفي القطع بقبول توبة العاصي قولان لأهل السنة ، والمختار عند إمام الحرمين أن تكفير التوبة للذنب مظنون ، وادعى النووي أنه الأصح ، وفي شرح البرهان : الصحيح عندنا القطع بالتكفير ، وقال الحليمي : لا يجب على الله تعالى قبول التوبة لكنه لما أخبر عن نفسه أنه يقبل التوبة عن عباده ولم يجز أن يخلف وعده علمنا أنه سبحانه وتعالى لا يرد التوبة الصحيحة فضلا منه تعالى ، ومثل هذا الخلاف في التكفير باجتناب الكبائر ونحوه هل هو قطعي أو ظني ، وفي كلام العلامة نجم الدين النسفي ، وصدر الشريعة ، وغيرهما أن العقاب على الصغائر جائز الوقوع سواء اجتنبت مرتكبها الكبائر أم لا لدخولها تحت قوله تعالى : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) [آل عمران : ١٢٩ ، المائدة : ١٨] ولقوله تعالى : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩] والإحصاء إنما يكون للسؤال والمجازاة إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث ، وخالفت المعتزلة في ذلك فلم يجيزوا وقوع التعذيب إذا اجتنبت الكبائر واستدلوا بآية (إِنْ تَجْتَنِبُوا) إلخ ، ويجاب بأن المراد بالكبائر الكفر والجمع لتعدد أنواعه أو تعدد من اتصف به ، ومعنى الآية إن تجتنبوا الكفر نجعلكم صالحين لتكفير سيئاتكم ، ولا يخفى ما في استدلالهم من الوهن ، وجوابهم عن استدلال المعتزلة لعمري أوهن منه.

وذهب صاحب الذخائر إلى أن من الحسنات ما يكفر الصغائر والكبائر إذ قد صح في عدة أخبار من فعل كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وفي بعضها خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، ومتى حملت الحسنات في الآية على الاستغراق فالمناسب حمل السيئات عليه أيضا ، والتخصيص خلاف الظاهر وفضل الله تعالى واسع ، وإلى هذا مال ابن المنذر ، وحكاه ابن عبد البر عن بعض المعاصرين له وعني به فيما قيل : أبا محمد المحدث لكن ردّ عليه ، فقال بعضهم. يقول : إن الكبائر والصغائر تكفرها الطهارة والصلاة لظاهر الأحاديث وهو جهل بين وموافقة للمرجئة في قولهم ، ولو كان كما زعم لم يكن للأمر بالتوبة معنى ، وقد أجمع المسلمون على أنها فرض ، وقد صح أيضا من حديث أبي هريرة «الصلوات كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر» انتهى.

وفيه أن دعوى أن ذلك جهل لا يخلو عن الإفراط إذ الفرق بين القول بعموم التكفير ومذهب المرجئة في غاية الوضوح ، ولو صح أن ذلك ذهاب إلى قولهم للزمه مثله بالنسبة إلى التوبة فإنه يسلم أنها تكفر الصغائر والكبائر وهي من جملة أعمال العبد فكما جاز أن يجعل الله سبحانه هذا العمل سببا لتكفير الجميع يجوز أن يجعل غيره من الأعمال كذلك ، وقوله : ولو كان كما زعم إلخ مردود لأنه لا يلزم من تكفير الذنوب الحاصلة عدم الأمر بالتوبة وكونها فرضا إذ تركها من الذنوب المتجددة التي لا يشملها التكفير السابق بفعل الوضوء مثلا ألا ترى أن التوبة من الصغائر واجبة على ما نقل عن الأشعري ، وحكى إمام الحرمين وتلميذه الأنصاري الإجماع عليه ومع ذلك فجميع الصغائر مكفرة بنص الشارع وإن لم يتب على ما سمعت من الخلاف ، وتحقيق ذلك أن التوبة واجبة في نفسها على الفور ومن أخرها تكرر عصيانه بتكرر الأزمنة كما صرح به الشيخ عز الدين بن عبد السلام ، ولا يلزم من تكفير الله تعالى ذنوب عبده سقوط

٣٥٢

التكليف بالتوبة التي كلف بها تكليفا مستمرا ، وقريب من هذا ارتفاع الإثم عن النائم إذا أخرج الصلاة عن وقتها مع الأمر بقضائها ، وما روي من حديث أبي هريرة إنما ورد في أمر خاص فلا يتعداه إذ الأصل بقاء ما عداه على عمومه وهذا مما لا مجال للقياس فيه حتى يخص بالقياس على ذلك فلا يليق نسبة ذلك القائل إلى الجهل ، والرجاء بالله تعالى شأنه قوي كذا قيل ، وفي المقام بعد أبحاث تركنا ذكرها خوف الإملال فإن أردتها فعليك بالنظر في الكتب المفصلة في علم الحديث.

(ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) أي عظة للمتعظين ، وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بها ، والإشارة إلى ما تقدم من الوصية بالاستقامة والنهي عن الطغيان والركون إلى الذين ظلموا وإقامة الصلوات في تلك الأوقات بتأويل المذكور. وإلى هذا ذهب الزمخشري واستظهر أبو حيان كون ذلك إشارة إلى إقامة الصلاة وأمر التذكير سهل ، وقيل : هي إشارة إلى الإخبار بأن الحسنات يذهبن السيئات ، وقال الطبري : إشارة إلى الأوامر والنواهي في هذه السورة ، وقيل : إلى القرآن ، وبعض من جعل الإشارة إلى الإقامة فسر الذكرى بالتوبة (وَاصْبِرْ) أي على مشاق امتثال ما كلفت به ، في الكشاف أن هذا كرور منه تعالى إلى التذكير بالصبر بعد ما جاء بما هو خاتمة للتذكير لفضل خصوصية ومزية وتنبيه على مكان الصبر ومحله كأنه قال : وعليك بما هو أهم مما ذكرت به وأحق بالتوصية وهو الصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه فلا يتم شيء منه إلّا به انتهى.

ووجه كونه كريرا إلى ما ذكر بأن الأمر بالاستقامة أمر بالثبات قولا وفعلا وعقدا وهو الصبر على طاعة الله تعالى ويتضمن الصبر عن معصيته ضرورة على أن ما ذكره سبحانه كله لا يتم إلّا بالصبر ففي ضمن الأمر به أمر بالصبر ، واعترض اعتبار الانتهاء عما نهى عنه من متعلقات الصبر إذ لا مشقة في ذلك ، واعتذر عن ذلك بأنه يمكن أن يراد بما نهى عنه من الطغيان والركون ما لا يمكن عادة خلو البشر عنه من أدنى ميل بحكم الطبيعة من الاستقامة المأمور بها ومن يسير ميل بحكم البشرية إلى من وجد منه ظلم فإن في الاحتراز عن أمثاله من المشقة ما لا يخفى ، وتعقب بأن ما هو من توابع الطبيعة لا يكون من متعلقات النهي ، ولهذا ذكروا أن حب المسلم لولده الكافر مثلا لا إثم فيه ، فالأولى أن يقال : إن وجود المشقة في امتثال مجموع ما كلف به يكفي في الغرض ، وقيل : المراد من الصبر المأمور به المداومة على الصلاة كأنه قيل : أقم الصلاة أي أدّها تامة ودوام عليها نظير قوله تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه : ١٣٢] (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي يوفيهم ثواب أعمالهم من غير بخس أصلا ، وعبر عن ذلك بنفي الإضاعة بيانا لكمال نزاهته تعالى عن حرمانهم شيئا من ثوابهم ، وعدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود مع إفادة فائدة عامة لكل من يتصف بذلك وهو تعليل للأمر بالصبر ، وفيه إيماء إلى أن الصبر على ما ذكر من باب الإحسان ، وعن مقاتل أنه فسر الإحسان هنا بالإخلاص.

وعن ابن عباس أنه قال : المحسنون المصلون وكأنه نظر إلى سياق الكلام ، هذا ومن البلاغة القرآنية أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كانت عامة في المعنى ، والمناهي جمعت للأمة ، وما أعظم شأن الرسول عليه الصلاة والسلام عند ربه جلّ وعلا (فَلَوْ لا كانَ) تحضيض فيه معنى التفجع مجازا أي فهلا كان (مِنَ الْقُرُونِ) أي الأقوام المقترنة في زمان واحد (مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ) أي ذوو خصلة باقية من الرأي والعقل أو ذوو فضل على أن يكون ـ البقية ـ اسما للفضل والهاء للنقل ، وأطلق عليه ذلك على سبيل الاستعارة من البقية التي يصطفيها المرء لنفسه ويدخرها مما ينفعه ، ومن هنا يقال : فلان من بقية القوم أي من خيارهم ، وبذلك فسر بيت الحماسة :

٣٥٣

إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم

فما علي بذنب عندكم فوت

ومنه قولهم : في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا ، وجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء لأنفسهم وصيانة لها عما يوجب سخط الله تعالى وعقابه ، والظاهر أنها على هذا مصدر ، وقيل : اسم مصدر ، ويؤيد المصدرية أنه قرئ «بقية» بزنة المرة وهو مصدر بقاه يبقيه كرماه يرميه بمعنى انتظره وراقبه. وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال : «بقينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد تأخر عن صلاة العشاء حتى ظن الظان أنه ليس بخارج» الخبرأراد معاذ انتظرناه ، وأما الذي من البقاء ضد الفناء ففعله بقي يبقى كرضي يرضى ، والمعنى على هذه القراءة فهلا كان منهم ذوو مراقبة لخشية الله تعالى وانتقامه ، وقرئ «بقية» بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي نحو شجيت فهي شجية».

وقرأ أبو جعفر وشيبة «بقية» بضم الباء وسكون القاف (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) الواقع فيما بينهم حسبما ذكر في قصصهم ، وفسر الفساد في البحر بالكفر وما اقترن به من المعاصي (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) استثناء منقطع أي ولكن قليلا منهم أنجيناهم لكونهم كانوا ينهون ، وقيل أي : ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي ، و (مِنَ) الأولى بيانية لا تبعيضية لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم بدليل قوله سبحانه : (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأعراف : ١٦٥] وإلى ذلك ذهب الزمخشري ، ومنع اتصال الاستثناء على ما عليه ظاهر الكلام لاستلزامه فساد المعنى لأنه يكون تحضيضا ـ لأولي البقية ـ على النهي عن الفساد إلّا للقليل من الناجين منهم ، ثم قال : وإن قلت : في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل : ما كان من القرون أولو بقية إلّا قليلا كان استثناء متصلا ومعنى صحيحا وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل ، والحاصل أن في الكلام اعتبارين : التحضيض والنفي ، فإن اعتبر التحضيض لا يكون الاستثناء متصلا لأن المتصل يسلب ما للمستثنى منه عن المستثنى أو يثبت له ما ليس له ، والتحضيض معناه لم ما نهوا ، ولا يجوز أن يقال : إلّا قليلا فإنهم لا يقال لهم : لم ما نهوا لفساد المعنى لأن القليل ناهون وإن اعتبر النفي كان متصلا لأنه يفيد أن القليل الناجين ناهون ، وأورد على ذلك القطب أن صحة السلب أو الإثبات بحسب اللفظ لازم في الخبر وأما في الطلب فيكون بحسب المعنى فإنك إذا قلت : اضرب القوم إلّا زيدا فليس المعنى على أنه ليس اضرب بل على أن القوم مأمور بضربهم إلّا زيدا فإنه غير مأمور به فكذا هنا يجوز أن يقال : (أُولُوا بَقِيَّةٍ) محضوضون على النهي (إِلَّا قَلِيلاً) فإنهم ليسوا محضوضين عليه لأنهم نهوا فالاستثناء متصل قطعا كما ذهب إليه بعض السلف ، وقد يدفع ما أورده بأن مقتضى الاستثناء أنهم غير محضوضين ، وذلك إما لكونهم نهوا أو لكونهم لا يحضون عليه لعدم توقعه منهم ، فإما أن يكون قد جعل احتمال الفساد إفسادا أو ادّعى أنه هو المفهوم من السياق ، ثم إن المدقق صاحب الكشف قال : إن ظاهر تقرير كلام الزمخشري يشعر بأن (يَنْهَوْنَ) خبر (كانَ) جعل (مِنَ الْقُرُونِ) خبرا آخر أو حالا قدمت لأن تحضيض ـ أولي البقية ـ على النهي على ذلك التقدير حتى لو جعل صفة ، و (مِنَ الْقُرُونِ) خبرا كان المعنى تنديم أهل القرون على أن لم يكن فيهم أولو بقية ناهون وإذا جعل خبرا لا يكون معنى الاستثناء ما كان من القرون أولو بقية إلّا قليلا بل كان ما كان منهم أولو بقية ناهين إلّا قليلا فإنهم نهوا وهو فاسد ، والانقطاع على ما آثره الزمخشري أيضا يفسد لما يلزم منه أن يكون أولو بقية غير ناهين لأن في التحضيض والتنديم دلالة على نفيه عنهم ، فالوجه أن يؤوّل بأن المقصود من ذكر الاسم الخبر وهو كالتمهيد له كأنه قيل : فلولا كان من القرون من قبلكم ناهون إلّا قليلا ، وفي كلامه إشارة إلى أنه لا يختلف نفي الناهي ، وأولو البقية ، وإنما عدل إلى المنزل مبالغة لأن أصحاب

٣٥٤

فضلهم وبقاياهم إذا حضضوا على النهي وندموا على الترك فهم أولى بالتحضيض والتنديم ، وفيه مع ذلك الدلالة على خلوهم عن الاسم لخلوهم عن الخبر لأن ذا البقية لا يكون إلّا ناهيا فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وهو من باب ولا ترى الضب بها ينجحر وقولك : ما كان شجعانهم يحمون عن الحقائق في معرض الذم تريد أن لا شجاع ولا حماية لكن بالغت في الذم حتى خيلت أنه لو كان لهم شجاع كان كالعدم فهذا هو الوجه الكريم والمطابق لبلاغة القرآن العظيم انتهى ، وهو تحقيق دقيق أنيق.

وادعى بعضهم أن الظاهر أن (كانَ) تامة ، و (أُولُوا بَقِيَّةٍ) فاعلها ، وجملة (يَنْهَوْنَ) صفته ، و (مِنَ الْقُرُونِ) حال متقدمة عليه ، و (مِنَ) تبعيضية ، و (مِنْ قَبْلِكُمْ) حال من (الْقُرُونِ) ، ويجوز أن يكون صفة لها أي الكائنة بناء على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته ، واعترض بأنه يلزم منه كون التحضيض على وجود أولئك فيهم وكذا يلزم كون المنفي ذلك وليس بذاك بل المدار على النهي تحضيضا ونفيا ، والتزام توجه الأمرين إليه لكون الصفة قيدا في الكلام ؛ والاستعمال الشائع توجه نحو ما ذكر إلى القيد كما قيل زيادة نغمة في الطنبور من غير طرب ، ومثله يعد من النصب (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم تاركو النهي عن الفساد.

(ما أُتْرِفُوا فِيهِ) ما أنعموا فيه من الثروة والعيش الهنيء والشهوات الدنيوية ، وأصل الترف التوسع في النعمة.

وعن الفراء معنى أترف عود الترفة وهي النعمة ، وقيل : (أُتْرِفُوا) أي طغوا من أترفته النعم إذا أطغته ـ ففي ـ إما سببية أو ظرفية مجازية ، وتعقب بأن هذا المعنى خلاف المشهور وإن صح هنا ؛ ومعنى اتباع ذلك الاهتمام به وترك غيره أي اهتموا بذلك (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) أي مرتكبي جرائم غير ذلك ، أو كافرين متصفين بما هو أعظم الإجرام ، ولكل من التفسيرين ذهب بعض ، وحمل بعضهم (الَّذِينَ ظَلَمُوا) على ما يعم تاركي النهي عن الفساد والمباشرين له ، ثم قال : وأنت خبير بأنه يلزم من التحضيض بالأولين عدم دخول مباشري الفساد في الظلم والإجرام عبارة ، ولعل الأمر في ذلك هين فلا تغفل ، والجملة عند أبي حيان مستأنفة للإخبار عن حال هؤلاء (الَّذِينَ ظَلَمُوا) وبيان أنهم مع كونهم تاركي النهي عن الفساد كانوا ذوي جرائم غير ذلك.

وجوز بعض المحققين أن تكون عطفا على مقدر دلّ عليه الكلام أي لم ينهوا (وَاتَّبَعَ) إلخ.

وقيل : التقدير إلّا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ) إلخ ، وأن تكون استئنافا يترتب على قوله سبحانه : (إِلَّا قَلِيلاً) أي إلّا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) من مباشري الفساد وتاركي النهي عنه ، وجعل الإظهار على هذا مقتضى الظاهر ، وعلى الأول لإدراج المباشرين مع التاركين في الحكم والتسجيل عليهم بالظلم وللإشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب.

وفي الكشاف ما يقضي ظاهره بأن العطف على نهوا الواقع خبر لكن فيلزم أن يكون المعطوف خبرا أيضا مع خلوه عن الرابط ، وأجيب تارة بأنه في تأويل سائرهم أو مقابلوهم وأخرى بأن نهوا جملة مستأنفة استؤنفت بعد اعتبار الخبر فعطف عليها ، وفي ذلك ما فيه ، وقوله تعالى : (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) عطف على (اتَّبَعَ الَّذِينَ) إلخ مع المغايرة بينهما ، وجوز أن يكون العطف تفسيريا على معنى (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) بذلك الاتباع ، وفيه بعد ، وأن يكون على (أُتْرِفُوا) على معنى اتبعوا الأتراف وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام ، أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر ، وتعقبه صاحب التقريب بقوله : وفيه نظر لأن ما في (ما أُتْرِفُوا) موصولة لا مصدرية لعود الضمير من (فِيهِ) إليه ، فكيف يقدر (كانُوا) مصدرا إلّا أن يقال : يرجع الضمير إلى الظلم بدلالة (ظَلَمُوا) فتكون (ما) مصدرية وأن تكون الجملة اعتراضا بناء على أنه قد يكون في آخر الكلام عند أهل المعاني.

٣٥٥

وقرأ أبو جعفر والعلاء بن سيابة وأبو عمرو وفي رواية الجعفي «وأتبع» بضم الهمزة المقطوعة وسكون التاء وكسر الباء على البناء للمفعول من الاتباع ، وقيل : ولا بد حينئذ من تقدير مضاف أي اتبعوا جزاء ما أترفوا و (ما) إما مصدرية أو موصولة والواو للحال ، وجعلها بعضهم للعطف على لم ينهوا المقدر ، والمعنى على الأول (إِلَّا قَلِيلاً) نجيناهم وقد هلك سائرهم ، وأما قوله سبحانه : (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) فقد قالوا : إنه لا يحسن جعله قيدا للإنجاء إلا من حيث إنه يجري مجرى العلة لإهلاك السائرين فيكون اعتراضا ، أو حالا من (الَّذِينَ ظَلَمُوا) والحال الأول من مفعول (أَنْجَيْنا) المقدر ، وجوز أن يفسر بذلك القراءة المشهورة ، وتقدم الإنجاء للناهين يناسب أن يبين هلاك الذين لم ينهوا ، والواو للحال أيضا في القول الشائع كأنه قيل : (أَنْجَيْنا) القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم فهلكوا ، وإذا فسرت المشهورة بذلك فقيل : فاعل ـ اتبع ما أترفوا ـ أو الكلام على القلب فتدبر (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى) أي ما صح وما استقام بل استحال في الحكمة أن يهلك القرى التي أهلكها وبلغتك أنباؤها أو ما يعمها وغيرها من القرى الظالم أهلها ، واللام في مثل ذلك زائدة لتأكيد النفي عند الكوفية ، وعند البصرية متعلقة بمحذوف توجه إليه النفي ، وقوله سبحانه : (بِظُلْمٍ) أي ملتبسا به قيل : هو حال من الفاعل أي ظالما لها والتنكير للتفخيم والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم ، والمراد تنزيه الله تعالى عن ذلك على أبلغ وجه وإلّا فلا ظلم منه تعالى فيما يفعله بعباده كائنا ما كان لما علم من قاعدة أهل السنة ، وقوله جلّ وعلا : (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) حال من المفعول والعامل فيه عامله ، ولكن لا باعتبار تقييده بالحال السابقة لدلالته على تقييد نفي الإهلاك ظلما بحال كون أهلها مصلحين ، وفيه من الفساد على ما قيل ما فيه بل مطلقا عن ذلك ، وهذا ما اختاره ابن عطية ، ونقل الطبري أن المراد بالظلم الشرك والباء للسببية أي لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها وهم مصلحون في أعمالهم يتعاطون الحق فيما بينهم بل لا بد في إهلاكهم من أن يضموا إلى شركهم فسادا وتباغيا وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه سبحانه ، ومن ذلك قدم الفقهاء ـ عند تزاحم الحقوق ـ حقوق العباد في الجملة ما لم يمنع منه مانع.

قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، وكأنه ذهب قائله إلى ما قيل : الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم والجور ، ولعل وجه ضعفه ما ذكره بعض المحققين من أن مقام النهي عن المنكرات التي أقبحها الإشراك بالله تعالى لا يلائمه فإن الشرك داخل في الفساد في الأرض دخولا أوليا ولذلك كان ينهى كل من الرسل عليهم‌السلام أمته عنه ثم عن سائر المعاصي ، فالوجه كما قال : حمل الظلم على مطلق الفساد الشامل لسائر القبائح والآثام وحمل الإصلاح على إصلاحه ، والإقلاع عنه بكون البعض متصديا للنهي ، والبعض الآخر متوجها إلى الاتعاظ غير مصر على ما هو عليه من الشرك وغيره من أنواع الفساد انتهى ، لكن أخرج الطبراني ، وابن مردويه وأبو الشيخ والديلمي عن جرير قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل عن تفسير هذه الآية (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) فقال عليه الصلاة والسلام : وأهلها ينصف بعضهم بعضا» وأخرجه ابن أبي حاتم. والخرائطي في مساوئ الأخلاق عن جرير موقوفا ، وهو ظاهر في المعنى الذي نقله الطبري ، ولعله لم يثبت عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإلّا فالأمر مشكل ، وجعل التصدي للنهي من بعض والاتعاظ من بعض آخر من إنصاف البعض البعض كما ترى فافهم (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) مجتمعين على الدين الحق بحيث لا يقع من أحد منهم كفر لكنه لم يشأ سبحانه ذلك فلم يكونوا مجتمعين على الدين الحق ، ونظير ذلك قوله سبحانه : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) [السجدة : ١٣] وروي هذا عن ابن عباس وقتادة وروي عن الضحاك أن المراد لو شاء لجمعهم على هدى أو ضلالة (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل.

أخرج ذلك ابن أبي حاتم عن ابن عباس ، ولعل المراد الاختلاف في الحق والباطل من العقائد التي هي أصول

٣٥٦

الدين بقرينة المقام ، وقيل : المراد ما يشمل الاختلاف في العقائد والفروع وغيرهما من أمور الدين لعدم ما يدل على الخصوص في النظم فالاستثناء في قوله سبحانه : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) متصل على الأول وهو الذي اختاره أبو حيان وجماعة وعلى الثاني منقطع حيث لم يخرج من رحمة الله تعالى من المختلفين كأئمة أهل الحق فإنهم أيضا مختلفون فيما سوى أصول الدين من الفروع ، وإلى هذا ذهب الحوفي ومن تبعه.

(وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي الناس ، والإشارة ـ كما روي عن الحسن ، وعطاء ـ إلى المصدر المفهوم من (مُخْتَلِفِينَ) ونظيره إذا نهي السفيه جرى إليه كأنه قيل : وللاختلاف خلق الناس على معنى لثمرة الاختلاف من كون (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٧] خلقهم ، واللام لام العاقبة والصيرورة لأن حكمة خلقهم ليس هذا لقوله سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم على ارتكاب الباطل كذا قال غير واحد ، وروي عن الإمام مالك ما يقتضيه ، وعندي أنه لا ضير في الحمل على الظاهر ولا منافاة بين هذه الآية والآية التي ذكروها لما ستعلمه إن شاء تعالى من تفسيرها في الذاريات ، وما يروى فيها من الآثار وأن الخلق من توابع الإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم في نفسه والتعذيب أو الإثابة ليس إلّا لأمر أفيض على المعذب والمثاب بحسب الاستعداد الأصلي ، وربما يرجع هذا بالآخرة إلى أن التعذيب والإثابة من توابع ذلك الاستعداد الذي عليه المعذب أو المثاب في نفسه ، ومن هنا قالوا : إن المعصية والطاعة أمارتان على الشقاوة والسعادة لا مقتضيتان لهما ، وبذلك يندفع قولهم : ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم ، ولما قرّرناه شواهد كثيرة من الكتاب والسنة لا تخفى على المستعدين لإدراك الحقائق ، وقيل ضمير : (خَلَقَهُمْ) لمن باعتبار معناه ، والإشارة للرحمة المفهومة من (رَحِمَ) ، والتذكير لتأويلها بأن والفعل أو لكونها بمعنى الخير ، وروي ذلك عن مجاهد وقتادة وروي عن ابن عباس أن الضمير للناس والإشارة للرحمة والاختلاف أي لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم (خَلَقَهُمْ) ، وجاءت الإشارة لاثنين كما في قوله تعالى : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨] واللام على هذا قيل : بمعنى مجازي عام للمعنى الظاهر والصيرورة وعلى ما قبله معناها ، وأظهر الأقوال في الإشارة والضمير ما قدمناه ، والقولان الآخران دونه ، وأما القول بأن الإشارة لما بعد ، وفي الكلام تقديم وتأخير أي ـ وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم إلخ أي لملء جهنم خلقهم ـ فبعيد جدا من تراكيب كلام العرب ومن هذا الطرز ما قيل : إن ذلك إشارة إلى شهود ذلك اليوم المشهود وكذا ما قيل : إنه إشارة إلى قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود : ١٠٥] أو إلى الشقاوة والسعادة المفهومتين من ذلك ، أو إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير ، أو إلى النهي المفهوم من قوله سبحانه : (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) ، أو إلى الجنة والنار أو إلى العبادة إلى غير ذلك من الأقوال التي يتعجب منها.

وذهب بعض المحققين في معنى الآية إلى أن المراد من الوحدة الوحدة في الدين الحق ، ومن الاختلاف الاختلاف فيه على معنى المخالفة له كما في قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) [البقرة : ٢١٣] والمراد ـ بمن رحم ـ الذين هداهم الله تعالى ولم يخالفوا الحق ، والإشارة للاختلاف بمعنى المخالفة ، وضمير (خَلَقَهُمْ) للذين بقوا بعد الثنيا وهم المختلفون المخالفون ، واللام للعاقبة كأنه قيل : ولو شاء ربك لجعل الناس على الحق ودين الإسلام لكنه لم يشأ فلم يجعل ، ولا يزالون مخالفين للحق إلّا قوما هداهم سبحانه بفضله فلم يخالفوا الحق ، ولما ذكر من الاختلاف خلق المختلفين المخالفين ولا يخفى ما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر وإن أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد ما يقتضي بعضه.

ومن الغريب ما روي عن الحسن أن المراد من الاختلاف الاختلاف في الأرزاق والأحوال وتسخير بعضهم بعضا ، وقال ابن بحر : المراد أن بعضهم يخلف بعضا فيكون الآتي خلفا للماضي ، ومنه ما اختلف الجديدان أي ما

٣٥٧

خلف أحدهما صاحبه ، وإلى هذا ذهب أبو مسلم إلّا أنه قال : يخلف بعضهم بعضا في الكفر تقليدا ، وفي ذلك ما فيه ، وأيا ما كان فالظاهر من الناس العموم وليتأمل هذه الآية مع قوله تعالى : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) [هود : ١٩] وليراجع تفسير ذلك.

وقال الفاضل الجلبي : ليس في هذه الآية ما يدل على عموم الناس حتى تخالف (وَما كانَ النَّاسُ) إلخ ، وفيه نظر ، والجار والمجرور أعني لذلك متعلق ـ بخلق ـ بعده ، والظاهر أن الحصر المستفاد من التقديم إذا قلنا : إن التقديم له إضافي والمضاف هو إليه مختلف حسب اختلاف الأقوال في تعيين المشار إليه ، وهو على الأول الاتفاق وعلى ما عداه يظهر أيضا بأدنى التفات ، هذا واستدل بالآية على أن الأمر غير الإرادة وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل وإن ما أراده سبحانه يجب وقوعه.

وذكر بعض العارفين أن منشأ تشييب سورة هود له الله صلى تعالى عليه وسلم اشتمالها على أمره عليه الصلاة والسلام بالاستقامة على الدعوة مع إخباره أنه سبحانه إنما خلق الناس للاختلاف وأنه لا يشاء اجتماعهم على الدين الحق وهو كما ترى (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي نفذ قضاؤه وحق أمره ، وقد تفسر الكلمة بالوعيد مجازا ، وقد يراد منها الكلام الملقى على الملائكة عليهم‌السلام ؛ والأول أولى ، والجملة متضمنة معنى القسم ، ولذا جيء باللام في قوله سبحانه : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) والجنة والجن بمعنى واحد ، وفي تفسير ابن عطية أن الهاء في الجنة للمبالغة وإن كان الجن يقع على الواحد ، فالجنة جمعه انتهى ، فيكون من الجموع التي يفرق بينها وبين مفردها بالهاء ككمء وكمأة على ما ذكرناه في تعليقاتنا على الألفية ، وفي الآية سؤال مشهور وهو أنها تقتضي بظاهرها دخول جميع الفريقين في جهنم والمعلوم من الآيات والأخبار خلافه ، وأجاب عن ذلك القاضي بما حاصله أن المراد ـ بالجنة والناس ـ إما عصاتهما على أن التعريف للعهد والقرينة عقلية لما علم من الشرع أن العذاب مخصوص بهم وأن الوعيد ليس إلّا لهم ، وفي معنى ذلك ما قيل : المراد ـ بالجنة والناس ـ أتباع إبليس لقوله سبحانه في [الأعراف : ١٨] و [ص : ٨٥] (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) فاللازم دخول جميع تابعيه في جهنم ولا محذور فيه ، والقرآن يفسر بعضه بعضا ، ولا حاجة الى تقدير عصاة مضافا الى الفريقين كما قيل فأجمعين لاستغراق الأفراد المرادة حسبما علمت وأما ما يتبادر منهما ويراد من التأكيد بيان أن ملء جهنم من الصنفين لا من أحدهما فقط وهذا لا يقتضي شمول أفراد كلا الفريقين ويكون الداخلوها منهما مسكوتا عنه موكولا إلى شيء آخر ، واعترض الأخير بأنه مبني على وقوع (أَجْمَعِينَ) تأكيدا للمثنى وهو خلاف ما صرحوا به ، وفيه أن ذلك إذا كان لمثنى حقيقي لا إذا كان كل فرد منه جمعا فإنه حينئذ تأكيد للجمع في الحقيقة فلا ورود لما ذكر.

نعم يرد على الشق الأول أن التأكيد يقتضي دخول جميع العصاة في النار والمعلوم من النصوص خلافه اللهم إلّا أن يقال : المراد العصاة الذين قدر الله تعالى أن يدخلوها ، وأجاب بعضهم بأن ذلك لا يقتضي دخول الكل بل قدر ما يملأ جهنم كما إذا قيل : ملأت الكيس من الدراهم لا يقتضي دخول جميع الدراهم في الكيس ، ورده الجلال الدواني بأنه نظير أن يقال : ملأت الكيس من جميع الدراهم وهو بظاهره يقتضي دخول جميع الدراهم فيه ، والسؤال عليه كما في الآية باق بحاله ، ثم قال : والحق في الجواب أن يقال : المراد بلفظ (أَجْمَعِينَ) تعميم الأصناف ، وذلك لا يقتضي دخول جميع الأفراد كما إذا قلت : ملأت الجراب من جميع أصناف الطعام لا يقتضي ذلك إلّا أن يكون فيه شيء من كل صنف من الأصناف لا أن يكون فيه جميع أفراد الطعام ، وكقولك : امتلأ المجلس من جميع أصناف الناس فإنه لا يقتضي أن يكون في المجلس جميع أفراد الناس بل أن يكون فيه من كل صنف فرد وهو ظاهر ، وعلى هذا يظهر فائدة لفظ (أَجْمَعِينَ) إذ فيه رد على اليهود وغيرهم ممن زعم أنهم لا يدخلون النار انتهى ، وتعقبه ابن الصدر بقوله : فيه

٣٥٨

بحث لأنهم صرحوا بأن فائدة التأكيد بكل وأجمعين ـ دفع توهم عدم الشمول والإحاطة بجميع الأفراد ، وما ذكره من المثالين فإنما نشأ شمول الأصناف فيه من إضافة لفظ الجميع إلى الأصناف كيف ولو قيل : ملأت الجراب من جميع الطعام بإسقاط لفظ الأصناف كان الكلام فيه كالكلام فيما نحن فيه ، وأيضا ما ذكره من أن في ذلك ردا على اليهود إلخ غير صحيح لأن اليهود قالوا (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] فكيف يزعمون أنهم لا يدخلونها أصلا فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك.

وأجاب بعضهم بمنزع صوفي وهو أن المراد من الجنة والنار الذين بقوا في مرتبة الجنية والإنسية حيث انغمسوا في ظلمات الطبيعة وانتكبوا في مقر الأجرام العنصرية ولم يرفعوا إلى العالم الأعلى واطمأنوا بالحياة الدنيا ورضوا بها وانسلخوا عن عالم المجردات وهم المشركون الذين قيل في حقهم : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [التوبة : ٢٨] إلخ فإنهم لا يستأهلون دار الله تعالى وقربه ، ثم قال : ولهذا ترى الله تعالى شأنه يذم الإنسان ويدعو عليه في غير ما موضع (وَكُلًّا) أي وكل نبأ فالتنوين للتعويض عن المضاف إليه المحذوف ، ونصب ـ كل ـ على أنه مفعول به لقوله سبحانه : (نَقُصُّ عَلَيْكَ) أي نخبرك به ، وقوله تعالى : (مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) صفة لذلك المحذوف لا ـ لكلا ـ لأنها لا توصف في الفصيح كما في إيضاح المفصل ، و (مِنْ) تبعيضية ، وقيل : بيانية ، وقوله عزوجل : (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) قيل : عطف بيان ـ لكلا ـ بناء على عدم اشتراط توافق البيان والمبين تعريفا وتنكيرا ، المعنى هو ما نثبت إلخ.

وجوز أن يكون بدلا منه بدل كل أو بعض ، وفائدة ذلك التنبيه على أن المقصود من الاقتصاص زيادة يقينه صلى الله تعالى عليه وسلم وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة واحتمال أذى الكفار ، وجوز أيضا أن يكون مفعول (نَقُصُ وَكُلًّا) حينئذ منصوب إما على المصدرية أي كل نوع من أنواع الاقتصاص (نَقُصُ عَلَيْكَ) الذي (نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) من أنباء الرسل ، وإما على الحالية من (ما) أو من الضمير المجرور في (بِهِ) على مذهب من يرى جواز تقديم حال المجرور بالحرف عليه ، وهو حينئذ نكرة بمعنى جميعا أي نقص عليك من أنباء الرسل الأشياء التي نثبت بها فؤادك جميعا.

واستظهر أبو حيان كون (كُلًّا) مفعولا به لنقص ، و (مِنْ أَنْباءِ) في موضع الصفة له وهو مضاف في التقدير إلى نكرة ، و (ما) صلة كما هي في قوله تعالى : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) [الأعراف : ٣] ولا يخفي ما فيه.

(وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ) أي الأمر الثابت المطابق للواقع ، والإشارة بهذه إلى السورة كما جاء ذلك من عدة طرق عن ابن عباس وأبي موسى الأشعري وقتادة وابن جبير.

وقيل : الإشارة إليها مع نظائرها وليس بذاك ككونها إشارة إلى دار الدنيا ، وإن جاء في رواية عن الحسن ، وقيل : إلى الأنباء المقتصة وهو مما لا بأس به (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) عطف على (الْحَقُ) أي جاءك الجامع المتصف حقا في نفسه وكونه موعظة وذكرى للمؤمنين ، ولعل تحلية الوصف الأول باللام دون الأخيرين لما قيل : من أن الأول حال للشيء في نفسه والأخيران وصفان له بالقياس إلى غيره.

وقال الشهاب : الظاهر أن يقال إنما عرف الأول لأن المراد منه ما يختص بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم من إرشاده الى الدعوة وتسليته بما هو معروف معهود عنده ، وأما الموعظة والتذكير فأمر عام لم ينظر فيه لخصوصية ، ففرق بين الوصفين للفرق بين الموصوفين ، وفي التخصيص بهذه السورة ما يشهد له لأن مبناها على إرشاده صلى الله تعالى عليه وسلم على ما سمعت عن صاحب الكشف ، وتقديم الظرف على الفاعل ليتمكن المؤخر عنه وروده أفضل تمكن ولأن في المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم.

٣٥٩

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي جهتكم وحالكم التي أنتم عليها (إِنَّا عامِلُونَ) على جهتنا وحالنا التي نحن عليها (وَانْتَظِرُوا) بنا الدوائر (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أن ينزل بكم نحو ما نزل بأمثالكم من الكفرة ، وصيغة الأمر في الموضعين للتهديد والوعيد ، والآيتان محكمتان.

وقيل : المراد الموادعة فهما منسوختان (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أنه سبحانه يعلم كل ما غاب في السماوات والأرض ولا يعلم ذلك أحد سواه جلّ وعلا (وَإِلَيْهِ) لا إلى غيره عزّ شأنه (يُرْجَعُ الْأَمْرُ) أي الشأن (كُلُّهُ) فيرجع لا محالة أمرك وأمرهم إليه ، وقرأ أكثر السبعة «يرجع» بالبناء للفاعل من رجع رجوعا (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) فإنه سبحانه كافيك ، والفاء لترتيب الأمر بالعبادة والتوكل على كون مرجع الأمور كلها إليه ، وقيل : على ذلك ، وكونه تعالى عالما بكل غيب أيضا ، وفي تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة تنبيه على أن التوكل لا ينفع دونها وذلك لأن تقدمه في الذكر يشعر بتقدمه في الرتبة أو الوقوع.

وقيل : التقديم والتأخير لأن المراد من العبادة امتثال سائر الأوامر من الإرشاد والتبليغ وغير ذلك ؛ ومن التوكل التوكل فيه كأنه قيل : امتثل ما أمرت به وداوم على الدعوة والتبليغ وتوكل عليه في ذلك ولا تبال بالذين لا يؤمنون ولا يضق صدرك منهم (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بتاء الخطاب على تغليب المخاطب ، وبذلك قرأ نافع ، وأبو عامر وحفص وقتادة والأعرج وشيبة وأبو جعفر والجحدري أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت وما يعملون هم فيجازي كلا منك ومنهم بموجب الاستحقاق ، وقرأ الباقون من السبعة بالياء على الغيبة وذلك ظاهر ، هذا وفي زوائد الزهد لعبد الله ابن أحمد بن حنبل وفضائل القرآن لابن الضريس عن كعب أن فاتحة التوراة فاتحة الأنعام وخاتمتها حاتمة هود (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى آخر السورة ، والله تعالى أعلم.

ومن باب الإشارة في الآيات (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌ) كامل الشقاوة ومنهم سعيد كامل السعادة (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ) أي نار الحرمان عن المراد وآلام ما اكتسبوه من الآثام وهو عذاب النفس (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) فيخرجون من ذلك إلى ما هو أشد منه من نيران القلب وذلك بالسخط والإذلال ونيران الروح وذلك بالحجب واللعن والقهر (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) لا حجر عليه سبحانه (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ) أي جنة حصول المرادات واللذات وهي جنة النفس (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) فيخرجون من ذلك إلى ما هو أعلى وأعلى من جنات القلب في مقام تجليات الصفات وجنات الروح في مقام الشهود وهناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وقد يحمل التنوين على النوعية ويؤول الاستثناء بخروج الشقي من النار بالترقي من مقامه إلى الجنة بزكاء نفسه عما حال بينه وبينها (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أي في القيام بحقوق الحق والخلق وذلك بالمحافظة على حقوقه تعالى والتعظيم لأمره والتسديد لخلقه مع شهود الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة من غير إخلال ما بشرط من شرائط التعظيم (وَمَنْ تابَ) عن إنيته وذنب وجوده معك من المؤمنين الموحدين إلى مقام البقاء بعد الفناء ، وقيل : إن الاستقامة المأمور بها صلى الله تعالى عليه وسلم فوق الاستقامة المأمور بها من معه عليه الصلاة والسلام والعطف لا يقتضي أكثر من المشاركة في مطلق الفعل كما يرشد إليه قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) على قول ، ومن هنا قال الجنيد قدس‌سره : الاستقامة مع الخوف والرجاء حال العابدين والاستقامة مع الهيبة والرجاء حال المقربين ، والاستقامة مع الغيبة عن رؤية الاستقامة حال العارفين (وَلا تَطْغَوْا) ولا تخرجوا عما حدّ لكم من الشريعة فإن الخروج عنها زندقة (وَلا تَرْكَنُوا) أي لا تميلوا أدنى ميل (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهي النفوس المظلمة المائلة إلى الشرور في أصل الخلقة كما قيل :

٣٦٠