روح المعاني - ج ٦

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٦

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٣

الْمُرْسَلُونَ) [الحجر : ٥٧ ، الذاريات : ٣١] ويقال : المراد منه السؤال عن حال العذاب هل هو واقع بهم لا محالة أم هو على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الإيمان؟ وتفسير المجادلة به كما مر عن بعض فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ) غير عجول على الانتقام إلى المسيء إليه (أَوَّاهٌ) كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس (مُنِيبٌ) راجع إلى الله تعالى ، والمقصود من وصفه عليه‌السلام بهذه الصفات المنبئة عن الشفقة ورقة القلب بيان ما حمله على ما صدر عنه من المجادلة ، وحمل الحلم على عدم العجلة والتأني في الشيء مطلقا ، وجعل المقصود من الوصف بتلك الصفات بيان ما حمله على المجادلة وإيقاعها بعد أن تحقق ذهاب الروع ومجيء البشرى لا يخفى حاله.

(يا إِبْراهِيمُ) على تقدير القول ليرتبط بما قبل أي قالت الملائكة ، أو قلنا (يا إِبْراهِيمُ).

(أَعْرِضْ عَنْ هذا) الجدال (إِنَّهُ) أي الشأن (قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي قدره تعالى المقضي بعذابهم ، وقد يفسر بالعذاب ، ويراد بالمجيء المشارفة فلا يتكرر مع قوله سبحانه : (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) أي لا بجدال ولا بدعاء ولا بغيرهما إذ حاصل ذلك حينئذ شارفهم ثم وقع بهم ، وقيل : لا حاجة إلى اعتبار المشارفة ، والتكرار مدفوع بأن ذاك توطئة لذكر كونه غير مردود.

وقرأ عمرو بن هرم ـ وإنهم أتاهم ـ بلفظ الماضي و (عَذابٌ) فاعل به ، وعبر بالماضي لتحقيق الوقوع (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : انطلقوا من عند إبراهيم عليه‌السلام وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه في صورة غلمان مرد حسان الوجوه فلذلك (سِيءَ بِهِمْ) أي أحدث له عليه‌السلام مجيئهم المساءة لظنه أنهم أناس فخاف أن يقصدهم قومه ويعجز عن مدافعتهم ، وقيل : كان بين القريتين ثمانية أميال فأتوها عشاء ، وقيل نصف النهار ووجدوا لوطا في حرث له.

وقيل : وجدوا بنتا له تستقي ماء من نهر سدوم وهي أكبر محل للقوم فسألوها الدلالة على من يضيفهم ورأت هيئاتهم فخافت عليهم من قوم أبيها فقالت لهم : مكانكم وذهبت إلى أبيها فأخبرته فخرج إليهم فقالوا : إنا نريد أن تضيفنا الليلة ، فقال : أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا : وما عملهم؟ فقال : أشهد بالله تعالى أنهم شر قوم في الأرض ، وقد كان الله تعالى قال للملائكة لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات ، فلما قال هذه قال جبريل عليه‌السلام : هذه واحدة وتكرر القول منهم حتى كرر لوط الشهادة فتمت الأربع ثم دخل المدينة فدخلوا معه منزله (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي طاقة وجهدا ، وهو في الأصل مصدر ذرع البعير بيديه يذرع في مسيره إذا سار مادا خطوه مأخوذ من الذراع وهي العضو المعروف ، ثم توسع فيه فوضع موضع الطاقة والجهد ، وذلك أن اليد كما تجعل مجازا عن القوة فالذراع المعروفة كذلك ، وفي الصحاح يقال : ضقت بالأمر ذرعا إذا لم تطقه ولم تقو عليه ، وأصل الذرع بسط اليد فكأنك تريد مددت يدي إليه فلم تنله ، وربما قالوا : ضقت به ذراعا ، قال حميد بن ثور يصف ذئبا :

وإن بات وحشا ليلة لم يضق بها

«ذراعا» ولم يصبح لها وهو خاشع

وفي الكشاف جعلت العرب ضيق الذراع والذرع عبارة عن فقد الطاقة كما قالوا : رحب الذراع بكذا إذا كان مطيقا له ، والأصل فيه أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع فضرب ذلك مثلا في العجز والقدرة ، ونصبه على أنه تمييز محول عن الفاعل أي ضاق بأمرهم وحالهم ذرعه ، وجوز أن يكون الذرع كناية عن الصدر والقلب ، وضيقه كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه ، وهو على ما قيل : كناية متفرعة على كناية أخرى مشهورة ؛ وقيل : إنه مجاز لأن الحقيقة غير مرادة هنا ، وأبعد بعضهم في تخريج هذا الكلام فخرجه

٣٠١

على أن المراد أن بدنه ضاق قدر عن احتمال ما وقع (وَقالَ هذا) اليوم (يَوْمٌ عَصِيبٌ) أي شديد ، وأصله من العصب بمعنى الشد كأنه لشدة شره عصب بعضه ببعض ، وقال أبو عبيدة : سمي بذلك لأنه يعصب الناس بالشر ، قال الراجز :

يوم عصيب يعصب الأبطالا

عصب القوى السلم الطوالا

وفي معناه العصبصب والعصوصب (وَجاءَهُ) أي لوطا وهو في بيته مع أضيافه (قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) قال أبو عبيدة : أي يستحثون إليه كأنه يحث بعضهم بعضا ، أو يحثهم كبيرهم ويسوقهم ، أو الطمع في الفاحشة ، والعامة على قراءته مبنيا للمفعول ، وقرأ جماعة «يهرعون» بفتح الياء مبنيا للفاعل من هرع ، وأصله من الهرع وهو الدم الشديد السيلان كأن بعضه يدفع بعضا ، وجاء أهرع القوم إذا أسرعوا ، وفسر بعضهم الإسراع بالمشي بين الهرولة والجمز. وعن ابن عباس أنه سئل عما في الآية ، فقال : المعنى يقبلون إليه بالغضب ، ثم أنشد قول مهلهل :

فجاءوا يهرعون وهم أسارى

نقودهم على رغم الأنوف

وفي رواية أخرى عنه أنه فسر ذلك بيسرعون وهو بيان للمراد ويستقيم على القراءتين ، وجملة (يُهْرَعُونَ) في موضع الحال من قومه أي جاءوا مهرعين إليه ، روي أنه لما جاء لوط بضيفه لم يعلم ذلك أحد إلا أهل بيته فخرجت امرأته حتى أتت مجالس قومها فقالت : إن لوطا قد أضاف الليلة فئة ما رئي مثلهم جمالا فحينئذ جاءوا يهرعون إليه (وَمِنْ قَبْلُ) أي من قبل وقت مجيئهم ، وقيل : «من قبل» بعث لوط رسولا إليهم (كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) قيل : المراد سيئة إتيان الذكور إلا أنها جمعت باعتبار تكررها أو باعتبار فاعليها.

وقيل : المراد ما يعم ذلك ، وإتيان النساء في محاشهن. والمكاء والصفير واللعب بالحمام والقمار والاستهزاء بالناس وغير ذلك ، والمراد من ذكر عملهم السيئات من قبل بيان أنهم اعتادوا المنكر فلم يستحيوا فلذلك أسرعوا لطلب الفاحشة من ضيوفه مظهرين غير مكترثين ، فالجملة معترضة لتأكيد ما قبلها.

وقيل : إنها بيان لوجه ضيق صدره لما عرف من عادتهم ، وجعلها شيخ الإسلام في موضع الحال كالتي قبلها أي جاءوا مسرعين ، والحال أنهم كانوا منهمكين في عمل السيئات.

(قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) فتزوجوهن وكانوا يطلبونهن من قبل ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لعدم مشروعية تزويج المؤمنات من الكفار فإنه كان جائزا ، وقد زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابنته زينب لأبي العاص بن الربيع وابنته رقية لعتبة بن أبي لهب قبل الوحي ـ وكانا كافرين ـ إلا أن عتبة لم يدخل بها وفارقها بطلب أبيه حين نزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) [المسد : ١] فتزوّجها عثمان رضي الله تعالى عنه ، وأبا العاص كان قد دخل بها لكن لما أسر يوم بدر وفادى نفسه أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العهد عليه أن يردها إذا عاد فأرسل عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار في طلبها فجاءا بها ثم إنه أسلم وأتى المدينة فردها عليه الصلاة والسلام إليه بنكاح جديد أو بدونه على الخلاف.

وقال الحسن بن الفضل : إنه عليه‌السلام عرض بناته عليهم بشرط الإسلام ، وإلى ذلك ذهب الزجاج ، وهو مبني على أن تزويج المسلمات من الكفار لم يكن جائزا إذ ذاك ، فقيل : كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه ولم يكن له عليه‌السلام سواهما ، واسم إحداهما ـ على ما في بعض الآثار ـ زعوراء والأخرى زيتاء ، وقيل : كان له عليه‌السلام ثلاث بنات ، وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس ، ويؤيده ظاهر الجمع وإن جاء إطلاقه على اثنين ، وأيا ما كان فقد أراد عليه‌السلام بذلك وقاية ضيفه وهو غاية الكرم فلا يقال : كيف يليق به عليه‌السلام أن يعرض بناته على

٣٠٢

أعدائه ليزوجهن إياهم؟! نعم استشكل عرض بناته ـ بناء على أنهن اثنتان كما هو المشهور ، أو ثلاث كما قيل ـ على أولئك المهرعين ليتزوجوهن مع القول بأنهم أكثر منهن إذ لا يسوغ القول بحل تزوج الجماعة بأقل منهم في زمان واحد ، ومن هنا قال بعض أجلة المفسرين : إن ذلك القول لم يكن منه عليه‌السلام مجريا على الحقيقة من إرادة النكاح بل كان ذلك مبالغة في التواضع لهم وإظهارا لشدة امتعاضه مما أوردوا عليه طمعا في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك فيتركوا ضيوفه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم أن لا مناكحة بينه وبينهم وهو الأنسب بجوابهم الآتي ، وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن ابن جبير ومجاهد وابن أبي الدنيا وابن عساكر عن السدي أن المراد ببناته عليه‌السلام نساء أمته ، والإشارة بهؤلاء لتنزيلهن منزلة الحاضر عنده وإضافتهن إليه لأن كل نبي أب لأمته ، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ـ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم.

وقرأ أبي رضي الله تعالى عنه مثل ذلك لكنه قدم (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦] على ـ وهو أب لهم ـ وأراد عليه‌السلام بقوله : (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) أنظف فعلا ، أو أقل فحشا كقولك : الميتة أطيب من المغصوب وأحل منه ، ويراد من الطهارة على الأول الطهارة الحسية وهي الطهارة عما في اللواطة من الأذى والخبث ، وعلى الثاني الطهارة المعنوية وهو التنزه عن الفحش والإثم ، وصيغة أفعل في ذلك مجاز ، والظاهر ـ أن هؤلاء بناتي ـ مبتدأ وخبر ، وكذلك (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) وجوز أبو البقاء كون (بَناتِي) بدلا أو عطف بيان و (هُنَ) ضمير فصل ، و (أَطْهَرُ) هو الخبر ، وكون (هُنَ) مبتدأ ثانيا ، و (أَطْهَرُ) خبره ، والجملة خبر (هؤُلاءِ).

وقرأ الحسن وزيد بن علي وعيسى الثقفي وسعيد بن جبير والسدي «أطهر» بالنصب ، وقد خفي وجهه حتى قال عمرو بن العلاء : إن من قرأ «أطهر» بالنصب فقد تربع في لحنه وذلك لأن انتصابه على أن يجعل حالا عمل فيها ما في (هؤُلاءِ) من الإشارة أو التنبيه أو ينصب (هؤُلاءِ) بفعل مضمر كأنه قيل : خذوا هؤلاء و (بَناتِي) بدل ، ويعمل هذا المضمر في الحال و (هُنَ) في الصورتين فصل وهذا لا يجوز لأن الفصل إنما يكون بين المسند والمسند إليه ، ولا يكون بين الحال وذيها كذا قيل ، وهذا المنع هو المروي عن سيبويه وخالف في ذلك الأخفش فأجاز توسط الفصل بين الحال وصاحبها فيقول : جاء زيد هو ضاحكا ، وجعل من ذلك هذه الآية على هذه القراءة ، وقيل : بوقوعه شذوذا كما في قولهم : أكثر أكلي التفاحة هي نضيجة ، ومن منع ذلك خرج هذا على إضمار كان ، والآية الكريمة على أن (هُنَ) مبتدأ و (لَكُمْ) الخبر ، و (أَطْهَرُ) حال من الضمير في الخبر ، واعترض بأن فيه تقديم الحال على عاملها الظرفي ، والأكثرون على منعه أو على أن يكون (هؤُلاءِ) مبتدأ و (بَناتِي هُنَ) جملة في موضع خبر المبتدأ كقولك : هذا أخي هو ، ويكون (أَطْهَرُ) حالا وروي هذا عن المبرد وابن جني ، أو على أن يكون (هؤُلاءِ) مبتدأ و (بَناتِي) بدلا منه أو عطف بيان و (هُنَ) خبر و (أَطْهَرُ) على حاله.

وتعقب بأنه ليس فيه معنى طائل ، ودفع بأن المقصود بالإفادة الحال كما في قولك : هذا أبوك عطوفا وادعى في الكشف أن الأوجه أن يقدروا خذوا هؤلاء أطهر لكم ، وقوله : (بَناتِي هُنَ) جملة معترضة تعليلا للأمر وكونهن أولى قدمت للاهتمام كأنه قيل : خذوا هؤلاء العفائف أطهر لكم إن بناتي هن وأنتم تعلمون طهارتي وطهارة بناتي ؛ ويجوز أن يقال (هُنَ) تأكيد للمستكن في (بَناتِي) لأنه وصف مشتق لا سيما على المذهب الكوفي فافهم ولا تغفل (فَاتَّقُوا اللهَ) بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم (وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) أي لا تفضحوني في شأنهم فإن إخزاء ضيف الرجل إخزاء له ، أو لا تخجلوني فيهم ، والمصدر على الأول الخزي وعلى الثاني الخزاية ، وأصل معنى خزي لحقه انكسار إما من نفسه وهو الحياء المفرط ، وإما من غيره وهو الاستخفاف والتفضيح ، والضيف في الأصل مصدر ،

٣٠٣

ولذا إذا وصف به المثنى أو المجموع لم يطابق على المشهور ، وسمع فيه ضيوف ، وأضياف ، وضيفان ، (وَلا) ناهية ، والفعل مجزوم بحذف النون ، والموجودة نون الوقاية ، والياء محذوفة اكتفاء بالكسرة ، وقرئ بإثباتها على الأصل (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) يهتدي إلى الحق الصريح ويرعوي عن الباطل القبيح ، وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال : يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر ، وهو إما بمعنى ذو رشد أو بمعنى مرشد كالحكيم بمعنى المحكم ، والاستفهام للتعجب ، وحمله على الحقيقة لا يناسب المقام.

(قالُوا) معرضين عما نصحهم به من الأمر بالتقوى والنهي عن الإخزاء عن أول كلامه (لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) أي حق وهو واحد الحقوق ، وعنوا به قضاء الشهوة أي ما لنا حاجة في بناتك ، وقد يفسر بما يخالف الباطل أي ما لنا في بناتك نكاح حق لأنك لا ترى جواز نكاحنا للمسلمات ، وما هو إلا عرض سابري كذا قيل ، وهو ظاهر في أنه كان من شريعته عليه‌السلام عدم حل نكاح الكافر المسلمة.

وقيل : إنما نفوا أن يكون لهم حق في بناته لأنهم كانوا قد خطبوهن فردهم وكان من سنتهم أن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبدا ، وقيل : إنهم لما اتخذوا إتيان الذكور مذهبا كان عندهم هو الحق وأن نكاح الإناث من الباطل فقالوا ما قالوا ، وقيل : قالوا ذلك لأن عادتهم كانت أن لا يتزوج الرجل منهم إلا واحدة وكانوا كلهم متزوجين (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) أي من إتيان الذكور ، والظاهر أن (ما) مفعول لتعلم ، وهو بمعنى تعرف ، وهي موصولة والعائد محذوف أي الذي نريده ، وقيل : إنها مصدرية فلا حذف أي إرادتنا.

وجوز أن تكون استفهامية وقعت مفعولا ـ لنريد ـ وهي حينئذ معلقة ـ لتعلم ـ ولما يئس عليه‌السلام من ارعوائهم عما هم عليه من الغي (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) أي لو ثبت أن لي قوة ملتبسة بكم بالمقاومة على دفعكم بنفسي لفعلت ـ فلو ـ شرطية وجوابها محذوف كما حذف في قوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) [الرعد : ٣١] وجوز أن تكون للتمني ، و (بِكُمْ) حال من (قُوَّةً) كما هو المعروف في صفة النكرة إذا قدمت عليها ، وضعف تعلقه بها لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه في المشهور ، وقوله : (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) عطف على ما قبله بناء على ما علمت من معناه الذي يقتضيه مذهب المبرد ، والمضارع واقع موقع الماضي ، واستظهر ذلك أبو حيان ، وقال الحوفي : إنه عطف على ما تقدم باعتبار أن المراد أو أني آوي ، وجوز ذلك أبو البقاء ، وكذا جوز أن تكون الجملة مستأنفة ، و ـ الركن ـ في الأصل الناحية من البيت أو الجبل ، ويقال : ركن بضم الكاف ، وقد قرئ به ويجمع على أركان ، وأراد عليه‌السلام به القوي شبهه بركن الجبل في شدته ومنعته أي أو أنضم إلى قوي أتمنع به عنكم وأنتصر به عليكم ، وقد عد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا القول منه عليه‌السلام بادرة واستغربه ، فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رحم الله تعالى أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد» يعني عليه الصلاة والسلام به الله تعالى فإنه لا ركن أشد منه عزوجل.

إذا كان غير الله للمرء عدة

أتته الرزايا من وجوه الفوائد

وجاء أنه سبحانه ـ لهذه الكلمة ـ لم يبعث بعد لوط نبيا إلا في منعة من عشيرته ، وفي البحر أنه يجوز ـ على رأي الكوفيين ـ أن تكون (أَوْ) بمعنى بل ويكون عليه‌السلام قد أضرب عن الجملة السابقة ، وقال : بل آوي في حالي معكم إلى ركن شديد وكني به عن جناب الله تعالى ولا يخفى أنه يأبى الحمل على هذه الكناية تصريح الأخبار الصحيحة بما يخالفها ، وقرأ شيبة وأبو جعفر «آوي» بالنصب على إضمار أن بعد (أَوْ) فيقدر بالمصدر عطفا على (قُوَّةً) ونظير ذلك قوله :

٣٠٤

ولو لا رجال من رزام أعزة

وآل سبيع أو أسوءك علقما

أي لو أن لي بكم قوة أو أويا ، روي أنه عليه‌السلام أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادل قومه عنهم من وراء الباب فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة عليهم‌السلام ما على لوط من الكرب.

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) بضرر ولا مكروه فافتح الباب ودعنا وإياهم ، ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل عليه‌السلام رب العزة في عقوبتهم فأذن له فلما دنوا طمس أعينهم فانطلقوا عميا يركب بعضهم بعضا وهم يقولون : النجاء النجاء فإن في بيت لوط قوما سحرة ، وفي رواية أنه عليه‌السلام أغلق الباب على ضيفه فجاءوا فكسروا الباب فطمس جبريل أعينهم فقالوا : يا لوط جئتنا بسحرة وتوعدوه فأوجس في نفسه خيفة قال : يذهب هؤلاء ويذروني فعندها قال جبريل عليه‌السلام : «لا تخف إنا رسل ربك» (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) بالقطع من الإسراء ، وقرأ ابن كثير ونافع بالوصل حيث جاء في القرآن من السرى ، وقد جاء سرى وهما بمعنى واحد عند أبي عبيدة والأزهري ، وعن الليث أسرى سار أول الليل وسرى سار آخره ولا يقال في النهار : إلا سار وليس هو مقلوب سرى ، والفاء لترتيب الأمر بالإسراء على الإخبار برسالتهم المؤذنة بورود الأمر والنهي من جنابه عزوجل إليه عليه‌السلام ، والباء للتعدية أو للملابسة أي سر ملابسا بأهلك (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) قال ابن عباس : بطائفة منه ، وقال قتادة : بعد مضي صدر منه ، وقيل : نصفه ، وفي رواية أخرى عن الحبر آخره وأنشد قول مالك بن كنانة :

ونائحة تقوم بقطع ليل

على رحل أهانته شعوب

وليس من باب الاستدلال ، وإلى هذا ذهب محمد بن زياد لقوله سبحانه : (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) [القمر: ٣٤] وتعقبه ابن عطية بأنه يحتمل أنه أسرى بأهله من أول الليل حتى جاوزوا البلد المقتلع ، ووقعت نجاتهم بسحر ، وأصل القطع القطعة من الشيء لكن قال ابن الأنباري : إن ذلك يختص بالليل فلا يقال : عندي قطع من الثوب.

وفسر بعضهم القطع من الليل بطائفة من ظلمته ، وعن الحبر أيضا تفسيره بنفس السواد ، ولعله من باب المساهلة (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي لا يتخلف كما روي عن ابن عباس ، أو لا ينظر إلى ورائه كما روي عن قتادة ، قيل : وهذا هو المعنى المشهور الحقيق للالتفات ، وأما الأول فلأنه يقال : لفته عن الأمر إذا صرفته عنه فالتفت أي انصرف ، والتخلف انصراف عن المسير ، قال تعالى : (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) [يونس : ٧٨] أي تصرفنا كذا قال الراغب.

وفي الأساس أنه معنى مجازي ، والنهي في اللفظ لأحد ، وفي المعنى للوط عليه‌السلام على ما نقل عن المبرد ، وهذا كما تقول لخادمك : لا يقم أحد في أن النهي في الظاهر لأحد ، وهو في الحقيقة للخادم أن لا يدع أحدا يقوم ، فالمعنى هنا فأسر بأهلك ولا تدع أحدا منهم يلتفت ؛ ولا يخفى أنه على هذا تتم المناسبة بين المعطوف عليه والمعطوف لأن الأول لأمره عليه‌السلام والثاني لنهيه ، ويعلم من هذا أن ضمير «منكم» للأهل.

وقد صرح بذلك شهاب فلك الفضل الخفاجي ، فقال : وهاهنا لطيفة وهو أن المتأخرين من أهل البديع اخترعوا نوعا من البديع سموه تسمية النوع ، وهو أن يؤتى بشيء من البديع ويذكر اسمه على سبيل التورية كقوله في البديعية في الاستخدام :

واستخدموا العين مني فهي جارية

وكم سمحت بها في يوم بينهم

وتبجحوا باختراعه ، وأنا بمنّ الله تعالى أقول : إنه وقع في القرآن في هذه الآية لأن قوله سبحانه : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) إلخ وقع فيه ضمير (مِنْكُمْ) للأهل فقوله جل وعلا : (لا يَلْتَفِتْ) من تسمية النوع وهذا من بديع النكات انتهى ،

٣٠٥

وسر النهي عن الالتفات بمعنى التخلف ظاهر ، وأما سره إذا كان بمعنى النظر إلى وراء فهو أن يجدوا في السير فإن من يلتفت إلى ورائه لا يخلو عن أدنى وقفة أو أن لا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم.

وذكر بعضهم أن النهي وكذا الضمير للوط عليه‌السلام ولأهله أي لا يلتفت أحد منك ومن أهلك. (إِلَّا امْرَأَتَكَ) بالنصب وهو قراءة أكثر السبعة.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالرفع ؛ وقد كثر الكلام في ذلك فقال الزمخشري : إنه سبحانه استثناها من قوله: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) ويدل عليه قراءة عبد الله ـ (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) بقطع من الليل إلا امرأتك ـ ويجوز أن ينتصب من ـ لا يلتفت ـ على أصل الاستثناء ، وإن كان الفصيح هو البدل أعني قراءة من قرأ بالرفع فأبدلها من أحد ، وفي إخراجها مع أهله روايتان : روي أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت : يا قوماه فأدركها حجر فقتلها.

وروي أنه لما أمر أن يخلفها مع قومها فإن هواها إليهم فلم يسر بها ، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين انتهى ، وأورد عليه ابن الحاجب ما خلاصته أنه إما أن يسري بها فالاستثناء من أحد متعين أولا فيتعين من (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) والقصة واحدة فأحد التأويلين باطل قطعا ، والقراءتان الثابتتان قطعا لا يجوز حملهما على ما يوجب بطلان أحدهما ، فالأولى أن يكون (إِلَّا امْرَأَتَكَ) رفعا ونصبا مثل (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء : ٦٦] ولا يبعد أن يكون بعض القراء على الوجه الأقوى ، وأكثرهم على ما دونه بل جوز بعضهم أن تتفق القراء على القراءة بغير الأقوى.

وأجاب عنه بعض المغاربة بما أشار إليه في الكشف من منع التنافي لأن الاستثناء من الأهل يقتضي أن لا يكون لوط عليه‌السلام مأمورا بالإسراء بها ، ولا يمنع أنها سرت بنفسها ، ويكفي لصحة الاستثناءين هذا المقدر كيف ولم ينه عن إخراجها ولكنه أمر بإخراج غيرها ، نعم يرد على قوله : واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين أنه يلزم الشك في كلام لا ريب فيه من رب العالمين ، ويجاب بأن معناه اختلاف القراءتين جالب وسبب لاختلاف الروايتين كما تقول : السلاح للغزو أي أداة وصالح مثلا له ، ولم يرد أن اختلاف القراءتين لأجل اختلاف الروايتين قد حصل ، ولا شك أن كل رواية تناسب قراءة وإن أمكن الجمع ، وأما قوله : وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فنقل للرواية لا تفسير للفظ القرآن ، وإنما الكائن فيه استثناؤها عن الحكم الذي للاستصلاح إذ لم يعن بها ، وإلى معنى ما أشار إليه صاحب الكشف في منع التنافي أشار أبو شامة فقال : وقع في تصحيح ما أعربه النحاة معنى حسن ، وذلك أن يكون في الكلام اختصار نبه عليه اختلاف القراءتين فكأنه قيل : فأسر بأهلك إلا امرأتك كما قرأ به عبد الله ورواه أبو عبيدة عن مصحفه ، فهذا دليل على أن استثناءها من السري بهم ، ثم كأنه قال سبحانه : فإن خرجت معكم وتبعتكم من غير أن تكون أنت سريت بها فانه أهلك عن الالتفات غيرها فإنها ستهلك ويصيبها ما يصيب قومها ، فكانت قراءة النصب دالة على المعنى المتقدم ، وقراءة الرفع دالة على هذا المعنى المتأخر ومجموعهما دال على جملة المعنى المشروح ، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف كما قال ابن مالك ، ولذا اختار أن الرفع على أن الاستثناء منقطع ، و (امْرَأَتَكَ) مبتدأ ، والجملة بعدها خبره وإلا بمعنى لكن.

وقال ابن هشام في المغني في الجهة الثامنة من الباب الخامس : إن ما ذكره الزمخشري وقد سبقه إليه غيره في الآية خلاف الظاهر ، والذي حمل القائلين عليه أن النصب قراءة الأكثرين فإذا قدر الاستثناء من أحد كانت قراءتهم على الوجه المرجوح ، وقد التزم بعضهم جواز مجيء الأمرين مستدلا بقوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر :

٣٠٦

٤٩] فإن النصب في ذلك عند سيبويه على حد قولهم : زيدا ضربته ، ولم ير خوف إلباس المفسر بالصفة مرجحا كما رآه بعض المتأخرين ، ثم قال : والذي أجزم به أن قراءة الأكثرين لا تكون مرجحة ، وأن الاستثناء على القراءتين من جملة الأمر بدليل سقوط (وَلا يَلْتَفِتْ) إلخ في قراءة ابن مسعود ، والاستثناء منقطع بدليل سقوطه في آية الحجر ، ولأن المراد بالأهل المؤمنون وإن لم يكونوا من أهل بيته لا أهل بيته وإن لم يكونوا مؤمنين كما في قوله تعالى لنوح عليه‌السلام : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) [هود : ٤٦] ووجه الرفع أنه على الابتداء ، وما بعد ، الخبر والمستثنى الجملة ، ونظيره (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ) [الغاشية : ٢٢ ـ ٢٤].

واختار أبو شامة ما اخترته من أن الاستثناء منقطع لكنه قال : وجاء النصب على اللغة الحجازية والرفع على التميمية ، وهذا يدل على أنه جعل الاستثناء من جملة النهي ، وما قدمته أولى لضعف اللغة التميمية ، ولما قدمت من سقوط جملة النهي في قراءة عبد الله انتهى.

واستظهر ذلك الحمصي في حواشيه على التصريح واستحسنه غير واحد ، وقد نقل أبو حيان القول بالانقطاع على القراءتين وتخريج النصب على اللغة الحجازية والرفع عن الأخرى ، ثم قال : إنه كلام لا تحقيق فيه فإنه إذا لم يقصد إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيين عن الالتفات وكان المعنى لكن امرأتك يجري عليها كذا وكذا كان من الاستثناء الذي لا يتوجه إليه العامل ، وهذا النوع من الاستثناء المنقطع يجب فيه النصب بإجماع العرب ، وإنما الخلاف في المنقطع الذي يمكن توجه العامل إليه وفيه نظر ، ففي التوضيح لابن مالك حق المستثنى بإلا من كلام تام موجب مفردا كان أو مكملا معنى بما بعده كقوله تعالى : (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) [الحجر : ٥٩ ، ٦٠] النصب ، ولا يعرف أكثر المتأخرين من البصريين إلا النصب ، وقد غفلوا عن وروده مرفوعا بالابتداء ثابت الخبر كقول أبي قتادة : أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم ، ومحذوفة نحو (ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان : ٣٤] إلا الله ، و (إِلَّا) في ذلك بمعنى لكن أي لكن أبو قتادة لم يحرم ولكن الله يعلم انتهى ، وما نحن فيه من قبيل هذا ، وفي حاشيتي البدر الدماميني وتقي الدين الشمني أن الرضي قد أجاب بما يقتضي أن الاستثناء متصل ولا تناقض ، وذلك أنه قال : ولما تقرر أن الاتباع هو الوجه مع الشرائط المذكورة وكان أكثر القراء على النصب في (وَلا يَلْتَفِتْ) إلخ تكلف الزمخشري لئلا تكون قراءة الأكثر محمولة على وجه غير مختار بما تكلف ، واعترضه ابن الحاجب بلزوم التناقض لأن الاستثناء من ـ أسر بأهلك ـ يقتضي كونها غير مسري بها ، ومن ـ لا يلتفت منكم أحد ـ يقتضي كونها مسري بها لأن الالتفات بالإسراء ، والجواب أن الإسراء وإن كان مطلقا في الظاهر إلا أنه في المعنى مقيد بعدم الالتفات. فمآله أسر بأهلك إسراء لا التفات فيه إلا امرأتك فإنك تسري بها إسراء مع الالتفات فاستثن على هذا إن شئت ـ من ـ أسر ـ أو ـ لا يلتفت ـ ولا تناقض وهذا كما تقول : امش ولا تتبختر أي امش مشيا لا تتبختر فيه فكأنه قيل : ولا يلتفت منكم أحد في الإسراء ، وكذا امش ولا تتبختر في المشي فحذف الجار والمجرور للعلم به انتهى.

وأورد عليه السيد السند في حواشيه أن الاستثناء إذا رجع إلى القيد كان المعنى فأسر بجميع أهلك إسراء لا التفات فيه إلا من امرأتك فيكون الإسراء بها داخلا في المأمور به وإذا رجع إلى المقيد لم يكن الإسراء بها داخلا في المأمور به فيكون المحذور باقيا بحاله ولا مخلص عنه إلا بأن يقال : إن تناول العام إياها ليس قطعيا لجواز أن يكون مخصوصا فلا يلزم من رجوع الاستثناء إلى قوله تعالى : (وَلا يَلْتَفِتْ) كونه عليه‌السلام مأمورا بالإسراء بها ، وحينئذ يوجه الاستثناء بما ذكر من أنها تبعتهم أو أسري بها مع كونه غير مأمور بذلك إذ لا يلزم من عدم الأمر به النهي عنه فتأمل انتهى.

٣٠٧

وبحث فيه الشهاب ولم يرتض احتمال التخصيص لما أنه لا دليل عليه ويفهم صنيعه ارتضاء كلام الرضي ، ثم قال : ومراده بالتقييد أنه ذكر شيئان متعاطفان ، فالظاهر أن المراد الجمع بينهما لا أن الجملة حالية فلا يرد عليه أن الحمل على التقييد مع كون الواو للنسق ممنوع ، وكذا جعلها للحال مع لا الناهية ، وأيضا القراءة بإسقاطها تدل على عدم اعتبار ذلك التقييد ولا يخلو عن شيء ، هذا وقد ألفت في تحقيق هذا الاستثناء عدة رسائل : منها رسالة للحمصي وأخرى للعلامة الكافيجي ألفها لبعض سلاطين آل عثمان غمرهم الله سبحانه بصنوف الفضل والإحسان حين طلب منه لبحث وقع في مجلسه ذلك ، وبالجملة القول بالانقطاع أقل تكلفا فيما يظهر ، والقول بأنه حينئذ لا يبقى ارتباط لقوله سبحانه : (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) ناشئ من عدم الالتفات فلا ينبغي أن يلتفت إليه كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما تقدم نقله فتأمل ، وضمير (إِنَّهُ) للشأن ، و (ما أَصابَهُمْ) مبتدأ ، و (مُصِيبُها) خبره ، والجملة خبر ـ إن ـ الذي اسمه ضمير الشأن ، وفي البحر إن (مُصِيبُها) مبتدأ ، و (ما أَصابَهُمْ) خبره ، والجملة خبر إن ، ويجوز على مذهب الكوفيين أن يكون (مُصِيبُها) خبر ـ إن ـ و (ما) فاعل به لأنهم يجوزون أنه قائم أخواك ، ومذهب البصريين أن ضمير الشأن لا يكون خبره إلا جملة مصرحا بجزأيها فلا يجوز هذا الأعراب عندهم ، والأولى ما ذكر أولا ، والجملة إما تعليل على طريقة الاستئناف أو خبر ـ لامرأتك ـ على قراءة الرفع ، والمراد من (ما) العذاب ، ومن (أَصابَهُمْ) يصيبهم والتعبيرية دونه للإيذان بتحقق الوقوع ، وفي الإبهام. واسمية الجملة. والتأكيد ما لا يخفى.

(إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) أي موعد عذابهم وهلاكهم ذلك ، وكأن هذا على ما قيل : تعليل للأمر بالإسراء والنهي عن الالتفات المشعر بالحث على الإسراع ، وقوله سبحانه : (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) تأكيد للتعليل ، فإن قرب الصبح داع إلى الإسراع للتباعد عن مواقع العذاب ، وروي أنه عليه‌السلام سأل الملائكة عليهم‌السلام عن وقت هلاكهم فقالوا : موعدهم الصبح ، فقال : أريد أسرع من ذلك ، فقالوا له : (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ).

ولعله إنما جعل ميقات هلاكهم الصبح لأنه وقت الدعة والراحة فيكون حلول العذاب حينئذ أفظع ولأنه أنسب بكون ذلك عبرة للناظرين.

وقرأ عيسى بن عمر (الصُّبْحُ) بضم الباء قيل : وهي لغة فلا يكون ذلك اتباعا (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أي عذابنا أو الأمر به ، فالأمر على الأول واحد الأمور ، وعلى الثاني واحد الأوامر ، قيل : ونسبة المجيء إليه بالمعنيين مجازية ، والمراد لما حان وقوعه ولا حاجة إلى تقدير الوقت مع دلالة لما عليه.

وقيل : إنه يقدر على الثاني أي جاء وقت أمرنا لأن الأمر نفسه ورد قبله ، ونحن في غنى عن ادعاء تكراره ، ورجح تفسير الأمر بما هو واحد الأوامر ـ أعني ضد النهي ـ بأنه الأصل فيه لأنه مصدر أمره ، وأما كونه بمعنى العذاب فيخرجه عن المصدرية الأصلية وعن معناه المشهور الشائع ، ويجعل التعذيب مسببا عنه بقوله سبحانه : (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) فإنه جواب لما والتعذيب نفس إيقاع العذاب فلا يحسن جعله مسببا عن ذلك بل العكس أولى إلا أن يؤول المجيء بإرادته ، وضمير (عالِيَها) و (سافِلَها) لمدائن قوم لوط المعلومة من السياق وهي المؤتفكات ، وهي خمس مدائن : ميعة وصغره وعصره ودوما وسدوم.

وقيل : سبع أعظمها سدوم ، وهي القرية التي كان فيها لوط عليه‌السلام ، وكان فيها على ما روي عن قتادة أربعة آلاف ألف إنسان أو ما شاء الله تعالى من ذلك ، وقيل : إن هذا العدد إنما كان في المدائن كلها ، وقيل : إن ما كان في المدائن أكثر من ذلك بكثير ، والله تعالى أعلم.

ونصب (عالِيَها) ـ و ـ (سافِلَها) على أنهما مفعولان للجعل ، والمراد قلبناها على تلك الهيئة وهو جعل

٣٠٨

العالي سافلا ، وإنما قلبت كذلك ولم يعكس تهويلا للأمر وتفظيعا للخطب لأن جعل (عالِيَها) الذي هو مقرهم ومسكنهم (سافِلَها) أشق من جعل ـ سافلها عاليها ـ وإن كان مستلزما له ، روي أن لوطا عليه‌السلام سرى بمن معه قبل الفجر وطوى الله تعالى له الأرض حتى وصل إلى إبراهيم عليه‌السلام ، ثم إن جبريل عليه‌السلام اقتلع المدائن بيده ، وفي رواية أدخل جناحه تحت المدائن فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب ثم قلبها ، وما أعظم حكمة الله تعالى في هذا القلب الذي هو أشبه شيء بما كانوا عليه من إتيان الإعجاز والإعراض عما تقتضيه الطباع السليمة ؛ ولا ينبغي أن يجعل الكلام كناية عن إنزال أمر عظيم فيها كما يقول القائل : اليوم قلبت الدنيا على فلان لما فيه من العدول عن الظاهر والانحراف عما نطقت به الآثار من غير داع سوى استبعاد مثل ذلك وما ذلك ببعيد ، وإسناد الجعل إلى ضميره تعالى باعتبار أنه المسبب فهو إسناد مجازي باعتبار اللغة وإن كان سبحانه هو الفاعل الحقيقي. والنكتة في ذلك تعظيم الأمر وتهويله فإن ما يتولاه العظيم من الأمور فهو عظيم ، ويقوي ذلك ضمير العظمة أيضا وعلى هذا الطرز قوله سبحانه : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها) أي على المدائن أو شذاذ أهلها (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) وكان ذلك زيادة في تفظيع حالهم أو قطعا لشأفتهم واستئصالا لهم.

روي أن رجلا منهم كان بالحرم فبقي حجر معلق بالهواء حتى خرج منه فوقع عليه وأهلكه ، والسجيل الطين المتحجر لقوله تعالى في الآية الأخرى : (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) [الذاريات : ٣٣] والقرآن يفسر بعضه بعضا ، ويتعين إرجاع بعضه لبعض في قصة واحدة ، وهو كما أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس ومجاهد معرب ـ سنك كل ـ.

وقال أبو عبيدة : السجيل ـ كالسجين ـ الشديد من الحجارة ، وقيل : هو من أسجله إذا أرسله أو أدر عطيته ، والمعنى حجارة كائنة من مثل الشيء المرسل أو مثل العطية في الإدرار وهو على هذا خارج مخرج التهكم ، وقيل : من ـ السجل ـ بتشديد اللام وهو الصك ، ومعنى كونه من ذلك أنه مما كتب الله تعالى عليهم أن يعذبهم به ، وقيل : أصله من سجين وهو اسم لجهنم أو لواد فيها ، فأبدلت نونه لاما.

وقال أبو العالية وابن زيد : السجيل اسم لسماء الدنيا. قال أبو حيان : وهو ضعيف لوصفه بقوله سبحانه : (مَنْضُودٍ) أي نضد وضع بعضه على بعض معدا لعذابهم ، أو نضد في الإرسال يرسل بعضه إثر بعض كقطار الأمطار ، ولا يخفى أن هذه المعاني كما تأبى ما قال أبو العالية وابن زيد تأبى بحسب الظاهر ما قيل : إن المراد به جهنم ، وتكلف بعضهم فقال : يمكن وصف جهنم بذلك باعتبار المعنى الأول بناء على أنها دركات بعضها فوق بعض أو أن الأصل منضود فيه فاتسع ، وقد يتكلف بنحو هذا لما قاله أبو العالية وابن زيد وجوز أن يكون (مَنْضُودٍ) صفة حجارة على تأويل الحجر وجره للجوار ، وعليه فالأمر ظاهر إلا أنه من التكلف بمكان (مُسَوَّمَةً) أي عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض قاله ابن جريج ، وقيل : معلمة ببياض وحمرة ، وروي ذلك عن ابن عباس والحسن ، وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس أنه كان بعضها أسود فيه نقطة بيضاء وبعضها أبيض فيه نقطة سوداء.

وعن الربيع أنها كانت معلمة باسم من يرمي بها ، وكان بعضها كما قيل : مثل رءوس الإبل ، وبعضها مثل مباركها ، وبعضها مثل قبضة الرجل (عِنْدَ رَبِّكَ) أي في خزائنه التي لا يملكها غيره سبحانه ولا يتصرف بها سواه عزوجل ، والظرف قيل : منصوب ـ بمسومة ـ أو متعلق بمحذوف وقع صفة له ، والمروي عن مقاتل أن المعنى أنها جاءت من عند ربك ، وعن أبي بكر الهذلي أنها معدة عنده سبحانه.

وقال ابن الأنباري : المراد ألزم هذا التسويم للحجارة عنده تعالى إيذانا بقدرته وشدة عذابه فليفهم (وَما هِيَ)

٣٠٩

أي الحجارة الموصوفة بما ذكر (مِنَ الظَّالِمِينَ) من كل ظالم (بِبَعِيدٍ) فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها ، وفيه وعيد لأهل الظلم كافة ، وروي هذا عن الربيع.

وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أن المراد من الظالمين ظالمو هذه الأمة. وجاء في خبر ذكره الثعلبي ، وقال فيه العراقي : لم أقف له على إسناد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل جبريل عليه‌السلام عن ذلك فقال : يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة ،وقيل : المراد بالظالمين قوم لوط عليه‌السلام ، والمعنى لم تكن الحجارة لتخطئهم.

وعن ابن عباس أن المعنى وما عقوبتهم ممن يعمل عملهم ببعيد ، وظاهره أن الضمير للعقوبة المفهومة من الكلام ، و (الظَّالِمِينَ) من يشبههم من الناس ، ويمكن أن يقال : إن مراده بيان حاصل المعنى لا مرجع الضمير.

وذهب أبو حيان إلى أن الظاهر أن يكون ضمير (هِيَ) للقرى التي جعل (عالِيَها سافِلَها) والمراد من (الظَّالِمِينَ) ظالمو مكة ، وقد كانت قريبة إليهم يمرون عليها في أسفارهم إلى الشام. وتذكير ـ البعيد ـ يحتمل أن يكون على تأويل الحجارة بالحجر المراد به الجنس ، أو إجرائه على موصوف مذكر أي بشيء بعيد ، أو بمكان بعيد فإنها وإن كانت في السماء وهي في غاية البعد من الأرض إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقا بهم فكأنها بمكان قريب منهم ، أو لأنه على زنة المصدر ـ كالزفير والصهيل ـ والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث (وَإِلى مَدْيَنَ) أي أولاد مدين بن إبراهيم عليه‌السلام فحذف المضاف أو جعل اسما بالغلبة للقبيلة وكثيرا ما تسمى القبيلة باسم أبيهم ـ كمضر وتميم ـ ولعل هذا أولى ، وجوز أن يراد بمدين المدينة التي بناها مدين فسميت به فيقدر حينئذ مضاف أي وإلى أهل مدين (أَخاهُمْ) نسيبهم (شُعَيْباً) قد مر ما قيل في نسبه عليه‌السلام ، والجملة معطوفة على قوله سبحانه : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) [هود : ٦١] أي وأرسلنا إلى مدين شعيبا.

(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أمر بالتوحيد على وجه أكيد ولما كان ملاك الأمر قدمه على النهي عما اعتادوه من البخس المنافي للعدل المخل بحكمة التعاوض ، وإيصال الحقوق لأصحابها بقوله: (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) قيل : أي لا تنقصوا الناس من المكيال والميزان يعني مما يكال ويوزن على ذكر المحل وإرادة الحال ، واستظهر أن المراد لا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود وكذا الصنجات ، وقد تقدم في [الأعراف : ٨٥] (الْكَيْلَ) بدل (الْمِكْيالَ) فتذكر وتأمل (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) أي ملتبسين بثروة واسعة تغنيكم عن ذلك أو بنعمة من الله تعالى حقها أن تقابل بغير ما أنتم عليه بأن تتفضلوا على الناس شكرا عليها ، فإن أجل شكر النعم الإحسان والتفضل على عباد الله تعالى ، أو أراكم بخير وغنى فلا تزيلوه بما تأتونه من الشر ، وعلى كل حال الجملة في موضع التعليل للنهي ؛ وعقب بعلة أخرى أعني قوله تعالى :

(وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن لم تنتهوا عن ذلك (عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) وجوز أن يكون تعليلا للأمر والنهي جميعا. وفسر المحيط بما لا يشذ منه أحد منهم ، وفسره الزمخشري بالمهلك أخذا من قوله تعالى : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) [الكهف : ٤٢] وأصله من إحاطة العدو ، وادعى أن وصف اليوم بالإحاطة أبلغ من وصف العذاب لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه يعني أن اليوم لما كان زمانا مشتملا على الحوادث الكائنة فيه عذابا أو غيره فإذا أحاط بالمعذب ملتبسا بعذابه لأنه حادثة فقد اجتمع للمعذب الأمر الذي يشتمل عليه اليوم وهو العذاب كما إذا أحاط ملتبسا بنعيمه.

والحاصل أن إحاطة اليوم تدل على إحاطة كل ما فيه من العذاب ، وأما إحاطة العذاب على قوم فقد يكون بأن

٣١٠

يصيب كل فرد منهم فردا من أفراد العذاب ، وأما فيما نحن فيه فيدل على إحاطة أنواع العذاب المشتمل عليها اليوم بكل فرد ، ولا شك في أبلغية هذا ـ كذا في الكشف ـ وتمام الكلام فيه ، وقال بعض المحققين في بيان الأبلغية : إن اليوم زمان لجميع الحوادث فيوم العذاب زمان جميع أنواع العذاب الواقعة فيه فإذا كان محيطا بالمعذب فقد اجتمع أنواع العذاب له ، وهذا كقوله :

إن المروءة والسماحة والندى

في قبة ضربت على ابن الحشرج

فإن وقوع العذاب في اليوم كوجود الأوصاف في القبة ، وجعل اليوم محيطا بالمعذب كضرب القبة على الممدوح فكما أن هذا كناية عن ثبوت تلك الأوصاف له كذلك ذاك كناية عن ثبوت أنواع العذاب للمعذب ، وأما وصف العذاب بالإحاطة ففيه استعارة إحاطته لاشتماله على المعذب فكما أن المحيط لا يفوته شيء من أجزاء المحاط لا يفوت العذاب شيء من أجزاء المعذب ، وهذه الاستعارة تفيد أن العذاب لكل المعذب ؛ وتلك الكناية تفيد أن كل العذاب له ، ولا يخفى ما بينهما من التفاوت في الأبلغية ، وجوز أن يكون (مُحِيطٍ) نعتا ـ لعذاب ـ وجر للجوار ، وقيل : هو نعت ـ ليوم ـ جار على غير من هو له ، والتقدير ـ عذاب يوم محيط عذابه ـ وليس بشيء كما لا يخفى ، وأيا ما كان فالمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال في الدنيا ، وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الخير برخص السعر. والعذاب بغلائه.

(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أي أتموهما ، وفائدة التصريح بذلك مع أن الانتهاء المطلوب من النهي السابق لا يتحقق بدون الإتمام فيكون مطلوبا تبعا ، وهذا مسلم على المذاهب جعل النهي عن الشيء عين الأمر بالضد أو مستلزما له تضمنا أو التزاما لأن الخلاف في مقتضى اللفظ لا أن التحريم أو الوجوب ينفك عن مقابلة الضد غير واحدة النعي بما كانوا عليه من القبيح وهو النقص مبالغة في الكف ، ثم الأمر بالضد مبالغة في الترغيب وإشعارا بأنه مطلوب أصالة وتبعا مع الإشعار بتبعية الكف عكسا ، وتقييده بقوله سبحانه : (بِالْقِسْطِ) أي بالعدل من غير زيادة ولا نقصان ، ثم إدماج أن المطلوب من الإتمام العدل ، ولهذا قد يكون الفضل محرما كما في الربويات ، وإلى هذا يشير كلام الزمخشري ، وظاهره حمل المكيال والميزان على ما يكال ويوزن ، وحملهما بعضهم في الموضعين على الآلتين المعروفتين ، وفسر القسط بما ذكرنا ثم قال : إن الزيادة في الكيل والوزن وإن كانت تفضلا مندوبا إليه لكنها في الآلة محظورة كالنقص ، فلعل الزائد للاستعمال عند الاكتيال والناقص للاستعمال عند الكيل.

وفائدة الأمر بتسوية الآلتين وتعديلهما بعد النهي عن نقصهما المبالغة في الحمل على الإيفاء والمنع والبخس ، والتنبيه على أنه لا يكفيهم مجرد الكف عن النقص والبخس بل يجب عليهم إصلاح ما أفسدوه وجعلوه معيارا لظلمهم وقانونا لعدوانهم ، وفيه حمل اللفظ على المتبادر منه ، فإن الحمل على المعنى الآخر مجاز كما أشرنا إليه ، وادعى الفاضل الحلبي أن هذا الأمر بعد النهي السابق ليس من باب التكرار في شيء ، فقال : إن النهي قد كان عن نقص حجم المكيال وصنجات الميزان ، والأمر بإيفاء المكيال والميزان حقهما بأن لا ينقص في الكيل والوزن ، وهذا الأمر بعد مساواة المكيال والميزان للمعهود فلا تكرار كيف ولو كان تكريرا للتأكيد والمبالغة لم يكن موضع الواو لكمال الاتصال بين الجملتين انتهى.

وتعقب بأن حمل هذين اللفظين ـ وقد تكررا ـ في أحد الموضعين على أحد معنيين متغايرين خلاف الظاهر ، وأن في التكرار من الفوائد ما جعله أقوى من التأسيس فلا ينبغي الهرب منه ، وأما العطف فلأن اختلاف المقاصد في ذينك المتعاطفين جعلهما كالمتغايرين فحسن ذلك ، وقد صرح به أهل المعاني في قوله سبحانه: (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) [البقرة : ٤٩ ، إبراهيم : ٦] انتهى.

٣١١

وفي ورود ما تعقب به أو لا تأمل فتأمل ، وقوله تعالى : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) يحتمل أن يكون تعميما بعد تخصيص فإنه يشمل الجودة والرداءة وغير المكيل والموزون أيضا فهو تذييل وتتميم لما تقدم ، وكذا قوله سبحانه : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) فإن العثي يعم تنقيص الحقوق وغيره لأنه عبارة عن مطلق الفساد ، وفعله من باب رمى وسعى ورضي ، وجاء واويا ويائيا ، ويحتمل أن يكون نهيا عن بخس المكيل والموزون بعد النهي عن نقص المعيار والأمر بإيفائه أي لا تنقصوا الناس بسبب نقص المكيال والميزان وعدم اعتدالهما أشياءهم التي يشترونها بهما ، والتصريح بهذا النهي بعد ما علم في ضمن النهي ، والأمرين السابقين للاهتمام بشأنه والترغيب في إيفاء الحقوق بعد الترهيب والزجر عن نقصها ، وإلى كل من الاحتمالين ذهب بعض ، وهو مبني على ما علمت من الاختلاف السابق في تفسير ما سبق ، وقيل : المراد بالبخس المكس كأخذ العشور على نحو ما يفعل اليوم ، و ـ العثي ـ السرفة وقطع لطريق والغارة ، و (مُفْسِدِينَ) حال من ضمير (تَعْثَوْا) ، وفائدة ذلك إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعل الخضر عليه‌السلام من قتل الغلام. وخرق السفينة فهو حال مؤسسة ، وقيل : ليس الفائدة الإخراج المذكور فإن المعنى ـ لا تعثوا في الأرض بتنقيص الحقوق مثلا مفسدين مصالح دينكم وأمر آخرتكم ـ ومآل ذلك على ما قيل : إلى تعليل النهي كأنه قيل : لا تفسدوا في الأرض فإنه مفسد لدينكم وآخرتكم (بَقِيَّتُ اللهِ) قال ابن عباس : أي ما أبقاه سبحانه من الحلال بعد الإيفاء (خَيْرٌ لَكُمْ) مما تجمعون بالبخس ، فإن ذلك هباء منثور بل هو شر محض وإن زعمتم أنه خير (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي بشرط أن تؤمنوا إذ مع الكفر لا خير في شيء أصلا ، أو إن كنتم مصدقين بي في مقالتي لكم ، وفي رواية أخرى عن الحبر أنه فسر البقية بالرزق.

وقال الربيع هي وصيته تعالى ، وقال مقاتل : ثوابه في الآخرة ، وقال الفراء : مراقبته عزوجل ، وقال قتادة : ذخيرته ، وقال الحسن : فرائضه سبحانه.

وزعم ابن عطية أن كل هذا لا يعطيه لفظ الآية وإنما معناه الإبقاء وهو مأخوذ مما روي عن ابن جريج أنه قال : المعنى إبقاء الله تعالى النعيم عليكم خير لكم مما يحصل من النقص بالتطفيف ، وأيا ما كان فجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله على ما ذهب إليه جمهور البصريين وهو الصحيح ، وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة «بقية» بتخفيف الياء قال ابن عطية : وهي لغة ، قال أبو حيان : إن حق وصف فعل اللازم أن يكون على وزن فاعل نحو شجيت المرأة فهي شجية فإذا شددت الياء كان على وزن فعيل للمبالغة ، وقرأ الحسن ـ تقية الله ـ بالتاء والمراد تقواه سبحانه ومراقبته الصارفة عن المعاصي (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أحفظكم من القبائح أو أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم بها وإنما أنا ناصح مبلغ وقد أعذرت إذ أنذرت ولم آل جهدا ، أو ما أنا بحافظ عليكم نعم الله تعالى لو لم تتركوا سوء صنيعكم.

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأصنام أجابوا بذلك أمره عليه‌السلام إياهم بعباده الله تعالى وحده المتضمن لنهيهم عن عبادة الأصنام وغرضهم منه إنكار الوحي الآمر لكنهم بالغوا في ذلك إلى حيث أنكروا أن يكون هناك أمر من العقل وزعموا أن ذلك من أحكام الوسوسة والجنون قاتلهم الله أنى يؤفكون ، وعلى هذا بنوا استفهامهم وأخرجوا كلامهم وقالوا بطريق الاستهزاء : (أَصَلاتُكَ) التي هي من نتائج الوسوسة وأفاعيل المجانين تأمرك بأن نترك ما استمر على عبادته آباؤنا جيلا بعد جيل من الأوثان والتماثيل ، وإنما جعلوه عليه‌السلام مأمورا مع أن الصادر عنه إنما هو الأمر بعبادة الله تعالى وغير ذلك من الشرائع لأنه عليه‌السلام لم يكن يأمرهم من تلقاء نفسه بل من جهة الوحي وأنه كان يعلمهم بأنه مأمور بتبليغه إليهم ، وتخصيصهم إسناد الأمر إلى الصلاة من بين سائر

٣١٢

أحكام النبوة لأنه عليه‌السلام كان كثير الصلاة معروفا بذلك ، بل أخرج ابن عساكر عن الأحنف أنه عليه‌السلام كان أكثر الأنبياء صلاة ، وكانوا إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكون فكانت هي من بين شعائر الدين ضحكة لهم ، وقيل: إن ذلك لأنه عليه‌السلام كان يصلي ويقول لهم : إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر ، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وإلى الأول ذهب غير واحد ، وهذا الإسناد حقيقي لا مجازي غاية ما في الباب أنهم قصدوا الحقيقة تهكما ، واختيار المضارع ليدل على العموم بحسب الزمان ، وقوله سبحانه : (أَنْ نَتْرُكَ) على تقدير بتكليف أن نترك ـ فحذف المضاف وهو تكليف ، فدخل الجار على (أَنْ) ثم حذف وحذفه قبلها مطرد ، وعرف التخاطب في مثله يقتضي ذلك ، وقيل : إن الداعي إليه أن الشخص لا يكلف بفعل غيره لأنه غير مقدور له أصلا ، وقيل : لا تقدير ، والمعنى ـ أصلاتك تأمرك بما ليس في وسعك وعهدتك من أفاعيل غيرك ـ وغرضهم من ذلك التعريض بركاكة رأيه وحاشاه عليه‌السلام ، والاستهزاء به من تلك الجهة ، وتعقب بأنه يأباه دخول الهمزة على الصلاة دون الأمر ، ويستدعي أن يصدر عنه عليه‌السلام في أثناء الدعوة ما يدل على ذلك أو يوهمه ، وأنى ذلك؟ فتأمل ، وقرأ أكثر السبعة ـ أصلواتك ـ بالجمع ، وأمر الجمع بين القراءتين سهل ، وقوله تعالى : (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) أجابوا به أمره عليه‌السلام بإيفاء الحقوق ونهيه عن البخس والنقص وهو عطف على (ما) وأو بمعنى الواو أي وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا من التطفيف وغيره ، ولا يصح عطفه على (أَنْ نَتْرُكَ) لاستحالة المعنى إذ يصير حينئذ ـ تأمرك بفعلنا في أموالنا ما نشاء من التطفيف وغيره ـ وهم منهيون عن ذلك لا مأمورون به ، وحمل (ما) على ما أشرنا إليه هو الظاهر ، وقيل : كانوا يقرضون الدراهم والدنانير ويجرونها مع الصحيحة على جهة التدليس فنهوا عن ذلك فقالوا ما قالوا ، وروي هذا عن محمد بن كعب ، وأدخل بعضهم ذلك الفعل في العثي في الأرض فيكون النهي عنه نهيا عنه. ولا مانع من اندراجه في عموم (ما) ، وقرأ الضحاك بن قيس وابن أبي عبلة وزيد بن علي ـ بالتاء ـ في الفعلين على الخطاب فالعطف على مفعول (تَأْمُرُكَ) أي ـ أصلاتك تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء أي من إيفاء المكيال والميزان ـ كما هو الظاهر ، وقيل : من الزكاة ، فقد كان عليه‌السلام يأمرهم بها كما روي عن سفيان الثوري ، قيل : وفي الآية على هذا مع حمل الصلاة على ما يتبادر منها دليل على أنه كان في شريعته عليه‌السلام صلاة وزكاة ، وأيد بما روي عن الحسن أنه قال : لم يبعث الله تعالى نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة ، وأنت تعلم أن حمل (ما نَشؤُا) على الزكاة غير متعين بل هو خلاف ظاهر السوق ، وحمل الصلاة على ذلك وإن كان ظاهرا إلا أنه روى ابن المنذر وغيره عن الأعمش تفسيرها بالقراءة ، ونقل عن غيره تفسيرها بالدعاء الذي هو المعنى اللغوي لها.

وعن أبي مسلم تفسيرها بالدين لأنها من أجل أموره ، وعلى تقدير أن يراد منها الصلاة بالمعنى الآخر لا تدل الآية على أكثر من أن يكون له عليه‌السلام صلاة ، ولا تدل على أنها من الأمور المكلف بها أحد من أمته فيمكن أن يكون ذلك من خصوصياته عليه‌السلام ، وما روي عن الحسن ليس نصا في الغرض كما لا يخفى ، هذا وجوز أن يكون العطف على هذه القراءة على (ما) وتعقب بأنه يستدعي أن يحمل الترك على معنيين مختلفين ولا يترك على ما يتبادر منه.

وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة بالنون في الأول والتاء في الثاني ، والعطف على مفعول (تَأْمُرُكَ) والمعنى ظاهر مما تقدم (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) وصفوه عليه‌السلام بهذين الوصفين الجليلين على طريقة الاستعارة التهكمية ، فالمراد بهما ضد معناهما ، وهذا هو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وإليه ذهب قتادة والمبرد.

وجوز أن يكونوا وصفوه بذلك بناء على الزعم ، والجملة تعليل لما سبق من استبعاد ما ذكروه كأنهم قالوا : كيف

٣١٣

تكلفنا بما تكلفنا مع أنك أنت الحليم الرشيد بزعمك ؛ وقيل : يجوز أن يكون تعليلا باقيا على ظاهره بناء على أنه عليه‌السلام كان موصوفا عندهم بالحلم والرشد ، وكان ذلك بزعمهم مانعا من صدور ما صدر منه عليه‌السلام ، ورجح الأول بأنه الأنسب بما قبله لأنه تهكم أيضا ، ورجح الأخير بأنه يكون الكلام عليه نظير ما مر في قصة صالح عليه‌السلام من قولهم له : (قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) [هود : ٦٢] وتعقيبه بمثل ما عقب به ذلك حسبما تضمنه قوله سبحانه : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) حجة ظاهرة (مِنْ رَبِّي) ومالك أموري (وَرَزَقَنِي مِنْهُ) من لدنه سبحانه (رِزْقاً حَسَناً) هو النبوة والحكمة يدل على ذلك ، والجواب عليه من باب إرخاء العنان. والكلام المنصف كأنه عليه‌السلام قال : صدقتم فيما قلتم إني لم أزل مرشدا لكم حليما فيما بينكم لكن ما جئت به ليس غير الإرشاد والنصيحة لكم ، انظروا بعين الإنصاف وأنتم ألباء إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وكنت نبيا على الحقيقة أيصح لي وأنا مرشدكم والناصح لكم أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ ثم إنه عليه‌السلام أكد معنى الإرشاد ، وأدرج معنى الحلم فيما سيأتي من كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا قرره العلامة الطيبي.

واختار شيخ الإسلام عدم كونه باقيا على الظاهر لما أن مقام الاستهزاء آب عنه ، وذكر قدس‌سره أن المراد بالبينة والرزق الحسن النبوة والحكمة ، وأن التعبير عنهما بذلك للتنبيه على أنهما مع كونهما بينة رزق حسن كيف لا وذلك مناط الحياة الأبدية له عليه‌السلام ولأمته؟ وأن هذا الكلام منه عليه‌السلام رد على مقالتهم الشنعاء المتضمنة زعم عدم استناد أمره ونهيه إلى سند ، ثم قال : وجواب الشرط محذوف يدل عليه فحوى الكلام أي أتقولون والمعنى أنكم عددتم ما صدر عني من الأوامر والنواهي من قبيل ما لا يصح أن يتفوه به عاقل وجعلتموه من أحكام الوسوسة والجنون واستهزأتم بي وبأفعالي وقلتم ما قلتم ، فأخبروني إن كنت من جهة ربي ومالك أموري ثابتا على النبوة والحكمة التي ليس وراءها غاية للكمال ولا مطمح لطامح ورزقني لذلك رزقا حسنا أتقولون في شأني وشأن أفعالي ما تقولون مما لا خير فيه ولا شر وراءه؟! وادّعى أن هذا هو الجواب الذي يستدعيه السياق ويساعده النظم الكريم.

وفسر القاضي ـ الرزق الحسن ـ بما آتاه الله تعالى من المال الحلال ، ومعنى كون ذلك منه تعالى أنه من عنده سبحانه وبإعانته بلا كد في تحصيله ، وقدر جواب الشرط فهل يسع لي مع هذا الإنعام الجامع للسعادة الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره ونهيه ، وذكر أن هذا الكلام منه عليه‌السلام اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء ، وقدر بعضهم ما قدره العلامة الطيبي.

وزعم شيخ الإسلام أن ذينك التقديرين بمعزل عما يستدعيه السياق ، وأنهما إنما يناسبان إن حمل كلامهم على الحقيقة ؛ وأريد بالصلاة الدين حسبما نقل عن أبي مسلم وعطاء ، ويكون المراد بالرزق الحسن على ذلك ما آتاه الله تعالى من الحلال فقط كما روي عن الضحاك ويكون المعنى حينئذ أخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ورزقني مالا حلالا أستغني به عن العالمين أيصح أن أخالف أمره أو أوافقكم فيما تأتون وما تذرون انتهى.

وأقول : لا يخفى أن المناسب للمقام حمل الرزق الحسن على ما آتاه الله تعالى من الحلال الخالي عن التطفيف والبخس ، وتقدير جواب الشرط نحو ما قدره القاضي ليس في الكلام ما يأبى عنه ، ولا يتوقف على حمل الكلام على الحقيقة والصلاة على الدين بل يتأتى تقدير ذلك ، ولو كان الكلام على سبيل التهكم والصلاة بالمعنى المتبادر بأن يقال : إنهم قاتلهم الله تعالى لما قالوا في ظلال الضلال وقالوا ما قالوا في حق نبيهم وما صدر منه من الأفعال لم يكن لهم مقصود إلا ترك الدعوة وتركهم وما يفعلون ، ولم يتعرض عليه‌السلام صريحا لرد قولهم المتضمن لرميه ـ وحاشاه بالوسوسة والجنون والسفه والغواية ـ إيذانا بأن ذلك مما لا يستحق جوابا لظهور بطلانه وتعرض

٣١٤

لجوابهم عما قصدوه بكلامهم ذلك بما يكون فيه قطع أطماعهم من أول الأمر مع الإشارة إلى رد ما تضمنته مقالتهم الشنعاء فكأنه عليه‌السلام قال لهم : يا قوم إنكم اجترأتم على هذه المقالة الشنيعة وضمنتموها ما هو ظاهر البطلان لقصد أن أترككم وشأنكم من عبادة الأوثان ونقص المكيال والميزان فأخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ومستثنيا بما رزقني من المال الحلال عنكم وعن غيركم أيصح أن أخالف وحيه وأوافق هواكم لا يكون ذلك مني أصلا فإذن لا فائدة لكم في هذا الكلام الشنيع ، وربما يقال : إن في هذا الجواب إشارة إلى وصفهم بنحو ما وصفوه به عليه‌السلام كأنه قال : إن طلبكم مني ترك الدعوة وموافقة الهوى مع أني مأمور بدعوتكم وغني عنكم مما لا يصدر عن عاقل ولا يرتكبه إلا سفيه غاو ، وكأن التعرض لذكر الرزق مع الكون على بينة للإشارة إلى وجود المقتضي وارتفاع ما يظن مانعا ، ولا يخفى ما في إخراج الجواب على هذا الوجه من الحسن فتأمل.

بقي أن الذي ذكره النحاة على ما قال أبو حيان في مثل هذا الكلام أعني (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ) إلخ أن تقدر الجملة الاستفهامية على أنها في موضع المفعول الثاني ـ لأرأيتم ـ المتضمنة معنى أخبروني المتعدية إلى مفعولين والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية ، وجواب الشرط ما يدل عليه الجملة السابقة مع متعلقها ، والتقدير ـ إن كنت على بينة من ربي فأخبروني هل يسع لي ـ إلخ فافهم ولا تغفل (وَما أُرِيدُ) بنهيي إياكم عما أنهاكم عنه عن البخس والتطفيف (أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي أقصده بعد ما وليتم عنه فأستبد به دونكم كما هو شأن بعض الناس في المنع عن بعض الأمور يقال : خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه ، وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده.

قال في البحر : والظاهر على ما ذكروه أن (أَنْ أُخالِفَكُمْ) في موضع المفعول به ـ لأريد ـ أي وما أريد مخالفتكم ، ويكون خالف بمعنى خلف نحو جاوز وجاز ، ويكون المعنى وما أريد أن أكون خلفا منكم ، و (إِلى) متعلقة بأخالف أو بمحذوف أي مائلا إلى ما أنهاكم عنه ، وقيل : في الكلام فعل محذوف معطوف على المذكور أي وأميل إلى إلخ ، ويجوز أن يبقى أخالف على ظاهره من المخالفة ، ويكون (إِنْ) وما بعدها في موضع المفعول به ـ لأريد ـ ويقدر مائلا إلى كما تقدم ، أو يكون (إِنْ) وما بعدها في موضع المفعول له ، و (إِلى ما) متعلقا ـ بأريد ـ أي وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه ، وقال الزجاج في معنى ذلك : أي ما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه (إِنْ أُرِيدُ) أي ما أريد بما أقول لكم (إِلَّا الْإِصْلاحَ) أي إلا أن أصلحكم بالنصيحة والموعظة (مَا اسْتَطَعْتُ) أي مدة استطاعتي ذلك وتمكني منه لا آلو فيه جهدا ـ فما ـ مصدرية ظرفية.

وجوز فيها أن تكون موصولة بدلا من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته أو (إِلَّا الْإِصْلاحَ) إصلاح ما استطعت ، وهي إما بدل بعض أو كل لأن المتبادر من الإصلاح ما يقدر عليه ، وقيل : بدل اشتمال ، وعليه وعلى الأول يقدر ضمير أي منه لأنه في مثل ذلك لا بد منه ؛ وجوز أيضا أن تكون مفعولا به للمصدر المذكور كقوله :

ضعيف النكاية أعداءه

يخال الفرار يراخي الأجل

أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم ، والأبلغ الأظهر ما قدمناه لأن في احتمال البدلية إضمارا وفوات المبالغة ؛ وفي الاحتمال الأخير إعمال المصدر المعرف في المفعول به ، وفيه ـ مع أنه لا يجوز عند الكوفيين ويقل عند البصريين ـ فواتها ، وزيادة إضمار مفعول «استطعت» (وَما تَوْفِيقِي) أي ما كوني موفقا لتحقيق ما أتوخاه من إصلاحكم (إِلَّا بِاللهِ) أي بتأييده سبحانه ومعونته.

واختار بعضهم أن يكون المراد ـ وما توفيقي لإصابة الحق والصواب في كل ما آتي وأذر إلا بهدايته تعالى

٣١٥

ومعونته ـ والظاهر أن المراد وما كل فرد من أفراد توفيقي لما صرحوا به من أن المصدر المضاف من صيغ العموم ، ويؤول إلى هذا ما قيل : إن المعنى ما جنس توفيقي لأن انحصار الجنس يقتضي انحصار أفراده لكن على الأول بطريق المفهوم. وعلى الثاني بطريق المنطوق ، وتقدير المضاف بعد الباء مما التزمه كثير ، وفيه على ما قيل : دفع الاستشكال بأن فاعل التوفيق هو الله تعالى ، وأهل العربية يستقبحون نسبة الفعل إلى الفاعل بالباء لأنها تدخل على الآلة فلا يحسن ضربي بزيد ، وإنما يقال : من زيد ، فالاستعمال الفصيح بناء على هذا ـ وما توفيقي إلا من عند الله ووجه الدفع بذلك التقدير ظاهر لأن الدخول ليس على الفاعل حينئذ.

وجوز أن يكون ذلك التقدير لما أن التوفيق وهو كون فعل العبد موافقا لما يحبه الله تعالى ويرضاه لا يكون إلا بدلالة الله تعالى عليه ، ومجرد الدلالة لا يجدي بدون المعونة منه عز شأنه (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في ذلك ، أو في جميع أموري لا على غيره فإنه سبحانه القادر المتمكن من كل شيء ، وغيره سبحانه عاجز في حد ذاته بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار كما أشار إليه الكتاب وعاينه أولو البصائر والألباب (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي أرجع فيما أنا بصدده ، أو أقبل بشراشري في مجامع أموري لا إلى غيره ، والجملة معطوفة على ما قبلها ، وكأن إيثار صيغة الاستقبال فيها على الماضي الأنسب للتقرر والتحقق كما في التوكل لاستحضار الصورة والدلالة على الاستمرار ، ولا يخفى ما في جوابه عليه‌السلام مما لا يكاد يوجد في كلام خطيب إلا أن يكون نبيا.

وفي أنوار التنزيل أن لأجوبته عليه‌السلام الثلاثة يعني (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) إلخ (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ) إلخ و (إِنْ أُرِيدُ) إلخ على هذا النسق شأنا ، وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره ثلاثة حقوق أهمها وأعلاها حق الله تعالى ، فإن الجواب الأول متضمن بيان حق الله تعالى من شكر نعمته والاجتهاد في خدمته. وثانيها حق النفس ، فإن الجواب الثاني متضمن بيان حق نفسه من كفها عما ينبغي أن ينتهي عنه غيره. وثالثها حق الناس فإن الجواب الثالث متضمن للإشارة إلى أن حق الغير عليه إصلاحه وإرشاده ؛ وإنما لم يعطف قوله : (إِنْ أُرِيدُ) إلخ على ما قبله لكونه مؤكدا ومقررا له لأنه لو أراد الاستئثار بما نهى عنه لم يكن مريدا للإصلاح ، ولا ينافي هذا كونه متضمنا لجواب آخر ، وكأن قوله : (وَما تَوْفِيقِي) إلخ إزاحة لما عسى أن يوهمه إسناد الاستطاعة إليه بإرادته من استبداده بذلك ، ونظير ذلك (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥] وفيه مع ما بعده إشارة إلى محض التوحيد ، وقال غير واحد : إنه قد اشتمل كلامه عليه‌السلام على مراعاة لطف المراجعة ورفق الاستنزال والمحافظة على حسن المجاراة والمحاورة ، وتمهيد معاقد الحق بطلب التوفيق من جانبه تعالى والاستعانة به عز شأنه في أموره وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم ، وقيل : وفيه أيضا تهديدهم بالرجوع إلى الله تعالى للجزاء ، وذلك من قوله : (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) لأن الرجوع إليه سبحانه يكنى به عن الجزاء وهو وإن كان هنا مخصوصا به لاقتضاء المقام له لكنه لا فرق فيه بينه وبين غيره ، وفيه مع خفاء وجه الإشارة أن الإنابة إنما هي الرجوع الاختياري بالفعل إليه سبحانه لا الرجوع الاضطراري للجزاء وما يعمه ، وقد يقال : إن في قوله : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) إشارة أيضا إلى تهديدهم لأنه عزوجل الكافي المعين لمن توكل عليه لكن لا يتعين أن يكون ذلك تهديدا بالجزاء يوم القيامة (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يكسبنكم (شِقاقِي) أي معاداتي ، وأصلها أن أحد المتعاديين يكون في عدوة وشق والآخر في آخر ، وروي هذا عن السدي وعن الحسن ضراري ، وعن بعض فراقي ، والكل متقارب ، وهو فاعل ـ يجرمنكم ـ والكاف مفعوله الأول ، وقوله سبحانه : (أَنْ يُصِيبَكُمْ) مفعوله الثاني ، وقد جاء تعدي ـ جرم ـ إلى مفعولين كما جاء تعديها لواحد وهي مثل كسب في ذلك ، ومن الأول قوله :

٣١٦

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة

«جرمت» فزارة بعدها أن يغضبوا

وإضافة ـ شقاق ـ إلى ياء المتكلم من إضافة المصدر إلى مفعوله أي لا يكسبنكم شقاقكم إياي أن يصيبكم (مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) من الغرق (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) من الريح (أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) من الرجفة والصيحة ونهي الشقاق مجاز أو كناية عن نهيهم وهو أبلغ من توجيه النهي إليهم لأنه إذا نهى وهو لا يعقل علم نهي المشاقين بالطريق الأولى ، وقرأ ابن وثاب والأعمش «يجرمنكم» بضم الياء ، وحكي أيضا عن ابن كثير وهو حينئذ من أجرمته ذنبا إذا جعلته جارما له أي كاسبا ، والهمزة للنقل من جرم المتعدي إلى مفعول واحد ، ونظيره في النقل كذلك كسب المال فإنه يقال فيه أكسبه المال والقراءتان سواء في المعنى إلا أن المشهورة جارية على ما هو الأكثر استعمالا في كلام الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم ، وقرأ مجاهد والجحدري ، وابن أبي إسحاق «مثل» بالفتح ، وروي ذلك عن نافع ، وخرجه جمع على أن «مثل» فاعل أيضا إلا أنه بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن ، وقد جوز فيه وكذا في غير مع ـ ما وأن ـ المخففة والمشددة ذلك كالظروف المضافة للمبني ، وعلى هذا جاء قوله :

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت

حمامة في غصون ذات أو قال

وبعض على أنه نعت لمصدر محذوف والفتحة إعراب أي إصابة مثل إصابة قوم نوح ، وفاعل (يُصِيبَكُمْ) ضمير مستتر يعود على العذاب المفهوم من السياق وفيه تكلف (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) زمانا كما روي عن قتادة أو مكانا كما روي عن غيره ومراده عليه‌السلام أنكم إن لم تعتبروا بمن قبل لقدم عهد أو بعد مكان فاعتبروا بهؤلاء فإنهم بمرأى ومسمع منكم وكأنه إنما غير أسلوب التحذير بهم واكتفى بذكر قربهم إيذانا بأن ذلك مغن عن ذكر ما أصابهم لشهرة كونه منظوما في سمط ما ذكر من دواهي الأمم المرقومة ، وجوز أن يراد بالبعد البعد المعنوي أي ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوي ، فاحذروا أن يحل بكم ما حل بهم من العذاب ، وقد أخذ هذا المعنى بعض المتأخرين فقال :

فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم

فما قوم لوط منكم ببعيد

وإفراد «بعيد» وتذكيره مع كون المخبر عنه وهو قوم اسم جمع ، ومؤنثا لفظا على ما نص عليه الزمخشري ، واستدل له بتصغيره على قويمة وذلك يقتضي أن يقال : ببعيدة موافقة للفظ وببعداء موافقة للمعنى لأن المراد ، وما إهلاكهم أو وما هم بشيء بعيد ، أو وما هم في زمان بعيد أو مكان بعيد ، وجوز أن يكون ذلك لأنه يستوي في بعيد المذكر والمؤنث لكونه على زنة المصادر كالنهيق والصهيل. وفي الكشف عن الجوهري أن القوم يذكر ويؤنث لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت للآدميين تذكر وتؤنث مثل رهط ونفر وقوم وإذا صغرت لم تدخل فيه الهاء ، وقلت : قويم ورهيط ونفير ، ويدخل الهاء فيما يكون لغير الآدميين مثل الإبل والغنم لأن التأنيث لازم وبينه وبين ما نقل عن الزمخشري بون بعيد ، وعليه فلا حاجة إلى التأويل ، هذا ثم إنه عليه‌السلام لما أنذرهم سوء عاقبة صنيعهم عقبه طمعا في اروعائهم عما هم فيه من الضلال بالحمل على الاستغفار والتوبة فقال : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) مر تفسير مثله (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ) عظيم الرحمة فيرحم من يطلب منه المغفرة (وَدُودٌ) أي كثير الود والمحبة فيحب من يتوب ويرجع إليه ، والمشهور جعل الودود مجازا باعتبار الغاية أي مبالغ في فعل ما يفعل البليغ المودة بمن يوده من اللطف والإحسان.

وجوز أن يكون كناية عند من لم يشترط إمكان المعنى الأصلي ، والداعي لارتكاب المجاز أو الكناية على ما قيل : إن المودة بمعنى الميل القلبي وهو مما لا يصح وصفه تعالى به ، والسلفي يقول : المودة فينا الميل المذكور ، وفيه

٣١٧

سبحانه وراء ذلك مما يليق بجلال ذاته جل جلاله ، وقيل : معنى (وَدُودٌ) متحبب إلى عباده بالإحسان إليهم ، وقيل : محبوب المؤمنين ، وتفسيره هنا بما تقدم أولى ، والجملة في موضع التعليل للأمر السابق ولم يعتبر الأكثر ما أشرنا إليه من نحو التوزيع ، فقال : عظيم الرحمة للتائبين مبالغ في اللطف والإحسان بهم ، وهو مما لا بأس به (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) أي ما نفهم ذلك كأنهم جعلوا كلامه المشتمل على فنون الحكم والمواعظ وأنواع العلوم والمعارف إذ ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل ولم يجدوا إلى محاورته عليه‌السلام سبيلا من قبيل التخليط والهذيان الذي لا يفهم معناه ولا يدرك فحواه ، وقيل : قالوا ذلك استهانة به عليه‌السلام كما يقول الرجل لمن لا يعبأ به : لا أدري ما تقول ، وليس فيه كثير مغايرة للأول ، ويحتمل أن يكون ذلك لعدم توجههم إلى سماع كلامه عليه‌السلام لمزيد نفرتهم عنه أو لغباوتهم وقصور عقولهم ، قيل : وقولهم (كَثِيراً) للفرار عن المكابرة ولا يصح أن يراد به الكل وإن ورد في اللغة لأن مما تقول يأبى ذلك كما أن (كَثِيراً) نفسه يأبى حمل كلامهم هذا على أنه كناية عن عدم القبول ، وزعم بعضهم أنهم إنما لم يفقهوا كثيرا مما يقول لأنه عليه‌السلام كان ألثغ ، وأظن أنه لم يفصح بذلك خبر صحيح على أن ظاهر ما جاء من وصفه عليه‌السلام بأنه خطيب الأنبياء يأبى ذلك. ولعل صيغة المضارع للإيذان بالاستمرار (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا) أي فيما بيننا (ضَعِيفاً) لا قوة لك ولا قدرة على شيء من الضر والنفع والإيقاع والدفع.

وروي عن ابن عباس وابن جبير وسفيان الثوري وأبي صالح تفسير الضعيف بالأعمى وهي لغة أهل اليمن ، وذلك كما يطلقون عليه ضريرا وهو من باب الكناية على ما نص عليه البعض ، وإطلاق البصير عليه كما هو شائع من باب الاستعارة تلميحا ، وضعف هذا التفسير بأن التقييد بقولهم : فينا بصير لغوا لأن من كان أعمى يكون أعمى فيهم وفي غيرهم وإرادة لازمه وهي الضعف بين من ينصره ويعاديه لا يخفى تكلفه ، ومن هنا قال الإمام : جوز بعض أصحابنا العمى على الأنبياء عليهم‌السلام لكن لا يحسن الحمل عليه هنا ، وأنت تعلم أن المصحح عند أهل السنة أن الأنبياء عليهم‌السلام ليس فيهم أعمى ، وما حكاه الله تعالى عن يعقوب عليه‌السلام كان أمرا عارضا وذهب.

والأخبار المروية عمن ذكرنا في شعيب عليه‌السلام لم نقف على تصحيح لها سوى ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فإن الحاكم صحح بعض طرقه لكن تصحيح الحاكم كتضعيف ابن الجوزي غير معول عليه ، وربما يقال فيه نحو ما قيل في يعقوب عليه‌السلام ، فقد أخرج الواحدي وابن عساكر عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بكى شعيب عليه‌السلام من حب الله تعالى حتى عمي فرد الله تعالى عليه بصره وأوحى إليه يا شعيب ما هذا البكاء أشوقا إلى الجنة أم خوفا من النار ، فقال : لا ولكن اعتقدت حبك بقلبي فإذا نظرت إليك فلا أبالي ما الذي تصنع بي ، فأوحى الله تعالى إليه يا شعيب إن يكن ذلك حقا فهنيئا لك لقائي يا شعيب لذلك أخدمتك موسى ابن عمران كليمي» ، وذهب بعض المعتزلة إلى أنه لا يجوز استنباء الأعمى لكونه صفة منفرة لعدم الاحتراز معه عن النجاسات ولأنه يخل بالقضاء والشهادة فإخلاله بمقام النبوة أولى ، وأجيب بأنا لا نسلم عدم الاحتراز معه عن النجاسات فإن كثيرا ممن نشاهده من العميان أكثر احترازا عنها من غيره ، وبأن القاضي والشاهد يحتاجان إلى التمييز بين المدعي والمدعى عليه ، والنبي لا يحتاج لتمييز من يدعوه مع أنه معصوم فلا يخطئ كغيره كذا قيل ، فلينظر (وَلَوْ لا رَهْطُكَ) أي جماعتك قال الراغب : هم ما دون العشرة.

وقال الزمخشري : من الثلاثة إلى العشرة ، وقيل : إلى السبعة ، وقيل : بل يقال : إلى الأربعين ، ولا يقع فيما قيل ـ كالعصبة. والنفر ـ إلا على الرجال ، ومثله الراهط وجمعه أرهط وجمع الجمع أراهط ، وأصله على ما نقل عن الرماني الشد ، ومنه الرهيط لشدة الأكل ، والراهطاء لحجر اليربوع لأنه يتوثق به ويخبئ فيه ولده ، والظاهر أن مرادهم لو لا

٣١٨

مراعاة جانب رهطك (لَرَجَمْناكَ) أي لقتلناك برمي الأحجار ، وهو المروي عن ابن زيد ، وقيل : ذلك كناية عن نكاية القتل كأنهم قالوا : لقتلناك بأصعب وجه ، وقال الطبري : أرادوا لسببناك كما في قوله تعالى : (لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم : ٤٦] ، وقيل : لأبعدناك وأخرجناك من أرضنا ، ولم يجوزوا أن يكون المراد لو لا ممانعة رهطك ومدافعتهم لأن ممانعة الرهط وهم عدد نزر لألوف مؤلفة مما لا يكاد يتوهم ؛ ومعنى (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) ما أنت بمكرم محترم حتى نمتنع من رجمك وإنما نكف عنك للمحافظة على حرمة رهطك الذين ثبتوا على ديننا ولم يختاروك علينا ، والجار الأول متعلق (بِعَزِيزٍ) وجاز لكون المعمول ظرفا والباء مزيدة ، ولك أن تجعله متعلقا بمحذوف يفسره الظاهر وهو خبر أنت ، وقد صرح السكاكي في المفتاح أنه قصد بتقديم هذا الضمير الذي هو فاعل معنوي وإن لم يكن الخبر فعلا بل صفة مشبهة وإيلائه النفي الحصر والاختصاص أي اختصاص النفي بمعنى أن عدم العزة مقصور عليك لا يتجاوزك إلى رهطك لا بمعنى نفي الاختصاص بمعنى لست منفردا بالعزة وهو ظاهر ، قاله العلامة الثاني ، وقال السيد السند : إنه قصد فيه نفي العزة عن شعيب عليه‌السلام وإثباتها لرهطه فيكون تخصيصا للعزة بهم ويلزمه تخصيص عدمها به إلا أن المتبادر كما يشهد به الذوق السليم هو القصد إلى الأول ، واستدل السكاكي على كون ذلك للاختصاص بقوله عليه‌السلام في جواب هذا الكلام ما حكي بقوله عز شأنه : (قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) أي من نبي الله على ما قال عليه الرحمة ، ووجه الاستدلال كما قال العلامة وغيره : إنه لو لم يكن قصدهم اختصاصه بنفي العزة بل مجرد الإخبار بعدم عزته عليهم لم يستقم هذا الجواب ولم يكن مطابقا لمقالهم إذ لا دلالة لنفي العزة عنه على ثبوتها للغير ، وإنما يدل على ذلك اختصاصه بنفي العزة.

واعترض صاحب الإيضاح بأن هذا من باب أنا عارف وهو لا يفيد الاختصاص وفاقا وإنما يفيده التقديم على الفعل مثل أنا عرفت ، وكون المشتقات قريبة من الأفعال في التقوى لا يقتضي كونها كالأفعال في الاختصاص والتمسك بالجواب ضعيف لجواز أن يكون جوابا لقولهم : (لَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) فإنه يدل على أن رهطه هم الأعزة حيث كان الامتناع عن رجمه بسببهم لا بسببه ومعلوم بحسب الحال والمقام أن ذلك لعزتهم لا لخوفهم ، وتعقبه السيد السند بأن صاحب الكشاف صرح بالتخصيص في قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون : ١٠٠] فكيف يقال : باب أنا عارف لا يفيد الاختصاص اتفاقا وإن جعله جوابا لما (أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) هو الظاهر بأن يجعل التنوين للتعظيم فيدل على ثبوت أصل العزة له عليه‌السلام ولا دلالة لقولهم : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) على اشتراك العزة فلا يلائمه أرهطي أعز عليكم ، ثم قال : فإن قيل : شرط التخصيص عند السكاكي أن يكون المقدم بحيث إذا أخر كان فاعلا معنويا ولا يتصور ذلك فيما نحن فيه قلنا : إن الصفة بعد النفي تستقل مع فاعلها كلاما فجاز أن يقال : ما عزيز أنت على أن يكون أنت تأكيدا للمستتر ثم يقدم ويدخل الباء على عزيز بعد تقديم (أَنْتَ) وجعله مبتدأ. وكذلك قوله سبحانه : (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) [هود : ٢٩] (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) [الزمر : ٤١ ، الشورى : ٦] مما يلي حرف النفي وكان الخبر صفة ، وقد صرح صاحب الكشاف وغيره بإفادة التقديم الحصر في ذلك كله ، وأما صورة الإثبات نحو أنا عارف فلا يجري فيها ذلك فلا يفيد عنده تخصيصا ، وإن كان مفيدا إياه عند من لا يشترط ذلك.

وأجاب صاحب الكشف عما قاله صاحب الإيضاح بعد نقل خلاصته : بأن ما فيه الخبر وصفا كما يقارب ما فيه الخبر فعلا في إفادة التقوى على ما سلمه المعترض يقاربه في إفادة الحصر لذلك الدليل بعينه ، وأن قولهم : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) كفى به دليلا أن حق الكلام أن يفاد التخصيص لا أصل العز ففهمه من ذلك لا ينافي كونه جوابا

٣١٩

لهذا الكلام بل يؤكده ، وقد صرح الزمخشري بإفادة نحو هذا التركيب الاحتمالين في أنها كلمة هو قائلها ، وقال العلامة الطيبي : إن قوله تعالى : (لَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) وقوله سبحانه : (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) من باب الطرد والعكس عنادا منهم فلا بد من دلالتي المنطوق ، والمفهوم في كل من اللفظين انتهى.

ويعلم من جميع ما ذكر ضعف اعتراض صاحب الإيضاح والعجب من العلامة حيث قال : إنه اعتراض قوي ؛ وأشار السكاكي بتقدير المضاف إلى دفع الإشكال بأن كلامهم إنما وقع في شعيب عليه‌السلام وفي رهطه وأنهم هم الأعزة دونه من غير دلالة على أنهم أعز من الله تعالى.

وأجيب أيضا بأن تهاونهم بنبي الله تعالى تهاون به سبحانه فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله تعالى أو بأن المعنى أرهطي أعز عليكم من الله تعالى حتى كان امتناعكم عن رجمي بسبب انتسابي إليهم وأنهم رهطي لا بسبب انتسابي إلى الله تعالى وأني رسوله. ثم ما ذكره السيد قدس‌سره من جعل التنوين في ـ عزيز ـ للتعظيم وحينئذ يدل الكلام على ثبوت أصل العزة له عليه‌السلام فيلائمه أرهطي أعز؟ إلخ صحيح في نفسه إلا أن ذلك بعيد جدا من حال القوم ، فإن الظاهر أنهم إنما قصدوا نفي العزة عنه عليه‌السلام مطلقا وإثباتها لرهطه لا نفي العزة العظيمة عنه وإثباتها لهم ليدل الكلام على اشتراكهما في أصل العزة وزيادتها فيهم ، وذلك لأن العزة وإن لم تكن عظيمة تمنع من القتل بالحجارة الذي هو من أشر أنواع القتل ، ولا أظن إنكار ذلك إلا مكابرة ، وكأنه لهذا لم يعتبر مولانا أبو السعود عليه الرحمة جعل التنوين للتعظيم لتتأتى المشاركة فيظهر وجه إنكار الأعزية فاحتاج للكشف عن ذلك مع عدم المشاركة ، فقال : وإنما أنكر عليه‌السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى مع أن ما أثبتوه إنما هو مطلق عزة رهطه لا أعزيتهم منه عزوجل مع الاشتراك في أصل العزة لتثنية التقريع وتكرير التوبيخ حيث أنكر عليهم أولا ترجيح جنبة الرهط على جنبة الله تعالى. وثانيا نفي العزة بالمرة ، والمعنى أرهطي أعز عليكم من الله فإنه مما لا يكاد يصح ، والحال أنكم لم تجعلوا له تعالى حظا من العزة أصلا (وَاتَّخَذْتُمُوهُ) بسبب عدم اعتدادكم بمن لا يرد ولا يصدر إلا بأمره (وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) شيئا منبوذا وراء الظهر منسيا انتهى.

وأنا أقول : قد ذكر الرضي أن المجرور بمن التفضيلية لا يخلو من مشاركة المفضل في المعنى إما تحقيقا كما في ـ زيد أحسن من عمرو ـ أو تقديرا كقول علي كرم الله تعالى وجهه : لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان وذلك لأن إفطار يوم الشك الذي يمكن أن يكون من رمضان محبوب عند المخالف فقدره علي كرم الله تعالى وجهه محبوبا إلى نفسه أيضا ، ثم فضل صوم شعبان عليه فكأنه قال : هب أنه محبوب عندي أيضا أليس صوم يوم من شعبان أحب منه انتهى ، وما في الآية يمكن تخريجه على طرز الأخير فيكون إنكاره عليه‌السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى على تقدير أن يكون عزوجل عزيزا عندهم أيضا ، ويعلم من ذلك إنكار ما هم عليه بطريق الأولى ، وكأن هذا هو الداعي لاختيار هذا الأسلوب من الإنكار ، ووقوعه في الجواب لا يأبى ذلك ، وإن قيل بجواز خلو المجرور ـ بمن ـ من مشاركة المفضل وإرادة مجرد المبالغة من أفعل المقرون بها بناء على مجيء ذلك بقلة ـ كما قال الجلال السيوطي في همع الهوامع ـ نحو العسل أحلى من الخل والصيف أحر من الشتاء ، واعتمد هنا على قرينة السباق والسياق فالأمر واضح ، واستحسن كون قوله تعالى : (وَاتَّخَذْتُمُوهُ) إلخ اعتراضا وفائدته تأكيد تهاونهم بالله تعالى ببيان أنهم قوم عادتهم أن لا يعبئوا بالله تعالى ويجعلوه كالشيء المنبوذ ، وجوز بعض كونه عطفا على ما قبله على معنى أفضلتم رهطي على الله سبحانه وتهاونتم به تعالى ونسيتموه ولم تخشوا جزاءه عزوجل ، وقال غير واحد : إنه يحتمل أن يكون الغرض من قوله عليه‌السلام (أَرَهْطِي) إلخ الرد والتكذيب لقومه فإنهم لما ادعوا أنهم لا يكفون

٣٢٠