شرح الصحيفة الكاملة السجّاديّة

السيّد محمّد باقر المشتهر بمحقّق الداماد

شرح الصحيفة الكاملة السجّاديّة

المؤلف:

السيّد محمّد باقر المشتهر بمحقّق الداماد


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بهار قلوب
الطبعة: ٢
ISBN: 964-93610-0-6
الصفحات: ٤٤٠

وبالجملة لا يعتمد على ما يختصّ بروايته ، دون ما تظافرت به الطرق كمقامنا هذا.

ثمّ المتوكّل لا نصّ عليه من الأصحاب بالتوثيق ، إلّا أنّ الشيخ تقي الدين الحسن بن داود ، ذكره في قسم الموثّقين من كتابه (١) ، ويلوح من ظاهر كلامه أنّ الذي روى دعاء الصحيفة عن يحيى بن زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام ، هو المتوكّل بن عمير بن المتوكّل ، وليس كذلك ، بل إنّما يرويه عن أبيه ، عن أبيه ، عن يحيى بن زيد على ما عرفت.

وفي النسخ الواقعة إلينا من الفهرست : المتوكّل بن عمير بن المتوكّل (٢) تصغير عمر.

وقد ضبط الشيخ ابن داود «المتوكّل بن عمر بن المتوكّل» مكّبراً ، وهو الموجود في كتاب الرجال للنجاشي بخطّ من نوثق به ، والله سبحانه أعلم.

قال : متوكّل بن عمر بن المتوكّل ، روى عن يحيى بن زيد دعاء الصحيفة ، أخبرنا الحسين بن عبيد الله ، عن ابن أخي طاهر ، عن محمّد بن مطهّر ، عن أبيه ، عن عمر بن المتوكّل ، عن أبيه المتوكّل ، عن يحيى بن زيد بالدعاء (٣).

(٨) قوله : وأحفى السؤال

الحفيّ المستقصي في السؤال ، وأحفى فلان في المسألة إذا أكثر وبالغ وألحّ.

(٩) قوله : جعلت فداءك

بالمدّ إذا كسرت الفاء ، وبالقصر إذا فتحتها ، على ما قد ثبت السماع ، وبهما قرء في التنزيل الكريم (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) (٤)

قال في مجمل اللغة : فديت الرجل أفديه وهو فداؤك ، إذا كسرت مددت وإذا فتحت تقول : هو فداك.

وقال الجوهري في الصحاح : الفداء إذا كسرت أوّله يمدّ ويقصر ، وإذا فتح فهو مقصور ، يقال فدى لك أبي ، ومن العرب من يكسّر فداءً للتنوين إذا جاور لام الجرّ خاصّة : تقول :

__________________

١. رجال ابن داود ص ٢٨٣.

٢. وفي المطبوع من الفهرست ص ١٩٩ طبع النجف : عمر مكبّراً.

٣. رجال النجاشي ص ٣٣٣.

٤. سورة محمّد «ص» : ٤.

٦١

فداءً لك ، لأنّه نكرة ، يريدون به معنى الدعاء. انتهى كلام الصحاح (١).

والتعويل هناك على قول المجمل ، كما هو مسلك الكشّاف والفائق.

(١٠) قوله : يمحو الله ما يشاء

فكتاب المحو والاثبات بعض مراتب القدر ، وبه يتعلّق البداء ، وفيه يتصحّح تبديل الأحكام التكوينيّة. وأمّا اُمّ الكتاب فهو لوح القضاء ، ولا يتطرّق إليه البداء ، ولا يتصوّر فيه التبديل.

(١١) قوله : أيّد هذا الأمر بنا

أي : معرفة الأئمّة عليهم السلام والمذاهب الحقّة.

(١٢) قوله : فأطرق إلى الأرض مليّاً

لفظة «مليّاً» ليست من الأصل ، بل هي في رواية «س».

قال في الكشّاف : مليّاً زماناً طويلاً ، من الملاوة مثلّثة. (٢)

وقال في المغرب : المليّ من النهار الساعة الطويلة ، عن الغوري ، وعن أبي علي الفارسي : المليّ المتّسع ، يقال : انتظرته مليّاً من الدهر ، أي : متّسعاً منه ، قال : وهو صفة استعملت استعمال الأسماء.

وقيل في قوله تعالى : (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (٣) أي : دهراً طويلاً ، عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير ، والتركيب دالّ على السعة والطول ، منه الملاء المتّسع من الأرض ، والجمع أملاء.

ويقال : أمليت للبعير في قيده وسّعت له ، ومنه (فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ) أي : أمهلتهم ، و

__________________

١. صحاح اللغة ٦ : ٢٤٥٣.

٢. الكشّاف : ٢ / ٥١١.

٣. سورة مريم : ٤٦.

٦٢

عن ابن الأنباري أنّه من الملاءة والملوءة ، وهما المدّة من الزمان ، وفي اُولاهما الحركات الثلاث ، وتملّ حبيبك عش معه ملاوة. انتهى.

قلت : ويقال أيضاً : فلان مليء بكذا ، إذا كان مطيقاً له ، قادراً عليه ، مضطلعاً به ، قاله في الكشّاف (١) أيضاً.

(١٣) قوله : من ابن عمّي

معاً ، أي : بفتح النون على مذهب من يحرّك الساكن (٢) بالفتح مطلقاً ، لملاحظة الخفّة ، وبكسرها عند من يذهب إلى تحريكه بالكسر ، لمراعاة المناسبة.

(١٤) قوله : وأخرجت له دعاء

يعني الصحيفة المكرّمة السجّاديّة ، وهي متواترة معلومة بالنقل المتواتر عن سيّد الساجدين عليه السلام.

ولكلّ من أشياخ الطائفة طريق في روايتها ونقلها عن مشيختهم ، بأسناد متّصل عنهم من صدر العصور الخالية إلى زمننا هذا ، كما في رواية سائر المتواترات.

فذلك هو الغرض من ذكر الأسانيد في المتواترات ، لا إثباتها من تلك الطرق ، كما في المظنونات الثابتة من طريق أخبار (٣) الآحاد.

قال ابن شهر آشوب ـ رحمه الله تعالى ـ في معالم العلماء : قال الغزالي : أوّل كتاب صنّف في الإسلام ، كتاب صنّفه أبو جريج في الآثار ، وحروف التفاسير عن مجاهد وعطاء بمكّة ، ثمّ كتاب معمّر بن راشد الصنعاني باليمن ، ثمّ كتاب الموطّأ بالمدينة لمالك بن أنس ، ثمّ جامع سفيان الثورى.

__________________

١. الكشّاف : ٢ / ٥١١.

٢. وفي «س» يحرّك به الساكن.

٣. في «ط» من طرق الأخبار.

٦٣

بل الصحيح أنّ أوّل من صنّف فيه أمير المؤمنين عليه السلام ، جمع كتاب الله جلّ جلاله ، ثمّ سلمان الفارسي رضي الله عنه ، ثمّ أبو ذرّ الغفاري رحمة الله عليه ، ثمّ أصبغ بن نباتة ، ثمّ عبد الله بن أبي رافع ، ثمّ الصحيفة الكاملة عن زين العابدين عليه السلام. (١)

(١٥) قوله : أملاه عليه

الإملاء على الكاتب ، وتصاريفه في أملا عليّ (٢) وأمليت عليه مثلاً ، أصله إملال ، وأملّ وأمللت من المضاعف ، فقلبت اللام للأخيرة ياءاً ، كما في التظنّي والتقصّي وتصاريفهما ، وهذا القلب في لغة العرب شايع ، وعلى الأصل في التنزيل الحكيم ، (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) (٣). فأمّا الإملاء بمعنى الإمهال في : (فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ) (٤) أي : أمهلتهم ، و (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٥) أي : أمهلهم.

والإملاء بمعنى التوسعة في أمليت للبعير في قيده ، أي : وسّعت له ، فليس الأمر فيهما على هذا السبيل ، فإنّهما من الناقص لا من المضاعف ، فالأوّل من الملاوة والملوءة ، وهما المدّة والزمان ، والثاني من الملاء وهو المتّسع من الأرض.

على ما قد تلونا عليك فخذ ما آتيناك بفضل الله ، واستقم وتحفّظ ، ولا تكن من الغافلين.

(١٦) قوله : صحيفة من الدعاء الكامل

دعاء الصحيفة المكرّمة السجّاديّة ، يلقّب بـ«زبور آل محمّد عليهم السلام» ذكر لك محمّد بن شهر آشوب ـ رحمه الله ـ في معالم العلماء ، في ترجمة المتوكّل بن عمر بن المتوكّل ، يروي عن يحيى بن زيد بن علي دعاء الصحيفة ، ويلقّب بـ«زبور آل محمّد عليهم السلام».

وقال في ترجمة يحيى بن علي بن محمّد الحسيني الرقّ : يروي عن الصادق عليه السلام الدعاء

__________________

١. معالم العلماء : ٢.

٢. في «ط» وأملى عليّ.

٣. سورة البقرة : ٢٨٢.

٤. سورة الحجّ : ٤٤.

٥. سورة الأعراف : ١٨٣ ، وسورة القلم : ٤٥.

٦٤

المعروف بـ «إنجيل أهل البيت عليهم السلام». (١)

(١٧) قوله رضي الله عنه : وإنّ أبي أوصاني ...

بكسر الهمزة ، والواو للاستئناف أو للحال ، وبفتحها عطفاً على حفظه ، أي : من جملة ما أوصاني أبي بصونها.

(١٨) قوله : إنّي لأدين الله بحبّكم

بفتح الهمزة للمتكلّم وحده وكسر الدال ، أي : أجعل حبّكم وطاعتكم ديناً لي أعبد الله عزّ وجلّ به ، والدين : الطريقة والسنّة.

وفي الصحاح : الدين الطاعة ، ودان له ، أي : أطاعه ، ومنه الدين ، والجمع الأديان ، يقال : دان بكذا ديانة وتديّن به ، وهو دين ومتديّن. (٢)

(١٩) قوله : بولايتكم

بفتح الواو بمعنى النصرة والمحبّة والوداد والانقياد ، والموالاة المحابّة والمتابعة ، والإضافة إلى ضمير خطاب الجمع ، إذن إضافة إلى المفعول.

وبكسرها بمعنى تولّي الاُمور وتدبيرها ، ومالكيّة التّصرّف فيها ، ووليّ اليتيم ووالي البلد مالك أمرهما ، والإضافة على هذا الفاعل.

وكذلك الولاء ـ بالفتح ـ للمعتق بالفتح ، والولاء ـ بالكسر ـ للمعتق بالكسر ، وميراث الولاء بالكسر لا بالفتح ، إذ ملاك الإرث هناك سلطان المعتق لاتباعة المعتق.

وحسبان بعض شهداء المتأخّرين في شرح اللمعة : أنّه بفتح الواو وأصله القرب والدنوّ (٣) لا أصل له يركن إليه.

__________________

١. معالم العلماء : ١٢٥ و ١٣١ والصحيح تقديم هذه التعليقة على قبلها ليوافق المتن.

٢. الصحاح : ٥ / ٢١١٨.

٣. شرح اللمعة : ٨ / ١٨١ ط النجف.

٦٥

قال ابن الأثير في النهاية : تختلف مصادر هذه الأسماء ، فالولاية ـ بالفتح ـ في النسب والنصرة والمعتق ، والولاية ـ بالكسر ـ في الأمر (١) ، والولاء في المعتق ، والموالاة من والي القوم.

ومنه الحديث «من كنت مولاه فعلي مولاه» قال الشافعي : يعني بذلك ولاء الإسلام ، كقوله تعالى : (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ).

وقول عمر لعلي عليه السلام : أصبحت مولى كلّ مؤمن ، أي : وليّ كلّ مؤمن. وقيل : سبب ذلك أنّ اُسامة قال لعلي عليه السلام : لست مولاي إنّما مولاي رسول الله صلّى الله عليه وآله وبارك وسلّم ، فقال عليه السلام : من كنت مولاه فعلي مولاه (٢). انتهى كلام النهاية.

(٢٠) قوله : ثمّ دعا بعيبة

العيبة ـ بالعين المهملة ـ : وعاء يجعل فيه الثياب ، وقيل : يجعل في لامة الحرب ، وبالجملة ما يوعي فيه شيء.

(٢١) قوله : فيكتمونه ويدّخرونه

بكسر التاء في رواية «س» من باب صيغة الازدواج والمشاكلة بالإضافة إلى «ويدّخرونه» (٣) كما في أخذني ما حدّث وقدّم ، بضمّ الدال فيهما للمشاكلة.

(٢٢) قوله رضي الله تعالى عنه : في خزائنهم لأنفسهم

بالهمزة بعد الألف ، فإنّ الياء أو الواو بعد الألف في أوزان فعائل ومفاعل إذا كانت

__________________

١. وفي المصدر : الإمارة.

٢. نهاية ابن الأثير ٥ : ٢٢٨.

٣. في «ط» : ما يدّخرونه.

٦٦

زائدة ، كما في وصائل وصحائف وعجائز وخزائن ، فإنّها تقلّب همزة على خلاف الأمر فيما يكون أصليّة ، فرقاً بين الزائدة والأصليّة ، إذ القياس القانوني في الأصليّة إبقاؤهما على الأصل ، كما في مقاول ومعايش غير مقلوبتين همزة.

وإذا اجتمعت الأصليّة والزائدة ، فالزائة ، أحرى بالتغيير ، والأصليّة أحقّ بالاحتفاظ ، إلّا إذا ما كانت حروف العلّة قد اكتنفت الألف من حاشيتها ، كما في أوائل وعوائق وتوائع وحرائر (١) ، فإنّ هنالك تقلب التي من بعد الألف همزة وإن كانت أصليّة.

والأمر في الحوائج على هذا السبيل على الضابط القياسي ، لكنّها تستعمل لا بالهمزة على خلاف الأصل والقياس ، وهناك كلام آخر سيتلى عليك.

والأمر في المصايب على العكس من ذلك ، وسيأتيك التنبيه عليه إن شاء الله العزيز.

(٢٣) قوله رضي الله عنه : فإنّهما قائمان في هذا الأمر

بالهمزة لا غير قياساً واستعمالاً. وضابط مناط إبدال العين همزة في بناء اسم الفاعل من الأجوف الثلاثي المجرّد ، صورةً ومعنىً من الأفعال على التحقيق مجموع أمرين :

أحدهما : أن يكون أنّها كانت قد أعلت في الفعل الماضي ، فإنّه الأصل المتفرّع عليه في الإعلال.

والآخر : أن يكون الإعلال ملزوم اجتماع العين ، وذلك في نحو قام فهو قائم ، وقال فهو قائل ، وسار فهو سائر ، وباع فهو بائع بالهمزة في الجميع ، فأمّا إذا فتحت الواو أو الياء في الفعل الماضي ، فإنّها تفتح في اسم الفاعل أيضاً ، كما في نحو عو فهو عاور ، وصيد فهو صابد ، وأيس فهو آيس ، جميعاً غير مهموز.

قال أبو يعقوب السكّاكي في القسم الأوّل من كتاب المفتاح في فصل هيئات المجرّد من الأفعال : وهذا ـ أعني التفرّع على الفعل الثابت القدم في الإعلال ـ هو الأصل عندي في

__________________

١. في «ط» : جبائر.

٦٧

دفع ماله مدخل في المنع عنه ، كسكون ما قبل المتعلّ من يخاف وأخواته ، إلّا إذا كان المانع امتناع ما قبل المعتلّ من التحريك به ، كالألف في قاول وبايع وتقاولوا وتبايعوا ، فإنّه يحتاج في دفعه إلى تقوية الدافع ، كنحو ما وجدت في باب قاول وبايع اسمي فاعلين من قال وباع ، حتّى أعلا فلزم اجتماع ألفين فعدل إلى الهمزة ، وهي تحصيل الفرق بينهما وبين عاور وصايد مثلاً اسمي فاعلين من عور وصيد ، وهذا المعنى قد يلتبس بمعنى التفرّع ، فيعدّان شيئاً واحداً ، فليتأمّل.

أو كان المانع تحصّل ما قبل المعتلّ بالإدغام عن التحريك ، كنحو ما في جوز وأيّد وتجوّز وتأيّد وقوّال وبيّاع أيضاً ، فلا مدفع له ، وكذا إذا كان المانع المحافظة على الصورة الالحاقية ، كجدول وفروع.

أو التنبيه على الأصل ، كما في بابي ما أقوله وهو أقول منه ، ونحو أغيلت المرأة واستحوذ عليه الشيطان ، وهذا فصل كلام أصحابنا فيه مبسوط وسيحمد الماهر في هذا الفنّ ما أوردت ، وبالله الحول وللمتقدّم الفضل. انتهى قوله بألفاظه. (١)

(٢٤) قوله عليه السلام : يردون الناس على أعقابهم القهقري

أي : يجعلونهم مرتدّين في دينهم ، على ما ذكره بن الأثير في النهاية ، ناقلاً إيّاه عن الأزهري. (٢)

(٢٥) قوله عليه السلام : يعني بني اُميّة

وروى أيضاً رئيس المحدّثين أبو جعفر الكليني ـ رضي الله عنه ـ في كتاب الروضة من جامعه الكافي بسنده عن جميل بن درّاج ، عن زرارة ، عن أحدهما عليهما السلام ، قال : أصبح رسول

__________________

١. مفتاح العلوم : ٢٠.

٢. نهاية ابن الأثير : ٤ / ١٢٩ ، قال فيه : قال الأزهري : معناه الارتداد عمّا كانوا عليه.

٦٨

الله صلى الله عليه وآله يوماً كئيباً حزيناً ، فقال له علي عليه السلام : ما لي أراك يا رسول الله كئيباً حزيناً؟

فقال : وكيف لا أكون كذلك؟! وقد رأيت في ليلتي هذه أنّ بني تيم وبني عدي وبني اُميّة يصعدون منبري هذا ، يردون الناس عن الاسلام القهقهرى.

فقلت : يا ربّ في حياتي أو بعد موتي؟ فقال : بعد موتك. (١)

قلت : وقد تظافرت الروايات البالغة حدّ التواتر من طرق العامّة والخاصّة أنّه صلى الله عليه وآله ، بعد هذه الرؤيا أسرّ إلى أبي بكر وعمر أمر بني اُميّة ، واستكتمهما عليه ذلك ، فأفشى عمر عليه صلى الله عليه وآله سرّه وحكاه للحكم بن أبي العاص ، وأسرّ إلى حفصة أمر أبي بكر وعمر ، وقال لها : إنّ أباك وأبا بكر يملكان أمر اُمّتي ، فاكتمي عليّ هذا ، فأفشت عليه صلى الله عليه وآله ، ونبّأت به عائشة ، فجاءت بذلك الوحي ونزلت فيه سورة التحريم ، ولذلك بسط يضيق عنه درع المقام ، فليطلب ممّا أخرجناه في مظانّه.

(٢٦) قوله : ولكن تدور رحى الإسلام

الذي يستبين لي في تفسيره ويحصل معناه ، ولست أظنّ أنّ ذا دربة (٢) ما في أساليب الكلام ، وأفانين البيان يتعدّاه (٣) ، وهو أنّ من منتهى العشر إلى مبدأ الخامسة والثلاثين من مهاجره صلى الله عليه وآله ، لم يكن رحى الإسلام تدور دورانها ، ولا تعمل عملها ، بل يكون منقطعة عن الدور معطّلة عن العمل.

ثمّ إنّه إنّما تستأنف دورها وتستعيد عملها على رأس خمسة وثلاثين من الهجرة المقدّسة المباركة ، وذلك بتداء أوان انصراف الأمر إلى منصرفه ، وابان (٤) رجاع الحقّ إلى أهله.

وقد كان حيث إذ تمكن أمير المؤمنين عليه السلام ، من أن يجلس مجلسه من الخلافة والإمامة ، ويتصرّف في منصبه من الوصاية والولاية.

__________________

١. روضة الكافي : ٣٤٥. ورواه العامة بطرق مختلفة راجع كتاب الطرائف المطبوع بتصحيحنا وتحقيقنا : ٣٧٦ ـ ٣٧٨.

٢. الدربة : الحذاقة بصناعة.

٣. في «س» : الكلام لبيان يتعدّاه.

٤. في «س» : وأمال.

٦٩

وأمّا الوسط ـ أعني ما بين ذينك الطرفين ـ فزمان فترة الدور وزمن انقطاع العمل ، وذلك الخمسة والعشرون سنة التي كانت هي مدّة حكومة لصوص الخلافة وأمارة مقمّصيها (١).

فأمّا العشر التي كانت هي مدّة اللبث في الدوران أوّلاً ، فهي زمانه صلّى الله عليه وآله وسلّم في طيبة المباركة التي هي دار هجرته ، ومستقرّ شوكة الإسلام ، وقوّته من بعد ضعفه وتأنأته (٢) ، ومن لم يستطع إلى ما تلوناه عليك سبيلاً ، تحامل محملاً وعراً وطريقاً سحيقاً بعيداً. (٣)

(٢٧) قوله عليه السلام : من مهاجرك

بفتح الجيم على هيئة المفعول بمعنى اسم المكان ، ومعناه وقت المهاجرة.

(٢٨) قوله : نيفاً

النيف فتح النون واسكان الياء المثنّاة من تحت ، تخفيف النيّف بتشديد الياء المكسورة ، كما في سائر النظائر ، ومنها ما في الحديث : «المؤمنون هيّنون ليّنون» والنيّف ما بين العقدين من عقود العشرات في مراتب العدد فوق العقد الأوّل إلى البلوغ على العقد الثاني.

وأصله نيوف على فعيل من النوف ، كما الخير من الخور ، والسيّد من السود ، والصيّب من الصوب ، والصيّت من الصوت ، والنيّر من النور ، والديّر من الدور. لا فعل من النيّف ، كما الخير من الخيّر ، والأيد من الأيّد ، والسير من السيّر ، والدير من الديّر.

قال في المغرب : النيّف بالتشديد كلّ ما كان من عقدين ، وقد يخفّف وأصله من الواو ، وعن المبرّد النيّف من واحد إلى ثلاثة ، وفي الحديث أنّه عليه السلام ساق مائة بدنة ، نحر منها نيّفاً وستّين ، وأعطى عليّاً عليه السلام الباقي ، وفي شرح الآثار : ثلاثاً وستّين ، ونحر علي عليه السلام سبعاً وثلاثين. انتهى كلام المغرب.

__________________

١. في «ط» مبغضيها.

٢. من الأنين والتأوّه.

٣. إشارة إلى ما ذكره ابن الأثير في جامع الاُصول : ١٢ / ٣٨٩ فراجع.

٧٠

(٢٩) قوله : وحدّثني محمّد بن الحسن بن روزبه

ليس في نسخة الشهيد هذه ، بل على الحاشية «روزبه» وكتب على رأسه «س».

قال في القاموس : في دور الدور ـ بالضمّ ـ قريتان بين سرّ من رآى وتكريت عليا وسفلى ، ومنها محمّد بن الفرخان بن روزبه ، وناحية من دجيل ، ومحلّة ببغداد قرب (١) أبي حنيفة ، منها محمّد بن مخلد بن حفص ، ومحلّة بنيسابور منها أبو عبد الله الدوري (٢). انتهى.

ونسخ القاموس مختلفة في روزبه : بالراء المضمومة قبل الواو الساكنة والزاء بعد الواو ، وقبل الموحّدة المكسورة. وبالزاء من حاشيتي الواو قبل وبعد. والصحيح هو الأوّل.

وقال الشيخ ـ رحمه الله ـ في كتاب الرجال في باب لم : محمّد بن الحسن البراني ، يكنّى ، أبا بكر كاتب له رواية (٣).

قلت : والذي يقوى به الظنّ من أبواب الطبقات أنّ أبا بكر المدايني الكاتب محمّد بن الحسن بن روزبه ، هذا هو الذي ذكره الشيخ ، وليس يصادم ذلك ما (٤) في القاموس : أنّ البرانيّة قرية ببخارا ، والنسبة إليها براني. (٥)

فلعلّ جدّه روزبه قد انتقل منها إلى المداين. والله سبحانه أعلم.

(٣٠) قوله : نزيل الرحبة

الرحبة : بفتح الراء قبل المهملة الساكنة ، وبعدها الموحّدة المفتوحة. والمعنى بها هاهنا المحلّة المعروفة بالكوفة.

قال في القاموس : الرحبة ـ بالفتح ـ قرية بدمشق ، ومحلّة بالكوفة ، وموضع ببغداد ، وموضع بالبادية ، وقرية باليمامة ، وصحراء بها أيضاً مياه وقرى ، والنسبة إلى الرحبة رحبيّ محرّكة. (٦)

__________________

١. في المصدر : قرب مشهد.

٢. القاموس : ٢ / ٣٢.

٣. رجال الشيخ : ٤٩٧.

٤. في «س» : لما.

٥. القاموس : ١ / ٣٧١.

٦. القاموس : ١ / ٧٢ ـ ٧٣.

٧١

وكان من دعائه عليه السلام

إذا ابتدء بالدعاء بدء بالتحميد لله عز وجل والثناء عليه فقال :

أَلْحَمْدُ للهِ (١) الاوَّلِ (٢) بِلا أَوَّل (٣) كَانَ قَبْلَهُ وَالاخِر بِلاَ آخِر (٤) يَكُونُ بَعْدَهُ ، الَّذِي قَصُرَتْ عَنْ رُؤْيَتِهِ أَبْصَارُ النَّاظِرِينَ ، وَعَجَزَتْ عَنْ نَعْتِهِ أَوهامُ اَلْوَاصِفِينَ ، ابْتَدَعَ بِقُدْرَتِهِ الْخَلْقَ اَبتِدَاعَاً وَاخْتَرَعَهُمْ عَلَى مَشِيَّتِهِ اخترَاعاً ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمْ طَرِيقَ إرَادَتِهِ ، وَبَعَثَهُمْ فِي سَبِيلِ مَحَبَّتِهِ ، لا

يَمْلِكُونَ تَأخِيراً عَمَا قَدَّمَهُمْ إليْهِ وَلا يَسْتَطِيعُونَ تَقَدُّماً إلَى مَا أَخَّرَهُمْ عَنْهُ ، وَجَعَلَ لِكُلِّ رُوْح (٥) مِنْهُمْ قُوتَاً مَعْلُوماً مَقْسُوماً مِنْ رِزْقِهِ ، لاَ يَنْقُصُ مَنْ زادَهُ نَاقِصٌ (٦) وَلاَ يَزِيدُ مَنْ نَقَصَ منْهُمْ زَائِدٌ ثُمَّ ضَرَبَ لَهُ فِي الْحَيَاةِ أَجَلاً مَوْقُوتاً وَنَصَبَ لَهُ أَمَداً مَحْدُوداً يَتَخَطَّأُ إلَيهِ بِأَيَّامِ عُمُرِهِ ، (٧) وَيَرْهَقُهُ (٨) بِأَعْوَامِ دَهْرِهِ ، حَتَّى إذَا بَلَغَ أَقْصَى أَثَرِهِ ، (٩) وَاسْتَوْعَبَ حِسابَ عُمُرِهِ ، قَبَضهُ إلَى ما نَدَبَهُ (١٠) إلَيْهِ

٧٢

مِنْ مَوْفُورِ ثَوَابِهِ ، أَوْ مَحْذُورِ عِقَابِهِ ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى عَدْلاً مِنْهُ ، تَقَدَّسَتْ أَسْمَآؤُهُ ، وَتَظَاهَرَتْ ألاؤُهُ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَوْ حَبَسَ عَنْ عِبَادِهِ مَعْرِفَةَ حَمْدِهِ عَلَى مَا أَبْلاَهُمْ (١١) مِنْ مِنَنِهِ الْمُتَتَابِعَةِ وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ الْمُتَظَاهِرَةِ لَتَصرَّفُوا فِي مِنَنِهِ فَلَمْ يَحْمَدُوهُ ، وَتَوَسَّعُوا فِي رِزْقِهِ فَلَمْ يَشْكُرُوهُ ، وَلَوْ كَانُوا كَذلِكَ لَخَرَجُوا مِنْ حُدُودِ الانْسَانِيَّةِ إلَى حَدِّ الْبَهِيمِيَّةِ ، فَكَانُوا كَمَا وَصَفَ فِي مُحْكَم كِتَابِهِ (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) وَالْحَمْدُ لله عَلَى مَا عَرَّفَنا مِنْ نَفْسِهِ ، وَأَلْهَمَنَا مِنْ شُكْرِهِ ، وَفَتَحَ لَنَا من أبوَابِ الْعِلْمِ بِرُبُوبِيّته ، وَدَلَّنَا عَلَيْهِ مِنَ الاِخْلاَصِ لَهُ فِي تَوْحِيدِهِ ، وَجَنَّبَنا مِنَ الالْحَادِ وَالشَّكِّ فِي أَمْرِهِ ، حَمْداً نُعَمَّرُ (١٢) بِهِ فِيمَنْ حَمِدَهُ مِنْ خَلْقِهِ ، وَنَسْبِقُ بِـهِ مَنْ سَبَقَ إلَى رِضَاهُ وَعَفْوِهِ ، حَمْداً يُضِيءُ لَنَا بِهِ ظُلُمَاتِ الْبَرْزَخِ ، (١٣) وَيُسَهِّلُ عَلَيْنَا بِهِ سَبِيلَ الْمَبْعَثِ ، وَيُشَرِّفُ بِهِ مَنَازِلَنَا عِنْدَ مَوَاقِفِ الاشْهَادِ يَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ) ، حَمْداً يَرْتَفِعُ (١٤) مِنَّا إلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ فِي كِتَاب مَرْقُوم يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ، حَمْداً تَقَرُّ بِهِ (١٥) عُيُونُنَا إذَا بَرِقَت الابْصَارُ ، (١٦) وَتَبْيَضُّ بِهِ وُجُوهُنَا إذَا اسْوَدَّتِ الابْشَارُ ، (١٧)

٧٣

حَمْداً نُعْتَقُ بِهِ مِنْ أَلِيمِ نَارِ اللهِ إلَى كَرِيمِ جِوَارِ اللهِ ، حَمْداً نُزَاحِمُ بِهِ (١٨) مَلاَئِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ ، وَنُضَامُّ (١٩) بِـهِ أَنْبِيآءَهُ الْمُـرْسَلِيْنَ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ (٢٠) الَّتِي لا تَزُولُ ، وَمَحَلِّ كَرَامَتِهِ الَّتِي لاَ تَحُولُ ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي اخْتَارَ لَنَا (٢١) مَحَاسِنَ الْخَلْقِ ، وَأَجرى عَلَيْنَا طَيِّبَاتِ الرِّزْقِ ، وَجَعَلَ لَنَا الفَضِيلَةَ بِالْمَلَكَةِ (٢٢) عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ ، فَكُلُّ خَلِيقَتِهِ مُنْقَادَةٌ لَنَا بِقُدْرَتِهِ ، وَصَآئِرَةٌ إلَى طَاعَتِنَا بِعِزَّتِهِ ، وَالْحَمْدُ لله الَّذِي أَغْلَقَ عَنَّا بَابَ الْحَّاجَةِ (٢٣) إلاّ إلَيْهِ ، فَكَيْفَ نُطِيقُ حَمْدَهُ؟ أَمْ مَتَى نُؤَدِّي شُكْرَهُ؟ لا ، مَتى؟ (٢٤) وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي رَكَّبَ فِينَا آلاَتِ الْبَسْطِ ، وَجَعَلَ لَنَا أدَوَاتِ الْقَبْضِ ، وَمَتَّعَنا بِاَرْواحِ الْحَياةِ ، وَأثْبَتَ فِينَا جَوَارِحَ الاعْمَال وَغَذَّانَا بِطَيِّبَاتِ الرِّزْقِ ، وَأغْنانَا بِفَضْلِهِ ، وَأقْنانَا (٢٥) بِمَنِّهِ ، ثُمّ أَمَرَنَا لِيَخْتَبِرَ (٢٦) طاعَتَنَا ، وَنَهَانَا لِيَبْتَلِيَ (٢٧) شُكْرَنَا ، فَخَالَفْنَا عَنْ طَرِيْقِ أمْرِهِ ، وَرَكِبْنا مُتُونَ زَجْرهِ ، فَلَم يَبْتَدِرْنا بِعُقُوبَتِهِ ، وَلَمْ يُعَاجِلْنَا بِنِقْمَتِهِ بَلْ تَانَّانا بِرَحْمَتِهِ ، تَكَرُّماً وَانْتَظَرَ مُراجَعَتَنَا بِرَأفَتِهِ حِلْماً ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي دَلَّنَا عَلَى التَّوْبَةِ الَّتِي لَمْ نُفِدْهَا (٢٨) إلاّ مِنْ فَضْلِهِ ، فَلَوْ لَمْ نَعْتَدِدْ مِنْ فَضْلِهِ إلاّ بِهَا لَقَدْ حَسُنَ بَلاؤُهُ عِنْدَنَا ، وَجَلَّ إحْسَانُهُ إلَيْنَا ، وَجَسُمَ فَضْلُهُ عَلَيْنَا ، فَمَا هكذا كَانَتْ سُنَّتُهُ فِي التَّوْبَةِ لِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا ، لَقَدْ وَضَعَ عَنَّا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ، وَلَمْ يُكَلِّفْنَا إلاّ وُسْعاً ، وَلَمْ يُجَشِّمْنَا إلاّ

٧٤

يُسْراً ، وَلَمْ يَدَعْ لاَحَـد مِنَّا حُجَّةً وَلاَ عُذْراً ، فَالْهَالِكُ مِنَّا مَنْ هَلَكَ عَلَيْهِ (٢٩) وَالسَّعِيدُ مِنَّا مَنْ رَغِبَ إلَيْهِ ، وَالْحَمْد للهِ بِكُلِّ مَا حَمِدَهُ بِهِ أدْنَى مَلائِكَتِهِ إلَيْهِ وَأَكْرَمُ خَلِيقَتِهِ عَلَيْهِ ، وَأرْضَى حَامِدِيْهِ لَدَيْهِ ، حَمْداً يَفْضُلُ سَآئِرَ الْحَمْدِ كَفَضْلِ رَبِّنا عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ ، ثُمَّ لَهُ الْحَمْدُ مَكَانَ كُلِّ نِعْمَة لَهُ عَلَيْنَا وَعَلى جَمِيعِ عِبَادِهِ (٣٠) الْمَاضِينَ وَالْبَاقِينَ ، عَدَدَ مَا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ مِنْ جَمِيعِ الاشْيَآءِ ، وَمَكَانَ كُلِّ وَاحِدَة مِنْهَا عَدَدُهَا أَضْعافَاً مُضَاعَفَةً أَبَداً سَرْمَداً إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، حَمْداً لاَ مُنْتَهَى لِحَدِّهِ وَلا حِسَابَ لِعَدَدِهِ وَلاَ مَبْلَغَ لِغَايَتِهِ وَلا انْقِطَاعَ لاَمَدِهِ ، حَمْدَاً يَكُونُ وُصْلَةً إلَى طَاعَتِهِ وَعَفْوِهِ ، وَسَبَباً إلَى رِضْوَانِهِ وَذَرِيعَةً إلَى مَغْفِرَتِهِ وَطَرِيقاً إلَى جَنَّتِهِ ، وَخَفِيْراً مِنْ نَقِمَتِهِ ، (٣١) وَأَمْناً مِنْ غَضَبِهِ ، وَظَهِيْراً عَلَى طَاعَتِهِ ، وَحَاجِزاً عَنْ مَعْصِيَتِهِ ، وَعَوْناً عَلَى تَأدِيَةِ حَقِّهِ وَوَظائِفِهِ ، حَمْداً نَسْعَدُ بِهِ فِي السُّعَدَاءِ (٣٢) مِنْ أَوْلِيَآئِهِ ، وَنَصِيرُ بِهِ فِي نَظْمِ الشُّهَدَآءِ (٣٣) بِسُيُوفِ أَعْدَائِهِ ، إنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيدٌ.

٧٥

(١) قوله عليه السلام : الحمد لله

أي : جنس الحمد وكلّ حمد ودميع المحامد لله سبحانه بالحقيقة ، إذ ما من خير بالذات أخر خير بالعرض في نظام الوجود طولاً أو عرضاً (١) إلّا وهو مستند إليه سبحانه بوسط أو لا بوسط. فقد جعل اختصاص الجنس دليلاً على اختصاص جميع الأفراد ، سلوكاً لطريقة البرهان ، وذلك باب من فنّ البلاغة.

إذ معناه : ذات كلّ متقرّر ووجود كلّ موجو لله ، كما قال جلّ سلطانه (لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (٢) إذ حقيقة الحمد هو الوصف بالجميل ، وكلّ تقرّر ووجود ينطق بلسان طباع الإمكان أن مفيضه ومبدعه هو [الحيّ] (٣) القيّوم الحقّ المتقرّر بنفسه الموجود بذاته.

فتكوّن هويّة كلّ ذي هويّة حمداً له سبحانه (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ). (٤)

أو المراد به عالم الحمد ، أعني : عالم الأمر ، ويقال له : عالم التسبيح والتحميد ، وهو عالم المجرّدات. إذ كلّ موجود بلسان ماله من الكمالات المطلقة يصف جاعله الحقّ بذلك الكمال ، ويشهد أنّه هناك على أقصى ما يتصوّر من التمام والبهاء وعالم الخلق لا خلاق له من الكمالات المطلقة إلّا الوجود ، فيكون عالم الأمر كلّه هو حقيقة الحمد كلّه. وبسط القول هناك على ذمّة سدرة المنتهى.

__________________

١. في «ن» بطولاً وعرضاً.

٢. سورة البقرة : ٢٥٥.

٣. الزيادة من «ن».

٤. سورة الاسراء : ٤٤.

٧٦

(٢) قوله عليه السلام : الأوّل بلا أوّل

الأوّل ضدّ الآخر. وأوّل أصله أوءل على أفعل مهموز الوسط ، كما ذهب إليه الجوهري (١). والعلماء المراجيح في فنون علم الأدب لا ووءل على فوعل كما زعمه بعض الأدبيّين.

فقوله : عليه السّلام «بلا أوّل» : إمّا بفتح اللام على النصب ، كما في رواية «س» على أنّه أفعل التفضيل ، أو أفعل الصفة على اعتبار الوصفيّة. وإمّا بالتنوين على الجرِّ ، كما في أصل الرواية على أنّه أفعل الصفة ، منسلخاً عن معنى الوصفيّة.

وضابط القول على ضرب من التفصيل : أنّك إذا أخذته أفعل التفضيل لم يسعك أن تصرفه بوجه من الوجوه ؛ إذ لا يتصوّر أن ينسلخ حينئذ عن كونه وصفاً لموصوف أصلاً ، وليس يسوغ استعماله إذن الّا بتقدير «من» واعتبار المفضّل عليه في جهة القول ، أو في طيّ الطيّة.

وأمّا إذا أخذته أفعل الصفة ، فإن اعتبرت فيه معنى الوصفيّة وجعلته وصفاً امتنع أن ينصرف ، تقول : حججت عاماً أوّل وفي عام أوّل بالنصب فيهما ، وهذا عامّ أوّل بالرفع.

وإن سلخته عن الوصفيّة واستعملته على أنّه ظرف ، كان مبنيّاً على الضمّ أبداً ، كما [في] سائر الظروف المقطوعة بالإضافة ، فتقول : إن أتيتني أوّل فلك كذا.

وإذا استعملته بمعنى البداءة والابتداء صرفته وأعربته ، تقول : ليس له أوّل وآخر على تنوين الرفع ، أي : ليس لوجوده بداءة وابتداء ، ولا نهاية وانتهاء.

وتقول في محلّ النصب : أثبت له أوّلاً وآخر ، أي ابتداءاً وانتهاءاً ومبدءاً ومنتهىً. وفي مقام الجرّ : الدائرة خطّ مستدير من غير أوّل وآخر ، أي : من غير بداية ونهاية ومبدأ ومنتهى بحسب الوضع.

فإذن قولك : قلت لك أوّلاً وآخراً ، معناه ابتداءاً وانتهاءاً ، والنصب على التمييز ، أو على

__________________

١. في الصحاح : ٥ / ١٨٣٨.

٧٧

أنّه منزوع الخافض ، لا على الظرف كما يتوهّم.

قال في مجمل اللغة : الأوّل ابتداء الشيء. (١) وربّما يستعمل بمعنى آخر وينصرف أيضاً ، كما تقول : أنعمت عليّ أوّلاً وآخراً. أي : قديماً وحديثاً ، وكذلك أفعل الصفة إذ جرّد عن الوصفيّة ، وجعل علماً شخصيّاً مثلاً ، كان ممتنع الصرف.

ثمّ إذا نكّر وانسلخ عن العلميّة انصرف ، ونوّن على النصب أو الرفع أو الجرّ ، تقول : رأيت أحمداً من الأحمدين ، وجاءني أحمد من الأحمدين ومررت بأحمد من الأحمدين.

وإذا تحقّقت ما تلوناه عليك استبان لك مغزى قول المغرب : فعلت هذا عاماً أوّل على الوصف. وعام الأوّل على الإضافة. وأيّ رجل دخل أوّل فله كذا ، مبنيّ على الضّمّ ، كما في من قبل ومن بعد ، ومعناه دخل أوّل كلّ أحد ، وقبل كلّ أحد ، وموضعه باب الواو. انتهى.

وكذلك قول المفردات والفائق وغيرهما : ويستعمل أوّل ظرفاً فيبنى على الضمّ ، نحو جئتك أوّل ، ويقول : بمعنى قديم نحو جئتك أوّلاً وآخراً ، أي : قديماً وحديثاً. انتهى. (٢)

وفي أساس البلاغة : جمل أوّل وناقة أوّلة إذا تقدّما الإبل. (٣)

وفي الصحاح : إذا جعلته صفة لم تصرفه ، تقول : لقيته عاماً أوّل. وإذا لم تجعله صفة صرفته ، تقول : لقيته عاماً أوّلاً. قال ابن السكّيت : ولا تقل عام الأوّل ، وتقول : ما رأيته مذ عام أوّل ، فمن رفع الأوّل جعله صفة لعام ، كأنّه قال : أوّل من عامنا. ومن نصبه جعله كالظرف ، كأنّه قال : مذ عام قبل عامنا ، وإذا ضممته على الغاية ، كقولك فعلته قبل. وإن أظهرت المحذوف نصبت فقلت : أبدأ به فعلك ، كما تقول قبل فعلك. انتهى. (٤)

وفي القاموس أيضاً مثله. (٥)

ثمّ فاضل تفتازان مشى في هذا الممشى ، وبنى على هذا الأساس في كتاب التلويح وفي حاشية الكشّاف ، لكنّه غبّب في الفحص تغبيباً ، وفرّط في التأويل تفريطاً ، إذ نقل قول

__________________

١. مجمل اللغة : ١ / ١٠٧.

٢. مفردات الراغب : ٣١.

٣. أساس البلاغة : ٢٥.

٤. الصحاح : ٥ / ١٨٣٨.

٥. القاموس : ٤ / ٦٢.

٧٨

الجوهري فحسب أنّ أوّلاً عنده محمول على الظرف ، وذلك إن هو إلّا حسبان سخيف.

فمن المنصرح في كلام النحوي أنّه حيث يكون أوّلاً مستعملاً على الظرف مع انقطاع الاضافة ، إنّما يصحّ فيه البناء على الضمّ لا غير.

فإذا قلت : فعلت كذا أوّلا لم يتصحّح حمله على الصفة ولا على الظرف.

إذ على الأوّل يتعيّن أوّل بالنصب من جهة منع الصرف ، وعلى الثاني أوّل بالرفع للبناء على الضمّ ، ولا يسوغ أوّلاً بالتنوين على الظرف أصلاً ، كما هو المتّضح من قول الجوهري وغيره ، ونحن قد أوضحناه فلا تكوننّ من الغافلين.

(٣) قوله عليه السلام : بلا أوّل

بلا أوّل في الأصل منوّناً على الجرّ ، بجعله أفعل الصفة لا أفعل التفضيل ، وفي رواية «س» بالفتح من غير تنوين ، لاعتباره أفعل التفضيل.

(٤) قوله عليه السلام : بلا آخر

بتنوين الجرّ وكسر الخاء المعجمة ، أي : من غير آخر يكون بعده ، وفي رواية «س» فتح الراء ، وأمّا مع فتح المعجمة على أفعل التفضيل ، أو كسرها على اعتبار لا لنفي الجنس ، ثمّ إدخال حرف الجرّ على الجملة ، كما سياقة الأمر في إيجاب سلب المحمول من لحاظ التفضيل ، دون الإيجاب العدولي على اللحاظ الإجمالي ، فليتعرّف.

(٥) قوله عليه السلام : لكلّ روح

في رواية «س» لكلّ روح وزوج معاً. أي : على رواية «س» يقرأ لكلّ. روح تارة ، ولكلّ زوج اُخرى ، والزوج يطلق ويراد به الشكل. والمراد بالزوج هنا الصنف أو النوع لا المتزاوجان.

فالمعنى : لكلّ نوع وصنف ، ومنه في التنزيل الحكيم : (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا) (١) أي : أنواعاً وأصنافاً.

__________________

١. سورة النبأ : ٨.

٧٩

قال ابن الأثير : الأصل في الزوج الصنف ، أو النوع لكلّ شيء. (١)

وفي رواية من عدا «س» روح ، بالراء المضمومة والحاء المهملة مكان زوج ، والمعنى : جعل لكلّ روح ، أو لكلّ صنف من أصناف المخلوقات.

وربّما يسبق إلى بعض الأذهان على رواية «س» جواز إرادة الزوج بالمعنى المشهور ، بناءاً على أنّ كلّ ما خلقه الباري تعالى جعله زوجين اثنين ، كما قد نطق به تنزيل القرآن الحكيم (٢) ، ولقد اقترّ في مقرّه في علم ما فوق الطبيعة أنّ كلّ ممكن زوج تركيبيّ.

(٦) قوله عليه السلام : لا ينقص من زاده ناقص

على صيغة المعلوم من نقصه ينقصه فهو منقوص وهذا ناقص إيّاه ، أي : من زاده الله سبحانه منهم لا ينقصه ناقص أصلاً ، ومن نقصه عزّ وجلّ لا يزيده زائد أبداً.

أو من نقص ينقص فهو ناقص ، أي : من زاده الله لا ينقص ، ومن نقصه لا يزداد أبداً.

وفي رواية «س» ينقص على صيغة المجهول ، والمعنى كما ذكر.

(٧) قوله عليه السلام : يتخطّأ إليه بأيّام عمره

يتخطّأ بالهمز ، وفيه وجهان :

الأوّل : ليس هو من المعتلّ بألف لينة منقلبة عن الواو تفعّلاً من الخطوة يقال : تخطّاه يتخطّاه وتخطّيته واتّخطّاه تخطّياً ، أي : تجاوزه وتعدّاه وتعدّيته وأتعدّاه وتعدّياً. بل هو من المهموز تفعّلاً من الخطأ بالهمز ، ولكن على تضمين الخطوة والتخطّي.

والمعنى : يمضى بقوّة وعدد ، ويذهب في إسراع واستعجال ، متّخذاً في إسراعه واستعجاله من أيّام عمره خطوات ، ومن أعوام دهره أقداماً ، فيتخطّأ متخطّياً إليه بأيّامه وأعوامه ، فيسرع في ذهابه بخطواته وخطاه التي هي أيّام عمره ، وأقدامه التي هي أعوام دهره ، فيخلف كلّ ما قبله وأمامه وراء ظهره.

وإنّما كان بناء التفعّل من الخطأ بمعنى الاستعجال ومجاوزة الحدّ ، لما أنّه قلّما يخلو السرعة

__________________

١. نهاية ابن الأثير : ٢ / ٣١٧.

٢. وهو قوله تعالى (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا).

٨٠