شرح الصحيفة الكاملة السجّاديّة

السيّد محمّد باقر المشتهر بمحقّق الداماد

شرح الصحيفة الكاملة السجّاديّة

المؤلف:

السيّد محمّد باقر المشتهر بمحقّق الداماد


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بهار قلوب
الطبعة: ٢
ISBN: 964-93610-0-6
الصفحات: ٤٤٠

تَعَبَّدَ لَكَ ، فَأَمَّا الْعَاصِيْ أَمْرَكَ ، وَالْمُوَاقِـعُ نَهْيَكَ فَلَمْ تُعَاجِلْهُ بِنَقِمَتِكَ ، لِكَيْ يَسْتَبْدِلَ بِحَالِهِ فِي مَعْصِيَتِكَ حَالَ الاِنَابَـةِ إلَى طَـاعَتِـكَ ، وَلَقَـدْ كَـانَ يَسْتَحِقُّ فِي أَوَّلِ مَـا هَمَّ بِعِصْيَانِكَ كُلَّ مَا أَعْدَدْتَ لِجَمِيعِ خَلْقِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ ، فَجَمِيعُ مَا أَخَّرْتَ عَنْهُ مِنْ وَقْتِ الْعَذَابِ ، وَأَبْطَأتَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ سَطَوَاتِ النَّقِمَةِ وَالْعِقَابِ تَرْكٌ مِنْ حَقِّكَ ، وَرِضىً بِدُونِ وَاجِبِكَ ، فَمَنْ أكْرَمُ مِنْكَ يَا إلهِي مِنْكَ ، وَمَنْ أَشْقَى مِمَّنْ هَلَكَ عَلَيْـكَ؟ (٩) لا! مَنْ؟ (١٠) فَتَبَارَكْتَ أَنْ تُوصَفَ إلاّ بِالإحْسَانِ ، وَكَـرُمْتَ أَنْ يُخَافَ مِنْكَ إلاّ الْعَدْلُ ، لا يُخْشَى جَوْرُكَ عَلَى مَنْ عَصَاكَ ، وَلاَ يُخَافُ إغْفَالُكَ ثَوَابَ مَنْ أَرْضَاكَ ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ ، وَهَبْ لِيْ أَمَلِي ، وَزِدْنِي مِنْ هُدَاكَ مَا أَصِلُ بِهِ إلَى التَّوْفِيقِ فِي عَمَلِي ، إنَّكَ مَنَّانٌ كَرِيمٌ.

٣٠١

(١) عن تأدية الشكر

وفي رواية «كف» : «في» مكان «عن».

(٢) قوله عليه السلام : من إحسانك ما يلزمه شكراً

وهو أنواع : الشكر والتوفيق والتيسير له ، و «من» ابتدائيّة لتعيين المبدأ والمنشأ ، أي : من تلقاء إحسانك ، و «ما» عبارة عن تلك الغاية المبلوغ إليها من الشكر التي هي نعمة اُخرى موجبة لشكر آخر.

هذا على ما في الأصل : أعني : يلزمه بضمّ المثنّاة من تحت وكسر الزاء من باب الإفعال ، وشكراً على هذا مفعول ثان له.

وأمّا على رواية يلزمه بفتح الياء والزاء فـ«ما» عبارة عن حقّ لازم يلزم أداؤه من حمد وثناء وطاعة وعبادة. وشكراً إمّا تمييز ، وإمّا مفعول له ، فليفقه.

(٣) قوله عليه السلام : حتّى كان شكر عبادك

حتّى في نسخة «ش» قدّس الله لطيفه مضروب عليها ومنسوبة إلى «خ».

(٤) قوله عليه السلام : أو لم تكن سببه بيدك

المثنّاة من فوق فيما أسنده «ش» قدّس الله لطيفه إلى رواية «ع» للخطاب ، والجملة و

٣٠٢

هي «سببه بيدك» في موقع الخبر. أي : لم تكن على هذه الصفة ، أي : يكون (١) سبب ذلك الأمر ـ وهو شكر عبادك إيّاك ـ بيدك فجازيتهم.

وأمّا على ياء الغيبة ـ كما في الأصل بالسواد ـ فاسم لم يكن والخبر بيدك.

(٥) قوله عليه السلام : وشاهدة بأنّك متفضّل

بخطّ «كف» : شاهدة من دون واو ، والواو مكتوبة بالحمرة.

(٦) قوله عليه السلام : بما يقصّر عمله

يقصّر بالتخفيف من باب طلب ، و «عمله» على الفاعليّة أصل الكتاب وبالتشديد رواية «ع» برواية «ش» قدّس الله لطيفه.

وعلى هذا فاذا قرىء عمله بالرفع على أن يكون هو الفاعل كان «عنه» بمعنى فيه. وإذا قرىء منصوباً على المفعول ، كان معنى «تقصيره» جعله قاصراً عنه.

فأمّا يقصّر بكسر الصاد والتخفيف ونصب عمله بالمفعوليّة على ما ربّما ينسب إلى «س» فليس على قانون اللغة ؛ إذ جميع تصاريف هذه الصيغة لازمها ومتعدّيها يبنى المضارع فيها على ضمّ العين أيّاً ما كان ماضيها ، فليتبصّر.

(٧) قوله عليه السلام : ثمّ لم تسمه القصاص

بفتح تاء الخطاب للمضارعة وضمّ السين ، أي : لم تكلّفه القصاص وتلزمه إيّاه ، وقد فصّلنا القول في تفسيره في دعاء الأخلاق. والقصاص العوض المساوىء للشيء ، والمراد هنا مطلق العوض ، وأصله من القصّ بمعنى القطع.

قال في المغرب : القصاص هو مقاصّة ولي المقتول القاتل والمجروح الجارح ، وهي

__________________

١. في «ن» : وهي كون.

٣٠٣

مساواته إيّاه في قتل أو جرح ، ثمّ عمّ في كلّ مساواة ، ومنه تقاصّوا : إذا قاصّ كلّ منهم صاحبه في الحساب ، فحبس عنه مثل ما كان له عليه.

(٨) قوله عليه السلام : من ثوابك لا ، متى؟

الوقف على كلّ من ثوابك ولا متى موؤوث السماع مأثور الرواية ، على المأخوذ عن المشيخة ، وهو مكتوب العلّامة بخطّ «كف».

(٩) قوله عليه السلام : ومن أشقى ممّن هلك عليك

«عليك» في موقع الحال و «على» ظرفيّة ، أو يعبّر في «هلك» تضمين ما يوصل بـ«على». ومعنى العبارة ومغزاها : ومن أشقى ممّن هلك على بابك وهو دخيل عليك لائذ بحرمك وحماك ، وملتجىء إلى طوارك وفنائك.

أو ممّن هلك عند وفوده ووروده عليك بعد الموت الذي حقيقته رفض إقليم الغرور ونضو جلباب الباطل.

أو «على» بمعنى «مع» كما في قوله علا من قائل (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (١) وقوله عزّ قائلاً (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّـهُ عَلَىٰ عِلْمٍ) (٢) أي : ومن أشقى ممّن هلك معك ومع أنت عليه من العناية البالغة ، والرأفة السابغة ، والفضل العظيم ، والرحمة الواسعة.

ومن هذا السبيل وعلى هذه السياقة ما في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام : إيّاك وأن ترى جنّة عرضها السماوات والأرض ، وليس لك منها موضع قدم.

ويحتمل أن يكون «على» بمعنى «في» أي : ومن أشقى ممّن هلك في معرفتك ، وظنّ أنّه قد يخيب منك آمل ، ويرد عن بابك سائل ، وأنّ في عظائم السّيئات والجهالات ما لا يسعه

__________________

١. سورة الدخان : ٣٢.

٢. سورة الجاثية : ٢٣.

٣٠٤

عفوك وغفرانك وحلمك وصفحك ، وفي الطلبات الجسيمة والمبتغيات العظيمة ما يقصر عنه جدتك وهبتك وجودك وكرمك.

ومن المحتمل أيضاً أن يكون «عليك» بمعنى «منك» كما في التنزيل الكريم (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) (١) أي : من الناس ، فيكون «هلك» في معنى خاب ، أي : ممّن خاب منك وردّ عن بابك خائباً.

(١٠) قوله عليه السلام : لا! من؟

الوقف على «عليك» و «لا» و «من» على قياس ما قد سبق ، وهذا يسمّى في علم البديع «صنعة الإكتفاء» أي لا يكون أحد أشقى ممّن هلك عليك ومن الذي يكون أشقى منه ، وقيل : معناه لا يهلك أحد عليك ومن الذي يهلك عليك. وليس بشيء ؛ إذ ليس فيه تأكيد ، وهو المقصود هنا.

وصنعة الإكتفاء في التنزيل الكريم متكرّر الوقوع جدّاً ، ومنه في قوله عزّ من قائل : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) (٢) وفي قوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ) (٣) من حذف جواب «لو» ومن ذلك قولهم ليس لا بعد له ، وقولهم وهذا دليل على أنّه.

__________________

١. سورة المطفّفين : ٢.

٢. سورة التكاثر : ٥.

٣. سورة التوبة : ٥٩.

٣٠٥

٣٨

وكان من دعائه عليه السلام في الاعتذار من تبعات العباد

ومن التقصير في حقوقهم وَفي فكاك رقبته من النار

أَللَّهُمَّ إنِّي أَعْتَـذِرُ إلَيْـكَ مِنْ مَـظْلُوم ظُلِمَ بِحَضْرَتِي فَلَمْ أَنْصُرْهُ ، وَمِنْ مَعْرُوف أُسْدِيَ إلَيَّ (١) فَلَمْ أَشْكُرْهُ ، وَمِنْ مُسِيء أعْتَذَرَ إلَيَّ فَلَمْ أَعْذِرْهُ ، وَمِنْ ذِيْ فَاقَة سَأَلَنِي فَلَمْ اُوثِرْهُ ، وَمِنْ حَقِّ ذي حَقٍّ لَزِمَنِي (٢) لِمُؤْمِن فَلَمْ أوَفِّـرْهُ ، (٣) وَمِنْ عَيْبِ مُؤْمِن ظَهَر لِي فَلَمْ أَسْتُرْهُ ، وَمِنْ كُلِّ إثْم عَرَضَ لِيْ فَلَمْ أَهْجُرْهُ ، أَعْتَذِرُ إلَيْكَ يَا إلهِي مِنْهُنَّ وَمِنْ نَظَائِرِهِنَّ اعْتِذَارَ نَدَامَة يَكُونُ وَاعِظاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ أَشْبَاهِهِنَّ ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ ، وَاجْعَلْ نَدَامَتِي عَلَى مَا وَقَعْتُ فِيهِ مِنَ الـزَّلاّتِ ، وَعَزْمِي عَلَى تَـرْكِ مَا يَعْـرِضُ لِيْ مِنَ السَّيِّئـاتِ ، تَوبَةً تُوجِبُ لِيْ مَحَبَّتَـكَ يا مُحِبَّ التَّوَّابِيْنَ.

٣٠٦

(١) قوله عليه السلام : ومن معروف اُسدي إليّ

وفي «خ» و «ش» أزلّ. وفي خ «كف زلل ، أزلّ بضمّ الهمزة وكسر الزاء وتشديد اللام على صيغة المجهول من باب الإفعال بمعنى أسدي.

وفي الحديث «من أزلّت إليه نعمة فليسشكرها» (١) أي : اُسديت إليه واُعطيها يقال : أزلّ فلان إليّ نعمة أو معروفاً ، أي : أسداها إليّ ، وأزلّ إليّ شيئاً من حقّي ، أي : أعطاني إيّاه. ومنه الزلّة بالفتح وهي ما يؤخذ من مائدة ويحمل إلى صديق.

قال صاحب القاموس : عراقيّة أو عاميّة. (٢) والحقّ أنها حجازيّة وعربيّة صراح ، وأصل ذلك من الزليل.

قال ابن الأثير : هو انتقام الجسم من مكان إلى مكان ، فاستعير لانتقال النعمة من المنعم إلى المنعم عليه ، يقال : زلّت منه إلى فلان نعمة وأزلّها إليه. (٣)

(٢) قوله عليه السلام : ومن حقّ ذي حقّ لزمني

الحقّ يطلق على ما هو الثابت في نفسه المتحقّق في حقيقته بحسب نفس الأمر ، وعلى ما يستحقّه ذو حقّ من الحقوق الشرعيّة ، أو العقليّة الثابتة لذويها شرعاً أو عقلاً ، فأضافه عليه السلام إلى ذي حقّ لينماز وينفصل المعنى الأخير الذي هو المروم هاهنا عن المعنى الأوّل.

قوله عليه السلام هذا معناه ، ومن حقّ من حقوق الناس لزمني لمؤمن ، وعلى هذا فلا يلزمنا أن

__________________

١. نهاية ابن الأثير : ٢ / ٣١٠.

٢. القاموس : ٣ / ٣٨٩.

٣. نهاية ابن الأثير : ٢ / ٣١٠.

٣٠٧

نتجشّم فنجعل لمؤمن بدلاً عن ذي حقّ أو بياناً له.

وفي رواية «كف» لزمني فلم اُوفره بدون لمؤمن.

(٣) قوله عليه السلام : فلم اُوفّره

العائد للحقّ ، والمقام مقام الظرف السادّ مسدّ ثاني مفعولي الفعل المحذوف بل المنوي. (١) والمعنى : من حقّ ذي حقّ لزمني لمؤمن فلم اُوفّره عليه. أي : ما وفيته حقّه وما أعطيته إيّاه.

قال المطرّزي في المغرب : وفّرت على فلان حقّه فاستوفره نحو وفيته فاستوفاه.

وكذلك الزمخشري قال في أساس البلاغة : وفّرت عليه حقّه فاستوفره نحو وفيته إيّاه فاستوفاه. (٢)

ومن لاحظ ذلك لم يلتبس عليه ما رامه الجوهري ، حيث قال في الصحاح : وفّر عليه حقّه توفيراً واستوفره أي : استوفاه. (٣)

فإنّه يعني وفّر على ذي الحقّ حقّه توفيراً ، أي : وفّاه حقّه وأعطاه إيّاه. واستوفره صاحب الحقّ أي : استوفاه منه ، فلا غبار على كلامه أصلاً.

والفيروزآبادي صاحب القاموس لم يتفطّن لمغزاه ، فسار مسير الغالطين ، وبنى على أود غلطه وسوء فهمه ، فقال : استوفر عليه حقّه استوفاه كوفّر. (٤)

فليتبصّر وليثبّت ، فإنّ من لم يؤث قسطاً من الفحص والتحصيل من المقلّدة القاصرين يتبع ظاهر القول ولا يكتنه حقيقة الأمر ، فيتوهّم أنّ قوله عليه السلام «فلم اُوفّره» غير متلئّب على كلام أئمّة اللغة ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

__________________

١. في «س» : منوى.

٢. أساس البلاغة : ص ٦٨٣.

٣. الصحاح : ٢ / ٨٤٧.

٤. القاموس : ٢ / ١٥٥.

٣٠٨

٣٩

وكان من دعائه عليه السلام في طلب العفو وَالرحمة

أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ ، وَاكْسِرْ شَهْوَتِي عَنْ كُـلِّ مَحْرَم ، (١) وَازْوِ حِـرْصِي عَنْ كُلِّ مَأثَم ، وَامْنَعْنِي عَنْ أَذَى كُـلِّ مُؤْمِن وَمُؤْمِنَـة ، وَمُسْلِم وَمُسْلِمَة. أللَّهُمَّ وَأَيُّمَا عَبْد نالَ مِنِّي مَا حَظَرْتَ عَلَيْهِ وَانْتَهَكَ مِنِّي مَا حَجَرْتَ عَلَيْهِ فَمَضَى بِظُلاَمَتِي مَيِّتاً ، (٢) أَوْ حَصَلْتَ لِيْ قِبَلَهُ حَيّاً فَاغْفِرْ لَهُ مَا أَلَمَّ بِهِ مِنِّي ، وَاعْفُ لَهُ عَمَّا أَدْبَرَ بِهِ عَنِّي ، وَلاَ تَقِفْـهُ عَلَى مَا ارْتَكَبَ فِيَّ ، وَلاَ تَكْشِفْهُ عَمَّا اكْتَسَبَ بِيْ ، وَاجْعَلْ مَا سَمَحْتُ بِهِ مِنَ الْعَفْـوِ عَنْهُمْ ، وَتَبَرَّعْتُ بِـهِ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ أَزْكَى صَدَقَاتِ الْمُتَصَدِّقِينَ ، وَأَعْلَى صِلاَتِ الْمُتَقَرِّبِينَ ، وَعَوِّضْنِي مِنْ عَفْوِي عَنْهُمْ عَفْوَكَ ، وَمِنْ دُعَائِي لَهُمْ رَحْمَتَكَ ، حَتَّى يَسْعَدَ كُلُّ وَاحِد مِنَّا بِفَضْلِكَ ، وَيَنْجُوَ كُلٌّ مِنَّا بِمَنِّكَ. أللَّهُمَّ وَأَيُّما عَبْد مِنْ عَبِيْدِكَ أَدْرَكَهُ مِنِّي دَرَكٌ أَوْ مَسَّهُ مِنْ نَاحِيَتِي أَذَىً ، أَوْ لَحِقَـهُ بِي أَوْ بِسَبَبي ظُلْمٌ فَفُتُّهُ بِحَقِّـهِ ، أَوْسَبَقْتُهُ بِمَظْلَمَتِهِ ، (٣) فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ ، وَأَرْضِهِ عَنِّي مِنْ

٣٠٩

وُجْدِكَ ، وَأَوْفِهِ حَقَّهُ مِنْ عِنْدِكَ ، ثُمَّ قِنيْ مَا يُوجِبُ لَهُ حُكْمُكَ ، وَخَلِّصْنِي مِمَّا يَحْكُمُ بِهِ عَدْلُكَ ، فَإنَّ قُوَّتِي لا تَسْتَقِلُّ بِنَقِمَتِكَ ، (٤) وَإنَّ طَاقتِي لا تَنْهَضُ بِسُخْطِكَ ، فَإنَّكَ إنْ تُكَـافِنِي بِالْحَقِّ تُهْلِكْنِي ، وَإلاّ تَغَمَّـدْنِي بِرَحْمَتِكَ تُوبِقْنِي. أللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَوْهِبُكَ يَا إلهِي مَا لا يَنْقُصُكَ بَذْلُهُ وَأَسْتَحْمِلُكَ مَا لا يَبْهَظُكَ حَمْلُهُ ، أَسْتَوْهِبُكَ يَا إلهِي نَفْسِيَ الَّتِيْ لَمْ تَخْلُقْهَا لِتَمْتَنِعَ بِهَا مِنْ سُوء ، أَوْ لِتَطَرَّقَ (٥) بِهَا إلى نَفْعٍ ، وَلكِنْ أَنْشَأتَهَا إثْبَاتاً لِقُدْرَتِكَ عَلَى مِثْلِهَا ، وَاحْتِجَاجاً بِهَا عَلَى شَكْلِهَا ، وَأَسْتَحْمِلُكَ مِنْ ذُنُوبِي مَا قَدْ بَهَظَنِي حَمْلُهُ ، وَأَسْتَعِينُ بِكَ عَلَى مَا قَدْ فَدَحَنِي ثِقْلُهُ ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ ، وَهَبْ لِنَفْسِي عَلَى ظُلْمِهَا نَفْسِيْ ، وَوَكِّلْ رَحْمَتَكَ بِاحْتِمَالِ إصْرِي ، فَكَمْ قَدْ لَحِقَتْ رَحْمَتُكَ بِالْمُسِيئِينَ ، وَكَمْ قَدْ شَمِلَ عَفْوُكَ الظَّالِمِينَ ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ ، وَاجْعَلْنِي أُسْوَةَ مَنْ قَدْ أَنْهَضْتَهُ بِتَجَاوُزِكَ عَنْ مَصَارِعِ الْخَاطِئِينَ ، وَخَلَّصْتَهُ بِتَوْفِيقِكَ مِنْ وَرَطَاتِ الْمُجْرِمِينَ ، فَأَصْبَحَ طَلِيقَ عَفْوِكَ مِنْ إسَارِ سُخْطِكَ ، وَعَتِيقَ صُنْعِكَ مِنْ وَثَاقِ عَدْلِكَ ، إنَّكَ إنْ تَفْعَلْ ذَلِكَ يَا إلهِي تَفْعَلْهُ بِمَنْ لاَ يَجْحَدُ اسْتِحْقَاقَ عُقُوبَتِكَ ، وَلاَ يُبَرِّئُ نَفْسَهُ مِنِ اسْتِيجَابِ نَقِمَتِكَ ، تَفْعَلُ ذلِكَ يَا إلهِي بِمَنْ خَوْفُهُ مِنْكَ أَكْثَرُ مِنْ طَمَعِهِ فِيكَ ، (٦) وَبِمَنْ يَأْسُهُ مِنَ النَّجَاةِ أَوْكَدُ مِنْ رَجَائِهِ

٣١٠

لِلْخَلاَصِ ، لاَ أَنْ يَكُونَ يَأْسُهُ قُنُوطَاً ، أَوْ أَنْ يَكُونَ طَمَعُهُ اغْتِرَاراً ، بَلْ لِقِلَّةِ حَسَنَاتِهِ بَيْنَ سَيِّئاتِهِ ، وَضَعْفِ حُجَجِهِ فِي جَمِيعِ تَبِعَاتِهِ ، فَأَمَّا أَنْتَ يَا إلهِي فَأَهْلٌ أَنْ لاَ يَغْتَرَّ بِكَ الصِّدِّيقُونَ ، وَلاَ يَيْأَسَ مِنْكَ الْمُجْرِمُونَ ، لِاَنَّكَ ألرَّبُّ الْعَظِيمُ الَّذِيْ لاَ يَمْنَعُ أَحَداً فَضْلَهُ ، وَلاَ يَسْتَقْصِي مِنْ أَحَد حَقَّـهُ ، تَعَالى ذِكْرُكَ عَنِ الْمَذْكُورِينَ ، وَتَقَدَّست أَسْمَاؤُكَ عَنِ الْمَنْسُوبِينَ ، وَفَشَتْ نِعْمَتُكَ فِيْ جَمِيْعِ الْمَخْلُوقِينَ ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

٣١١

(١) قوله عليه السلام : عن كلّ محرم

وهو بفتح الميم والراء على هيئة اسم المكان بمعنى الحرام وجمعه المحارم ، أو بضمّ الميم وفتح الراء المشدّدة على اسم المفعول من التحريم.

قال في المغرب : المحرّم الحرام والحرمة أيضاً ، وحقيقته موضع الحرمة ، ومنه هي محرّم وهو لها محرّم وفلان محرّم من فلانة ، وذو رحم محرّم بالجرّ صفة للرحم وبالرفع لذو. (١)

(٢) قوله عليه السلام : فمضى بظلامتي ميتاً

ظلامتي بالضمّ ، أي : حقّي الذي أخذ منّي ظلماً ، وكذلك المظلمة بكسر اللام اسم للحقّ المأخوذ من المظلوم ظلماً. قاله في المغرب.

وفي مجمل اللغة : الظلامة ـ بالضمّ ـ مظلمتك بالكسر التي تطلبها عند الظالم. (٢)

(٣) قوله عليه السلام : ففتّه بحقّه أو سبقته بمظلمته

فتّه بضمّ التاء المشدّدة على صيغة المتكلّم ، من فاته كذا يفوته فوتاً وفواتاً أي : ذهب عنه ، وأفاته غيره إيّاه أفاتته أذهبه عنه ، وكذلك فوّته عنه أو عليه تفويتاً.

فالباء في «بحقّه» إمّا للتعدية أي : أفتّه أذهبته عنه ، أو للملابسة أي : ذهبت عنه متلبّساً بحقّه ، أو بمعنى «مع» أي : مع حقّه.

__________________

١. المغرب : ١ / ١١٩.

٢. مجمل اللغة : ٢ / ٦٠٢.

٣١٢

قال في أساس البلاغة : فاتني بكذا سبقني به وذهب به عنّي. (١)

وكذلك في سبقته بمظلمته بكسر اللام أي : بظلامته بضمّ الظاء. وأراد عليه السلام بمظلمته العين المأخوذة ، و «بحقّه» ما في الذمّة من حقوق الناس مطلقاً ، أو يكون مظلمته هي حقّه [أي :] المأخوذ منه ظلماً.

و «أو» العناديّة باعتبار أنّ المراد بقوله «فتّه بحقّه» تفويت حقّه عليه وأن لم أكن أنا الآخذ إيّاه منه ، وسبقته بمظلمته ، أي : بظلامته التي له عندي وأنا أخذتها منه ظلماً ، فليعلم.

(٤) قوله عليه السلام : فإنّ قوّتي لا تستقلّ بنقمتك

من الإستقلال بمعنى الإقلال ، أي : الحمل. يعني قوّتي التي لا تحمل نقمتك ولا تستطيع حملها. فالباء زائدة.

(٥) قوله عليه السلام : أو لتطرّق

في الأصل بتخفيف الطاء المفتوحة وفتح الراء المشدّدة على التفعّل بإسقاط إحدى التائين.

وفي رواية «ش» قدّس الله لطيفه بفتح الطاء وتخفيف الراء المكسورة على الإفتعال.

(٦) قوله عليه السلام : بمن خوفه منك أكثر من طمعه فيك

أي : نظراً إلى تبعات زلله وسيّئات عمله ، وإن كان طمعه فيك أكثر من خوفه منك ، نظراً إلى جدة عفوك وسعة رحمتك.

__________________

١. أساس البلاغة : ٤٨٣.

٣١٣

٤٠

وكان من دعائه عليه السلام

إذا نعى إليه ميّت (١) أو ذكر الموت (٢)

أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ ، وَاكْفِنَا طُـولَ الأمَـلِ وَقَصِّرْهُ عَنَّا (٣) بِصِدْقِ الْعَمَلِ ، حَتَّى لا نُأَمِّلَ اسْتِتْمَامَ سَاعَةٍ بَعْدَ سَاعَةٍ ، وَلاَ اسْتِيفَاءَ يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمٍ ، وَلاَ اتِّصَالَ نَفَسٍ بِنَفَسٍ ، وَلا لُحُـوقَ قَدَمٍ بِقَـدَمٍ ، (٤) وَسَلِّمْنَا مِنْ غُرُورِهِ ، وَآمِنَّا مِنْ شُـرُوْرِهِ ، وَانْصِبِ المَوْتَ بَيْنَ أَيْدِينَا نَصْباً ، وَلاَ تَجْعَلْ ذِكْرَنَا لَهُ غِبّاً ، وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ صَالِحِ الأعْمَـالِ عَمَلاً نَسْتَبْطِئُ مَعَهُ الْمَصِيرَ إلَيْكَ ، وَنحْـرِصُ لَهُ عَلَى وَشْكِ اللِّحَاقِ بِكَ ، (٥) حَتَّى يَكُونَ الْمَوْتُ مَأنَسَنَا الَّذِي نَأنَسُ بِهِ ، (٦) وَمَألَفَنَا الَّذِي نَشْتَاقُ إلَيْهِ ، وَحَامَّتَنَا الَّتِي نُحِبُّ الدُّنُوَّ مِنْهَا ، (٧) فَإذَا أَوْرَدْتَهُ عَلَيْنَا وَأَنْزَلْتَهُ بِنَا فَأسْعِدْنَا بِهِ زَائِراً ، وَآنِسْنَا بِهِ قَادِماً ، وَلاَ تُشْقِنَا بِضِيافَتِهِ ، وَلا تُخْزِنَا بِزِيارَتِهِ ، وَاجْعَلْهُ بَاباً مِنْ أَبْوَابِ مَغْفِرَتِكَ ، وَمِفْتَاحاً مِنْ مَفَاتِيحِ رَحْمَتِكَ ، أَمِتْنَا مُهْتَدِينَ غَيْرَ ضَالِّينَ ،

٣١٤

طائِعِينَ غَيْرَ مُسْتَكْرِهِينَ ، تَائِبينَ غَيْرَ عاصِينَ ، وَلا مُصِرِّينَ ، يَا ضَامِنَ جَزَاءِ الْمُحْسِنِينَ ، وَمُسْتَصْلِحَ عَمَلِ الْمُفْسِدِينَ.

٣١٥

(١) قوله عليه السلام : ميّت

الميت بالإسكان مخفّف الميّت بالتشديد ، وقد جمعها الشاعر في بيت واحد :

ليس من مات فاستراح بميت

إنّما الميت ميّت الأحياء

الأوّلتان على التخفيف والثالثة على التشديد ، والأصل ميوت على فيعل من الموت ، كما صيت صيوت من الصوت ، وصيب صيوب من الصوب ، وحيز حيوز من الحوز ، وقيم من القوم والقيام إلى غير ذلك من النظائر ، نقلت كسرة الواو إلى الياء الساكنة فقلبت ياءاً ، ثمّ اُدغمت الياء في الياء ، فقيل ميّت بالتشديد ، ثمّ خفّفت الياء المشدّدة فقيل ميت بالتخفيف ، قاله الجوهري (١) وغيره من علماء الأدب.

وإذ قد استبان أنّه فيعل لا فعل قد استوى فيه التذكير والتأنيت ، فصحّ أن يجعل صفة للمؤنّث ، كما يجعل صفة للمذكّر ، من ثمّ قال عزّ من قائل في التنزيل الكريم الحكيم : (فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا) (٢).

والفاضل البيضاوي ذهل عن ذلك في تفسيره تذكيره ؛ لأنّ البلدة البلد والمكان. ثمّ يرد عليه أيضاً أنّ المراد من البلد هاهنا البلدة بمعنى الأرض واحدة الأراضي لا البلد واحد البلدان ، نصّ عليه الأدبيّون عن آخرهم الجوهري (٣) وغيره.

وقوله «إذا نعي إليه ميّت» على ما لم يسمّ فاعله ، يعني : إذا نعي ميت عنده ورفع إليه خبر موته.

__________________

١. الصحاح : ١ / ٢٦٧.

٢. سورة الزخرف : ١١.

٣. الصحاح : ١ / ٤٤٦.

٣١٦

قال في المغرب : نعي الناعي الميت نعياً أخبر بموته وهو منعيّ ، ومنه الحديث : «إذا لبست اُمّتي السواد فانعوا الإسم» وإنّما قال ذلك تعريضاً بملك بني العبّاس ، وفي تصحيفه إلى فانعوا حكاية مستطرفة تركتها لشهرتها. انتهى قوله.

وقال صاحب الكشّاف في الفائق : وقد ذكر حديث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : يا نعايا العرب إنّ أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفيّة. وروي يا نعيان العرب ، وقال الأصمعي : إنّما هو يا نعاء العرب. في نعايا ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون جمع نعي ، وهو المصدر ، يقال : نعي الميت نعياً نحو صأى الفرخ صأياً ، ونظيره في جمع فعيل من غير المؤنّث على فعائل ما ذكره سيبويه من قولهم في جمع أفيل ولفيف أفائل ولفائف.

والثاني : أن يكون اسم جمع ، كما جاء أخايا في جمع أخيّة ، وأحاديث في جمع حديث.

والثالث : أن يكون جمع نعاء التي هي اسم الفعل ، وهو فعال مؤنّث ، وأخواتها وهنّ فجار وقطام وفساق مؤنّثات ، كما جمع شمال على شمائل.

والمعنى يا نعايا العرب جئن فهذا وفتكنّ وزمانكنّ ، يريد أنّ العرب قد هلكت. والنعيان مصدر بمعنى النعي ، وأمّا نعاء العرب فمعناه أنع العرب والمنادى محذوف.

الشهوة الخفيّة قيل : هي كلّ شيء من المعاصي يضمره صاحبه ويصرّ عليه. وقيل : أن يرى جارية حسناء فيغضّ طرفه ، ثمّ ينظر بقلبه ويمثّلها لنفسه فيفتنها. انتهى كلامه. (١)

قلت : وعلى رواية نعيان بالضمّ يصحّ أيضاً أن يكون جمع ناع مثل راع ورعيان وباغ وبغيان ، كما قاله في أساس البلاغة ، (٢) وذكره ابن الأثير في النهاية. (٣)

(٢) أو ذكر الموت

أي : زوال الحياة الكاذبة الجسدانيّة ، والخروج عن ديار الطبيعة الفاسقة الجسمانيّة.

__________________

١. الفائق : ٣ / ١٠٩.

٢. أساس البلاغة : ص ٦٤٤.

٣. نهاية ابن الأثير : ٥ / ٨٥.

٣١٧

قال الراغب في المفردات ، أنواع الموت بحسب أنواع الحياة.

الأوّل : ما هو بإزاء القوّة النامية الموجودة في الإنسان والحيوانات والنباتات ، نحو قوله تعالى (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (١) وقوله تعالى (وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا). (٢)

الثاني : زوال القوّة الحسّاسة ، (٣) قال عزّ وجلّ (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا) (٤) و (وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا). (٥)

الثالث : زوال القول العاقلة وهي الجهالة ، نحو (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) (٦) وإيّاه قصد بقوله تعالى : (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ). (٧)

الرابع : الحزن المكدّر للحياة ، وإيّاه قصد بقوله تعالى : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ). (٨)

الخامس : المنام ، فقد قيل : النوم موت خفيف والموت نوم ثقيل ، وعلى هذا النحو سمّاها الله تعالى توفّياً ، فقال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ) (٩) وقوله (اللَّـهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) (١٠) وقوله تعالى : (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ) (١١).

فقد قيل نفي الموت عنهم هو عن أرواحهم ، فإنّه نبّه عن تنعّمهم. وقيل نفى عنهم الحزن المذكور في قوله تعالى (يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ) (١٢). وقوله تعالى

__________________

١. سورة الحديد : ١٧.

٢. سورة ق : ١١.

٣. في المصدر : الحاسّة.

٤. سورة مريم : ٢٣.

٥. سورة مريم : ٥٠.

٦. سورة الأنعام : ١٢٢.

٧. سورة الروم : ٥٠.

٨. سورة إبراهيم : ١٧.

٩. سورة الأنعام : ٦٠.

١٠. سورة الزمر : ٤٢.

١١. سورة آل عمران : ١٦٩.

١٢. سورة إبراهيم : ١٧.

٣١٨

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) (١) فعبارة عن زوال القوّة الحيوانيّة وإبانة الروح عن الجسد.

وقوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) (٢) فقد قيل معناه ستموت تنبيهاً أنّه لا بدّ لكلّ أحد من الموت ، كما قيل :

* والموت حتم في رقاب العباد *

وقيل : بل الميت هاهنا ليس بإشارة إلى إبانة الروح عن الجسد ، بل هو إشارة إلى ما يعتري الإنسان في كلّ حال من التحلّل والنقص ، فإنّ البشر ما دام في الدنيا يموت جزءاً فجزءاً.

وقد عبّر قوم عن هذا المعنى بالمائت ، وفصّلوا بين الميت والمائت ، فقالوا : المائت هو المتحلّل.

قال القاضي عبد العزيز : (٣) ليس في لغتنا مائت على حسب ما قالوه ، وإنّما يقال : موت مائت كقولنا شعر شاعر وسيل سائل ، والميت مخفّف عن الميّت يقال : بلد ميت وميّت ، قال تعالى : (فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ) (٤) وقال تعالى (بَلْدَةً مَّيْتًا) (٥) والميتة من الحيوان ما زال روحه بغير تذكية ، قال (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (٦) وقال تعالى (إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً) (٧). والموتان بالتحريك بإزاء الحيوان ، وهو الأرض التي لم تحيي لزرع وأرض موات. ووقع في الإبل موتان كثير بالضمّ. والمستميت المتعرّض للموت. والموتة شبه الجنون ، كأنّه من موت العلم والعقل ، ومنه رجل موتان القلب وامرأة موتانة. انتهى كلام المفردات. (٨)

قلت : بل الحقّ أنّ المائت في لغة العرب مسموع موضوع لمعنى ، وأنّ معناه القابل للموت

__________________

١. سورة الأنبياء ٣٥.

٢. سورة الزمر : ٣٠.

٣. وفي المصدر : القاضي علي بن عبد العزيز.

٤. سورة فاطر : ٩.

٥. سورة الفرقان : ٤٩.

٦. سورة المائة : ٣.

٧. سورة الأنعام : ١٤٥.

٨. مفردات الراغب : ص ٤٧٦ ـ ٤٧٧.

٣١٩

ما لم يمت ، فإذا مات فلا يقال له : مائت بل إنّما يقال له ميّت. وقد نقل عن قدماء حكماء الإسلام في تحديد حقيقة الإنسان أنّه هو الحيّ الناطق المائت ، وأنّ الموت متمّم حقيقة الإنسان.

قال الجوهري في الصحاح : قال الغرّاء لمن لم يمت أنّه مائت عن قليل وميت ، ولا يقولون لمن مات هذا مائت. (١)

وفي أساس البلاغة : فلان مائت من الغمّ ويموت من الحسد. (٢)

نعم يقال : أيضاً موت مائت أي : شديد ، كما يقال : ليل لائل. وسيف سائف ، فليعلم.

(٣) قوله عليه السلام : واكفنا طول الأمد وقصّره عنّا

إن قلت : قد تكرّر جدّاً في الكتاب الكريم ، وفي السنّة الشريفة ، وفي أحاديث آل بيت الوحي والعصمة حثّ المؤمن على استكراه الحياة الدنيا والإعراض عنها ، والإشتياق إلى الموت وتمنّيه ، واستحقار دار النضرة البائدة ، واستعظام دار البهجة الخالدة. وقد ورد أيضاً في أحاديثهم (صلوات الله عليهم) النهي عن طلب قطع الحياة يوشك الممات ، وفي أدعيتهم المأثورة تأميل العمر وتأخير الأجل ، فما وجه التوفيق بين ذا وذا؟

قلت : وجه التوفيق وسبيل التحقيق أنّ لهذه الحياة الدنيا إعتبارين :

إعتباراً لها بما هي هي ، وبما أنّها تقلب في أرض الطبيعة الفاسقة المظلم ليلتها ، وإقامة في قرية الهيولى السافلة الظالم أهلها ، فهي بهذا الإعتبار هي المحثوث على مقتها ، وعلى انصراف القلب عن الركون إليها ، وإلى نضرتها الذاهبة ولذّاتها الكاذبة وتعتها اللازبة ، والمحقوقة بتوقان النفس إلى رفضها والإشتياق إلى الموت الذي هو سبيل أرض الحياة القارّة الحقيقيّة وطريق دار البهجة الحقّة الإلهيّة.

__________________

١. الصحاح : ١ / ٢٦٧.

٢. أساس البلاغة : ص ٦٠٧. وفيه : مات من الغمّ ...

٣٢٠