الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-181-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٢

الخروج شيئا يسيرا ، ثم يعود ، فخرج في أهل مكة ، حتى نزل مجنّة ، من ناحية الظهران.

يقال : عسفان. وكان في ألفي رجل ، ومعهم خمسون فرسا.

ويقول البعض : إنه بعد أن خرج إلى عسفان أو مجنة ألقى الله الرعب في قلبه ، فبدا له في الرجوع.

فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي ، وقد قدم معتمرا ؛ فطلب منه : أن يلحق بالمدينة ، ويثبط المسلمين ، ويعلمهم : أن أبا سفيان في جمع كثير ، ولا طاقة لهم بهم ، ووعده أن يعطيه عشرة ـ وعند الواقدي : عشرين ـ من الإبل ، يضعها على يدي سهيل بن عمرو ، ويضمنها سهيل له. وحمله على بعير.

ومما قاله له ، بعد أن ذكر له : أن هذا عام جدب : «قد بدا لي أن لا أخرج إليها ، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج ؛ فيزيدهم ذلك جراءة ؛ فلأن يكون الخلف من قبلهم أحب الي من أن يكون من قبلي».

وبعد ضمان سهيل بن عمرو الإبل لنعيم ، خرج مسرعا ، حتى أتى المدينة ؛ فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان ، فسألهم فأخبروه بما يريدون ، فقال لهم : «بئس الرأي رأيتم ، أتوكم في دياركم وقراركم ، فلم يفلت منكم إلا الشريد ، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم؟! والله ، لا يفلت منكم أحد».

وجعل يطوف بهذا القول في أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فكره أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الخروج.

وزاد الواقدي قوله : «حتى نطقوا بتصديق قول نعيم ، أو من نطق منهم.

٨١

واستبشر بذلك المنافقون واليهود ، وقالوا : محمد لا يفلت من هذا الجمع».

حتى بلغ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك ، وتظاهرت به الأخبار عنده ، حتى خاف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن لا يخرج معه أحد.

فجاء أبو بكر بن أبي قحافة (رض) ، وعمر بن الخطاب (رض) ، وقد سمعا ما سمعا ، فقالا : يا رسول الله ، إن الله مظهر دينه ، ومعز نبيه. وقد وعدنا القوم موعدا ، ونحن لا نحب أن نتخلف عن القوم ، فيرون. أن هذا جبن منا عنهم ؛ فسر لموعدهم ؛ فو الله ، إن في ذلك لخيرة.

فسر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بذلك ، ثم قال : «والذي نفسي بيده ، لأخرجن ولو وحدي».

قال عثمان : «لقد رأيتنا وقد قذف الرعب في قلوبنا فما أرى أحدا له نية في الخروج».

فأما الجبان ، فإنه رجع ، وتأهب الشجاع للقتال ، وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل.

واستخلف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على المدينة عبد الله بن رواحة [أو عبد الله بن أبي سلول] (١) وحمل لواءه الأعظم علي بن أبي طالب ، في ألف وخمس مائة رجل. والخيل عشرة أفراس.

قال الواقدي (٢) : «فرس لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وفرس لأبي

__________________

(١) هذا القيل ذكره في السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٥ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ قسم ٢ ص ٢٩ ولم يذكر غيره ، وكذا في السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٢٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٦٩ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٨٧.

(٢) المغازي ج ١ ص ٣٨٧.

٨٢

بكر ، وفرس لعمر ، وفرس لأبي قتادة ، وفرس لسعيد بن زيد ، وفرس للمقداد ، وفرس للحباب ، وفرس للزبير ، وفرس لعباد بن بشر».

وخرجوا ببضائع لهم وتجارات.

وقالوا : إن لقينا أبا سفيان فهو الذي خرجنا له ، وإن لم نلقه ابتعنا ببضائعنا. فجعلوا يلقون المشركين ، ويسألون عن قريش ، فيقولون : قد جمعوا لكم ، يريدون أن يرهبوا المسلمين.

فيقول المؤمنون : حسبنا الله ونعم الوكيل.

وفي نص آخر : قال لهم المنافقون : قد قتلوكم عند بيوتكم ، فكيف إذا أتيتموهم في بلادهم ، وقد جمعوا لكم ، والله لا ترجعون أبدا.

ومهما يكن من أمر ، فإنهم لما قربوا من بدر قالوا لهم : إنها امتلأت من الذين جمعهم أبو سفيان ، يرعبونهم ويرهبونهم ، ونزلت آية : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ..) (١) فلما بلغوا بدرا وجدوا أسواقا لا ينازعهم فيها أحد [وفي الحلبية (٢) فأنزل الله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ ..)] ..

وقال مجاهد وعكرمة : في هذه الغزوة نزل قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ..) (٣).

وعند أكثر المفسرين : نزلت هذه الآية في غزوة حمراء الأسد.

وبلغ المسلمون بدرا ليلة هلال ذي القعدة. والصحيح في شعبان.

__________________

(١) الآية ١٧٣ من سورة آل عمران.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٦.

(٣) الآية ١٧٢ من سورة آل عمران.

٨٣

وقد أقام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بها ثمانية أيام ، ينتظر أبا سفيان.

وباع المسلمون تجاراتهم وبضائعهم في سوق بدر ، وأصابوا بالدرهم درهمين.

وقد سمع الناس بمسيرهم ، وذهب صيت جيشهم إلى كل جانب ، فكبت الله بذلك عدوهم.

وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين.

أما المشركون فرأى لهم أبو سفيان أن يخرجوا ، فيسيروا ليلة أو ليلتين ، ثم يرجعون ؛ فإن كان محمد قد خرج احتجوا بأن السنة كانت سنة جدب ، وإن لم يخرج كانت هذه لهم عليه.

فخرجوا ، وهم ألفان ، ومعهم خمسون فرسا ، حتى انتهوا إلى مجنّة ، وهو سوق معروف بناحية الظهران ، وقيل : إلى عسفان ، ثم رجعوا.

وفي نص آخر : أن ابن حمام قدم على قريش ، فأخبرهم بمسير المسلمين إلى بدر ، فأرعب أبو سفيان ، ورجع إلى مكة. فسماهم أهل مكة : جيش السويق. أي خرجوا يشربون السويق.

وبلغ المشركين خروج المسلمين إلى بدر وكثرتهم ، وأنهم كانوا أصحاب الموسم ، فقال صفوان بن أمية لأبي سفيان : نهيتك أن تعد القوم ، ولم تسمع كلامي. قد اجترؤوا علينا ورأوا : أنّا قد أخلفناهم ، ثم أخذوا بالكيد والتهيؤ لغزوة الخندق.

كانت تلك الصورة مأخوذة من نصوص ذكرت هنا وهناك في المصادر

٨٤

المختلفة (١) أوردناها في سياق واحد ، لتكون الصورة التي يرسمها لنا المؤرخون أكثر انسجاما ، واستجماعا للملامح الضرورية التي يريدون توجيه الأنظار إليها.

وقد ذكروا أيضا : أن عبد الله بن رواحة ، أو حسان بن ثابت قد قال في جملة أبيات له :

وعدنا أبا سفيان وعدا لم نجد

لميعاده صدقا وقد كان وافيا (٢)

__________________

(١) راجع في جميع ما تقدم ، كله أو بعضه : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٥ و ٤٦٦ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٥ ـ ٢٧٧ وحبيب السير ج ١ ص ٣٥٦ وزاد المعاد ج ٢ ص ١١٢ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٥٩ و ٦٠ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٦٧ وسيرة مغلطاي ص ٥٣ وحياة محمد لهيكل ص ٢٧٩ و ٢٨٠ ومغازي الواقدي ج ١ ص ٤٨٤ ـ ٤٩٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٢٠ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٠٣ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ قسم ٢ ص ٢٩ والوفاء ص ٦٩٠ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٧٥ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٥٤ و ١٥٥ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٠٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٢٩ و ٢٣٠ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٠ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣٤٠ والثقات ج ١ ص ٢٤٤ و ٢٤٥ والتنبيه والإشراف ص ٢١٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٦٩ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٨٧ ـ ٨٩ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٥ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٣٨٤ ـ ٣٨٨ والدر المنثور ج ٢ ص ١٠١ و ١٠٣ و ١٠٤ عن عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر.

(٢) راجع : البدء والتاريخ ج ٤ ص ٢١٤ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣٤٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٢١ ومغازي الواقدي ج ١ ص ٣٨٩ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٥٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٧٠.

٨٥

ولنا هنا مناقشات وشكوك في بعض ما ذكروه ، كما أن لنا بعض الإيضاحات والتحليلات التي ربما تكون مفيدة هنا ، ونحن نذكر ذلك فيما يلي من مطالب ، فنقول :

آيات سورة آل عمران :

قد تقدم قولهم : إن آية : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ، الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (١) .. قد نزلت في مناسبة بدر الموعد ؛ لأن المسلمين قالوا ذلك.

ولكننا لا نستطيع قبول ذلك ؛ فعدا عن تناقض الروايات في مكان نزولها : في المدينة ، أو في الطريق إلى بدر ، أو في بدر نفسها ، كما تقدم ، نسجل الأمور التالية :

الأول : قال العسقلاني ، بالنسبة لآية : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ :) «والصحيح : أن هذه الآية نزلت في شأن حمراء الأسد ، كما نص عليه العماد بن كثير» (٢).

وقد روى المحدثون والمؤرخون ، والمفسرون : أنها نزلت في حمراء الأسد ، فراجع ما رووه عن : ابن عباس ، والحسن ، وابن جريج ، وعائشة ، وأبي السائب ، والسدي ، وقتادة ، وأنس ، ومن طريق العوفي. وعن عبد الله بن أبي بكر بن محمد

__________________

(١) الآية ١٧٢ ـ ١٧٤ من سورة آل عمران.

(٢) المواهب اللدنية ج ١ ص ١٠٨ وراجع : السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٥.

٨٦

بن عمرو بن حزم (١).

وروي أيضا عن أبي رافع بطرق كثيرة ، وكذا عن أبي مريم.

وعن جابر ، عن الإمام الباقر «عليه‌السلام» : أنها نزلت في علي «عليه‌السلام» في حمراء الأسد (٢).

الثاني : إن سياق الآيات لا يتلاءم مع غزوة بدر الصغرى ، فهي تمدح الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. وذلك إنما يناسب غزوة حمراء الأسد ؛ حيث إن الذين قاموا بها هم خصوص أولئك الذين جرحوا في حرب أحد.

أما في بدر الصغرى ، فكان قد مضى عام بكامله على تلك الجراح. ولم يكن في بدر الصغرى نفسها حرب ولا جراح.

الثالث : إن هذه الآيات تتمدح أولئك الذين قال لهم الناس : إن الناس

__________________

(١) تجد هذه الروايات كلها في الدر المنثور ج ٢ ص ١٠١ ـ ١٠٣ وقد نقلها بدوره بصورة متنوعة عن المصادر التالية : ابن إسحاق ، وابن جرير ، والبخاري ، ومسلم ، وأحمد ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، والحاكم ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل ، وابن ماجة ، والنسائي والطبراني ، وعبد بن حميد ، والخطيب ، وابن مردوية.

(٢) تفسير البرهان ج ١ ص ٣٢٦ والدر المنثور ج ٢ ص ١٠٣ عن ابن مردويه. وقد يكون ثمة مبرر لاحتمال أن يكون ثمة تعمد لدعوى نزول الآيات في بدر الموعد ، من أجل إبعاد هذا الأمر عن أن يكون فيه تكريم لعلي «عليه‌السلام» ، وإشادة بمواقفه الرسالية والجهادية. وقد تعودنا من هؤلاء الشيء الكثير الذي يصب في هذا الاتجاه ، كما هو معلوم.

٨٧

قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيمانا. مع أن الروايات التي تتحدث عن قصة بدر الصغرى ، قد صرح كثير منها بأن أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد كرهوا الخروج إلى بدر الموعد ، حتى نطقوا بتصديق قول نعيم بن مسعود ، الذي كان يخذلهم ويخوّفهم ، واستبشر المنافقون واليهود ، حتى بلغ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك ، وتظاهرت به الأخبار عنده ، حتى خاف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن لا يخرج منهم أحد.

حتى قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : والذي نفسي بيده ، لأخرجن ولو وحدي.

وقال عثمان بن عفان : لقد رأيتنا وقد قذف الرعب في قلوبنا ، فما أرى أحدا له نية في الخروج ..

مواقف لا بد من التأكد من صحتها :

ويذكر البعض : أن نعيم بن مسعود قدم المدينة : «وأرجف بكثرة جموع أبي سفيان. أي وصار يطوف فيهم ، حتى قذف الرعب في قلوب المسلمين ، ولم يبق لهم نية في الخروج ، واستبشر المنافقون ، واليهود ، وقالوا : محمد لا يفلت من هذا الجمع.

فجاء أبو بكر ، وعمر ، إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقد سمعا ما أرجف به المسلمون ، وقالا له : يا رسول الله ، إن الله مظهر نبيه ، ومعز دينه ، وقد وعدنا القوم موعدا لا نحب أن نتخلف عنه ، فيرون أن هذا جبن. فسر لموعدهم ، فو الله إن في ذلك لخيرة.

فسر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بذلك ثم قال : والذي نفسي بيده ، لأخرجن ، وإن لم يخرج معي أحد ، فأذهب الله عنهم ما كانوا يجدون ، وحمل

٨٨

لواء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» علي بن أبي طالب الخ ..» (١).

ونقول :

إن ما يذكر هنا من موقف لأبي بكر وعمر لا يتلاءم مع سائر مواقفهما في مناسبات كهذه ، فراجع موقفهما في غزوة بدر مثلا ، ثم موقفهما في الأحزاب ، وخيبر ، وغيرها. بالإضافة إلى فرارهما في المواطن ، ومنها غزوة أحد ، وهي الغزوة التي ضرب فيها الموعد لبدر الصغرى هذه!!

وقد تقدم : أن المسلمين كرهوا الخروج ، وتظاهرت بذلك الأخبار عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى خاف أن لا يخرج معه أحد ، وقال : والذي نفسي بيده لأخرجن ، ولو لوحدي.

وقال عثمان بن عفان : لقد رأيتنا ، وقد قذف الرعب في قلوبنا فما أرى أحدا له نية في الخروج. فكلام عثمان نكرة في سياق النفي يشمل حتى عمر وأبابكر ، فلا يتلاءم مع ما يذكر من موقفهما هنا.

فإن صح ما نقل عن الشيخين هنا ، ولا أراه يصح ، فإننا نجد أنفسنا أمام احتمالين ، لا بد أن يكون أحدهما هو السبب ونرجح ثانيهما ، وهما :

الأول : أن يكونا قد رأيا تصميم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على المسير ، إلى درجة عرفا أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لن يتراجع عن قراره بأي ثمن كان ، ولو كان وحده.

فموقفهما هذا لن يكون له أثر في ذلك ، ولسوف يكون مفيدا في تسجيل موقف إيجابي لهما ، يمكن أن يكون مفيدا لهما في تحسين موقعهما عند

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٦ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٥.

٨٩

النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمين ، ولا سيما بعد فرارهما في أحد ، وبعد مشورتهما المتخاذلة في بدر.

الثاني : إنهما ربما يكونان قد وقفا من نعيم بن مسعود ، أو من غيره على حقيقة أمر أهل مكة ، وأنهم خائفون من مواجهة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمين بالحرب ، لا سيما مع ما نلمحه من وجود قدر من التفاهم والانسجام في المواقف أحيانا ، كما تقدم في غزوة بدر ، حول الاستشارة في الحرب ، ثم في قصة الأسرى ، وبعد ذلك في غزوة أحد حينما وضعنا بعض علامات الاستفهام حول تحركات الخليفة الثاني.

والخلاصة : أنهما إذا كانا قد علما بحقيقة أمر المشركين ، فهما يعلمان مسبقا : أن خروج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمين إلى بدر الموعد لن يشكل أي خطر على مشركي قريش ، إلا من الناحية الإعلامية والسياسية والنفسية. كما أنهما نفسيهما سوف لا يواجهان أي خطر يخشيانه ، ولو في ضمن زحمة المعركة ، كما قد حصل في أحد.

الأفراح والأتراح :

إننا ـ وإن كنا نقدر الواقدي في حدود معينة ، ونراه منصفا شيئا ما ، وهو من حيث نقله ينقل سيرة النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ بصورة أفضل وأدق مما ينقلها البعض ، ولكننا نعتب عليه أحيانا ـ ليس لأجل إيراده ما ثبت بالدليل القاطع زيفه ، أو التزيد فيه من الرواة ، فإن ذلك أمر مألوف ومعروف ، ولم ينج منه مؤلف في قضايا التاريخ وغيرها ـ بل لأجل وقوعه أحيانا ـ كغيره ـ في المتناقضات ، أو فريسة لأصحاب الأهواء ، وأهل

٩٠

الزيغ من الحاقدين والموتورين ، وقد وقع هنا في هذا الخطأ بالذات ، حين صور لنا أن المشركين كانوا يعيشون أفراح التأهب لحرب بدر الموعد ، وكان المسلمون يعيشون الأتراح ، ويهيمن عليهم الرعب والخوف والجبن ، فهو يقول عن المشركين :

«وتهيأوا للخروج ، وأجلبوا. وكان هذا عندهم أعظم الأيام ، لأنهم رجعوا من أحد والدولة لهم ، طمعوا في بدر الموعد أيضا بمثل ذلك من الظفر» (١).

ويقول عن المسلمين : «فيقدم القادم على أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فيراهم على تجهز ، فيقول : تركت أبا سفيان قد جمع الجموع ، وسار في العرب ليسير إليكم لموعدكم ، فيكره ذلك المسلمون ، ويهيبهم ذلك» (٢).

ونقول :

قد ذكرنا في بداية الحديث : أن المشركين لم ينتصروا في أحد ، بل انهزموا هزيمة نكراء.

وقد اتضح لديهم : أن ما جرى على المسلمين آنئذ لن يتكرر في المستقبل ، لأن ذلك إنما نشأ عن عدم الانضباطية لدى الرماة ، الذين كانوا يحرسون في الجبل ، ولم يكن بسبب ضعف في القدرات الحربية ، ولا لجبن في المقاتلين ، أو خور في عزائمهم ، ولا بسبب تفرق الأهواء ، ولا لأجل نقص في كفاءة القيادة.

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ١ ص ٣٨٤.

(٢) المغازي للواقدي ج ١ ص ٣٨٥.

٩١

وإنما هو مجرد خطأ شخصي أعقبته حركة قتالية فريدة ، تجلت فيها كفاءات لا يمكن مواجهتها ، في أي زمان أو مكان ، ولا سيما من علي أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، ثم بعض من لحقه من الصحابة الأخيار.

فلا معنى إذن : لابتهاج المشركين بحرب ، لو كانت تشبه حرب أحد ، فذلك يعني الدمار الكامل والشامل لهم.

وأما بالنسبة لحالة المسلمين ، التي تحدث عنها الواقدي ، فنحن لا نوافق المؤرخين ، ولا المحدثين على ما ذكروه من خوف شامل في المسلمين من مواجهة المشركين في بدر الموعد ؛ إذ لم يكن ثمة مبرر لذلك ، لا سيما بعد أن حقق المسلمون انتصارات رائعة ومثيرة على المشركين في بدر وأحد ، رغم خطأ الرماة الذي تسبب بحدوث كارثة.

ثم إنهم بجهود علي «عليه‌السلام» تلافوا الخطأ وهزموا عدوهم.

هذا بالإضافة إلى انتصاراتهم على اليهود ، ثم تحركهم في المنطقة بصورة زادت من هيمنتهم ونفوذهم ، وجعلتهم أكثر قوة وشوكة وثقة بالمستقبل.

ولنا أن نتساءل : إذا كان المسلمون ارتعبوا حتى خاف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن لا يخرج معه أحد ، فكيف ارتفع هذا الخوف عنهم ، حتى خرج من الشجعان معه ألف وخمس مئة رجل ، مع أن الذين خرجوا معه إلى أحد ؛ ليدافعوا عن بلدهم المدينة ، كانوا ألف رجل (رجع منهم ثلاث مئة مع ابن أبي) مع الإشارة إلى أن عدد المسلمين لم يكن يزيد عن الخارجين معه إلا يسيرا.

وهل يمكن أن يذكر لنا التاريخ اسم واحد من أولئك الذين تخلفوا عن الخروج خوفا وجبنا؟!

٩٢

أما مشركو مكة فقد تقلص نفوذهم في المنطقة بدرجة كبيرة ، وتشكك كثير من الناس في قدرتهم على تحقيق نصر حاسم على المسلمين بسهولة ، لا سيما بعد الهزائم سياسيا وعسكريا التي لحقت بهم حسبما أشرنا إليه ، ثم ما تتعرض له قوافلهم التجارية ، وعدم قدرتهم على توفير الأمن لها ، بالإضافة إلى توسع منطقة نفوذ المسلمين وتحالفاتهم ، على حساب ما كان لهم من نفوذ وتحالفات.

ولعل ما يقال : عن رعب في المسلمين وتلكّؤ قد أريد له أن يجسد المصداق للآيات التي تتحدث عن تخويف الناس لهم ، مع أن الآيات تذكر تكذيبا لهذه الشائعة ، وأن هذا التخويف قد زاد المسلمين إيمانا وتصميما ، ومع أن الآيات إنما نزلت في غزوة حمراء الأسد.

ولعله قد أريد ترتيب أجواء مناسبة ، ليقدّم أبو بكر وعمر مشورتهما بلزوم المواجهة ، لتظهر شجاعتهما دون سائر المسلمين ، وليعوضهما ذلك بعض ما كانا قد فقداه في حالات سابقة.

ولعل فيما ذكرناه كفاية لمن أراد الرشد والهداية.

المجتمع المفتوح :

وقد قرأنا فيما تقدم : أن نعيم بن مسعود الأشجعي ، قد ذهب إلى المدينة بهدف تخذيل المسلمين عن الخروج إلى بدر الموعد. ولعل تردد المشركين إلى المدينة بتجاراتهم ، ومتابعة شؤونهم ومصالحهم ، هو من الأمور الواضحة والبديهية تاريخيا.

وربما يحمل ذلك بعض السلبيات للمسلمين أحيانا ، كما لوحظ في هذه

٩٣

المرة ، التي قام فيها نعيم بدور مخرب ، ومضر جدا.

ولكن من الواضح : أن الإسلام وهو يريد للآخرين ، الذين يناوئونه أن يعيدوا النظر في مواقفهم ، فترة بعد أخرى ، فكان بعيدا عن أجواء التشنج يفسح لهم المجال للتعامل مع المسلمين بصورة مباشرة ، ليلتمسوا بأنفسهم وبصورة عملية وميدانية محاسن الإسلام ، وآدابه ، وسياساته ، وكل آفاقه بحرية تامة ، ومن دون الاعتماد على الشائعات ، ولا على الإعلام الموجه الذي قد يتحفظ الكثيرون تجاهه ، لأنهم قد يتخيلونه غير قادر على أن يعكس بعض الواقعيات بدقة وأمانة.

ثم إن هذا التعامل الطبيعي والحر من شأنه أن يزيل عقدا كثيرة ربما لا يمكن إزالتها بدونه ، بل هي قد تزيد رسوخا وتجذرا ، وتتراكم حولها وفيها الأدران إلى درجة كبيرة وخطيرة ، إذا كانت الأبواب موصدة أمامهم ، ولا يعرفون عن الإسلام والمسلمين إلا نتفا قد تتسرب ـ لسبب أو لآخر ـ فتصل إليهم سليمة أو مشوهة ، حسب الظروف.

وبعد .. فإن الإسلام واثق من كل ما لديه ، وليس ثمة شيء محرج له على الإطلاق ، لا في المجال العقيدي ، ولا التشريعي ، ولا السلوكي ، ولا في دائرة الدوافع والنوايا ، ولا في محيط المرامي والأهداف ، ولا في غير ذلك من مجالات.

وأما ما ينشأ عن التعامل مع المشركين من سلبيات أحيانا ، فإنه يمكن تلافيه ، ولا أقل يمكن التقليل من آثاره وأخطاره من خلال تحصين الأمة بالوعي ، وبالإيمان ، وبالتربية الصالحة في مختلف المجالات. بالإضافة إلى الدور الأساسي والمحوري ، الذي تقوم به القيادة المؤهلة ـ وحدها ـ لأن

٩٤

تهدي الأمة ، وتقودها إلى الفلاح ، والسداد والنجاح ، وهي قيادة الأنبياء ، والأئمة المعصومين «عليهم الصلاة والسلام».

استخلاف ابن أبي على المدينة :

وقد ذكر في ما تقدم : أن هناك من يقول : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استخلف عبد الله بن أبي بن سلول على المدينة ، حين سار إلى بدر الموعد.

ونحن نشك : في صحة ذلك ونرجح أن يكون ابن رواحة هو المستخلف عليها ، كما ذكرته نصوص كثيرة أخرى ؛ إذ من البعيد أن يستخلف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رأس النفاق ، ذلك الرجل الذي كان يميل إلى المشركين واليهود أكثر مما كان يميل إلى المسلمين ، ولم تزل تظهر منه فلتات وكلمات خطيرة ، لو أراد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يجازيه عليها ، لم يكن جزاؤه أقل من القتل ؛ وإنما استخلف «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليا «عليه‌السلام» في غزوة تبوك خوفا من تحرك المنافقين فيها كما سنرى إن شاء الله.

إلا أن يقال : إن من الممكن أن يكون النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يريد أن يتألفه بذلك ، كما كان يتألف غيره بإسناد بعض المهام إليهم.

قوة الإسلام :

قال الواقدي : «وأقبل رجل من بني ضمرة ، يقال له : مخشي بن عمرو ـ وهو الذي حالف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على قومه ، حين غزا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ودّان في المرة الأولى ـ فقام ـ والناس مجتمعون في سوقهم ، وأصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أكثر أهل ذلك الموسم ـ فقال : يا محمد ، قد أخبرنا : أنه لم يبق منكم أحد ، فما أعلمكم

٩٥

إلا أهل الموسم!

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ؛ ليرفع ذلك إلى عدوه من قريش : ما أخرجنا إلا موعد أبي سفيان ، وقتال عدونا ، وإن شئت مع ذلك ـ نبذنا إليك ، وإلى قومك العهد ، ثم جادلناكم قبل أن نبرح من منزلنا هذا.

فقال الضمري : بل نكف أيدينا عنكم ، ونتمسك بحلفك. وسمع بذلك معبد بن أبي معبد الخزاعي ، فانطلق سريعا ، وكان مقيما ثمانية أيام ، وقد رأى أهل الموسم ، ورأى أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وسمع كلام مخشي ؛ فانطلق حتى قدم مكة ، فكان أول من قدم بخبر موسم بدر. فسألوه فأخبرهم بكثرة أصحاب محمد ، وأنهم أهل ذلك الموسم ، وما سمع من قول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للضمري.

وقال : محمد في ألفين من أصحابه الخ ..

قال البيهقي : فأفزعهم ذلك ، ثم يذكر ملامة صفوان بن أمية لأبي سفيان» (١).

وقد يستشف البعض من هذه القضية : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أحس من مخشي بن عمرو : أنه قد قال ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية ؛ فقابله النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بهذا الأسلوب (٢).

__________________

(١) مغازي الواقدي ج ١ ص ٣٨٨ وراجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٦٩ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٨٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٢٩ و ٢٣٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣٢٠ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٠٣ و ٢٠٤ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٣٨٥ و ٣٨٧.

(٢) سيرة المصطفى ص ٤٥٥.

٩٦

ومن الواضح : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن لينقض العهد ، ولا يباشر حربا مع أحد إلا إذا اضطرته الظروف وكان مع ذلك لين الطبع كريم النفس ، قد بلغ الغاية من النبل والأخلاق الكريمة ، حتى أنزل الله فيه : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (١).

وبعبارة أخرى : إنه إنما اتخذ هذا الموقف من أجل أن يعيد إلى ذلك الرجل توازنه ، وليفهمه : أن الأمور أعمق وأخطر من أن يتلاعب ويستخف بها قاصرو النظر ، الذين لا يشعرون بالمسؤولية ، ولا يحسنون فهم الأمور.

ونقول :

إن كلام مخشي بن عمرو لا يوحي بأنه كان في مقام الاستهزاء ، غير أن من الواضح : أن هذا الرجل ، كان يسعده أن يرى المسلمين وقد أبيدت خضراؤهم ، وقتلت رجالهم ، وسبيت نساؤهم ، ولعله صدق ما بلغه من ذلك ، ثم فوجئ بعكس ما كان يتوقعه وسمع به. فجاء ليعرف السر في ذلك ، وكأنه كان على قناعة بأن مشركي مكة قادرون على ذلك ، وأن المسلمين على درجة كبيرة من الضعف والوهن في قبال المشركين.

وربما يكون ما جرى في أحد ، الذي لم ينقل إليه ، والى سائر الناس ، في صورته الحقيقية قد عزز هذه القناعة لديه ، لأنه إنما وقف على نتائج حرب أحد ، ولم يعرف ملابساتها ، وأنها لم تكن نتيجة ضعف حقيقي في عزيمة المسلمين ، ولا لتخاذل منهم في ساحة الحرب والجهاد ، وبذل المهج ، وخوض اللجج في سبيل الله سبحانه ، كما أنه لم يكن لأجل قوة متميزة في

__________________

(١) سيرة المصطفى ص ٤٥٥.

٩٧

جانب عدوهم جعلته ينتزع النصر انتزاعا استنادا إلى قوة السيف ، والسنان ، وثبات في العزيمة ، وشجاعة في الجنان ، كما ربما يحاول القرشيون أن يشيعوه.

فأراد رسول الله الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن يبدد هذه الغشاوة عن بصره وبصر كل من يسمعون ، أو سوف يبلغهم هذا القول ، ويواجهه بالحقيقة الناصعة ، ويقول له : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليس فقط قادرا على سحق قريش بكل ما لديها من حشد وعتاد وقوة ، وإنما هو على استعداد لمواجهتها ومعها كل من يلتقون معها ويشاركونها الموقف والرأي ، والبغي على الإسلام والمسلمين.

وقد أساءت قريش لنفسها حينما صورت للناس ضآلة أمر المسلمين ، وضعفهم ، فها قد انكشفت للناس أكاذيبها ، ورأى الناس حتى القادمون من تجار وغيرهم بأم أعينهم قوة المسلمين ، وعزتهم.

فإذا كان مخشي ، قومه ، بل وكذلك سائر القبائل التي حضرت ذلك الموسم التجاري الواسع ، قد تحركت في نفوسهم نوازع خيانية ، أو خالجتهم أحاسيس حول ضعف المسلمين ، أو شعروا : أن لقريش بعض القوة بسبب ما جرى في أحد ، فإن عليهم أن يتأكدوا من صحة تصوراتهم ومعلوماتهم قبل أن يقدموا على أي عمل ، أو يتخذوا أي قرار.

فهناك أمور قد خفيت عليهم حتما وجزما. وما جرى في أحد لا يمكن أن يكون معيارا وميزانا ، ولا يفيدهم شيئا في حسابات الربح والخسارة ، والنصر والهزيمة ، والقوة والضعف.

فقولهم : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إنما أراد بذلك مقابلة حالة الاستهزاء والسخرية بالتهديد بنقض العهد لا يصح ، فإن جوابه «صلى‌الله‌عليه‌وآله»

٩٨

لا يتلاءم وهذا الأمر ؛ وذلك لأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أعطى لمخشي وقومه حرية التصرف في هذا الاتجاه ، واكتفى هو بالاحتفاظ لنفسه بحق. المقابلة بالموقف الحازم والحاسم لو نقض الآخرون عهدهم. وذلك ظاهر لا يخفى.

لا بد من الندم :

إن من الواضح : أن ما أقدم عليه أبو سفيان في نهاية حرب أحد ، حيث قطع على نفسه وعدا بلقاء المسلمين بعد عام في بدر الصغرى ، كان خطأ فاحشا ، ورأيا فطيرا ، تعوزه البصيرة بالأمور ، والواقعية في النظرة وفي الموقف.

وذلك لأن المسلمين ، بعد ما جرى في أحد ، قد أصبحوا أكثر تصميما على توجيه ضربة موجعة وقوية لكبرياء قريش ، بعد أن وترتهم في حرب أحد ، التي لا بد أن يكون المسلمون قد استفادوا منها الدروس والعبر ، ولن يسمحوا أبدا بتكرر الخطأ الذي وقعوا فيه فيها ، مهما كان الثمن.

وقد أدرك أبو سفيان خطأه الكبير ذاك ، ولكن بعد فوات الأوان ، وكان صفوان بن أمية قد نبهه إلى ذلك فلم يلتفت إليه.

وذلك لأن المشركين ، وإن كانوا قد فاجأوا المسلمين في بلادهم ، ولم يجدوا الفرصة للإعداد والاستعداد ، ولكن المشركين لم يحققوا ما حققوه في تلك الحرب نتيجة لتنامي قدراتهم القتالية ، ولا لأجل ضعف في المسلمين. وذلك لأن القوى وإن لم تكن متكافئة بين الفريقين من حيث العدد والعدة ، إلا أن حرب بدر قد أثبتت للجميع : أن ذلك ليس هو الفيصل في الحرب ، وليس هو الذي يقرر نتائجها.

٩٩

هذا بالإضافة إلى أن حرب أحد نفسها قد أثبتت للمشركين : أن نتائج هذه الحرب ـ لو استمرت ـ لن تكون أفضل من نتائج حرب بدر ، لو لا الخطأ الذي ارتكبه الرماة على الجبل حيث جعلهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هناك ليمنعوا من حصول أي تسلل محتمل للعدو فتركوا مراكزهم ، من أجل الحصول على بعض الغنائم ، ثم تسلل المشركون من ذلك الموضع بالذات ، وأوقعوا بالمسلمين الذين كانوا قد انصرفوا عن الحرب إلى جمع الغنائم ، حسبما أو ضحناه في غزوة أحد في جزء سابق.

وحتى بعد أن بدأ المسلمون يستعيدون وضعهم القتالي ، فإن المشركين أحسوا بالخطر الداهم ، فآثروا ترك ساحة القتال والانصراف إلى مكة.

فلو كان بإمكانهم تسجيل نصر حاسم ، فلن يجدوا المسلمين في حالة أضعف من الحالة التي هم عليها الآن ، وقد كان يهمهم جدا إنهاء أمر المسلمين ، والقضاء عليهم نهائيا والى الأبد.

وحتى حينما كان أبو سفيان يطلق وعوده باللقاء في بدر من العام المقبل ، متبجحا بما تحقق لهم في معركة أحد ، فإنه لم يكن في موقع يمكنه من حسم الأمر لصالحه ولصالح المشركين آنئذ.

وقد أدرك في وقت متأخر : أن الخطأ الذي وقع فيه المسلمون في أحد ربما لن يتكرر في المستقبل ، مع إدراكه أن أي حرب سيخوضها ضد المسلمين ، سوف يكون المسلمون فيها أكثر استبسالا وأعظم بلاء من ذي قبل.

كما أنهم سوف يكونون أكثر التزاما بأوامر قيادتهم الإلهية ، بعد أن صح لهم أن تلك القيادة لا تنقصها الحكمة ولا الشجاعة ، ولا التدبير ، وقد لمسوا صوابية مواقفها ، وبعد نظرتها إلى الأمور ، ودفعوا ثمن التساهل في الالتزام

١٠٠