الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-181-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٢

لكن القطب الراوندي يقول : «قسمه بين المهاجرين والأنصار بالذراع فجعل لكل عشرة منهم عشرة أذرع» (١).

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يشارك في حفر الخندق :

وقد شارك النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المسلمين في حفر الخندق كما صرحت به النصوص التاريخة ، وذلك رغبة في الأجر ولينشط المسلمين (٢).

وقد أجهد المسلمون أنفسهم ، والنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يكابد معهم (٣) النصب والجوع وقد استمرت هذه المشاركة حتى فرغ من حفر الخندق (٤).

وكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يضرب مرة بالمعول ، ومرة يغرف بالمسحاة التراب ، ومرة يحمل التراب بالمكتل ، قال أبو واقد : ولقد رأيته يوما بلغ منه ، فجلس ، ثم اتكأ على حجر على شقه الأيسر ، فذهب به النوم ، فرأيت أبا بكر

__________________

(١) الخرائج والجرائح ج ١ ص ١٥٢ والبحار ج ١٨ ص ٣٢ عنه.

(٢) راجع ما يلي : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٤٥ وتهذيب سيرة ابن هشام ص ١٨٩ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٢٦. وراجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ٩٥ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٢٠ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٣٤ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٦٨ وعيون الأثر ج ٢ ص ٥٥ و ٥٧ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٣٩٩ و ٤٠٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٨٣ ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١٤٠٧ والإكتفاء ج ٢ ص ١٥٩ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٠١.

(٣) بهجة المحافل ج ١ ص ٢٦٣ وحدائق الأنوار ج ٢ ص ٥٨٥.

(٤) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٠.

٢٢١

وعمر واقفين على رأسه ينحيان الناس أن يمروا به فينبهوه ، وأنا قريب منه ، ففزع ، ووثب فقال : إلا أفزعتموني؟!

فأخذ الكرزن (الفأس) يضرب به ، وإنه ليقول :

اللهم إن العيش عيش الآخرة

فاغفر للأنصار والمهاجرة

اللهم العن عضلا والقاره

فهم كلفوني أنقل الحجارة (١)

وكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يحمل التراب على ظهره ، أو على عاتقه (٢) حتى إن التراب على ظهره وعكنه (٣) وربما كان يحفر معهم حتى يعيا ، ثم يجلس حتى يستريح.

وجعل أصحابه يقولون : يا رسول الله ، نحن نكفيك.

فيقول : أريد مشاركتكم في الأجر (٤).

وعن أم سلمة بسند صحيح ـ عند أحمد ـ : «كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعاطيهم اللّبن يوم الخندق ، وقد اغبر شعر صدره» (٥).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٥٣ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٢ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٢٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٨ وراجع المواهب اللدنية ج ١ ص ١١١.

(٢) راجع : حدائق الأنوار ج ٢ ص ٥٨٥ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٢١ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٦.

(٣) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٥ وفي المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٤٩ عن أنس : على صدره وبين عكنه. (العكن : ما انطوى وتثنى من لحم البطن).

(٤) وفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٠٧ عن تفسير الثعلبي.

(٥) فتح الباري ج ٧ ص ٣٠٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٦ وعن أبي يعلى وأحمد برجال الصحيح.

٢٢٢

وفي نص آخر ذكره البخاري وغيره : «رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني التراب جلدة بطنه ـ وكان كثير الشعر ـ فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة :

والله لو لا الله ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا

فانزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا

إذا أرادوا فتنة أبينا

ثم يمد بها صوته : أبينا ، أبينا (١).

وقد سجل العسقلاني تحفظا هنا ، فهو يقول : «ظاهر هذا أنه كان كثير شعر الصدر ، وليس كذلك فإن في صفته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنه كان دقيق المسربة ، أي الشعر الذي في الصدر إلى البطن. فيمكن أن يجمع أنه كان مع دقته كثيرا» (٢).

__________________

(١) راجع المصادر التالية في : السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٨٥ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٩٦ عن الصحيحين ، وصحيح البخاري ج ٣ ص ٢١ باب غزوة الخندق.

وصحيح مسلم ـ الجهاد والسير ، باب غزوة الأحزاب. وفتح الباري ج ٦ ص ٤٦ وج ٧ ص ٣٠٨ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٤٥ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٦٣ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١١ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨١ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٣ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٢ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٢٢ و ٢٢٣ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٥٧٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٧ وراجع : حدائق الأنوار ج ٢ ص ٥٨٥ و ٥٨٦ ومجمع البيان ج ٨ ص ٣٤١ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ١٩٩ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٦٩ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٤٩ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤١٣ و ٤١٤ وكنز العمال ج ١٠ ص ٢٨١ والغدير ج ٧ ص ٢٠٦ عن ابن كثير وعن طبقات ابن سعد.

(٢) فتح الباري ج ٧ ص ٣٠٨.

٢٢٣

ولكنه جمع غير ظاهر الوجه ، بعد أن كان التعبير الوارد في الرواية يأباه. ولكن المهم عند هؤلاء هو تصحيح رواية البخاري بأي ثمن.

وقد صرح القمي : بأن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان هو البادئ في حفر الخندق ، فهو يقول : وأخذ معولا فحفر في موضع المهاجرين بنفسه وأمير المؤمنين «عليه‌السلام» ينقل التراب من الحفرة ، حتى عرق رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعيي ، وقال :

لا عيش إلا عيش الآخرة

اللهم اغفر للأنصار والمهاجرة

فلما نظر الناس إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يحفر اجتهدوا في الحفر ، ونقلوا التراب ، فلما كان في اليوم الثاني بكروا إلى الحفر ، وقعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في مسجد الفتح ، فبينا المهاجرون والأنصار يحفرون إذ عرض لهم الخ ..» (١).

علي عليه‌السلام وشيعته أعظم الناس عناء :

قال القاضي النعمان : «وكان علي صلوات الله عليه وشيعته أكثر الناس عناء ، وفيه عملا. وكان في ذلك من الأخبار ما يطول ذكره» (٢).

وثمة تفاصيل أخرى :

قد عرفنا فيما سبق : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان هو البادئ في حفر الخندق ، وكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يحفر ، وعلي «عليه‌السلام» ينقل

__________________

(١) تفسير القمي ج ٢ ص ١٧٧ و ١٧٨ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢١٨ عنه.

(٢) شرح الأخبار ج ١ ص ٢٩٢.

٢٢٤

التراب من الحفرة ، وقد استمرت مشاركة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم في العمل حتى انتهوا من الخندق.

وأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يضرب مرة بالمعول ، ومرة يغرف التراب بالمسحاة ، ومرة يحمل التراب بالمكتل على ظهره ، أو على عاتقه.

وكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعاطيهم اللّبن ، الأمر الذي يدل على أنه كان ثمة بناء في الخندق.

أضف إلى ذلك أنهم يقولون :

إنهم كانوا يحملون المكاتل على رؤوسهم ، وإذا رجعوا بها جعلوا فيها الحجارة ، يأتون بها من جبل سلع ، يسطرونها مما يليهم كأنها حبال التمر وكانت الحجارة من أعظم سلاحهم ، يرمونهم بها.

والقوم يرتجزون ، ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقول :

هذي الجمال لا جمال خيبر

هذا أبر ربنا وأطهر (١)

وما كان في المسلمين يومئذ أحد إلا يحفر في الخندق ، أو ينقل التراب وكان أبو بكر وعمر لا يتفرقان في عمل ، ولا مسير ولا منزل ، ينقلان التراب في ثيابهما من العجلة ، لم يكن مكاتل لعجلة المسلمين (٢).

وقال جابر : وعمل الناس يومئذ كلهم ، والنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ،

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٤٦ وراجع : الإمتاع ج ١ ص ٢٢٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٢.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٤٩ و ٤٤٨ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٣ والإمتاع ج ١ ص ٢٢٢ ، وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٦.

٢٢٥

وجعلت الأنصار ترتجز وتقول :

نحن الذين بايعوا محمدا

على الجهاد ما بقينا أبدا

فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وفي لفظ آخر : فيجيبهم :

اللهم لا خير إلا خير الآخرة

فاغفر للأنصار والمهاجرة (١)

وكان من فرغ من المسلمين من حصته عاد إلى غيره فأعانه ، حتى كمل الخندق (٢).

وعن أنس قال : خرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى الخندق ، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ، ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم ، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع.

وفي نص آخر : فلما رآهم يحملون التراب على متونهم ، وما بهم من نصب وجوع ، قال :

اللهم إن العيش عيش الآخرة

فاغفر للأنصار والمهاجرة

فقالوا مجيبين له :

__________________

(١) المغازي للوادي ج ٢ ص ٤٥٢ و ٤٥٣ وراجع كنز العمال ج ١٠ ص ٢٩٠ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٣ وحدائق الأنوار ج ٢ ص ٥٨٥ و ٥٨٦ وصحيح البخاري (المغازي) باب غزوة خيبر وصحيح مسلم ، الجهاد والسير ـ باب غزوة الأحزاب ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤١٠ و ٤١١ و ٤١٢ وراجع : فتح الباري ج ٧ ص ٣٩٢ وعن مسلم باب غزوة الأحزاب وعن البخاري وغير ذلك.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٦.

٢٢٦

نحن الذين بايعوا محمدا

على الجهاد ما بقينا أبدا (١)

وبعد ما تقدم نقول :

عمل المنافقين في الخندق :

قالوا : وأبطأ عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعن المسلمين في عملهم ذاك رجال من المنافقين ، وجعلوا يورون بالضعيف من العمل.

وحسب نص آخر : تخلف طائفة من المنافقين ، يعتذرون بالضعف. وتسلل عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جماعة من المنافقين إلى أهليهم بغير علم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأنزل الله تعالى في ذلك :

(.. قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

ثم كان الرجل من المسلمين إذا نابته نائبة لا بد منها يستأذن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيقضي حاجته ، ثم يعود ، فأنزل الله تعالى :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ

__________________

(١) السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٨٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٩٥ و ٩٦ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٦٣ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١١ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٢ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٦ و ٥١٧ وصحيح البخاري ج ٣ ص ٢٠ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤١٠ و ٤١١ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٤٥ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٩٢.

٢٢٧

وَرَسُولِهِ ..).

واللواذ : الإستتار بالشيء عند الهرب (١).

وهناك الذين كانوا يتسللون زاعمين أن بيوتهم عورة ـ أي مكشوفة للغزاة ، ومعرّضة للإحتلال (٢) ـ وليس الأمر كذلك.

ولنا مع ما تقدم وقفات ، نشير إليها فيما يلي من مطالب :

١ ـ توزيع المهام على العاملين :

ومن الواضح : أن تحديد المسؤوليات ، وتقسيم المهام على العاملين من شأنه أن يرفع من درجة الإحساس بالمسؤولية ، الأمر الذي يفرض على العاملين قدرا أكبر من الدقة والتحري ، الذي ينعكس على العمل إتقانا وتناسقا وجمالا.

هذا عدا عن أنه يذكي روح التنافس البنّاء والهادف ، الذي يؤدي إلى

__________________

(١) راجع ما تقدم كلا أو بعضا ، في المصادر التالية : السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٢٦ و ٢٢٧ والإكتفاء للكلاعي ج ٢ ص ١٥٩ و ١٦٠ والكامل في تاريخ ج ٢ ص ١٧٩ و ١٧٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٣٤ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٣ و ٣١٢ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٦٨ وعيون الأثر ج ٢ ص ٥٥ و ٥٦. وراجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ٩٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٨٣ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١٠ وراجع ص ١١٢ و ١١٣ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٣ والدر المنثور ج ٥ ص ٦٠ عن ابن إسحاق ، وابن المنذر ، والبيهقي في الدلائل وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٢٢ و ٥٢٣ وتهذيب سيرة ابن هشام ج ٣ ص ١٨٩ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٠٩.

(٢) سيرة المصطفى ص ٤٩٦.

٢٢٨

نشوء نوع من الرقابة العفوية ، التي تنتهي إلى الانضباط ، وإلى الإسراع في الإنجاز.

ومن جهة ثانية : فإنه يقطع الطريق على أولئك الكسالى والإتكاليين ، ممن يضعف لديهم الشعور بالمسؤولية ، ويريدون أن يفيدوا ويستفيدوا من جهد الآخرين ، دون أن يقدموا هم أنفسهم أي جهد ، أو أن يبذلوا أي عناء. ومنعهم من ثم من التواكل المؤدي إلى الفشل ، وإلى التضييع والبلبلة والاختلاف.

وقد روي عن علي عليه الصلاة والسلام : أنه كتب في وصيته للإمام الحسن ، صلوات الله وسلامه عليه : «واجعل لكل إنسان من خدمك عملا تأخذه به ، فإنه أحرى أن لا يتواكلوا في خدمتك» (١).

كما أن عدم تحديد المسؤوليات يؤدي إلى تخلخل في البنية الداخلية ، نتيجة للإحساس بالغبن لدى من تفرض عليه ظروف عمله أن يكون هو الذي يتحمل عبء إنجاز ما فرّط الآخرون في إنجازه. وعسى ولعل أن يتجه الفرقاء إلى إثارة الأسئلة والشكوك ، ثم إلى التراشق بآلتهم لتبرير حالة الضعف القائمة بسبب ذلك.

وعلينا بعد ذلك كله : أن نتوقع ظهور عوارض الخلل والضعف في أية خطة ترسم وتعتمد ، وتفقد الكثير من حيويتها وفاعليتها في مجال التطبيق والتنفيذ.

كما أن توزيع الحصص على العاملين بهذه الطريقة يضمن تحقق المساواة

__________________

(١) نهج البلاغة بشرح عبده ، آخر وصية الإمام الحسن رقم (٣١) ج ٣ ص ٦٣.

٢٢٩

والعدل في تحمل مشاق العمل ، فلا يعمل هذا أكثر من ذاك. وإذا استطاع التفوق على أقرانه في العمل ، فإن ذلك يظهر للآخرين ويتجلى امتيازه على سائرهم ، كما سنقرؤه بالنسبة لسلمان الفارسي ، الذي ظهرت قوته في العمل ، فتنافس فيه المهاجرون والأنصار.

أما المتواكل المتخاذل : فلا مجال للتستر عليه ، إذا كان يريد أن يتوانى في عمله ويتواكل فيه. وقد فضح القرآن الكريم المنافقين ، الذين اتبعوا هذا السبيل كما تقدم.

هذا كله : بالإضافة إلى أن قسمة العمل على النحو المتقدم من شأنها أن تؤثر في زرع روح التفاؤل بإمكانية إنجاز هذا العمل الضخم وتقلل من رهبته في صدور العاملين ، حينما تنحسر النظرة إلى ذلك العمل الهائل لتصبح في مدى أذرع يسيرة يتعاون على إنجاز العمل فيها عشرة من المؤمنين.

٢ ـ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والشعر :

قد تقدم : بعض ما يدل على أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يتمثل ببعض الشعر ، أو ينشد مع الصحابة ما ينشدون ، ونزيد هنا :

قال دحلان وغيره : عن سهل بن سعد : كنا مع النبي في الخندق ننقل التراب على أكتافنا ، فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» :

اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة

فأكرم الأنصار والمهاجرة

وهو من كلام ابن رواحة ، وأصله :

لا هم إن العيش عيش الآخرة

 ......

فنطق به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» :

٢٣٠

اللهم لا عيش الخ ..

 .....

لأنه يعسر عليه النطق بالشعر ، وإن كان من قول غيره (١).

وعن أبي عثمان النهدي ، أو سلمان : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين ضرب في الخندق قال :

باسم الإله وبه بدينا

ولو عبدنا غيره شقينا

يا حبذا ربا وحب دينا (٢)

 ......

قال دحلان : «وهو من كلام بعض أصحابه يتمثل به. أو من كلامه بناء على أن الرجز ليس بشعر. أو أن الشعر شرطه أن يكون مقصودا كونه شعرا موزونا. أما إذا خرج موزونا بلا قصد ، فلا يسمى شعرا» (٣).

ونقول :

إن بعض الناس حسبما تقدم ، وكما هو مذكور في كتب التفسير ، في

__________________

(١) السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٣ عن البخاري والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٢ وراجع البداية والنهاية ج ٤ ص ٩٦ عن البخاري ومسلم والحديث في نهاية الأرب أيضا ج ١٧ ص ١٦٩ وصحيح البخاري ج ٣ ص ٢٠ وفيه : فاغفر للمهاجرين والأنصار.

(٢) المواهب اللدنية ج ١ ص ١١١ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨١ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٣ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٢ والإمتاع ج ١ ص ٢٢١ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٧ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٩٦ و ٩٧ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤١٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٨٦ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٠٤.

(٣) السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٣.

٢٣١

تفسير قوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (١).

يريد أن يدّعي : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» غير قادر على التفوه بكلام موزون ، أو أن الرجز ليس بشعر. أو ما إلى ذلك ..

ولكنها دعاوى ليست على درجة من القوة والاستقامة ، فإن المراد بالآية الكريمة (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ ..) : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليس بشاعر ، بمعنى أنه ليس لديه ملكة الشعر ، لا أنه يعسر عليه التكلم بشعر غيره والنطق به.

ولا حاجة بعد هذا إلى دعوى : أن الرجز ليس بشعر ، كما لا حاجة إلى اشتراط القصد أو عدمه في إيراد الشعر الموزون. فإن النظر هو إلى ملكة الشعر الذي يتضمن الانسياق وراء الأوهام والتخيلات ، والمبالغات ، والتصويرات غير الواقعية بالإضافة إلى الوزن والموسيقى ، وفقا لما أشار إليه تعالى بقوله : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) (٢)

٣ ـ دور عضل والقارة :

وقد ذكرت رواية أبي واقد : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال :

اللهم العن عضلا والقارة

هم كلفوني أنقل الحجارة

__________________

(١) الآية ٦٩ من سورة يس.

(٢) الآيات ٢٢٤ ـ ٢٢٦ من سورة الشعراء.

٢٣٢

وليس هذا الكلام واضح المأخذ والمغزى ، إلا أن تكون هاتان القبيلتان : عضل والقارة ، قد قامتا بنشاط واسع في تحزيب الأحزاب فاق نشاط اليهود وقريش حتى صح أن ينسب «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى هاتين القبيلتين حتى نقل الحجارة للخندق.

وليس فيما بأيدينا من نصوص ما يدل على ذلك أو يشير إليه من قريب ولا من بعيد.

٤ ـ الأمثولة المواساة :

وما أروع هذا التنويع في المهمات التي تصدى الرسول الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لها في حفر الخندق ، حيث لم يقتصر على نوع واحد من العمل فيه ، بل شارك «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كل العاملين في أعمالهم وأذاق نفسه الشريفة مبلغ جهدهم ، فصدق بذلك الخبر ، وتجلت المواساة بأبهى صورها ، وتجسدت الأمثولة الرائدة بأروع وأدق وأصدق معانيها.

٥ ـ المتحذلقون الأغبياء :

ومن الأمور التي تلفت النظر هنا : أن البعض يحاول أن يفرغ هذه التضحية الرائعة ، والأمثولة الفريدة للنبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من معناها ومغزاها ، فيدّعي رجما بالغيب : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان لا يرى الشدة في حمل الحجارة (١) ، رغم صراحة رواية أبي واقد المتقدمة : أن أبا واقد رأى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وقد بلغ منه ، وعلى حد تعبير نص

__________________

(١) الزهد والرقائق ص ٢٥٦.

٢٣٣

آخر : «وهو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يكابد معهم»

وفي نص ثالث : وربما كان يحفر حتى يعيا ، ثم يجلس حتى يستريح.

وفي نص رابع : «حتى عرق رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعيي». وكل ذلك قد تقدم مع مصادره.

٦ ـ لا عيش إلا عيش الآخرة :

ولا ننسى أن نلفت نظر القارئ هنا : إلى مضمون الشعر الذي كان يترنم به العاملون في الخندق ، وما يتضمنه من ربط لهم بالآخرة وبما يرجو المؤمنون تحقيقه من فوز وفلاح فيها.

كما أنه يحمل في ثناياه مقارنة عفوية فيما بين الدنيا والعيش فيها ، وتفضيل عيش الآخرة عليه. ثم يشاركهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في ترديد هذا الشعر ، فتكون مشاركة للوجدان وللإحساس ، ويتعمق لدى هذا الإنسان الكادح المجاهد الشعور بالله سبحانه ، وبألطافه ومواهبه ، وما أحوجهم في هذا الظرف العصيب بالذات إلى إحساس كهذا.

٧ ـ الحماسة والمثابرة :

وقد كان لمشاركة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هذه تأثير كبير في إثارة الحماسة لدى العاملين في حفر الخندق. وقد أذكيت هذه الحماسة أيضا معرفتهم بتحرك الأعداء باتجاه المدينة ، وإحساسهم بالخطر الذي يتهددهم.

٨ ـ الأسوة الحسنة :

لقد أجمع المؤرخون : على أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد شارك في

٢٣٤

حفر الخندق.

وتتفق هذه النصوص : على أنها كانت مشاركة فعالة وحقيقية وجدية. وما نريد أن نلفت النظر إليه هنا هو :

ألف : إن هذه المشاركة لم تكن شكلية ، ومجرد تمثيل ، كما عهدناه وألفناه من رؤساء الجمهوريات والوزراء وكبار المسؤولين في عصرنا الحاضر ، حيث يضرب أحدهم بالمعول مثلا ضربات أمام الجماهير في احتفال تكريمي ليظهر على شاشات التلفزيون ، وعلى صفحات الجرائد في استعراض إعلامي مزيف ، يهدف إلى تكريس زعامته ونفوذه ، ولا شيء غير ذلك ، ثم يتابع رقابته على العمل والعاملين من موقع الأمر ، من قصره المنيف ، أو من برجه العاجي الزاهر. فجاءت مشاركة النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حفر الخندق بصيغة المعاناة الحقيقية والصادقة ، التي تمثل الأسوة في المعاناة الكادحة لا مجرد الرمز والمثال.

ولنسمع النشيد العفوي والصادق :

لئن قعدنا والنبي يعمل

لذاك منا العمل المضلل

يقول البعض : «إن التاريخ لم يدون لنا غير حادثة مفردة عن شخصية كان لها سلطان روحي وزمني أيضا على أمة من الأمم. ومع ذلك فقد عملت مثل عامل عادي ، وجنبا إلى جنب مع أتباعها في ساعة الحرج الوطني العظيم» (١).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٤٧ وراجع : الإمتاع ج ١ ص ٢٢١ وراجع : دلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٣٩٩.

٢٣٥

ب : إن مشاركته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حفر الخندق تجسد عمليا المساواة بين جميع فئات المجتمع ، وتخرجها عن أن تكون مجردة شعار يراد له أن يبقى في حدود إثارة المشاعر ، في النشاط الإعلامي الجماهيري ، دون أن يجاوز ذلك ليصبح حياة وحركة ، نهجا وسلوكا.

فالمساواة في نظر الإسلام نهج وسلوك ، وخلق إسلامي وإنساني رفيع ونبيل ، تنطق من خلاله وعلى أساسه مثل وقيم في جهات حياتية شتى.

ولأجل ذلك : نجد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يشارك أصحابه في حفر الخندق مشاركة حقيقية ، فهو يتعب كما يتعبون ، ويرتجز كما يرتجزون ، ويجوع كما يجوعون ، ويشاركهم حلو العيش ومره ، ويشترك معهم في تحمل المتاعب ومواجهة المصاعب ويكون أكثرهم عناء ، وأعظمهم غناء.

ج : إن هذه المشاركة منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم تكن عن تواضع يريد من ورائه نيل رضاهم من خلال المواساة التي يتلمسونها في مشاركته تلك. بل هي منطلقة بالإضافة إلى ذلك من قناعة راسخة بالقيم والمبادئ ، وبالمثل الإسلامية والإنسانية ، التي تجعل ذلك عبادة إلهية ، وعبودية له سبحانه وتعالى ، تلك العبادة والعبودية التي لا تستثني ولا تجامل ولا تحابي أحدا أيا كان.

د : ومن الواضح : أن ارتباط النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالناس لم يكن من نوع الروابط التي تقوم بين الزعيم وبين قاعدته الجماهيرية ، ولا كانت هي رابطة حاكم ورعية ، وإنما كانت رابطة الأبوة المسؤولة والواعية ، التي يدفعها إحساسها الأبوي لتريد الخير لمن هم تحت تكفّلها من موقع الوعي والتدبير ، لا من موقع العاطفة الهوجاء ، ولا من منطلق التفكير المصلحي ، الذي يريد أن يستفيد من ذلك لتكريس زعامته ، أو كسب امتيازات

٢٣٦

سياسية ، أو اجتماعية أو غيرها.

ولأجل ذلك كانت مواساته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأصحابه في حالات الجوع ، ثم مشاركته لهم في تلبيته لدعوة جابر لتناول الطعام ؛ رغم أن جابرا لم يجد في بيته إلا ما يكفي بضعة أشخاص. ولكن الرسول الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد دعا الجميع وأطعم الجميع.

منع حسان وكعب بن مالك من الشعر :

وقال المؤرخون أيضا : عن كعب بن مالك قال : جعلنا يوم الخندق نرتجز ونحفر ، فعزم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليّ أن لا أقول شيئا!

فقلت : هل عزم على غيري؟!

قالوا : حسان بن ثابت.

قال : فعرفت أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إنما نهانا لوجدنا له ، وقلته على غيرنا ، فما تكلمت بحرف حتى فرغنا من الخندق.

وقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يومئذ : لا يغضب أحد مما قال صاحبه ، لا يريد بذلك سوءا إلا مما قال كعب وحسان فإنهما يجدان ذلك (١).

وعند البيهقي : نهاهما أن يقولا شيئا يحفظان به أحدا (٢).

وكان جعيل بن سراقة رجلا صالحا ، وكان دميما قبيحا. وكان يعمل معهم في الخندق ، وكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد غير اسمه يومئذ وسماه

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٤٧ وراجع : الإمتاع ج ١ ص ٢٢١ وراجع : دلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٣٩٩.

(٢) دلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٣٩٩.

٢٣٧

عمرا ، فجعل المسلمون يرتجزون ويقولون :

سماه من بعد جعيل عمرا

وكان للبائس يوما ظهرا

وجعل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يقول شيئا ، بل يقفي معهم فقط ، ويقول : عمرا ، ظهرا (١).

قال الحلبي : «وسياق أسد الغابة يدل على أن هذا الذي غير رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اسمه وسماه عمرا غير الجعيل المذكور» (٢).

ونشير نحن هنا إلى ما يلي :

الكلمة المسؤولة والقرار الحاسم :

إن هذه النصوص التي ذكرناها : قد أظهرت أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد اتخذ قرارا حاسما يمنع حسان بن ثابت وكعب بن مالك من إنشاد أو قول شيء حين حفر الخندق ، والذي يظهر لنا من ثنايا الكلمات هو : أن حسانا وكعب بن مالك لم يلتزما بالضوابط الأخلاقية والإسلامية فيما قالاه وأنشداه ، بل هما قد تجاوزا الحد ، وأغضبا الآخرين ، ويشير إلى ذلك :

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ١٦ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٤٧ و ٤٤٨ متنا وهامشا ، وراجع : دلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٠٩ و ٤١٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٢٧ و ٢٢٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٣٤ و ٢٣٥ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٩٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٨٣ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٦٤ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١١ و ٣١٢ والإمتاع ص ٢٢٢ وأسد الغابة ج ١ ص ٢٩٠ وقال : أخرجه أبو موسى والإصابة ج ١ ص ٢٤٠.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٥١٢ وراجع : أسد الغابة ج ١ ص ٢٩٠.

٢٣٨

١ ـ أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد اختص هذين الرجلين بالمنع ، ولم يعزم على أحد غيرهما.

٢ ـ كما أن قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يومئذ : لا يغضب أحد مما قال صاحبه لا يريد بذلك سوءا الخ .. صريح في أنه قد قيل ثمة ما يوجب الغضب ، حتى احتاج الرسول الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للتدخل لتلطيف الأجواء ، وسل الخيمة

٣ ـ ولعل قصة جعيل بن سراقة هي أحد الشواهد على هذا التعدي على الآخرين ، حيث كان من الطبيعي أن ينزعج هذا الرجل ، الذي وصف بالقبح والدمامة من ارتجازهم الشعر في حقه ، ويعد ذلك نوعا من العبث والاستهانة به ، والاحتقار له.

ومن هنا : فإننا نشك كثيرا في قولهم : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جعل يقفي معهم ، ويقول : عمرا ، ظهرا ..

مع أننا نلاحظ على النص المذكور : أنه قد ألمح إلى أن سكوت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن إنشادهم الشعر في حق جعيل كان ملفتا للنظر ، حيث يقول النص : «فجعل رسول الله لا يقول شيئا ، بل يقفي معهم فقط».

وبعد ما تقدم نقول : إننا نلمح في النصوص المتقدمة محاولة للتحريف والتصرف في النص بهدف التعتيم على حقيقة ما جرى ؛ حيث حاول أن يصوّر لنا : أن منع حسان وكعب من قول شيء إنما كان لأجل قدرتهما على قول الشعر ، وقلته على غيرهم.

مع أن القضية : ما كانت تتطلب الكثير من قول الشعر آنئذ ، بل يكفي البيت أو البيتان ليرددهما الآخرون مدة طويلة ، وفقا لما حفظه لنا التاريخ في

٢٣٩

هذه المناسبة ، بالإضافة إلى أن الكثيرين كانوا يجيدون الشعر مثل كعب وحسان.

ولم يكن ثمة داع لتحاسد القوم في أمر كهذا في مناسبة كهذه ، ولا كان اللازم هو أن يحسدوا حسانا وكعب بن مالك في سائر المناسبات ، ويمنعهما النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من هجاء المشركين ، ومن نظم الشعر في كثير من المناسبات الأخرى.

ولم نجد في ما بين أيدينا من نصوص تاريخية أن حدث ما يشبه هذه القضية في أي مناسبات أخرى ، لا مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ولا مع غيره.

وذلك يجعلنا نطمئن إلى حدوث تجاوز منهما للحد أوجب أن يقف النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منهما هذا الموقف الحازم والحاسم.

فليتأمل في تاريخ حياة هذين الرجلين ، فقد يجد المتتبع فيها الكثير مما لا يحسن ولا يجمل ، وقد تقدم في أواخر الحديث عن غزوة بني النضير شيء غريب صدر من حسان ، وربما تأتي الإشارة لأشياء أخرى صدرت منه ومن غيره. والله هو المسدد والهادي.

زيد بن ثابت :

«كان زيد بن ثابت ممن ينقل التراب ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حقه : أما إنه نعم الغلام ، وغلبته عينه ، فنام في الخندق.

فأخذ عمارة بن حزم سلاحه ، وهو نائم.

فلما قام فزع على سلاحه ، فقال له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : يا بار ، [يا أبا رقاد] قد نمت حتى ذهب سلاحك؟

٢٤٠