الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-181-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٢

التمسك باللغة العربية؟!

وأكثر من ذلك : أننا نجد الإسلام لا يرضى في عباداته ، وفي موارد معينة أخرى بغير اللغة العربية. فلا تصح الصلاة مثلا باللغات الأخرى ، من أي كان من الناس : العربي ، والرومي ، والحبشي ، والفارسي ، وغيرهم. فما هو السر والدافع إلى هذا الإلزام والالتزام ، يا ترى؟!.

الإجابة والتوضيح :

ونحن في مقام الإجابة على هذين السؤالين ، نقدم الحديث والإجابة على ثانيهما ؛ فنقول :

١ ـ الإجابة على السؤال الثاني :

إنه يفترض في كل حضارة تستهدف إحداث تغييرات حقيقية وجذرية في المجالات الحياتية المتنوعة من سياسية واقتصادية ، واجتماعية ، وفكرية ، وغيرها وحتى في بناء الشخصية الإنسانية ، والتأثير والتغيير في مشاعر الإنسان ، وأحاسيسه ، وعواطفه ، فضلا عن خصائصه ومزاياه ، وكل وجوده ،

نعم .. إنه يفترض في هكذا حضارة أن تفرض على الشعوب والأمم التي تريد أن تحيا في ظلها هيمنة فكرها ، وثقافتها ، وأن تزرع فيها مصطلحاتها وتعابيرها الخاصة بها ، ذات الإيحاءات والمداليل المعينة والهادفة ، وتنفذ من خلال هذه المصطلحات وعلى أساس ذلك الفكر ، وبروافد من تلك الثقافة إلى مناطق اللاوعي في الأحاسيس والمشاعر ، وفي القلوب والضمائر لتلك الأمم والشعوب. وتتغلغل في أعماقها ؛ لتصبح جزءا لا يتجزء من وجودها ، ومن شخصيتها ، ومن كيانها العتيد.

٦١

بل لقد رأينا : أنه حتى الدول لا تألو جهدا في فرض لغتها ، وعاداتها ، ومفاهيمها على الشعوب التي تهيمن عليها.

وإذا كان الله سبحانه قد أرسل نبيه إلى جميع الأمم فلا بد ـ والحالة هذه ـ من أن تهيمن لغة القرآن ، وثقافة الإسلام والإيمان على العالم بأسره. لأن القرآن كتاب العالم ، ودستور البشرية جمعاء ، ولعل هذا هو الذي يفسر لنا بعض ما ورد في الحث على تعلم اللغة العربية وتعليمها فراجع.

٢ ـ الإجابة على السؤال الآخر :

أما الإجابة على السؤال الآخر ، وهو أول السؤالين المتقدمين ، فإننا نقول :

هناك معجزات وكرامات في اتجاهات ثلاثة :

الأول : من الواضح : أن هناك معجزات قد ظهرت للنبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وللأنبياء السابقين ، وكذلك للأوصياء ، حينما كانوا يواجهون التحدي الوقح من أهل الشرك والعناد ؛ بحيث لو لم تظهر المعجزة ، أو الكرامة لاستطاع أولئك الشياطين أن يثيروا الشبهات المضعفة للدعوة ؛ والموجبة لزعزعة درجة الطمأنينة والوثوق لدى كثير ممن آمن بها واطمأن إليها ، أو يحدث نفسه بذلك.

فتأتي المعجزة لتثبت أولئك ، وتشجع هؤلاء ، ولتسحق أيضا كبرياء المستكبرين ، وتكسر شوكتهم ، ويكون بها خزي المعاند ، وبوار كيد الماكر والحاقد.

الثاني : وثمة معجزات وكرامات ، وخوارق عادات أكرم الله بها أنبياءه وأولياءه تشريفا لهم ، وتجلة وتكريما ، وإعزازا لجانبهم. وقد يستفيد منها

٦٢

المؤمن القوي سموا ورسوخ قدم في الإيمان ، ويتثبت بها ضعيف الإيمان ، فيزداد بصيرة في الأمر ، وتسكن نفسه ، ويطمئن قلبه ، على قاعدة قوله تعالى : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (١).

وعلى قاعدة : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) (٢).

الثالث : ذلك القسم الذي ظهر فيه : أنه يتعامل فيه مع المخلوقات من موقع المدبر ، والراعي ، والحافظ لها ، من موقع أنها جزء من التركيبة العامة ، حيث لا بد من التعامل معها على هذا الأساس.

وهذا القسم الأخير هو الذي يعنينا البحث عنه هنا.

فنقول :

إن الله سبحانه قد أراد لهذا الإنسان أن يدخل إلى هذا الوجود ، ليقوم بدور هام فيه. وقد اختار الله له هذه الأرض ليتحرك عليها ، وينطلق فيها ومنها.

وكان عليه أن يستفيد مما خوله الله إياه من طاقات وإمكانات لإعمارها ، وبث الحياة فيها ، بل والهيمنة والتسلط على كل ما في هذا الكون ، وتسخيره ، والاستفادة مما أودعه الله فيه من طاقات وقدرات ، من خلال تفعيل نواميسه الطبيعية وإثارة دفائنه وكوامنه وتوظيفها في مجالات البناء الإيجابي ، والصحيح ، الذي يسهم في إسعاد هذا الإنسان ، وفي تكامله ،

__________________

(١) الآية ٢٦٠ من سورة البقرة.

(٢) الآية ١ من سورة الإسراء.

٦٣

ونموه المطرد في مختلف جهات وجوده ، حتى في جوانبه النفسية والروحية ، والفكرية ، والعقيدية ، فضلا عن النواحي الأخرى ، من اجتماعية واقتصادية وغيرها.

كل ذلك وفقا للخطة المرسومة في نطاق التربية الربانية ، والإعداد والمواكبة المستمرة لهذا الإنسان في تحركه نحو الأهداف الإنسانية والإلهية السامية والنبيلة العليا ، وهو دائب الكدح إلى الله ، ومن أجله وفي سبيله ، لا غير ، وليس إلا.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ..) (١).

ولكي يتضح ما نرمي إليه بصورة أوفى وأصفى ، نذكر هنا آيات قرآنية أشارت إلى أن جميع ما في هذا الكون مسخر للبشر.

وآيات أخرى ، تتحدث عن وجود درجة من الشعور والإدراك لدى المخلوقات ، من حيوانات وغيرها.

بالإضافة إلى نماذج من التعامل الإيجابي وآفاقه ، وما يترتب على ذلك ، فنقول :

تسخير المخلوقات للإنسان في الآيات القرآنية :

لقد أشارت الآيات القرآنية إلى تسخير الموجودات للإنسان ، ويتضح ذلك بالتأمل في الآيات التالية :

(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها ..) (٢).

__________________

(١) الآية ٦ من سورة الإنشقاق.

(٢) الآية ٦١ من سورة هود.

٦٤

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً ..) (١).

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ..) (٢).

(.. وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ، وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ..) (٣).

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ..) (٤).

الشعور والإدراك لدى المخلوقات :

ثم إن الإنسان يريد أن يتعامل مع كون ليس جمادا بقول مطلق ، وإنما كل الموجودات فيه تمتلك درجة من الشعور والإدراك ، وإن كنا لا نعرف كنهه ولا حدوده.

وقد تحدث القرآن عن السماوات ، والأرض ، والجبال والطير وكل الموجودات ، بطريقة تركز هذا المعنى ، وتدفع أي تشكيك أو ترديد فيه.

فلنقرأ معا الآيات التالية :

قال تعالى مخاطبا نبيه موسى «عليه‌السلام» : (قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ

__________________

(١) الآية ٢٠ من سورة لقمان.

(٢) الآية ١٣ سورة الجاثية.

(٣) الآيات ٣٢ ـ ٣٤ من سورة إبراهيم.

(٤) الآيات ١٤ ـ ١٨ من سورة النحل.

٦٥

إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ..) (١).

وقال تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٢).

وقال سبحانه عن داود : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) (٣).

وقال في آية أخرى عن داود أيضا : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ..) (٤).

والمراد بالتأويب ترجيع التسبيح على ما يظهر.

وقال تعالى : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) (٥).

وقال : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) (٦).

وقال تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٧).

وتسبيح ما في السماوات والأرض ، مذكور في عدة آيات (٨).

__________________

(١) الآية ١٤٣ من سورة الأعراف.

(٢) الآية ٧٢ من سورة الأحزاب.

(٣) الآيتان ١٨ و ١٩ سورة ص.

(٤) الآية ١٠ من سورة سبأ.

(٥) الآية ١٣ من سورة الرعد.

(٦) الآية ٦ من سورة الرحمن.

(٧) الآية ٤٤ من سورة الإسراء.

(٨) راجع : الآيتان ١ و ٢٤ من سورة الحشر والآية ١ من سورة التغابن والآية ١ من سورة الصف والآية ١ من سورة الجمعة والآية ١ من سورة الحديد.

٦٦

وقال سبحانه : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) (١).

وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) (٢).

وقال جل وعلا : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) (٣).

فكل ما تقدم يشير بوضوح : إلى أن هذه المخلوقات تملك حالة شعورية وإدراكية معينة ، وليست مجرد جمادات أو حيوانات خاوية من ذلك بصورة نهائية.

وهذا ما يفسر لنا : أننا نجد أن الله قد تعاطى معها بطريقة تكرس هذا الفهم ، وترسخه ، ولا تبقي مجالا لأي تشكيك أو ترديد فيه.

نماذج حية من تسخير الموجودات العاقلة :

فإذا كان الله سبحانه قد سخر المخلوقات لهذا الإنسان ، واتضح أن هذه المخلوقات تمتلك صفة الشعور والإدراك ، ولها أعمال عقلانية ومرتبطة بالشعور ومستندة إليه فإننا نذكر هنا نموذجا قرآنيا حيا ، وواقعيا لهذا التسخير تجلت فيه طريقته ، وأبعاده ومجالاته بصورة ظاهرة. حيث ذكرت

__________________

(١) الآية ٢١ من سورة الحشر.

(٢) الآية ١٨ من سورة الحج.

(٣) الآية ٤١ من سورة النور.

٦٧

الآيات أن الله سبحانه قد سخر الريح ، والطير ، والجبال ، والجن لسليمان وداود «عليهما‌السلام». بالإضافة إلى هيمنتهما بدرجة ما على نواميس الطبيعة التي تفيد الهيمنة عليها في تحقيق الغايات التي يتم السعي لها ، والتحرك باتجاهها ، كما أشار إليه الله سبحانه حين تحدث أنه تعالى قد ألان الحديد لداود.

فلنقرأ ذلك كله في الآيات التالية :

قال تعالى : (.. وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ ، وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ ، وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ ، وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) (١).

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) (٢).

وقال تعالى عن سليمان : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ ، وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٣).

قصة سليمان وداود نموذج فذ :

وإذا راجعنا سورة النمل ، فإننا نجد فيها نماذج فذة عن تعاطي سليمان

__________________

(١) الآيات ٧٩ ـ ٨٢ من سورة الأنبياء.

(٢) الآيتان ١٨ و ١٩ من سورة ص.

(٣) الآيات ٣٦ ـ ٣٨ من سورة ص.

٦٨

وداود مع ما آتاهما الله سبحانه في هذا المجال. وأول ما يواجهنا في الحديث عنهما «عليهما‌السلام» هو أنه تعالى قد وفر لهما الأدوات الضرورية للتعامل مع هذه المخلوقات في نطاق رعايتها وهدايتها وتوجيهها. فنجدها تبدأ الحديث بأن الله قد آتاهما علما ، وعلّما منطق الطير ، وأوتيا من كل شيء ، ثم ذكرت الآيات نماذج تطبيقية لهذا العلم ، وللمعرفة بجميع الألسنة ، ثم لتأثير ما آتاه الله سبحانه في إدارة الأمور ، وتوجيهها ورعايتها والهيمنة عليها بصورة حيوية وبناءة وإيجابية ، لا تأتي إلا بالخير ، ولا تؤدي إلا إلى الفلاح.

آيات من سورة النمل :

(.. وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ، وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) (١).

ثم تحدثت الآيات عن قصته «عليه‌السلام» مع الهدهد ، والدور الذي قام به ، ثم ما كان من الإتيان بعرش بلقيس ، بواسطة ما كان لدى ذلك الآتي به من علم من الكتاب. وأن ذلك قدتم قبل أن يرتد طرف سليمان إليه.

__________________

(١) الآيات ١٥ ـ ١٩ من سورة النمل.

٦٩

مع آيات سورة النمل :

وقد أظهرت الآيات المتقدمة كيف تم توظيف كل القدرات المادية وغيرها في تحقيق رضا الله سبحانه ، وبناء الحياة وتكاملها باتجاه الأهداف الإلهية ووفقا للخطة المعقولة والمقبولة له تعالى. بدءا من قصة تبسم سليمان من قول النملة ، مرورا بقصة الهدهد ، والإتيان بعرش بلقيس بتلك الطريقة المثيرة ، ثم تنكير عرشها لها ، وانتهاءا بأمرها بدخول الصرح الذي حسبته لجة ، مع أنه صرح ممرد من قوارير.

وقد تجسد ذلك كله من خلال حاكمية وإمامة سليمان عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام ، ورعايته وهدايته التامة والشاملة.

وقد كانت هذه الهداية والرعاية مستندة إلى علم آتاه الله إياه ، والى إمكانات ذات صفة شمولية : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ). فلم يكن ثمة أي قصور في القدرات الذاتية ، فقد علم سليمان منطق الطير ، وأوتي من العلم ما يكفيه في مهمته الكبيرة والخطيرة.

كما أنه لم يكن ثمة نقص في الإمكانات المادية ، كما أشرنا. وكان سليمان أيضا يحظى برعاية الله تعالى له ، ولطفه به ، وتسديده وتأييده إلى درجة العصمة.

فلم يبق والحالة هذه إلا المبادرة إلى القيام بالدور المرصود له في نطاق الاستفادة الواعية والإيجابية والبناءة من كل المخلوقات المسخرة لهذا الإنسان ، وتوجيهها لتؤدي دورها في الحياة كاملا غير منقوص ..

وهذا ما حصل بالفعل ، فكانت المعجزة الكبرى ، وكان الإنجاز العظيم ، وهذا ما سوف يتحقق بصورة أكثر رسوخا وشموخا وعظمة في عهد ولي الأمر قائم آل محمد «عليهم الصلاة والسلام».

٧٠

إعادة توضيح وبيان :

إنه ما دام أن المفروض بالإنسان هو أن يتعاطى مع جميع المخلوقات التي سخرها الله تعالى له ، فقد كان لا بد من أن يخضع تعامله هذا وكذلك تعامله مع نفسه ، ومع ربه ، ومع كل شيء لضوابط تحفظه من الخطأ ومن التقصير ، أو التعدي.

ولقصور الإنسان الظاهر ، فقد شاءت الإرادة الإلهية ، من موقع اللطف والرحمة أن تمد يد العون له ، وهدايته في مسيرته الطويلة المحفوفة بالمزالق والأخطار هداية تامة تفضي به إلى نيل رضا الله سبحانه ، وتثمر الوصول إلى تلك الأهداف الكبرى والسامية وتحقيقها ، وهي إعمار الكون وفق الخطة الإلهية ، التي تريد من خلال ذلك بناء إنسانية الإنسان ، وإيصاله إلى الله سبحانه ، حيث يصبح جديرا بمقامات القرب منه تعالى ، حيث الرضوان والزلفى.

وإذا كان كذلك فإنه يصبح واضحا : أن المثل القرآني الذي يتمثل في تجربة سليمان وداود «عليهما‌السلام» ، إنما أراد أن يجسد ولو بصورة مصغرة هذه الحقيقة بالذات ليتلمس هذا الإنسان الأهداف الإلهية ، وهي تتجسد واقعا حيا ، ملموسا ، وليس مجرد خيالات ، أو شعارات ، أو آمال وطموحات غير عقلانية ، ولا مسؤولة.

وهي أيضا تجسد معنى القيادة المطلوبة والصالحة لتحقيق هدف كهذا ، حتى إن طائرا ، وهو الهدهد ، يضطلع بدور حيوي وفي مستوى ملك بأسره ، وأحد الحاضرين في مجلس سليمان يأتي بعرش بلقيس ـ بواسطة العلم الذي عنده من الكتاب ـ قبل أن يرتد الطرف.

كما أن هذه الشواهد القرآنية ، وتلك الكرامات والمعجزات النبوية ،

٧١

ومنها قصة الجمل التي هي مورد البحث ، قد رسخت هذه الحقيقة ، سواء بالنسبة لدور الإنسان في الكون ، وتعاطيه معه ، أو بالنسبة إلى حقائق راهنة لا بد أن تأخذ دورها وحقها ، ويحسب حسابها على مستوى التخطيط ، وعلى مستوى الممارسة ، أو بالنسبة إلى الدور الذي لا بد لهذه القيادة أن تضطلع به ، في مقام الرعاية التامة ، والهداية العامة ، وما يتطلبه ذلك من طاقات ومن إمكانات ، ومواصفات قيادية خاصة ومتنوعة ، لا تحصل إلا بالرعاية والتربية الإلهية لها ، ولا تكون إلا في نبي أو في وصي.

وتصبح معرفة لغات الحيوانات ، والوقوف على كثير من أسرار الخلقة ، ونواميس الطبيعة ضرورة لا بد منها لهذه القيادة ، التي لا بد أن ترعى ، وتوازن ، وتربي ، وتحفظ لكل شيء حقه ، وكيانه ، ودوره في الحياة. حيث لا بد لها من التدخل المباشر في أحيان كثيرة لحسم الموقف ، ولحفظ سلامة المسار.

كما لا بد لها من توجيه الطاقات والاستفادة منها في الوقت المناسب وفي الموقع المناسب ، بصورة قويمة وسليمة ، كما كان الحال بالنسبة لنبي الله داود ، ونبي الله سليمان عليهما وعلى نبينا محمد وآله الصلاة والسلام.

النقاط على الحروف :

وبذلك يتضح : أنه لا بديل عن قيادة المعصوم ، إذ أن كل القيادات الأخرى إذا كانت عادلة لن يكون لها أكثر من دور الشرطي الذي ينجح في درء الفتنة حينا ، ويفشل أحيانا.

أما إذا كانت قيادة منحرفة ، فهناك الكارثة الكبرى ، التي عبرت عنها الكلمة المنسوبة إلى أمير المؤمنين علي «عليه الصلاة والسلام» ، حيث يقول :

٧٢

«أسد حطوم ، خير من سلطان ظلوم ، وسلطان ظلوم ، خير من فتنة تدوم» (١).

وقد اتضح أيضا : أن وجود الإمام المعصوم في كل عصر وزمان أمر حتمي وضروري حتى ولو كان غائبا ومستورا ، لأن هذا الإمام لسوف يحفظ ويرعى كثيرا من المواقع والمواضع في هذا الكون المسخر للإنسان ، التي لو لا حفظها ورعايتها لوقعت الكارثة ولساخت الأرض بأهلها.

وبذلك نعرف السر في أن الروايات قد ذكرت : أنه لو بقيت الأرض بغير إمام ، أو لو أن الإمام رفع من الأرض ولو ساعة لساخت بأهلها ، وماجت كما يموج البحر بأهله (٢).

وأصبح واضحا معنى الرواية التي تقول : وأما وجه انتفاع الناس بي في غيبتي ؛ فكالشمس إذا جللها عن الأنظار السحاب.

واتضح أيضا : سر معرفة الأئمة بعلوم الأنبياء ، وبألسنة جميع البشر ، وبألسنة أصناف الحيوان أيضا (٣) ، إلى غير ذلك من خصائص وتفصيلات في علومهم «عليهم‌السلام» وفي حدود ولايتهم ورعايتهم لهذا الإنسان في هذا الكون الأرحب.

__________________

(١) البحار ج ٧٥ ص ٣٥٩ عن كنز الفوائد للكراجكي ، وراجع : دستور معالم الحكم ص ١٧٠ وغرر الحكم ودرر الكلم ج ١ ص ٤٣٧ وج ٢ ص ٧٨٤.

(٢) راجع بصائر الدرجات ص ٤٨٨ و ٤٨٩ والكافي ج ١ ص ١٧٩ و ١٩٨ والغيبة للنعماني ص ١٣٩ و ١٣٨.

(٣) راجع كتاب بصائر الدرجات ففيه تفاصيل واسعة حول علوم الأئمة «عليهم‌السلام» في جميع المجالات ، وراجع أيضا : البحار للعلامة المجلسي ، والكافي ج ١ وغير ذلك كثير.

٧٣
٧٤

الفصل الرابع :

بدر الموعد

٧٥
٧٦

بداية الحديث عن بدر الموعد :

كانت حرب أحد قد تمخضت عن نتائج مادية تختلف تماما عن نتائجها المعنوية والسياسية.

فعلى صعيد الخسائر مني المسلمون بخسائر كبيرة ، حيث قتل منهم العشرات ، حينما خالف الرماة الذين كانوا على فتحة الجبل أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» له بالبقاء في أماكنهم ، فسنحت الفرصة للمشركين ، وأوقعوا بالمسلمين ، وقتلوا منهم عددا كبيرا من الناس.

ولكن هذه النتيجة لا تمثل كل الواقع ، ولا يمكن اعتبارها معيارا تقاس عليه سائر النتائج ، التي تمخضت عنها تلك الحرب ، على صعيد الربح والخسارة والتأثير في الواقع النفسي لكلا الفريقين ، ثم في الواقع السياسي والعسكري.

حيث إن النتائج كانت في هذه المجالات لصالح المسلمين ، إذ انتهت المعركة بهزيمة حقيقية فاحشة مني بها المشركون في الجهات الثلاث جميعا ، أي من الناحية العسكرية ، والنفسية ، وعلى صعيد الحالة السياسية في المنطقة بصورة عامة.

غير أن أبا سفيان قد حاول أن يقوم بمبادرة إعلامية جريئة تحفظ

٧٧

للمشركين بعض هيبتهم ، وتعيد إليهم شيئا من معنوياتهم حيث أعلن : أن المعركة التالية ، والتي قد تكون هي الحاسمة ، سوف تكون بعد عام من تاريخ غزوة أحد.

وقد نسي أو تناسى : أن نفس هذا الإعلان ليس في الحقيقة إلا إعلان فشلهم في تحقيق الأهداف التي كانوا يسعون إلى تحقيقها من خلال خوضهم هذه الحرب.

ثم كانت حركة المسلمين السريعة في مطاردتهم عقب انتهاء غزوة أحد ، بمثابة فضيحة مخزية للمشركين ، لا سيما وأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قرر أن تكون هذه المطاردة مقتصرة على خصوص جرحى أحد ، بقيادة علي أمير المؤمنين «عليه‌السلام».

وبعد مرور نحو عام ، واقتراب الموعد الذي ضربه أبو سفيان كان لا بد من التحرك. وكانت نتيجة هذا التحرك ، المزيد من الخزي لأبي سفيان ، وكل معسكر الشرك والبغي ، والمزيد من العزة والشوكة للمسلمين ، وللإسلام في ظل قيادة نبيه الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فما الذي جرى في بدر الموعد؟! وما الذي نتج عنه؟.

هذا ما سوف نتعرض له في ما يلي من مطالب ..

تاريخ غزوة بدر الموعد :

يذكر المؤرخون : أن غزوة بدر الصغرى (الموعد) (الثالثة) ، قد كانت في هلال ذي القعدة في السنة الرابعة.

وقيل : في شوال.

٧٨

وقد غاب فيها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ست عشرة ليلة.

والمقصود هو : بدر الصفراء ، التي كانت سوقا للعرب في الجاهلية.

يجتمعون فيها في كل عام لمدة ثمانية أيام ، ابتداء من أول ذي القعدة ، ثم يفترقون (١).

وقد ربح المسلمون فيها في تجارتهم في سوق بدر ، في هذه المناسبة بصورة ملفتة ، كما سنرى.

وأما قول موسى بن عقبة : إنها كانت في شوال سنة ثلاث (٢) فلا يصح ، لأنها كانت لأجل تنفيذ طلب أبي سفيان بعد انتهاء حرب أحد بأن يلتقوا للحرب في بدر ، بعد عام. وأحد إنما كانت في السنة الثالثة كما هو معلوم (٣).

__________________

(١) راجع في جميع ما ذكرناه ، كلا أو بعضا : مغازي الواقدي ج ١ ص ٣٨٤ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٥ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٥ وسيرة مغلطاي ص ٥٣ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٥٩ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٠٤ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٥٤.

وراجع : المواهب اللدنية ج ١ ص ١٠٨ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ قسم ٢ ص ٢٩ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٢٩ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٠ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣٣٩ والتنبيه والإشراف ص ٢١٤ وزاد المعاد ج ٢ ص ١١٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٦٩ و ١٧٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٨٧ و ٨٩ و ٩٣ و ٩٤ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٢٦٥ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٣٨٨.

(٢) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٧٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٨٩ والدر المنثور ج ٢ ص ١٠١.

(٣) راجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٧٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٨٩.

٧٩

كما أن الأشبه : أنها كانت في ذي القعدة ، أو قبل ذلك لأن أحدا كانت في ذي القعدة ، وكان بينهما سنة (١).

والصحيح : أنها كانت في شعبان كما سيأتي في غزوة الخندق.

النص التاريخي لبدر الصغرى :

يذكر المؤرخون : أن أبا سفيان لما أراد أن ينصرف من أحد نادى : يا محمد ، الموعد بيننا وبينكم موسم بدر الصغرى لقابل ، إن شئت نلتقي بها فنقتتل.

وعن مجاهد ـ كما في الوفاء ـ أنه قال : يا محمد ، موعدكم بدر ، حيث قتلتم أصحابنا.

فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعمر بن الخطاب : قل : نعم ، إن شاء الله. فافترق الناس على ذلك.

ثم يذكر المؤرخون وقائع غزوة بدر الموعد.

ونحن من أجل أن نلمّ بأكثر الخصوصيات التي قيلت في هذه الغزوة وعنها ، نجمع شتات كلمات الرواة والمحدثين ، ونقلة الأخبار والمؤرخين ، ونؤلف بينها ، ثم نشير في نهاية ذلك إلى المصادر التي قد يكون فيها أكثر الذي ذكرناه ، أو بعضه.

فنقول :

لما مضى على أحد ما يقرب من عام ، وقرب الموعد الذي ضربه أبو سفيان ، كره الخروج وخاف من عواقبه ، ثم قر رأيه بعد المشاورة على

__________________

(١) راجع : نهاية الأرب ج ١٧ ص ١٥٤.

٨٠