الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-181-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٢

وبعض آخر : كعائشة ، وسعد بن أبي وقاص ، ادعوا : أن الواجب هو القصر في حال الخوف فقط ، أما في حال الأمن ، فكانا يتمان في السفر (١).

وروي عن عائشة خلاف ذلك أيضا (٢).

وقد يحلو للبعض أن يدعي : أن القرآن قد نسخ بالسنة ، حيث إن القرآن نص على القصر في حالة الخوف ، ثم نسخ ذلك بقول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حيث جعله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في مطلق السفر (٣).

إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه.

ونقول :

إن مجرد كون القرآن قد نص على القصر في مورد خوف الفتنة ، ثم جاء تعميم ذلك إلى مطلق السفر على لسان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لا يوجب اعتبار ذلك من قبيل نسخ القرآن بالسنة ، إذ قد يكون القرآن قد ذكر لهم ما كان محلا لابتلائهم ، أو أورد ذلك مورد الغالب ؛ فإذا كان القرآن قد

__________________

(١) راجع : الدر المنثور ج ٢ ص ١١٠ عن ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وعبد الرزاق ، ونصب الراية ج ٢ ص ١١٨ و ١٨٩ ونيل الأوطار ج ٣ ص ٢٤٩ وراجع : الجامع الصحيح ج ٢ ص ٤٣٠ وعن عائشة في المصنف للصنعاني ج ٢ ص ٥١٥ وراجع أيضا : الأم ج ١ ص ١٥٩.

(٢) راجع : الأم ج ١ ص ١٥٩ وصحيح مسلم ج ٢ ص ١٤٢ و ١٤٣ والمصنف للصنعاني ج ٢ ص ٥١٥ والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ج ٦ ص ٤٤٦ و ٤٤٧ والدر المنثور ج ٢ ص ٢١٠ عن بعض من تقدم وعن البخاري ، ومالك ، وعبد بن حميد ، وأحمد ، البيهقي في سننه.

(٣) راجع : بهجة المحافل ج ١ ص ٢٢٧ و ٢٢٨.

٢١

بيّن قسما مما يجب فيه القصر ، ثم بينت السنة باقي الموارد ، فليس ذلك من قبيل النسخ ، بل هو إما من باب إلقاء الخصوصية ، أو من باب التعميم ، والتتميم ، إذ ليس فيه إلغاء للحكم الثابت بالقرآن.

وقد أشارت الروايات إلى ذلك أيضا ، فقد روي : أن يعلى بن أمية قال لعمر بن الخطاب : ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، وقد أمن الناس.

فقال له عمر : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن ذلك ؛ فقال : صدقة تصدق الله عليكم ، فاقبلوا صدقته (١).

وعن أبي العالية ، قال : «سافرت إلى مكة ، فكنت أصلي بين مكة والمدينة ركعتين ، فلقيني قراء أهل هذه الناحية ، فقالوا : كيف تصلي؟!

__________________

(١) الدر المنثور ج ٢ ص ٢٠٩ عن ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأحمد ومسلم والنسائي وأبي داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن الجارود ، وابن خزيمة ، والطحاوي ، وابن جرير ج ٥ ص ١٥٤ وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس في ناسخه ، والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ج ٦ ص ٤٤٨ و ٤٥٠ ونصب الراية ج ٢ ص ١٩٠ وصحيح مسلم (باب صلاة المسافر) ، ج ٢ ص ١٤٣ وسنن أبي داود ج ٢ ص ٣ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ١٧٦ ومسند أحمد ج ١ ص ٢٥ و ٣٦ وسنن النسائي ج ٣ ص ١١٦ و ١١٧ والجامع الصحيح (كتاب التفسير) ج ٥ ص ٢٤٢ و ٢٤٣ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٢٧ و ٢٢٨ وسنن البيهقي ج ٣ ص ١٣٤ و ١٤٠ و ١٤١ وسنن الدارمي ج ١ ص ٣٥٤ ومصابيح السنة ج ١ ص ٤٦٠ وشرح معاني الآثار ج ١ ص ٤١٥ والمصنف ج ٢ ص ٥١٧ والأم ج ١ ص ١٥٩.

٢٢

قلت : ركعتين.

قالوا : أسنة أو قرآن؟!

قلت : كل ذلك سنة وقرآن. صلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ركعتين.

قالوا : إنه كان في حرب.

قلت : قال الله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) (١).

وقال : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (٢) فقرأ حتى بلغ : (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) (٣)» (٤).

إتمام عثمان للصلاة في منى وعرفات :

ومن الأمور التي طعن بها الصحابة والمسلمون على عثمان بن عفان (٥) : أنه أتم الصلاة بمنى وبعرفات ، فخالف بذلك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، الذي قصر الصلاة فيهما ، وكذلك أبو بكر وعمر ، وعثمان نفسه عدة

__________________

(١) الآية ٢٧ من سورة الفتح.

(٢) الآية ١٩٨ من سورة البقرة.

(٣) الآية ١٠٣ من سورة النساء.

(٤) جامع البيان (ط دار الفكر) ج ٥ ص ٣٣٠ والدر المنثور ج ٢ ص ٢٠٩ عنه والأم ج ١ ص ١٥٩ ونيل الأوطار ج ٣ ص ٢٤٧.

(٥) تاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٣٢٢ وأنساب الأشراف ج ٥ ص ٣٩ وأحكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ٢٥٤.

٢٣

سنوات أيام خلافته (١).

الصامدون والمتزلفون :

وقد كان ابن عمر بعد أن يتم خلف عثمان ، يعيد صلاته بعد أن يرجع إلى بيته (٢) أما ابن مسعود الذي اعترض على عثمان ، لفعله ذاك ، فإنه عاد فصار يصلي أربعا ، بحجة أن الخلاف شر (٣) وكذلك تماما كان من عبد

__________________

(١) راجع : صحيح البخاري ج ١ ص ١٢٦ و ١٨٩ وصحيح مسلم ج ٢ ص ١٤٥ و ١٤٦ والموطأ (مطبوع مع تنوير الحوالك) ج ١ ص ٣١٤ والكامل لابن الأثير ج ٣ ص ١٠٣ ونصب الراية ج ٢ ص ١٩٢ و ١٨٧ وسنن النسائي ج ٣ ص ١٢٠ و ١١٨ ومسند أحمد ج ١ ص ٣٧٨ وج ٢ ص ١٤٨ والمصنف للصنعاني ج ٢ ص ٥١٦ و ٥١٨ وسنن البيهقي ج ٣ ص ١٣٦ و ١٢٦ و ١٤٤ و ١٥٣ وسنن أبي داود ج ٢ ص ١٩٩ والأم ج ٧ ص ١٧٥ وج ١ ص ١٥٩ ونيل الأوطار ج ٣ ص ٢٤٩ والمحلى ج ٤ ص ٢٧٠.

وراجع : الجامع الصحيح ج ٢ ص ٢٢٨ و ٢٣٠ وج ٣ ص ٢٢٩ وكنز العمال ج ٨ ص ١٥١ و ١٥٢ والبداية والنهاية ج ٧ ص ١٥٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٣٢٢ وسنن الدارمي ج ١ ص ٣٥٤ وج ٢ ص ٥٥ و ٥٦ وأنساب الأشراف ج ٥ ص ٣٩ ، والكامل في التاريخ ج ٣ ص ١٠٣ والغدير ج ٨ ص ٩٩ فما بعدها.

(٢) المحلى ج ٤ ص ٢٧٠ والموطأ (مطبوع مع تنوير الحوالك) ج ١ ص ١٦٤.

(٣) الأم ج ١ ص ١٥٩ وج ٧ ص ١٧٥ وسنن البيهقي ج ٣ ص ١٤٤ والغدير ج ٨ ص ١٠٠ عنهم وصحيح البخاري ج ١ ص ١٢٦ والبداية والنهاية ج ٧ ص ١٥٤ والمصنف ج ٢ ص ٥١٦ والكامل في التاريخ ج ٣ ص ١٠٤.

٢٤

الرحمن بن عوف ، فإنه ناقش عثمان أولا ، ثم تابعه وعمل بعمله أخيرا (١).

ولكن عليا أمير المؤمنين «عليه‌السلام» وحده الذي أصر على الرفض ، فقد روي عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : اعتل عثمان وهو بمنى ، فأتى علي ، فقيل له : صل بالناس.

فقال : إن شئتم صليت لكم صلاة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، يعني ركعتين.

قالوا : لا ، إلا صلاة أمير المؤمنين ـ يعني ـ عثمان ـ أربعا. فأبى (٢).

معاوية والأمويون ، وسنة عثمان :

ولكن معاوية حين قدم حاجا صلى الظهر ركعتين ، فجاءه مروان بن الحكم ، وعمرو بن عثمان فقالا له : «ما عاب أحد ابن عمك بأقبح مما عبته به.

فقال لهما : وما ذاك؟!

قالا : له : ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة؟

قال : فقال لهما : ويحكما ، وهل كان غير ما صنعت؟ قد صليتهما مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومع أبي بكر ، وعمر.

قالا : فإن ابن عمك قد أتمها ، وإن خلافك إياه له عيب.

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٣٠٢ وأنساب الأشراف ج ٥ ص ٣٩ والكامل في التاريخ ج ٣ ص ١٠٣ والبداية والنهاية ج ٧ ص ١٥٤ وراجع : العبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ قسم ٢ ص ١٤٠ والغدير ج ٨ ص ٩٨ ـ ١٠٢ عنهم.

(٢) المحلى ج ٤ ص ٢٧٠ وحاشية ابن التركماني على سنن البيهقي مطبوعة بهامش السنن ج ٣ ص ١٤٤ ، والغدير ج ٨ ص ١٠٠.

٢٥

قال : فخرج معاوية إلى العصر ، فصلاها بنا أربعا» (١).

وقال ابن عباس ، بعد أن ذكر صلاة عثمان شطرا من خلافته قصرا : «ثم صلاها أربعا ، ثم أخذ بها بنو أمية» (٢).

أعذار لا تصح :

قد ذكروا أعذارا كثيرة للخليفة ، ونحن نختار منها نموذجا ، ونحيل القارئ في الباقي إلى المصادر فنقول :

١ ـ لقد اعتذر الخليفة نفسه بأنه إنما فعل ذلك لأنه تأهل بمكة لما قدمها (٣).

وقال العسقلاني : «هذا الحديث لا يصح لأنه منقطع ، وفي رواته من لا يحتج به ، ويرده الخ ..» (٤).

ويرده أيضا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يسافر بزوجاته ، ويقصر (٥).

__________________

(١) مسند أحمد ج ٤ ص ٩٤ ومجمع الزوائد ج ٢ ص ١٥٦ وعن أحمد والطبراني ، وقال : رجال أحمد موثقون.

(٢) الغدير ج ٨ ص ١٠١ وكنز العمال ج ٨ ص ١٥٤ عن عبد الرزاق والدارقطني.

(٣) فتح الباري ج ٢ ص ٤٧٠ عن أحمد والبيهقي ومسند أحمد ج ١ ص ٦٢ وأنساب الأشراف ج ٥ ص ٣٩ ومجمع الزوائد ج ٢ ص ١٥٦ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٣٢٢ والبداية والنهاية ج ٧ ص ١٥٤ والكامل في التاريخ ج ٣ ص ١٠٣ وزاد المعاد ج ١ ص ١٢٩ وفيه : أنه كان قد تأهل بمنى ، وأحكام القرآن ج ٢ ص ٢٥٤.

(٤) فتح الباري ج ٢ ص ٤٧٠.

(٥) راجع المصدر السابق.

٢٦

وقال العلامة الأميني : «ما المسوغ له ذلك ، وقد دخل مكة محرما؟ وكيف يشيع المنكر ، ويقول : تأهلت بمكة مذ قدمت؟ ولم يكن متمتعا بالعمرة ـ لأنه لم يكن يبيح ذلك أخذا برأي من حرمها كما يأتي تفصيله ـ حتى يقال : إنه تأهل بين الإحرامين ، بعد قضاء نسك العمرة ، فهو لم يزل كان محرما من مسجد الشجرة ، حتى أحل بعد تمام النسك بمنى» ..

إلى أن قال : «وقد صح من طريق عثمان نفسه عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من قوله : «لا ينكح المحرم ، ولا ينكح ، ولا يخطب» (١).

ثم ذكر «رحمه‌الله» نصوصا أخرى : حول عدم جواز التزوج حال الإحرام فلتراجع (٢).

هذا بالإضافة : إلى أنه لا معنى للحكم بالإتمام للمسافر إذا تزوج امرأة في بلد ما لأن المرأة هي التابعة للرجل وليس العكس.

ولو كان حكم عثمان الإتمام لأنه تزوج امرأة هناك ، فلماذا يتم سائر الناس الذين يأتمون به؟! ولماذا يصر على علي «عليه‌السلام» بالإتمام حينما أراده على الصلاة مكانه؟!

ولماذا يصرون على معاوية بالعمل بسنة عثمان ، ثم يستمر بنو أمية على

__________________

(١) ذكر في الغدير ج ٨ ص ١٠٤ ، المصادر التالية : الموطأ ج ١ ص ٣٢١ وفي طبعة أخرى ٢٥٤ والأم ج ٥ ص ١٦٠ ومسند أحمد ج ١ ص ٥٧ و ٦٤ و ٦٥ و ٦٨ و ٧٣ وصحيح مسلم ج ١ ص ٩٣٥ وسنن الدارمي ج ٢ ص ٣٨ وسنن أبي داود ج ١ ص ٢٩٠ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٦٠٦ وسنن النسائي ج ٥ ص ١٩٢ وسنن البيهقي ج ٥ ص ٦٥ و ٦٦.

(٢) الغدير ج ٨ ص ١٠٤ و ١٠٥.

٢٧

ذلك؟!

ولماذا يصلي ابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف بأصحابه تماما ، لأن الخلاف شر؟!

ولماذا؟. ولماذا؟! ..

٢ ـ وثمة عذر آخر ، وهو أنه إنما أتم في منى وعرفة ، لأنه كان له مال بالطائف (١).

وهو اعتذار لا يصح أيضا ، لأن وجود ملك أو دار في مكة فضلا عن الطائف لا يوجب الإتمام. وقد قصر الصحابة الذين حجوا مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولم يأمرهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالإتمام ، ولا أتموا بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

هذا بالإضافة إلى أن الذين ائتموا به لم يكن كلهم لهم أملاك هناك.

ولماذا يصر هو على علي «عليه‌السلام» ، ويصر بنو أمية على الإتمام بعد ذلك؟! ولماذا؟! ولماذا؟!

٣ ـ واعتذر أيضا بأنه خاف أن يظن أهل اليمن والأعراب المقيمون : أن الصلاة للمقيم ركعتان (٣).

__________________

(١) أنساب الأشراف ج ٥ ص ٣٩ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٣٢٢ والكامل في التاريخ ج ٣ ص ١٠٣ والبداية والنهاية ج ٧ ص ١٥٤ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ قسم ٢ ص ١٤٠ وسنن أبي داود ج ٢ ص ١٩٩.

(٢) الأم ج ١ ص ١٦٥ وسنن البيهقي ج ٣ ص ١٥٣.

(٣) راجع : أنساب الأشراف ج ٥ ص ٣٩ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٣٢٢ وزاد المعاد ج ١ ص ١٢٩ والبداية والنهاية ج ٧ ص ١٥٤ والكامل في التاريخ ج ٣ ـ

٢٨

ولكن هذا العذر غير مقبول أيضا ، إذ قد كان يمكن تعليم الناس على الحكم الشرعي بأسلوب آخر.

كما أن هذا الفعل قد يوجب أن يظن أهل اليمن ، والأعراب : أن الصلاة في السفر أربع ركعات.

أضف إلى ذلك : أن رسول الله لم يفكر في تعليم الناس بهذه الطريقة ، مع أنه كان يوجد في زمنه أعراب ، وكان أهل اليمن يحجون في عهد أسلاف عثمان أيضا.

وقد قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأهل مكة ، بعد أن صلى ركعتين : «أتموا الصلاة يا أهل مكة فإنا سفر أو قال : يا أهل البلد صلوا أربعا فإنا سفر» (١).

وروي أن عمر أيضا كان يفعل ويقول ذلك فراجع (٢).

٤ ـ إن منى أصبحت قرية وصار فيها منازل ، فتأول عثمان أن القصر إنما هو في حال السفر (٣).

__________________

ـ ص ١٠٣ وسنن أبي داود ج ٢ ص ٢٠٠ وسنن البيهقي ج ٣ ص ١٤٤ ونيل الأوطار ج ٢ ص ٢٦٠ وكنز العمال ج ٨ ص ١٥٢ عن البيهقي وابن عساكر والغدير ج ٨ ص ١٠٠ والمصنف ج ٢ ص ٥١٨.

(١) سنن البيهقي ج ٣ ص ١٣٦ و ١٥٧ وأحكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ٢٥٤.

(٢) سنن البيهقي ج ٣ ص ١٢٦ والمحلى ج ٥ ص ١٨ والموطأ ج ١ ص ١٦٤ وفتح الباري ج ٢ ص ٤٧٠.

(٣) زاد المعاد ج ١ ص ١٢٩.

٢٩

ونقول :

معنى هذا : أن عثمان كان لا يعرف حكم القصر ، وأنه كان يظن أن القصر إنما يجب في حال المشي في الصحراء فقط ، فإذا بلغ المسافر قرية ونزل فيها ، فإنه يتم حينئذ ، مع أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قصر في مكة نفسها ، وقد كانت مكة بلدا كبيرا ومعمورا أكثر من منى وعرفات بمراتب.

٥ ـ إنه أقام بها ثلاثا والمقيم يتم (١).

وهو عذر واه إذ إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أقام في مكة ما يقرب من عشرة أيام ، ولم يزل يصلي فيها قصرا (٢).

٦ ـ إنه كان قد نوى الإقامة بعد الحج ، والاستيطان بمنى واتخاذها دار الخلافة ثم بدا له بعد ذلك (٣).

وعلى حسب نص آخر : أنه قد نوى الإقامة بعد الحج (٤).

والجواب عن ذلك :

أولا : ما قاله العسقلاني من أن سنده مرسل.

ثانيا : إن الإقامة في مكة على المهاجرين حرام (٥).

ثالثا : ولو صح ذلك أيضا ، فلماذا يتم سائر الناس؟.

__________________

(١) زاد المعاد ج ١ ص ١٢٩.

(٢) راجع : الغدير ج ٨ ص ١٠٨ و ١٠٩.

(٣) الغدير ج ٨ ص ١٠٩ وزاد المعاد ج ١ ص ١٢٩.

(٤) راجع : فتح الباري ج ٢ ص ٤٧٠ ونيل الأوطار ج ٣ ص ٢٦٠ وزاد المعاد ج ٢ ص ٢٥ والمصنف ج ٢ ص ٥١٦ وسنن أبي داود ج ٢ ص ١٩٩.

(٥) راجع المصادر في الهامش الآنف الذكر.

٣٠

ولماذا يقتدي به الأمويون؟

ولماذا يصر هو على علي «عليه‌السلام» بالإتمام؟!

ولما ذا كان قصر معاوية عيبا له ، ولماذا؟ ولماذا؟!

٧ ـ إن الإمام حيث نزل فهو عمله ومحل ولايته ، فكأنه وطنه (١). والأسئلة الآنفة الذكر آتية هنا. هذا بالإضافة إلى أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان إمام الخلائق ، فلماذا لم يتم؟! (٢).

وقد قصر أبو بكر وعمر ، وعثمان نفسه شطرا من ولايته.

٨ ـ إن التقصير في السفر رخصة لا عزيمة (٣) كما اعتذر به المحب الطبري.

ونقول :

أولا : إن ذلك لا يصح ، بسبب ورود أحاديث كثيرة دالة على أن التقصير في السفر حكم إلزامي ، ولا يجزي الإتمام عنه ، بل لا بد من إعادة الصلاة لو صلى تماما في موضع القصر عمدا (٤).

ثانيا : لو كان ذلك رخصة فلماذا يصر عثمان على الإتمام ، حينما طلب من علي أمير المؤمنين أن يصلي بالناس؟! ولماذا يصر الأمويون بعد ذلك على العمل بسنة عثمان ، وترك سنة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!.

ثالثا : لماذا يصر عثمان على الإتمام في هذا المورد بالذات ، دون سائر

__________________

(١) راجع : الغدير ج ٨ ص ١٠٩ وفتح الباري ج ٢ ص ٤٧٠ وزاد المعاد ج ١ ص ١٢٩.

(٢) فتح الباري ج ٢ ص ٤٧٩ وزاد المعاد ج ١ ص ١٢٩.

(٣) الرياض النضرة ج ٣ ص ١٠٠.

(٤) راجع : الغدير ج ٨ ص ١١٠ ـ ١١٦.

٣١

الأسفار؟.

ولماذا ينكر عليه الصحابة ذلك ، ويعترضون عليه فيه؟!

ولماذا لم يعتذر هو بهذا العذر لهم بالذات ليسكتهم عنه؟! بل اعتذر عن ذلك بأنه رأي رآه (١).

التقصير رخصة أم عزيمة :

قد تخيل البعض أن القصر في السفر رخصة ، ولعل منشأ فهمهم هذا هو أن الآية قد قررت ذلك بعبارة : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا) (٢).

قال العامري :

«ظاهرها يدل على أن رخصته مشروطة بالخوف ، ودلت السنة على الترخيص مطلقا ..

إلى أن قال : ثم لا يبعد أن يبيح الله الشيء في كتابه بشرط ، ثم يبيحه على لسان نبيه بانحلال ذلك الشرط ، الخ ..» (٣).

وقد قال بعض الفقهاء : بأن التقصير رخصة ، فراجع (٤).

__________________

(١) راجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٣٢٢ والغدير ج ٨ ص ١٠١ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ قسم ٢ ص ١٤٠ والبداية والنهاية ج ٧ ص ١٥٤ والكامل في التاريخ ج ٣ ص ١٠٣ و ١٠٤.

(٢) الآية ١٠١ من سورة النساء.

(٣) بهجة المحافل ج ١ ص ٢٢٧.

(٤) راجع كنز العرفان ج ١ باب صلاة الخوف ، والقصر في السفر ، وغير ذلك من كتب الفقه.

٣٢

ولكن هذا التخيل مردود.

أولا : للأخبار الكثيرة الدالة على أن التقصير في السفر عزيمة وليس رخصة ، وكلام الرسول مفسر للقرآن ، ومبين لمعناه ، وقد ذكر العلامة الأميني «رحمه‌الله» طائفة منها (١).

ثانيا : لقد كان من الواضح : أن الكثيرين سوف لن تطيب نفوسهم بترك ركعتين من الصلاة ، ويرون في هذا الأمر تضييعا للأهداف الإلهية وتساهلا في امتثال أوامره تعالى ، فجاء التعبير بلا جناح ليدفع هذا الوهم ، وليطمئنهم إلى أنه لأغضاضة عليهم ، لو فعلوا ذلك ، ولا نقص ولا حرج فيه.

نزول آية التيمم :

وقالوا في هذه الغزوة : نزلت آية التيمم (٢).

وقيل : بل شرع التيمم في غزوة بني المصطلق.

وقيل : في غزوة أخرى (٣).

ونحن نرجئ الحديث عن ذلك إلى غزوة بني المصطلق ؛ فإلى هناك.

__________________

(١) راجع : كتاب الغدير ج ٨.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٤ وراجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٥ و ٢٧٨ وشذرات الذهب ج ١ ص ١١.

(٣) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٨.

٣٣
٣٤

الفصل الثالث :

عظات وكرامات أو سياسات إلهية

٣٥
٣٦

ماذا في هذا الفصل؟!

وهذا الفصل يتعلق ببعض ما يقال : إنه حصل في ذات الرقاع ، وهي الأمور التالية :

١ ـ إلقاء الأضواء على قضية شراء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جملا من جابر بن عبد الله الأنصاري ، وذلك في طريق العودة من هذه الغزوة ، وظهور كرامة للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالنسبة لاستعادة ذلك الجمل قوته ، بعد أن كان في آخر الركب.

ثم سوغ «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جابرا الجمل وثمنه. بالإضافة إلى حديث جرى بين النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وجابر في طريق العودة إلى المدينة .. ثم إلقاء الأضواء على القيمة الحقيقية لهذين الحدثين بالمقدار الذي يسمح لنا به المجال.

٢ ـ ثم نتحدث عن قضية أخرى لجابر مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ترتبط بقضاء دين كان على عبد الله والد جابر ، وهي قضية مثيرة وقد تحدثنا عن بعض دلالاتها الهامة بصورة موجزة أيضا.

٣ ـ ونذكر أيضا ما قاله النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هذه الغزوة ، حينما جاء رجل بفرخ طائر ، فأقبل أحد أبويه حتى طرح نفسه بين يدي

٣٧

الذي أخذ فرخه ، وألقينا الأضواء على هذه الحادثة حسبما اقتضته المناسبة.

٤ ـ ثم تكلمنا عن قصة أخرى يقال : إنها حدثت في هذه الغزوة حيث جاءت أعرابية إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بابن لها ، ليعالجه ، فاستجاب «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لطلبها ، مع إلماحة إلى بعض دلالات هذه القضية بصورة موجزة أيضا ..

٥ ـ ثم نشير إلى قصة أخرى في هذه الغزوة ظهرت فيها كرامة للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حيث أكل أصحابه من ثلاث بيضات نعام ، وشبعوا. والبيض في القصعة كما هو ، مع إشارة موجزة إلى بعض ما يستفاد من هذا الحدث.

٦ ـ وينتهي بنا المطاف إلى الحديث عن قضية أخرى يقال : إنها قد حدثت في هذه الغزوة ، وهي قصة ذلك الجمل الذي جاء يستعدي على صاحبه ، فبادر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى تفريج كربه ، وحل مشكلته.

٧ ـ ثم استطردنا إلى الحديث عن الكرامات والمعجزات وعن لزوم معرفة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بلغات البشر ، وظهر لنا : أن ذلك كله وسواه من التصرفات المتميزة والملفتة إنما هي مقتضيات طبيعية لقيادته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ وكذلك الإمام «عليه‌السلام» ـ لمسيرة البشرية نحو كمالها المنشود ، ونحو تحقيق الأهداف الإلهية من الخلق كله ..

وقد اقتضى ذلك : أن نشير بصورة موجزة إلى جهات أخرى ترتبط بهذا البحث أو تنتهي إليه ؛ فإلى ما يلي من مطالب.

ومن الله نستمد العون ، والقوة ، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

٣٨

جمل جابر :

يقول المؤرخون : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو في طريقه إلى المدينة اشترى من جابر جملا بأوقية ، واشترط له ظهره إلى المدينة ، واستغفر له في الطريق خمسا وعشرين مرة ، وفي الترمذي سبعين مرة.

زاد ابن سعد : وسأله عن دين أبيه فأخبره به (١).

وتفصيل ذلك :

أن جابرا كان على جمل ثقال في سفر ، في آخر القوم ؛ فمر به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : من هذا؟!

فقلت : جابر بن عبد الله.

قال : فما لك؟!

قلت : إني على جمل ثقال.

قال : أمعك قضيب؟

قلت : نعم.

قال : أعطنيه ، فضربه ، فزجره ؛ فكان من ذلك المكان من أول القوم.

قال : بعنيه.

قلت : بل هو لك يا رسول الله.

قال : بل بعنيه ؛ فقد أخذته بأربعة دنانير ، ولك ظهره إلى المدينة.

فلما قدمت المدينة ، قال : يا بلال ، اقضه وزده.

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٤ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٣ وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ٦١.

٣٩

فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا.

قال جابر رضي‌الله‌عنه : وأعطاني الجمل وسهمي مع القوم (١).

وفي لفظ عن جابر قال : دخل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المسجد ، فدخلت إليه ، فعلفت الجمل في ناحية البلاط ، فقلت : يا رسول الله ، هذا جملك.

فخرج «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فجعل يطوف بالجمل ، قال : الثمن والجمل لك (٢).

وحسب نص آخر قال جابر : «وتحدثت مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال لي : أتبيعني جملك هذا يا جابر؟

قال : قلت : يا رسول الله ، بل أهبه لك.

قال : لا ، ولكن بعنيه.

قال : قلت : فسمنيه يا رسول الله.

قال : قد أخذته بدرهم.

قال : قلت : لا ، إذن تغبنني يا رسول الله.

قال : فبدرهمين.

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٣ وراجع دلائل النبوة لأبي نعيم ص ٣٧٥ و ٣٧٦ وراجع : الثقات ج ١ ص ٢٥٨ و ٢٥٩ وراجع السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢١٨ وأشار الذهبي إلى قصة الجمل في تاريخ الإسلام. وراجع : نهاية الأرب ج ١٧ ص ١٦٠ و ١٦١ وراجع : المواهب اللدنية ج ١ ص ١٠٧ وراجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٦٦ ولا بأس بمراجعة صحيح مسلم ج ٤ ص ١٧٦.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٣.

٤٠