الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-181-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٢

قال : قلت : لا.

قال : فلم يزل يرفع لي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في ثمنه ، حتى بلغ الأوقية.

قال : قلت : فقد رضيت يا رسول الله؟

قال : نعم.

قلت : فهو لك.

قال : قد أخذته.

ثم قال : يا جابر ، هل تزوجت بعد؟ (١).

قال : قلت : نعم يا رسول الله.

قال : أثيبا أو بكرا؟!

قلت : لا ، بل ثيبا.

قال : أفلا جارية تلاعبها وتلاعب؟.

قال : قلت : يا رسول الله ، إن أبي أصيب يوم أحد ، وترك بنات له سبعا (٢) ؛ فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن ، وتقوم عليهن.

__________________

(١) في الواقدي ذكر هذه المحادثة بعد قصة شرائه الجمل منه.

(٢) في الواقدي : تسع بنات. وفي صحيح مسلم ج ٤ ص ١٧٦ : وترك تسع بنات أو سبع وفي شرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٣٨ تسعا أو ستا وجمع بين هاتين الروايتين بأن منهن ثلاث متزوجات ، لم يعدهن في رواية الست ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٣٨١ ـ ٣٨٣ وراجع صحيح مسلم ج ٤ ص ١٧٧ و ١٧٦ وراجع صحيح البخاري ج ٢ ص ٧ وراجع : بهجة المحافل ج ١ ص ٢٣٨ وشرحه بهامش نفس الجزء والصفحة.

٤١

قال : أصبت إن شاء الله أما إنا لو قد جئنا صرارا (موضع على ثلاثة أميال من المدينة) أمرنا بجزور ؛ فنحرت وأقمنا عليها يومنا ذاك ، وسمعت بنا ، فنفضت نمارقها (١).

قال : قلت : والله يا رسول الله ما لنا من نمارق.

قال : إنها ستكون ؛ فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيسا.

قال : فلما جئنا صرارا أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بجزور فنحرت ، وأقمنا عليها ذلك اليوم ، فلما أمسى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دخل ودخلنا.

قال : فحدثت المرأة الحديث ، وما قال لي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

قالت : فدونك ، فسمع وطاعة.

قال : فلما أصبحت أخذت برأس الجمل ، فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : ثم جلست في المسجد قريبا منه.

قال : وخرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فرأى الجمل ، فقال : ما هذا؟.

قالوا : يا رسول الله ، هذا جمل جابر جاء به.

قال : فأين جابر؟

قال : فدعيت له.

قال : يا بن أخي ، خذ برأس جملك فهو لك.

ودعا بلالا ، فقال له : اذهب بجابر فأعطه أوقية.

قال : فذهبت معه ، فأعطاني أوقية ، وزادني شيئا يسيرا.

__________________

(١) النمارق : الوسائد الصغيرة.

٤٢

قال : فو الله ما زال ينمى عندي ، ويرى مكانه من بيتنا ، حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا ، يعني يوم الحرة (١).

وفي نص آخر : «ثم قدم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبلي ، وقدمت بالغداة ؛ فجئت المسجد فوجدته على باب المسجد ، فقال : الآن حين قدمت؟

قلت : نعم.

قال : فدع جملك ، وادخل فصل ركعتين.

قال : فدخلت فصليت ركعتين الخ ..» (٢).

ثم ذكر هبة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الجمل ، وثمنه له.

وفي بعض روايات مسلم عن جابر : أن هذه القضية قد حصلت له ، وهم مقبلون من مكة إلى المدينة (٣).

اختلافات الرواية في مقدار ثمن الجمل :

إن المراجع لنصوص هذه الرواية يجد : أن فيها العديد من موارد الاختلاف والتناقض ، خصوصا فيما يرتبط بقيمة جمل جابر.

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢١٧ و ٢١٨ وراجع : المغازي للواقدي ج ١ ص ٣٩٩ ـ ٤٠١ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٦١ و ١٦٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٦٦ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٨٦ و ٨٧.

(٢) دلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٣٨٢ وصحيح مسلم ج ٤ ص ١٧٧ وصحيح البخاري ج ٢ ص ٧ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٣٨ و ٢٣٩.

(٣) بهجة المحافل ج ١ ص ٢٣٧.

٤٣

فقيل : اشتراه منه بأوقية (١) وهي أربعة دنانير.

قال الأشخر اليمني : «وهي أكثر الروايات ، كما نقله البخاري عن الشعبي» (٢).

وقيل : بأوقيتين (٣).

وقيل : بثلاث (٤).

وقيل : بأربع (٥).

وقيل : بخمس (٦).

وقيل : بست أواق (٧).

وقيل : بثمان مئة درهم (٨).

وقيل : بخمسة دنانير (٩).

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٣ والثقات ج ١ ص ٢٥٩ والروض الأنف ج ٣ ص ٣٥٥ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٣٩.

(٢) شرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٣٩.

(٣) راجع : بهجة المحافل ج ١ ص ٢٣٩.

(٤) راجع : المصدر السابق.

(٥) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٣ والروض الأنف ج ٣ ص ٣٥٥ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٣٩.

(٦) راجع : المصادر الثلاثة المتقدمة.

(٧) بهجة المحافل ج ١ ص ٢٣٩.

(٨) المصدر السابق.

(٩) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٣ والروض الأنف ج ٣ ص ٣٥٥.

٤٤

وقيل : بدينارين ودرهمين (١).

وقيل : بعشرين دينارا (٢).

وحملها البعض على أنها كانت دنانير صغارا (٣).

وقيل : بأربعة دنانير ، بعد أن أعطاه درهما ممازحا له (٤).

وهذا القول الأخير : لا ينافي القول بأنه اشتراه بأوقية ، لأن ذلك في معنى الأوقية (٥).

الزيادة المباركة :

والروايات تصرح : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» زاد جابرا على ثمن جمله.

وتصرح بعض الروايات : بأنه قد زاده قيراطا.

فقال جابر : «لا تفارقني زيادة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ؛ فحفظه حتى أصيب منه يوم الحرة ، ففيه التبرك بآثار الصالحين» (٦).

تاريخ قصة جمل جابر :

قيل : إن قصة جمل جابر قد كانت في غزوة ذات الرقاع حسبما تقدم.

__________________

(١) الروض الأنف ج ٣ ص ٣٥٥ عن صحيح مسلم.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٤ وبهجة المحافل ج ٢ ص ٢٣٧.

(٣) شرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٣٩.

(٤) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٣ والروض الأنف ج ٣ ص ٣٥٥.

(٥) راجع : الروض الأنف ج ٣ ص ٣٥٥.

(٦) بهجة المحافل ج ١ ص ٢٤٠.

٤٥

وبعض الروايات تقتصر على القول بأنها كانت في رجوعه من مكة إلى المدينة (١).

وقيل : كانت في رجوعه من غزوة تبوك (٢) ، وهي متأخرة عن غزوة ذات الرقاع.

وقد يناقش في ذلك : بأن سؤال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» له عن كونه قد تزوج أو لا ، واعتذاره لتزوجه ثيبا بأنه قد لاحظ حال أخواته ، اللواتي تركهن له أبوه المستشهد في أحد يدل على أنه إنما تزوج بعد مقتل أبيه في أحد ، ولم يؤخر ذلك إلى غزوة تبوك.

إلا أن يقال : إنه قد يكون تزوج أكثر من مرة ، وتكون مشكلة أخواته موجودة في المرتين ، أو يكون قد تأخر زواجه طيلة هذه المدة ، وإن كان ذلك بعيدا.

القيمة الحقيقية لهذا الحدث :

وإننا حين نراجع قصة جمل جابر ، فإننا نجد فيها :

١ ـ ملامح غنية من الخلق الرفيع لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لما انطوت عليه من لطف ورقة ، ومحبة وأريحية ظاهرة ، تظهر لنا : أن علاقاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأصحابه إنما كانت من منطلق الحب والعطف والصفاء والمودة ، مع إجلال منهم له وإكبار ، وتقديس.

٢ ـ إننا نجد الرسول الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هذه القصة ـ كما

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٣ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٣٧.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٣ وزاد المعاد ج ٢ ص ١١١.

٤٦

هو في غيرها ـ يعيش آلام الآخرين ، ويشاركهم الشعور بها. وقد كان والد جابر بن عبد الله قد استشهد في حرب أحد ، وأصبح جابر هو المسؤول عن الأسرة بعد أبيه ، وكان عليه أن يختار للزواج امرأة تستوعب وتتفهم الواقع الذي استجد نتيجة لذلك ، وتشاركه في معالجته بأحسن وجه وأتمه.

وقد ظهرت رقة حال جابر ، من الجهة المالية والمعيشية ، في أن الجمل الذي أعده لهذه الأسفار البعيدة والشاقة كان من الضعف بحيث أصبح في آخر الركب.

ولم يكن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالذي يغفل عن تفقد حال أصحابه ، والوقوف عليها عن كثب ليشاركهم حياتهم حلوها ومرها.

وها هو يجد جابرا على جمله الضعيف المكدود في آخر الركب.

٣ ـ إن من الملاحظ : أن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يسير مع الناس ، وفي أواخرهم أحيانا ، فيعرف حال أصحابه في مسيرهم ذاك بصورة أتم وأوفى. ولم يكن ليقتصر على حملة الأخبار إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فكان يندفع للتعرف على الأمور بنفسه ، ومن دون أي وسائط ، ربما تؤثر التوجهات السياسية والارتباطات الاجتماعية وغيرها على مستوى دقتهم ، واستيعابهم لسائر الخصوصيات التي يكون الوقوف عليها مفيدا بل وضروريا في كثير من الأحيان.

هذا كله : لو فرض أن هؤلاء النقلة على درجة من الحيطة الدينية والورع والصفاء ، والوفاء. وقد لا يكون الكثيرون منهم كذلك بالفعل.

٤ ـ قد لا حظنا : أن النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد دخل مع جابر ـ بأسلوب رضي وسليم ـ إلى حياته الخاصة ، بل وإلى أعماقها ، فعرف

٤٧

السر الذي لأجله أقدم جابر على التزوج بامرأة ثيب.

وعرف ما يعاني منه جابر من ضغط الظروف ، وما يتحمله من مسؤولية نجمت عن فقد أبيه ووجود أخواته السبع.

ثم عرف أيضا : أن جابرا لا يملك شيئا من النمارق ، أو غيرها مما يتنعم به المتنعمون.

ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يترك توصية جابر بأن يعمل عملا كيسا ، يتسم بالعقلانية والتدبير.

كما أنه قد أفسح في آماله وطموحاته حينما أخبره : أن حالته لسوف تتغير ، وتتحسن من الناحية المعيشية ، ولسوف يملك حتى النمارق في المستقبل ، وما عليه من أجل الحصول على ذلك ، والوصول إليه إلا أن يعمل عملا كيسا.

٥ ـ إن عرض النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على جابر شراء بعيره بطريقة فيها نوع من المداعبة له ، ليفتح قلبه ، وليسقط حواجز الرهبة لديه ، إنما أراد أن يجعل منه ذريعة لإيصال مال إليه ، يستعين به على مصاعب الحياة ، وعلى إحداث تغيير أساسي فيها ، ولكن بطريقة لا تبقي مجالا للتساؤل ولا للاعتراض من أحد ، بخلاف ما لو بادر إلى تقديم هذا المال إلى جابر دون مبرر ظاهر.

٦ ـ ولا نريد أن نترك الحديث عن هذه القضية دون الإلماح إلى أن ذلك يعطينا درسا دقيقا ورائعا عن طبيعة العلاقات التي تربط بين القائد والرعية ؛ فهي ليست علاقات السيد والمسود ، والأمير والمأمور ، أو القوي والضعيف أو ما إلى ذلك.

وإنما هي علاقات الإنسان بالإنسان من خلال الإحساس بالمسؤولية

٤٨

والواجب الإلهي والإنساني.

ونزيد ذلك توضيحا حين نقول : إن سلوك النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هذا من جهة ذاته ليس تواضعا منه ولا هو إحسان وتفضل فقط ، وإنما هو مقتضى إنسانيته الكاملة وهو عمل بواجبه الإلهي ، والإنساني ، وإن كان من جهة قياسه بما هو خارج عن مقام ذاته يعد من التواضع والإحسان والتفضل في أعلى درجاتها ، وأوضح تجلياتها.

وفقنا الله للسير على هدى النبوة ، والتأسي برسوله الأكرم الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

كرامة وتكريم :

قال الواقدي : وحدثني إسماعيل بن عطية بن عبد الله بن أنيس ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ، قال :

لما انصرفنا راجعين (١) ؛ فكنا بالشّقرة ، قال لي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : يا جابر ما فعل دين أبيك؟!

فقلت : عليه ، انتظرت يا رسول الله أن يجذّ نخله.

قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إذا جذذت فأحضرني.

قال : قلت : نعم.

ثم قال : من صاحب دين أبيك؟

فقلت : أبو الشحم اليهودي له على أبي سقة (جمع وسق) تمر.

__________________

(١) أي من غزوة ذات الرقاع.

٤٩

فقال لي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : فمتى تجذها؟

قلت : غدا.

قال : يا جابر ، فإذا جذذتها فاعزل العجوة على حدتها ، وألوان التمر على حدتها.

قال : ففعلت ، فجعلت الصيحاني على حدة ، وأمهات الجرادين على حدة ، والعجوة على حدة ، ثم عمدت إلى جماع من التمر ، مثل نخبة ، وقرن ، وشقحة ، وغيرها من الأنواع ، وهو أقل التمر ، وجعلته حبلا واحدا ، ثم جئت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فخبرته ، فانطلق رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومعه علية أصحابه ، فدخلوا الحائط وحضر أبو الشحم.

قال : فلما نظر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى التمر مصنفا ، قال : اللهم بارك له.

ثم انتهى إلى العجوة ؛ فمسها بيده وأصناف التمر ، ثم جلس وسطها ، ثم قال : ادع غريمك. فجاء أبو الشحم.

فقال : اكتل.

فاكتال حقه كله من حبل واحد وهو العجوة ، وبقية التمر كما هو.

ثم قال : يا جابر ، هل بقي على أبيك شيء؟

قال : قلت : لا.

قال : وبقي سائر التمر ؛ فأكلنا منه دهرا ، وبعنا ، حتى أدركت الثمرة من قابل ، ولقد كنت أقول : لو بعت أصلها ما بلغت ما كان على أبي من الدين الخ .. (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ج ١ ص ٤٠١ و ٤٠٢.

٥٠

مع الحدث في دلالاته وخصوصياته :

وفي وقفة قصيرة مع هذا الحدث نلمح باختصار شديد إلى النقاط التالية :

١ ـ إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا ينسى أولئك الصفوة الأبرار ، الذين استشهدوا في سبيل الله سبحانه ، فيسعى لحل العقد والمشكلات التي ربما تكون لا تزال عالقة ، وبحاجة إلى حل.

فها هو يريد إبراء ذممهم من حقوق الناس وديونهم ما وجد إلى ذلك سبيلا ، لكي تطيب سمعتهم ويذكرهم الناس بالإجلال والإكبار ، ومن دون أي حزازة ، أو غضاضة.

ثم لتطيب نفوس أبنائهم ، وأقاربهم ، ويزول شعورهم بالحرج أمام الناس وفي أنفسهم ، حتى يواجهوا انفراجا في حالتهم المعيشية ، التي تتسم بشيء من الضيق والصعوبة.

٢ ـ رغم أن ذلك الدائن لعبد الله والد جابر كان رجلا من اليهود ، إلا أننا لم نجد ترددا من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في أمر إرجاع المال إليه ، ولا أخذ بنظر الاعتبار مواقف اليهود الحاقدة على الإسلام وعلى المسلمين ، ومؤامراتهم وكيدهم ، والتي كان ولا يزال هو والمسلمون يعانون منها.

وقد يكون من أسباب ذلك ـ بالإضافة إلى أن هذا هو حكم الإسلام ، وهذه هي أخلاقياته ، حتى مع أعدى أعدائه ، وهو ينطلق في ذلك مما يملكه من قيم ومبادئ إنسانية وإلهية سامية ومقدسة ـ هو :

أنه يريد بذلك أن يقيم حركة التعامل فيما بين الناس على أسس وضوابط ثابتة ، يمكن للناس أن يعتمدوا عليها ، ويرجعوا إليها وأن يطمئنوا إلى هذا الثبات فيها ليمكنهم التحرك الفاعل والمؤثر بالفعل ،

٥١

والتخطيط لبناء الحياة في المستقبل. إذ بدون هذا الثبات ، ومن دون وضوح ضوابط التعامل ، فإن الحياة تصبح قلقة ، وغير مشجعة على القيام بمبادرات ذات طابع حيوي وشمولي.

٣ ـ إن والد جابر قد استشهد في حرب أحد ، وكانت هذه القضية قد جرت حين رجوع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من غزوة ذات الرقاع التي كانت بعد الحديبية ، حسبما أثبتناه فيما سبق.

ومعنى ذلك هو : أنه قد مضت عدة سنوات ، ولم يستطع جابر أن يقضي دين أبيه ، ولعله قد قضى شطرا من ذلك الدين في السنوات والمواسم السابقة.

نعم ، تمضي عدة سنوات ، ولا ينسى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك الدين ، الذي لم يستطع جابر أن يتخلص منه ، ولم تسنح الفرصة بعد لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أيضا للمبادرة إلى ذلك!

٤ ـ إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قبل أن يكون وفاء دين عبد الله من نفس النخلات التي كانت له ، ولم يبادر إلى تقديم أية ضمانة في أن يتم وفاؤها من بيت مال المسلمين. إذ إن عبد الله كان قد استفاد من ذلك المال ، ولديه ما يمكن الاعتماد عليه في وفاء ذلك الدين. واستشهاده لا ينقل هذا الحق عن ماله ليصبح حقا على بيت مال المسلمين.

٥ ـ إن طريقة وفاء دين عبد الله قد أخذت صفة الكرامة الإلهية من الله لرسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حينما ظهرت البركة في التمر ، حتى ليقول جابر ، بعد أن استوفى ذلك اليهودي حقه من خصوص العجوة التي هي أفضل أنواع التمر :

٥٢

«وبقي سائر التمر ؛ فأكلنا منه دهرا وبعنا ، حتى أدركت الثمرة من قابل ، ولقد كنت أقول : لو بعت أصلها ما بلغت ما كان على أبي من الدين».

٦ ـ ونلفت النظر هنا إلى أن طريقة تعامل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مع هذه القضية تشير إلى أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يخطط لإظهار هذا الأمر ، بطريقة تجسيد الواقع. حيث نجد أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد خطط ليكون الحدث في البستان نفسه ، ولم يقنع بأن يؤتى بالثمرة إلى البيت.

ثم هو يأمره بتقسيم التمر كل قسم على حدة.

ثم هو يلمس العجوة بيده الشريفة ، وكذا سائر الأنواع.

ثم يجلس في وسط التمر ..

بالاضافة إلى : أنه لا يأتي وحده ، بل يأتي ومعه علية أصحابه ، وليس خصوص الأشخاص العاديين منهم. ثم يشهد الجميع هذا التكريم لجابر ، ويشهدون هذه الكرامة الإلهية التي أظهرها الله على يد رسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

إلى غير ذلك من دروس وعبر يمكن استفادتها من هذا الحدث. فصلى الله على رسوله وعلى الأئمة الميامين من آله وسلم تسليما كثيرا.

رحمة الله بعباده :

وفي هذه الغزوة أيضا جاء رجل بفرخ طائر فأقبل أحد أبويه حتى طرح نفسه بين يدي الذي أخذ فرخه ، فعجب الناس من ذلك.

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أتعجبون من هذا الطائر؟ أخذتم فرخه ،

٥٣

فطرح نفسه رحمة لفرخه. والله ، لربكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه (١).

وما يلفت في هذه الرواية ـ على تقدير صحتها ، ولا نرى داعيا للوضع فيها ـ هو أننا نجده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يستفيد حتى من مناسبة كهذه ليقوم بدوره في تعريف أصحابه على أمر يلزمهم أن يعرفوه بعمق وصفاء. وذلك من خلال الاستفادة من أسلوب التجسيد الظاهر للحقيقة التي يراد اطلاعهم عليها ، وإقناعهم بها. حيث يكون ذلك أوقع في النفس مما لو اكتفى بأسلوب التعليم النظري والمجرد ، خصوصا إذا أدركنا : أن هذا التجسيد قد ترك أثره النفسي فيهم ، وأثار فيهم انفعالات ظهرت على شكل تعجب من رحمة ذلك الطائر بولده ، فكان لا بد من الاستفادة من هذه الحالة النفسية وتوظيفها لصالح الإدراك الشعوري بالحقيقة التي يراد لهم لمسها ، بروحهم وبمشاعرهم بالدرجة الأولى ، ثم بعقلهم في مرحلة لاحقة.

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يعالج ابن الأعرابية :

وروي : أنه في هذه الغزوة جاءت امرأة بدوية بابنها إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقالت له : يا رسول الله ، هذا ابني قد غلبني عليه الشيطان ، ففتح فاه فبزق فيه ، وقال : اخسأ عدو الله أنا رسول الله.

ثم قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لها : شأنك بابنك ، لن يعود إليه

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٤ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٣٩٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٦٥ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٨٦ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٣٧٩.

٥٤

شيء مما كان يصيبه. فكان كذلك (١).

وذكرت هذه القصة في غزوة المريسيع أيضا (٢) التي ستأتي في حوادث السنة السادسة.

ونقول :

١ ـ إن هذه الأعرابية قد جاءت بولدها إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليداويه لها. منساقة في ذلك بدافع من إحساسها الفطري بما لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من قداسة وطهر ، وكرامة على الله سبحانه ، وبأنه مصدر للبركات والكرامات.

وقد استجاب «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لها ، وعالج ولدها بطريقة تكرس هذا الشعور لديها ، ولدى كل من حضر وعاين ما يجري ، حيث تفل في فم ولدها ، وأخبرها بالنتيجة بصورة قطعية.

وذلك يكذب ما يريد البعض أن يدعيه من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله مجرد طارش ورسول ، أبلغ الناس رسالة وانتهى ، ولا شيء سوى ذلك.

ثم يقولون : إن القداسة إنما هي لرسالته وليست له ، فلا داعي للغلو فيه ، ولا للتبرك بآثاره.

٢ ـ إن ذلك يشير أيضا : إلى أن على الناس أن يعوا : أن للأمور المعنوية والروحية دورها في دفع البلايا التي يتعرض لها الإنسان كما أن عليهم أن يؤمنوا بأن ما يعتري الإنسان من أعراض وأمراض ، ليس كله ناشئا عن

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٤.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٩٢.

٥٥

تحولات مادية فيه ، ولا يمكن تفسيره كله على هذا الأساس. فإن هناك قوى خفية تشارك أيضا في التأثير في حياة الإنسان وفي سلامته. وإن معالجة آثار تصرفاتها لا يكون من خلال الوسائل المادية في أحيان كثيرة ، بل لا بد من وسائل أخرى قد لا يؤمن بها كثير من الماديين.

كرامة أخرى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ويذكر المؤرخون في حوادث هذه الغزوة : أن رجلا جاء للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بثلاث بيضات من بيض النعام ، فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لجابر : دونك يا جابر ، فاعمل هذه البيضات.

قال جابر : فعملتهن ، ثم جئت بهن في قصعة ، فجعلنا نطلب خبزا ، فلم نجد ، فجعل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأصحابه يأكلون من ذلك البيض بغير خبز ، حتى انتهى كل إلى حاجته ، أي إلى الشبع ، والبيض في القصعة كما هو (١).

وذكرت هذه القصة في غزوة المريسيع (٢).

ونقول :

وفيها أيضا : كرامة ظاهرة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». وربما يكون ظهور هذه الكرامات ضروريا من أجل أن لا يغتر المسلمون بأنفسهم ، فيرون : أن ما يحققونه من انتصارات على أعدائهم ، ثم ما يحصلون عليه من مكاسب ، مادية ، ومعنوية ، وشوكة ، ونفوذ ، على مستوى المنطقة بأسرها ، إنما كان بالدرجة الأولى بسبب هذه الألطاف الإلهية ، التي يشملهم الله بها ، وليس التأثير مقتصرا

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٤ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٣٩٩.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٩٢.

٥٦

على قدراتهم الذاتية ، وحسن تدبيرهم في الاستفادة منها في الوقت المناسب ، وفي المحيط المناسب.

ومن جهة ثانية ، فإن من الواضح : أن وجود النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بين ظهرانيهم ، لا ينبغي أن يؤثر على نوع ومستوى العلاقة التي يجب أن تحكم نظرتهم إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فلا يجوز أن يعتادوا عليه ، إلى درجة أن يصبح رجلا عاديا فيما بينهم ، بل لا بد من الاحتفاظ بذلك الشعور العفوي لديهم والذي يؤكد على ارتباطه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالغيب ، بالمصدر الأول جل وعلا ..

فتأتي هذه الكرامات لتحدث التصحيح في مسار تعاملهم معه ونظرتهم إليه ؛ لأن هذا التصحيح ضروري ، ولا بد منه ، إذا أريد لكل كلمة وموقف منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يحدث الأثر العميق والدقيق في روح الإنسان ، وفي مشاعره ، وفي سلوكه ، فضلا عن أن يحدث التغيير الجذري في تكوينه الفكري والعقيدي بصورة عامة.

ولأجل ذلك قلنا : إن ظهور هذه الكرامات كان ضروريا من فترة لأخرى حسبما تقتضيه المصلحة الإيمانية والإسلامية في مختلف المجالات ، وعلى جميع المستويات. وهذا واضح لا يكاد يخفى على أحد.

جمل يستعدي على صاحبه :

وفي هذه الغزوة أيضا ـ كما يقولون ـ : جاء جمل حتى وقف عنده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ورغا ، فأخبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أصحابه بأن هذا الجمل يستعديه على سيده ، (يزعم : أنه كان يحرث عليه منذ سنين ، وأنه أراد

٥٧

أن ينحره) وقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إذهب يا جابر إلى صاحبه ، فأت به.

قال جابر (رض) : فقلت : لا أعرفه.

قال : إنه سيدلك عليه.

قال جابر : فخرج بين يدي حتى وقف على صاحبه ، فجئته به ، فكلمه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في شأن الجمل (١).

ونقول :

قد ذكرت هذه القصة أيضا في غزوة بني المصطلق (المريسيع) (٢).

ونحن نسجل هنا النقاط التالية :

١ ـ قد ذكرت هذه الرواية : أن الناس كانوا يحرثون على الإبل في ذلك الزمان ولا ندري مدى صحة ذلك.

٢ ـ إن هذه الرواية تؤكد ما ورد في الروايات المتواترة ، التي قد تعد بالمئات ، وتؤكد على ما للحيوانات من حقوق يلزم مراعاتها ، والالتزام بها. وقد ألف سماحة العلامة الحجة الشيخ علي الأحمدي «رحمه‌الله» كتابا قيما لم يطبع بعد ، ولنا في هذا المجال كتاب باسم «حقوق الحيوان في الإسلام» فيمكن الرجوع إليه ..

معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلغات البشر ، والحيوان والجماد ، والشجر :

٣ ـ قد أوضحت هذه الرواية : ودلت الروايات الكثيرة غيرها على أن

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧٣ وراجع : بصائر الدرجات ص ٣٤٨ و ٣٥٠ و ٣٥١ و ٣٥٢.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٩٢.

٥٨

النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يعرف ألسنة الحيوانات عموما. وقد فهم ما قاله الجمل ، الذي جاء إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليشتكي سيده الذي كان يحرث عليه منذ سنين ، والآن يريد أن ينحره الخ ..

ونجد في كتب الحديث والتاريخ الشيء الكثير مما يتحدث عن كرامات لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، منذ ما قبل بعثته ، وحتى وفاته ، مثل تسليم الحجر والشجر عليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وتسبيح الحصى في كفيه.

وكذلك امتثال الشجر أوامره ، وشهادته له ، ومجيء الشجرة إليه لتظله ، وتسلم عليه ، وتأمين أسكفة الباب ، وحوائط البيت على دعائه ، وتسبيح الطعام بين أصابعه.

وإخبار الشاة له بأنها مسمومة وشكوى البعير له قلة العلف ، وكثرة العمل.

وشكوى بعض الطيور له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أخذ بيضه أو فراخه ، وسجود البعير والغنم له وتكليم الحمار له ، وشهادة الجمل عنده : أنه لصاحبه الأعرابي دون من ادعاه ، وسؤال الظبية أن يخلصها لترضع ولدها وتعود ، وغير ذلك (١).

ومن جهة ثانية : فقد دلت النصوص الكثيرة على أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يعرف لغات البشر أيضا ، وقد تكلم بعدد منها في مناسبات عديدة (٢).

__________________

(١) هذه الكرامات وسواها موجودة في كتب الحديث والسيرة فراجع على سبيل المثال : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٨٣ و ٢٨٤ والسيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية ج ٣ ص ١٢٨ فما بعدها).

(٢) راجع : مكاتيب الرسول للأحمدي ج ١ ص ١٥ و ١٦.

٥٩

سؤالان يحتاجان إلى جواب :

١ ـ السؤال الأول :

والسؤال الذي يواجهنا بادئ ذي بدء هو :

هل إن هذه القضايا وكثيرا غيرها مما زخرت به المجاميع الحديثية والتاريخية ، وغيرها ، لا بد من تصنيفها في عداد الكرامات والمعجزات ، وخوارق العادات ، التي تهدف إلى مواجهة الإنسان المكابر أو الشاك بالصدمة التي توصد أمامه كل أبواب التملص والتخلص ، والتجاهل للواقع ، ودلائله الظاهرة ، وأعلامه الباهرة ، وحججه القاهرة؟!.

أم أن الأمر يتعدى ذلك ليصب في خانة تجلي السنن والنواميس الحقيقية التي تحكم المسار العام فيما يرتبط بتبلور الشخصية القيادية الواقعية في نطاق هيمنة هذه القيادة على المسار الواقعي العام ، من خلال تلك النواميس ، وعلى أساسها؟!

علما بأن ذلك لا يقلل من قيمة تلك الكرامات والمعجزات ، بل هو يجليها بصفتها ضرورة حياتية في نطاق الهداية الإلهية التامة على أساس نواميس الواقع ومقتضياته.

٢ ـ السؤال الثاني :

وثمة سؤال آخر نعرض له هنا ، وهو :

أنه إذا كان النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعرف جميع اللغات ؛ فلماذا يصر على مراسلة عظيم فارس ، وعظيم الروم وملك الحبشة ، والمقوقس ، وغيرهم بخصوص اللغة العربية؟!

وهل ثمة خلفيات سياسية ، أو تشريعية دينية أو غيرها وراء هذا

٦٠