الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-181-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٢

ويدل على ذلك : قول قيس بن سعد للنعمان بن بشير : إنه لم يكن مع معاوية غيره وغير صويحبه مسلمة بن مخلد (١) كما سيأتي. فلو كان أبو الأعور صحابيا لم يصح قول قيس هذا. فيظهر أن الراوي ، أو الناسخ قد أسقط كلمة (أبا) الأولى ، إما اشتباها أو سهوا ، أو لحاجة في نفسه قضاها.

والذي نخشاه هو : أن يكون هذا الإسقاط قد جاء لخدمة هدف سياسي من نوع ما ، كأن يكون هو دعوى أن أبا الأعور قد لقي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ورآه ، وذلك بهدف الإيحاء بصحة دعوى كون أبي الأعور من الصحابة ، وذلك تدعيما لموقف معاوية بتكثير عدد الصحابة معه ، وإيجاد شبهات حول بغيه على إمام زمانه.

ولكن مراجعة كتب الرجال والتراجم توجب المزيد من الشك والريب في هذا الأمر ، فقد قال العسقلاني : «قال ابن أبي حاتم ، عن أبيه : أدرك الجاهلية ، ولا صحبة له وحديثه مرسل ، وتبعه أبو أحمد العسكري. وذكره البخاري في من اسمه عمر. ولكن لم يذكره في الصحابة ..».

إلى أن قال : «وقال ابن حبان في ثقات التابعين : يقال له صحبة» (٢) ونقل ابن منظور عن ابن عساكر قوله :

«يقال : له صحبة. ويقال : لا صحبة له» (٣).

__________________

(١) صفين للمنقري ص ٤٤٩.

(٢) الإصابة في تمييز الصحابة ج ٢ ص ٥٤٠ وج ٤ ص ٩ وراجع : أسد الغابة ج ٤ ص ١٠٩ وج ٥ ص ١٣٨ والإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج ٤ ص ١٤.

(٣) مختصر تاريخ دمشق ج ١٣ ص ٢١٨.

١٦١

توثيق أبي الأعور!! :

والذي يلفت نظرنا هنا : هو توثيقهم لأبي الأعور (١) ، رغم تصريحهم بأنه كان أشد من عند معاوية على علي «عليه‌السلام» ، وكان علي «عليه‌السلام» يدعو عليه في القنوت في آخرين (٢).

بل لقد قال ابن الأثير : «كان من أعيان أصحاب معاوية ، وعليه كان مدار الحرب بصفين» (٣).

فمقام أبي الأعور لدى معاوية وخدماته لعرش الشام وضديته مع علي «عليه‌السلام» قد جعل الكثيرين ممن يسيرون في هذا الاتجاه يهتمون بصياغة الفضائل له ، لأنها ستكون في نهاية الأمر فضائل لمعاوية نفسه. ولعلهم أرادوا أن يلبسوه ثوب الصحبة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أجل تكثير الصحابة عند معاوية ، بهدف إيجاد شبهات حول بغيه على إمام زمانه ، كما قلنا.

وقد تعودنا من هذا النوع من الناس محاولات من هذا القبيل ، تهدف إلى تقليل عدد الصحابة مع علي «عليه‌السلام» ، وزيادتهم مع خصومه ، حتى ليروون عن الشعبي أنه قال : «من زعم أنه شهد الجمل من أهل بدر

__________________

(١) الإصابة ج ٢ ص ٥٤٠ و ٥٤١ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٦٧.

(٢) راجع : أسد الغابة ج ٢ ص ١٣٨ والإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج ٤ ص ١٤.

(٣) أسد الغابة ج ٤ ص ١٠٩.

١٦٢

إلا أربعة فكذبه. كان علي وعمار في ناحية ، وطلحة والزبير في ناحية» (١).

ويظهر أن أمير المؤمنين «عليه‌السلام» وأصحابه قد التفتوا إلى هذا الأمر ولذلك نجدهم يتحدثون عن حضور الصحابة معهم ، ويعطون ارقاما دقيقة في هذا المجال.

فقد رووا : أن ناسا من قراء أهل الشام لحقوا بعلي «عليه‌السلام» فقال عمرو بن العاص لمعاوية عن علي «عليه‌السلام» في جملة كلام له : «وإنه قد سار إليك بأصحاب محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المعدودين ، وفرسانهم ، وقرائهم ، وأشرافهم ، وقدمائهم في الإسلام ، ولهم في النفوس مهابة الخ ..».

فجمع معاوية أجناد أهل الشام وخطبهم ، فبلغ عليا «عليه‌السلام» ذلك ، فأمر الناس فجمعوا.

قال أبو سنان الأسلمي : «وكأني أنظر إلى علي متوكئا على قوسه ، وقد جمع أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عنده ، فهم يلونه و [كأنه] أحب أن يعلم الناس : أن أصحاب رسول الله متوافرين عليه ، فحمد الله ثم قال الخ ..» (٢).

وقال سعيد بن قيس في خطبة له : «وقد اختصنا الله منه بنعمة فلا نستطيع أداء شكرها ، ولا نقدر قدرها : أن أصحاب محمد المصطفين الأخيار معنا ، وفي حيزنا ؛ فو الله الذي هو بالعباد بصير : أن لو كان قائدنا حبشيا مجدعا إلا أن معنا من البدريين سبعين رجلا ؛ لكان ينبغي لنا أن

__________________

(١) العقد الفريد ج ٤ ص ٣٢٨.

(٢) صفين للمنقري ص ٢٢٢ و ٢٢٣.

١٦٣

تحسن بصائرنا الخ ..» (١).

ويقول الأشتر في صفين : «وأنتم مع البدريين ، قريب من مائة بدري ، ومن سوى ذلك من أصحاب محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..» (٢)

وقد كان لهم أثر عظيم في الحرب ولا سيما الأنصار منهم كما اعترف به معاوية ، فراجع (٣).

وقد قالوا : كان مع علي «عليه‌السلام» ثمان مئة رجل ممن بايع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تحت الشجرة.

وعن سعيد بن جبير : كان مع علي رضي‌الله‌عنه يومئذ ثمان مئة رجل من الأنصار ، وتسعمائة ممن بايع تحت الشجرة.

وعن الأعمش : كان معه ثمانون بدريا ، وثمان ماءة من أصحاب محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٤).

وقال الزبير بن بكار : «شهد صفين مع أمير المؤمنين «عليه‌السلام» من أهل بدر سبعة وثمانون رجلا ، منهم سبعة عشر رجلا من المهاجرين ، وسبعون من الأنصار ، وأما من باقي الصحابة فكان معه ألف وثمان مئة ، منهم تسعون رجلا بايعوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تحت الشجرة» (٥).

__________________

(١) صفين ص ٢٣٦.

(٢) صفين ص ٢٣٨.

(٣) صفين ص ٤٤٥ ـ ٤٤٩.

(٤) الفتوح لابن أعثم ج ٢ ص ٤٥٠.

(٥) تذكرة الخواص ص ٨١ و ٨٢ وراجع : المعيار والموازنة ص ٢٢ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٠٤ والغدير ج ١٠ ص ١٦٣ عن بعض المصادر الأخرى.

١٦٤

ويعترف معاوية بأن المهاجرين والأنصار كانوا مع علي «عليه‌السلام» ، فهو يقول لابن عباس : «فاذكروا علي بن أبي طالب ومحاربته إياي ، ومعه المهاجرون والأنصار الخ ..» (١).

وقال قيس بن سعد للنعمان بن بشير : «انظر أين المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان ، الذين رضي‌الله‌عنهم ، ثم انظر : هل ترى مع معاوية غيرك وصويحبك؟! الخ ..» (٢).

والمراد بصويحبه : مسلمة بن مخلد.

آية سورة النساء متى وفيمن نزلت :

لقد تحدثت النصوص التاريخية المتقدمة عن قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ، أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ، أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ..) (٣).

فذكرت : أن هذه الآيات قد نزلت في هؤلاء اليهود الذين ذهبوا إلى مكة ، وإلى سائر القبائل ليحرضوهم على قتال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فجمعوا الجموع ، وحزّبوا الأحزاب ، فكانت غزوة الخندق.

ونقول :

__________________

(١) الفتوح لابن أعثم ج ٤ ص ٢٣٩.

(٢) صفين ص ٤٤٩ وراجع ابتداء من ص ٤٤٥.

(٣) الآيات ٥١ ـ ٥٤ من سورة النساء.

١٦٥

إننا نشك في أن تكون هذه الآية قد نزلت في هذه المناسبة وذلك لما يلي :

١ ـ هناك روايات تقول : إن هذه الآية قد نزلت في مناسبة أخرى سبقت غزوة الخندق. وذلك لما ذهب كعب بن الأشرف إلى قريش ، يحرضهم على غزو المسلمين ، فسألوه عن أن أي الفريقين أهدى ، فأجابهم بما يقرب مما سبق.

وذكروا أيضا : أنهم طلبوا منه أن يسجد لأصنامهم ، ليطمئنوا إلى أنه لا يمكر بهم ؛ ففعل ، مجاراة لهم.

وظاهر بعض النصوص الأخرى : أن هذه الآيات قد نزلت في مكة قبل الهجرة حيث ذكرت نزول سورة الكوثر في هذه المناسبة أيضا ، وهي إنما نزلت قبل الهجرة (١).

__________________

(١) الدر المنثور ج ٢ ص ١٧١ ـ ١٧٣ عن الطبراني ، والبيهقي في الدلائل عن عكرمة عن ابن عباس. وعن سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عكرمة مرسلا. وعن أحمد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. وعن عبد الرزاق ، وابن جرير عن عكرمة. وعن ابن جرير عن مجاهد. وعن عبد بن حميد ، وابن جرير عن السدي ، عن ابي مالك. وعن البيهقي في الدلائل ، وابن عساكر في تاريخه عن جابر عن عبد الله. وعن عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة والجامع لأحكام القرآن ج ٥ ص ٢٤٩ ومجمع البيان ج ٣ ص ٥٩ والتفسير الكبير ج ١٠ ص ١٢٨ والتبيان ج ٣ ص ٢٢٣ و ٢٢٤ و ٢٢٥ والبحر المحيط ص ٢٧١ والنهر الماد من البحر (مطبوع بهامش البحر المحيط) ج ٣ ص ٢٧١ والكشاف (ط دار الفكر) ج ١ ص ٥٣٢ وجامع البيان ج ٥ ص ٨٥ و ٨٦ وتفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٥١٣ وفتح القدير ج ١ ص ٤٧٨ و ٤٧٩ وتفسير الخازن ج ١ ص ٣٦٨ ومدارك التنزيل للنسفي (مطبوع بهامش تفسير الخازن) ج ١ ص ٣٦٩.

١٦٦

إلا أن يقال : إنها مما تكرر نزوله.

٢ ـ قيل : كان أبو برزة كاهنا في الجاهلية ، فتنافس إليه ناس ممن أسلم ، فنزلت الآية. عن عكرمة (١).

توضيح وتصحيح :

إن القصة التي يحكيها المؤرخون قد فرضت وجود فريقين هما :

جماعة اليهود ، والمشركون.

وقد سأل المشركون اليهود عن الأهدى؟ هم أم المسلمون؟

فأجابهم اليهود : أنتم أولى بالحق.

مع أن الآية تفرض الفريقين يتحدثان عن فريق ثالث أشير إليه بقولهم : (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) (٢).

أي أن اليهود قالوا للمشركين : هؤلاء أهدى ، ولم يقولوا لهم : أنتم أهدى. فلا ينطبق مدلول الآية على روايات المؤرخين ، سواء رواية كعب بن الأشرف ، أو حيي بن أخطب ، أو رواية أبي برزة الآنفة الذكر.

إلا أن يقال : في الآية التفات من الخطاب بالضمير إلى الإشارة بكلمة هؤلاء ، والالتفات موجود في القرآن.

والنكتة المسوغة لهذا الالتفات هي : أن الله سبحانه قد قال : (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ..) فجاء بصيغة المضارع ليفيد : أن هذا النهج في التعامل مستمر في هذا النوع من الناس. وليست القضية قضية مضت وذهبت ، قد

__________________

(١) مجمع البيان ج ٣ ص ٥٩.

(٢) الآية ٥١ من سورة النساء.

١٦٧

تكون لها ظروفها ومبرراتها ، فلا تمثل خطأ مستمرا لهؤلاء الناس.

فلما عبر تعالى عما حدث بصيغة المضارع ، فإنه لم يعد بالإمكان أن يقول : «أنتم أهدى» ، لأن الخطاب لما صار فعليا فيحتمل فيه أن يكون موجها لهؤلاء الناس الذين يسمعون الآية من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويخاطبهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بها ، ويحتمل أن يكون خطابا للكافرين أيضا.

فهو من قبيل ما لو قلت لرجل : زيد قال لعمرو : أنت رجل فاسق ، فكلمة أنت رجل فاسق يحتمل فيها أن تكون موجهة لمخاطبك أنت ، ويحتمل أن تكون موجهة لعمرو.

إذن .. فلا بد في الآية من التصرف في خطاب أولئك الناس والإتيان بالمضمون بطريقة تدفع هذا الالتباس.

وهكذا كان ، فإنه تعالى استخرج مضمون كلامهم وهو أن هؤلاء أي الكفار المشركين الذين خاطبهم أهل الكتاب (وهم غير من يخاطبهم النبي بالقرآن فعلا) أهدى من المؤمنين.

فاتضح : أن الآية لا تنافي سياق الحدث التاريخي الذي هو مورد البحث.

تحريض اليهود :

لقد رأى اليهود عن كثب كيف أن المسلمين يزدادون قوة ويزداد الإسلام انتشارا باستمرار.

ويرون أن نفوذهم كمصدر وحيد للمعارف بدأ ينحسر ويتلاشى وها هو الإسلام ينتقد ما يدّعيه اليهود من ذلك ويفنده ، ويبيّن الصحيح من

١٦٨

المزيف منه. وهو بذلك يزلزل مكانتهم ، ويفقدهم الشيء الذي كانوا ولا يزالون يعتزون ويفتخرون ويتسامون به على الناس.

ويبطل مزعمتهم بأنهم شعب الله المختار ، ويرفع شعار : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.

فاحترقت قلوبهم بالغيظ وطفحت بالحقد ، وتآمروا على هذا الدين ونقضوا عهودهم التي قطعوها على أنفسهم ، وجرّوا على أنفسهم البلاء والعناء. وكانت واقعة بني قينقاع ، ثم واقعة بني النضير.

وهم يريدون أن يأخذوا بثأرهم حسب زعمهم ، ولكنهم يدركون عجزهم عن ذلك بأنفسهم ، فالتجأوا إلى تأليب قريش والعرب الموتورين من الإسلام ، والطامعين بتحقيق مكاسب مالية وغيرها من حرب كهذه.

ويقول القاضي النعمان ما ملخصه : إن يهود المنطقة ، وهم أهل نعم وأموال ، وأصحاب رياسة ، قد أزعجهم انتشار الإسلام ، لأنهم رأوا أنهم يفقدون هيمنتهم على المنطقة وعلى أهل الشرك الذين يكذبون بالبعث ، فجحدوا رسول الله وشككوا الآخرين ما أمكنهم بنبوته.

فلما كان من أمر أحد ما كان ، ندموا على عدم المساعدة على حرب محمد ، لأنهم رأوا أنها كانت فرصة ، ولو أقام المشركون على الحرب لظفروا بالمسلمين ؛ فأرسلوا إلى أبي سفيان ووعدوه النصر ، فوجد أنها فرصة. وطلب منهم أن يعلنوا للناس بتكذيب محمد ، لأن الناس يركنون إليهم ، لأنهم أهل كتاب.

فمضى وجوههم وساداتهم إلى مكة ، وشهدوا للمشركين بأنهم أهدى من محمد سبيلا ، فوثقوا بهم ، ومشوا معهم إلى قبائل العرب ليقنعوهم

١٦٩

بحرب محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» واستئصاله ، وتعاقدوا على ذلك الخ .. (١).

الداء الدوي :

قد اتضح مما تقدم : أن اليهود كانوا هم الذين خططوا لحرب الخندق ، واتصلوا بقريش وبغطفان ، وسائر القبائل ، وحرضوهم ، وشجعوهم ، وساعدوهم على التفاهم والإتفاق ثم المبادرة إلى غزو النبي محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والمسلمين في المدينة وبذلوا لهم من أموالهم ثلث ثمار خيبر أو أكثر من ذلك.

وقد بدا واضحا من سير الأحداث : أن اليهود أشد حقدا وحنقا على الإسلام والمسلمين. وأنهم رغم كل الآيات والحقائق التي كانوا يعرفونها ويشاهدونها لم يستطيعوا أن يتفاعلوا مع هذا الدين ، ولا تذوقوا طعم الإيمان به. إلا أفراد قليلون منهم وفقهم الله لنيل هذه الكرامة والفوز بهذا الشرف العظيم من أمثال مخيريق الشهيد السعيد رحمة الله تعالى عليه ورضوانه.

ثم إنهم منذ دخل الإسلام إلى المدينة لم تجتمع لهم كلمة على حربه ، لأنه دخل قويا عزيزا بتحالفه مع القبائل ذات النفوذ في المنطقة ، ولا سيما الأوس والخزرج. ثم لأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عقد تحالفات معهم بين الحين والآخر.

ولم يزل اليهود في موقع الضعف والهوان في قبال عز الإسلام ومنعته ،

__________________

(١) شرح الأخبار ج ١ ص ٢٨٨ ـ ٢٩١.

١٧٠

ونفوذه وشوكته.

فالتجأوا منذ اللحظة الأولى إلى مناوأته بأساليب التآمر والغدر والخيانة ، وإذكاء الفتن ، وإثارة النعرات العرقية وغيرها ، وكان هذا هو السبيل الذي اختاروه لأنفسهم ، بعد أن صدوا عن سبيل الله ، واتخذوا آيات الله هزوا.

أما المشركون فإنهم حين يستجيبون لليهود ، فإنما يستجيبون لإنقاذ سمعتهم ، واستعادة هيبتهم التي اهتزت وأصيبت بنكسة قوية بسبب تخلفهم عن بدر الموعد ، لدواعي حقد دفين يعتل في نفوس الكثيرين منهم ، أو إلى نوازع الطمع والجشع وحب الحصول على شيء من حطام الدنيا كتمر خيبر ، لدى كثيرين آخرين ، كما ويستجيب فريق آخر لنداء الشيطان ، الذي يزين لهم أعمالهم ويعدهم ويمنيهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ، فيصرون على الجحود وعلى الإستكبار والعتو والعلو. وإن ربك لبالمرصاد.

ولكن حين يفرض الإيمان والإسلام نفسه عليهم ، فإنك تجد الأمر لا يصل في صعوبته وتعقيده إلى الدرجة التي نجدها عند اليهود رغم وضوح الأمر لدى اليهود.

حتى إنهم ليعرفون هذا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كما يعرفون أبناءهم ، ويجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، وليس الأمر بالنسبة للمشركين كذلك ، إلا أنهم يرون المعجزات والكرامات ، ويقيم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليهم الحجة ، حتى لا يبقى عذر لمعتذر ، ولا حيلة لمتطلب حيلة.

هذا ، ومن المضحك المبكي هنا : أننا نجد اليهود يريدون أن ينتصروا على محمد والمسلمين بواسطة قريش والقبائل العربية ، وقريش تريد أن تحقق هذا

١٧١

الهدف بالذات بالإفادة من خيانة اليهود ، ومساعدة قبائل غطفان وغيرها.

أما غطفان وغيرها من القبائل العربية : فتريد الحصول على المال ولكن بالاعتماد على جهد القريشي وكيد اليهودي. ولم يكن اهتمامها باستئصال شأفة الإسلام والمسلمين يصل إلى درجة اهتمام قريش واليهود بذلك ـ كما ربما يظهر من بعض المؤلفين.

أهداف الحرب :

أما أهداف الحرب : فهي كما يظهر من كلامهم السابق استئصال محمد ومن معه ، ولكننا إذا أردنا تحديد ذلك بدقة ، فإننا نقول :

لقد حدد علي «عليه‌السلام» هدف الأحزاب والعرب من الحرب وقال : «إن قريشا والعرب تجمعت ، وعقدت بينها عقدا وميثاقا ، لا ترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله ، وتقتلنا معه معاشر بني عبد المطلب» (١).

ونعتقد : أن هذا الكلام هو الأقرب والأنسب فيما يرتبط بتحديد الهدف الأقصى للحرب ، فإن كلامهم المتقدم في النصوص التي أوردناها ، وإن كان ينص على استئصال محمد ومن معه ، إلا أن استئصال جميع من مع النبي من الأوس والخزرج ، وسائر قبائل العرب لن يكون سهلا ولا ميسورا لهم. ولا يمكن لهم أن يقدموا على إذكاء نار قد لا يمكنهم إطفاء لهيبها على مدى أجيال ولسوف ينالهم منها الشيء الكثير والخطير كما هو معلوم ..

__________________

(١) الخصال (باب السبعة) ج ٢ ص ٣٦٨ والبحار ج ٢٠ ص ٢٤٤ وشرح الأخبار ج ١ ص ٢٨٧ والإختصاص ص ١٦٦ و ١٦٧.

١٧٢

أما قتل محمد وبني عبد المطلب ، فهو الأسهل والأيسر ، وبه يتحقق المطلوب ، ولماذا يذهبون إلى أبعد من ذلك؟!

غير أن من الواضح : أن هذا لن يقنع اليهود ، لأن هدفهم هو استئصال محمد وجميع من معه. ولعل ذلك يفيدهم في إعادة بسط هيمنتهم ونفوذهم على يثرب وعلى المنطقة.

أما غطفان وسائر القبائل فيهمها تمر خيبر بالدرجة الأولى ، اما استئصال محمد والمسلمين فلا ترى فيها أية سلبية ، بل هو أمر محبوب بالنسبة إليها ومطلوب.

الأحقاد هي المحرك :

قد قرأنا فيما سبق : أن اليهود يقولون للمشركين : «جئنا لنحالفكم على عداوة محمد وقتاله».

فأجابهم أبو سفيان : «مرحبا وأهلا ، أحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد».

والذي نريد أن نلفت النظر إليه هنا : هو أن هؤلاء الناس لم يكلفوا أنفسهم حتى تلطيف عباراتهم ، وعقلنة تصريحاتهم. بل أظهروا كل ما يضمرونه من سوء دونما رادع من خلق ، أو وازع من عقل أو شرف أو منطق.

فلم يقولوا لأهل مكة مثلا : إننا جئنا لأجل أن نتدارس الأمور ، بموضوعية وإنصاف ، ثم بحكمة وبمسؤوليه ، واضعين في حسابنا الحفاظ على المصالح الاجتماعية العامة ، وتوفير الأمن والاستقرار للناس ، وتجنيبهم

١٧٣

مآسي الحروب وسلبياتها على جميع الأصعدة ، وفي مختلف الاتجاهات ، وإعطاء الناس الفرصة لبناء حياتهم بناء سليما ، ثم الإعداد لمستقبلهم ، في ظلال من السلام والأمن ، وفراغ البال واطمئنان الخاطر.

كما إنهم قد أخفوا ما يضمرونه من الطموح إلى تحقيق مكاسب سياسية ، وامتيازات على صعيد النفوذ والهيمنة على المنطقة ، أو فيما هو أوسع منها.

ولم يعترفوا أيضا : أن مصالحهم الدنيوية ، وما فيها من أموال وتجارات ومواقع ومناصب ولذائذ ، لها دور في اندفاعهم إلى حرب محمد ومن معه ، لظنهم أنهم سوف يخسرون الكثير مما سيتأثرون به لأنفسهم على حساب غيرهم من الناس المستضعفين والمحرومين.

بل غاية ما صرّحوا به : هو أن دافعهم ليس إلا الأحقاد والضغائن ، والعداوات الباطلة ، والبغي والحسد ، بل لا مبرر ظاهر سوى أنهم لا يريدون لهؤلاء الناس أن يقولوا : ربنا الله ، وليس ربنا الحجارة ، ولا يريدون أن يتخذوا الطواغيت أربابا من دون الله.

وصدق الله تعالى حيث يقول : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ..) (١).

يريدون ليطفئوا نور الله سبحانه :

قد عرفنا : أن اليهود إنما قدموا مكة ليتحالفوا ويتعاقدوا مع المشركين

__________________

(١) الآية ٨٢ من سورة المائدة.

١٧٤

على استئصال محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومن معه حسب زعمهم ، حيث قالوا لقريش : «نحن معكم حتى نستأصل محمدا» أو «سنكون معكم حتى نستأصله ومن معه».

كما أنهم وهم يقررون ما يتعاقدون عليه ، قالوا : «ولتكون كلمتنا واحدة على هذا الرجل ما بقي منا رجل».

وذلك يعني :

١ ـ أن هدفنا المعلن هو استئصال شأفة الإسلام والمسلمين.

٢ ـ أنهم مصممون على تحقيق هذا الهدف بأسلوب الحرب حتى آخر رجل منهم.

٣ ـ أن هذه المبادرة منهم قد جاءت عن طريق خيانتهم لعهودهم ومواثيقهم التي كانوا قد أبرموها مع نفس الذين يريدون استئصالهم ، مع العلم بأن ذلك الطرف لم يزل وفيا بعهده حافظا لمواثيقه معهم ، ولم يحدث أن خان أو تردد في عهد مع أي فريق منهم ، ولم يسئ إليهم ولا إلى غيرهم بشيء إلا ما يجرونه هم على أنفسهم بخياناتهم المتتالية ، وهم يرتكبون هذه الخيانة رغم أنهم قد رأوا بأم أعينهم عواقب خيانة بني قينقاع ، ثم خيانة بني النضير ، وأكثرهم نضيريون ، كما تقدم.

٤ ـ أن مبرر هذا الإجرام العظيم والبشع هو مجرد الحسد والحقد منهم. بالإضافة إلى مكاسب سياسية ، واجتماعية وغيرها يحلمون بتحقيقها على المدى البعيد من خلال فرض هيمنتهم على المدينة وعلى غيرها بصورة وبأخرى.

فلم يكن الهدف عقيديا ولا إنسانيا ولا أخلاقيا. بل هم قد داسوا

١٧٥

بأقدامهم الإنسانية والأخلاق وحتى مبادئهم وعقيدتهم التي يدّعون أنهم ينتسبون إليها وهذا هو منتهى الإسفاف ، وغاية التردي في حمأة الجريمة والبغي.

الإيمان والمواثيق لا تجدي :

وبعد .. فإن الملفت للنظر هنا : أننا نجد اليهود يفقدون صفة الأخلاقية والمبدئية في مواقفهم ، وفي مجمل تحركهم في مواجهة الإسلام والمسلمين ، وكذلك نجد المشركين ، خصوصا أبا سفيان ، لا يختلف عن اليهود في ذلك.

فأبو سفيان يحاول أن يخدع قومه في حركته الهادفة إلى دفعهم إلى مواجهة الإسلام ، حيث إن اليهود يتصلون به أولا ، ثم يتفق معهم على دعوة الناس إلى استئصال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وحين يطلبون ذلك من الناس علنا يظهر أبو سفيان بمظهر من يسمع هذا الكلام لأول مرة!!

ثم إنهم يصرحون : بأنهم جاؤوا للتحالف على العداء لمحمد ، فلم يكن هذا المجيء ، لمحاولة فهم دعوة هذا الرجل ، والتعامل معه ومعها بإنصاف وبموضوعية ، وتعقل وتدبر كما أسلفنا.

كما أنهم يفضلون الاتصال أولا بأبي سفيان ، ولم يكن المبرر لذلك إلا أنهم يعلمون بعداوته لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وتسرعه لقتاله فهم يريدون إذن توظيف حالة الحقد غير المسؤول لدى أبي سفيان ، وحالة التسرع اللاواعي عنده لصالح تحقيق الأهداف التي يرمون إلى تحقيقها.

أضف إلى ما تقدم : أنهم لا يتورعون عن ارتكاب جريمة التضليل الإعلامي والتعليمي ، ومخالفة قناعاتهم ، وحتى أصول دينهم في هذا السبيل.

١٧٦

فهم يقررون للمشركين أن الشرك أهدى من التوحيد وأن دعوى الجاهلية خير من الهدي الإلهي.

هذا كله عدا عن استخدامهم المال أيضا كوسيلة لتحريك بعض الفئات لحرب محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومن معه.

وإذا صحت الرواية التي تقول : إن أبا سفيان قد طلب من اليهود أن يسجدوا للأصنام ، لأن قريشا خافت من مكرهم ، فاستجاب اليهود وسجدوا للأوثان ، وكذلك فعل كعب بن الأشرف ومن معه ، حين جاؤوا في مرة سبقت حرب الخندق لتحريض المشركين على حرب محمد ـ إذا صح ذلك ـ فإن الأمر يصبح في غاية الوضوح :

١ ـ حيث يكون اليهود قد أسقطوا عن وجوههم جميع الأقنعة ، وتجاوزوا كل حد ، وكل الأرقام القياسية في سحق المثل والقيم ، والمبادئ الأخلاقية والإنسانية وأثبتوا أنهم وصوليون بكل ما لهذه الكلمة من معنى.

والغريب في الأمر : أننا نجدهم يعتمدون على الإيمان والمواثيق لإحكام أمرهم مع المشركين ، وللحصول على الحد الأدنى من الاطمئنان والوثوق ببعضهم البعض ، رغم أنهم قد مارسوا ـ عمليا ـ أساليب من شأنها أن تنسف كل عوامل الثقة ولو بمستواها الأضعف والأدنى.

وإلا ، فهل يمكن أن يكون المشركون قد وثقوا باليهود لمجرد أنهم قد رأوهم يسجدون للأوثان؟!

وهل اعتقد المشركون : أن اليهود قد تركوا يهوديتهم ، ودخلوا في الشرك؟!

وإذا كانت الإجابة بالنفي ، فما معنى وثوقهم بأيمانهم ومواثيقهم؟! وما معنى اطمينانهم إلى عدم مكرهم بهم ، وخديعتهم لهم؟!

١٧٧

أليست نفس استجابتهم لطلب المشركين بالسجود للأوثان دليلا على أنهم لا عهد ، ولا ميثاق ، ولا أيمان لهم؟ بل هي دليل على أنهم يخادعونهم ويمكرون بهم ، ويريدون استخدامهم فيما يريدون بأية صورة كانت ، وبأي ثمن كان؟!

ألم يدرك المشركون : أن وثوقهم باليهود استنادا إلى ذلك معناه أنهم يخدعون أنفسهم؟! ويظهرون للملأ : أنهم على درجة كبيرة من الرعونة والسذاجة؟!

٢ ـ ومما يزيد في ضراوة هذه الشكوك : أننا نجد اليهود ، حين سألهم المشركون عن ذلك ، قد طلبوا من المشركين أن يعرضوا عليهم دينهم ودين محمد ، ليحكموا لهم أو عليهم.

فلما عرضوا ذلك عليهم أصدروا حكمهم لصالح دين المشركين ، وأنهم أولى بالحق كما تقدم.

والسؤال هنا هو : هل صحيح أن اليهود كانوا لا يعرفون دين المشركين ، الذين يعيشون بينهم ويتعاملون معهم منذ عشرات السنين؟!

وهل كان المشركون أعرف بأمر محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وبدعوته من اليهود ، وهو يعيش بين ظهرانيهم ، وقد عقدوا معه التحالفات وخاضوا معه الحروب ، ولم يزل يدعوهم إلى دينه ويحتج عليهم وقد جاؤوا ليحرضوا الناس على حربه واستئصاله؟!

٣ ـ والأغرب من ذلك أن يخطر ببال أحد من المشركين وغيرهم : أن يجيب اليهود ، الذين جاؤوا للتحريض على استئصال محمد ، بغير ما أجابوا به!!

٤ ـ والأعجب من ذلك : أن يعتبر الشرك دينا يصلح للمقارنة مع ما جاء به النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من عند الله تعالى.

١٧٨

تمر خيبر :

بقي أن نشير أخيرا : إلى هذا السخاء الذي تجلى في اليهود حتى جعلوا تمر خيبر سنة ، أو نصفه كل سنة ، لغطفان لتوافق على المشاركة في الحرب ضد الإسلام.

ولا ندري ما هو الدافع لهم للإقدام على هذه الخطوة؟ فهل كان هذا يستبطن غدرا ونقصا كما هو معروف عن اليهود؟ أي أنهم بعد أن يتخلصوا من عدوهم الأقوى والأخطر بنظرهم يرفضون الوفاء بما تعهدوا به لغطفان.

وهل فكرت غطفان في هذا الأمر بصورة جدية وواقعية؟!

وما هو المبرر لهذه العداوة الراسخة من اليهود للاسلام ولنبي الإسلام؟!

وكيف نفسر هذا السخاء الذي لا نظير له من قوم لم نعرف عنهم إلا المزيد من الحرص على المال وعلى الدنيا ، وإلا الشح المزري ، والبخل المشين؟!

هذا السخاء قد جاء من أجل استئصال أناس لم يروا منهم إلا الوفاء والصدق ، والنبل والالتزام بالقيم الإنسانية والمثل العليا!!

إن التفسير الوحيد المعقول لذلك هو : أنهم يشعرون أن الإسلام يمثل خطرا يتهدد دنياهم وامتيازاتهم ، وهو يتناقض بصورة عميقة وأساسية مع ما يفكرون به ، ويخططون له من استغلال لثروات البلاد ، وإذلال واستعباد للعباد.

فلماذا إذا : لا يضحون ببعض المال من أجل إزاحة هذا الكابوس الجاثم على صدورهم؟ فإذا تمكنوا من ذلك ، فإنهم سوف يستقبلون الدنيا

١٧٩

العريضة بكل ما لديهم من خطط ماكرة ، وأساليب شيطانية ، تجعلهم يتحكمون بكل مقدرات الأمم ، ويهيمنون على كل نبضات الحياة فيها؟!

تأثير المال في تحزيب الأحزاب :

إن من الواضح : أنه لم يكن لقوى الكفر قيادة موحدة ، ترسم الخطة ، ثم تتخذ القرار ، ثم تعمل على تنفيذه ، بل كانت لهم قيادات متعددة ومختلفة. وذلك من شأنه أن يضعف أمرهم ، ويوهن وحدتهم ، مع وجود فرص تساعد على إلقاء الخلاف فيما بينهم وإذكاء روح التنافس ، وإشاعة روح التشكيك ببعضهم البعض كما حصل لبني قريظة.

كما أن من البديهي : أنه لم يكن بإمكان كل قبيلة أن تستقل بعداوة محمد وقتاله ، وكانت كل قبيلة تخشى من مواجهة المؤمنين وحدها.

فكان لا بد من تفاهم القبائل فيما بينها لتحصيل إجماع على الاجتماع على قتال محمد وصحبه.

فبادر اليهود إلى العمل لتحصيل هذا الإجماع ، على أمل أن يحسموا الأمر لمصالحهم ، ويكونون بذلك قد ثأروا لأنفسهم ، وتصبح ـ من ثم ـ لهم هم الكلمة الأولى والأخيرة في المدينة على الأقل ، ويكون لهم النفوذ والتأثير القوي في المنطقة بأسرها ..

ثم إنه قد كان من جملة العوامل التي ساعدت على تجييش الجيوش وتحزيب الأحزاب ، هو الوعود المالية السخية للناس ، إذا نفروا لحرب المسلمين.

حتى لقد رفض بنو مرة نصيحة الحارث بن عوف ، إذ قد «غلب عليهم

١٨٠