الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-181-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٢

الشيطان ، وقطع أعناقهم الطمع» (١).

الإرهاب الفكري والخداع للسذج :

وقد أظهر النص المتقدم : أن قريشا ـ والظاهر : أن المقصود هو الزعماء منها ـ أرادت خداع السذج والبسطاء من الناس بالاستفادة من حالة الانبهار بأهل الكتاب ، التي كانت لدى عامة الناس في المنطقة العربية ، والتي كانت حين ظهور الإسلام تعاني من الجهل الذريع ، الذي مكّن لشياطين أهل الكتاب أن يصوروا لهم : أنهم هم مصدر العلوم والمعارف ، وهم المرجع الموئل والمفزع للناس فيما يهمهم من أمور الدين ، والمعارف الدينية.

واستطاع أهل الكتاب أن يمسكوا بعواطف الناس ، البسطاء والسذج والجهلة ، باستخدام طريقة التهويل والإحالة على الغيب الذي يضعف أقوى الناس أمامه إذا كان يلامس مصيره ومستقبله بصورة أو أخرى.

والملفت هنا : أن يستغل زعماء قريش هذه الفرصة للاستفادة من هذا الانبهار من أجل سوق الناس بالإتجاه الذي يريدون ، ويرون أنه يحقق لهم مأربهم ، ويوصلهم إلى أهدافهم الشريرة.

فيطلبون من الناس : أن يسألوا اليهود عن الأهدى من الفريقين : أهم بشركهم وضلالاتهم؟ أم محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وما جاء به من عند ربه من الهدى؟ ويأخذ أبو سفيان هنا زمام المبادرة ليلقي سؤاله بطريقة فنية

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٠

١٨١

وذكية ، حينما ضمّن كلامه خليطا من الأمور التي ترضي آنئذ غرور الإنسان العربي والقرشي على وجه الخصوص ، بملاحظة طبيعة حياته ، وعاداته وموقعه ، ككونهم ينحرون الجزور الكوماء ، ويسقون الحجيج ، وكونهم عمّار البيت ، ثم هم يعبدون الأوثان.

فيفهم اليهود ما يرمي إليه ويناغمونه الكيد والتزوير ، ويحكمون لهم بأنهم أولى بالحق من محمد بالاستناد إلى نفس ما أراد أبو سفيان أن يستندوا إليه وألقى إليهم به.

الحارث بن عوف ينصح قومه :

ويستوقفنا هنا : ما قاله الحارث بن عوف لقومه ، وهو ينهاهم عن المسير إلى حرب محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإنها نصيحة مهمة تعبر عن إدراك حقيقي لما يجري ، ثم هو يقيّم الواقع بصورة متوازنة ، وعاقلة ، حيث عبر لهم عن اعتقاده أن أمر الإسلام ظاهر وغالب ، ولو ناوأه ما بين المشرق والمغرب لكانت له العاقبة.

ونعتقد : أنه قد أدرك هذا الأمر بحسن تقديره للأمور ، وهو يراقب ما يطرح هذا الدين للناس من مفاهيم وتشريعات ، وما يمارسه من تدابير وسياسات تنسجم مع أحكام العقل والفطرة السليمة ، ومع الخلق السامي والنبيل. ثم هو يرى الواقع السياسي ، وكل التحولات التي تستجد على المنطقة بصورة مطّردة ومستمرة ، ويرى أن هذا الدين لا يزال ينتشر ، ويتجذر ، ويترسخ وتتنامى هيبته وتتأكد هيمنته ، رغم كل الكيد الذي يواجهه به أعداؤه ، وكل الحقد الذي يعامله به مناوئوه.

١٨٢

عقدة بدر الموعد :

إن إلماح صفوان بن أمية إلى ما جرى في بدر الموعد ، ليدل دلالة واضحة على : أن المسلمين قد سجلوا فيها نصرا مؤزرا للإسلام وهزيمة روحية وسياسية ساحقة لكبرياء الكفر والشرك ، ليس في مكة وحسب ، وإنما في المنطقة بأسرها.

ولكن من دون أن يكلف ذلك المسلمين أية تضحيات ، بل هم قد ربحوا في تجاراتهم في سوق بدر ، حسبما تقدم بيانه.

عيينة بن حصن والمعاني الإنسانية :

ربما يفهم من كلام البعض : أن الحارث بن عوف كان يرتبط مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بجوار ، لكنه اعتبره أحسن تقية من عيينة بن حصن.

ولعل السر في ذلك هو : أن الحارث ، وإن كان قد نقض الجوار ، الذي قد يقال : إنه يعني الالتزام بعدم الاعتداء ، حفظا للجوار ، مع أن البعض كالزهري ، وبني مرة ينكرون أن يكون الحارث قد فعل ذلك ، ويصرون على أنه لم يحضر حرب الخندق ، إلا أن عيينة قد زاد على ما فعله الحارث : أنه لم يحفظ الجميل ، بل جازى الإحسان إليه بالإساءة ، ولكنها إساءة جاءت على درجة كبيرة من القبح ، لأنها تضمنت خروجا على كل الأعراف ، والقيم ، وحتى أعراف الجاهلية.

فقد تقدم : أن النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان قد سمح لعيينة ، حينما أجدبت أرضه : أن يرعى في منطقة نفوذ وسيطرة وحاكمية الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لينقذهم من الخطر الذي يتهددهم ، ويساعدهم على التغلب على

١٨٣

المشكلة الحياتية التي يعانون منها ، رغم أنهم كانوا يختلفون معه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، من جهة أنهم كانوا على شركهم وضلالهم. ففعل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك من دون أي مقابل ، ودون أن يسجل لنفسه أي امتياز.

وقد عرف عن العرب : أنهم يعتزون ببعض المعاني التي يرون فيها شيئا من القيمة ، مثل : حسن الجوار ، وحفظه ، والوفاء بالعهد ، ومقابلة الإحسان بمثله ، ويعتبرون ذلك هو الرصيد الذي يؤهلهم لاحتلال مواقع إجتماعية متميزة ، حتى إذا ما تبين لهم أن أحدا لا يملك شيئا من هذا الرصيد ، فإنه يبوء بذل العمر ، وعار الدهر ، وهو عندهم ساقط ومرذول ، أو هكذا زعموا.

ولكن الأمور عند هؤلاء الناس قد انعكست الآن ، حيث أصبح العداء للإسلام ولنبي الإسلام هو العمل الصالح عندهم الذي يبيح لهم كل محرم ، وتتهاوى وتسقط معه كل قيمهم ومثلهم ، التي يعتزون بها ، ويعطون الأوسمة والامتيازات من خلالها وعلى أساسها.

فنقض العهود ، وخفر الجوار ، والإساءة لمن أحسن ، وكل خزي وعار لم يعد مهما عندهم إذا كان ذلك في قبال محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وضد الإسلام والمسلمين. بل إن هذه المخازي قد أصبحت أوسمة لهم ، ومن دواعي تأكيد شخصيتهم ، وبسط هيمنتهم بزعمهم.

وإلا ، فكيف نفسر احتفاظ عيينة بن حصن ، وكثيرين من أمثاله ، بمواقعهم الاجتماعية ، وهم قد أثبتوا أكثر من مرة أنهم لا يملكون شيئا من هذه المعاني التي قبلها العرب ، وتبنوها ، وتغنوا وافتخروا بها.

وقبل أن نخلص إلى نهاية القول ، نقول : إن من الطبيعي للإنسان الذي يحتفظ بميزاته وخصائصه الإنسانية أن يشعر بالامتنان تجاه من يحسن إليه ،

١٨٤

ويشعر بالاحترام والتقدير تجاه من يحسن جواره وكذلك تجاه من يتعامل معه بطريقة أخلاقية وإنسانية ، حتى ولو كان يختلف معه في الرأي ، وفي العقيدة والدين.

فإذا أراد أن يكون له موقف يختلف عن هذا ، فلا بد أن يتناقض أولا مع نفسه ، ويقوم صراع حاد مع تلك الخصائص النبيلة ، ولن يكون قادرا على اتخاذ ذلك الموقف إلا بعد أن يتم التغلب عليها وقهرها.

وتختلف صعوبة اتخاذ القرار ، والموقف هذا باختلاف درجات البشاعة والشين فيه ، إلا إذا فرض : أن تلك المعاني الإنسانية قد تناهى بها الضعف ، بسبب ممارسات سابقة ، حتى بلغت درجة فقدت معها تأثيرها وفاعليتها. وأصبح الإنسان بذلك على درجة كبيرة من الصلف واللامبالاة ، والوقاحة ، وتحول إلى مجرم محترف ، لا يبالي أي شيء يرتكب ويقترف ، كما كان الحال بالنسبة لعيينة بن حصن ، الذي هو موضع البحث.

وأخيرا : فإن عيينة بن حصن هذا هو الذي يروى أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وصفه بالأحمق المطاع ، وكان من المؤلفة قلوبهم ، وقد ارتد عن الإسلام بعد ذلك ، وقاتل تحت قيادة طليحة بن خويلد الذي ادّعى النبوة. فلتراجع ترجمته في كتب الرجال والتراجم.

شك المشركين :

والملفت للنظر هنا : أننا نجد المشركين يشكون في صحة ما هم عليه ، كما أن طلب أبي سفيان من اليهود تصديق ما هم عليه يشير إلى طغيان هذه الشكوك إلى درجة كبيرة حتى احتاجوا إلى تسكينها وطمأنة الناس وتثبيتهم.

١٨٥
١٨٦

الفصل الثاني :

الخندق في خطة الحرب والدفاع

١٨٧
١٨٨

المفاجأة :

١ ـ إن معرفة الإنسان بعدوّه تجعله أقدر على التعاطي معه من موقع القوة والحزم ، من خلال ما تهيئ له تلك المعرفة من قدرة على رسم الخطة السليمة ، ثم التنفيذ الدقيق والواعي.

ولا تقتصر هذه المعرفة المؤثرة على معرفة عناصر الضعف والقوة في العدة وفي العدد ، وسائر النواحي العسكرية ، والامتيازات الحربية. بل تتعداها إلى الإشراف على خصائص شخصية العدو والمعرفة بطبائعه ، وأخلاقياته ، ومبادئه ومفاهيمه ، وعاداته وتقاليده ومستواه الفكري والعلمي ، وما إلى ذلك ، مما له دور وتأثير في اتخاذ القرار العسكري ، أو تسجيل الموقف على الصعيد السياسي ، أو التعامل في مجال السلوك ، وهكذا على الصعد كافة. ثم انعكاسات ذلك كله على التحرك باتجاه حشد الطاقات ، ورسم الخطط ، والإعداد والاستعداد للمواجهة والتصدي.

فإن التعامل مع العدو الذي يلتزم بالعهود والمواثيق ، يختلف عنه مع من عرف أن من طبيعته الغدر ، وعدم الوفاء. كما أن التعامل مع من يلتزم بعهده لدوافع دينية وعقيدية ومبدئية يختلف عن التعامل مع من يلتزم بذلك لدوافع أخرى .. وهكذا الحال في سائر النواحي ومختلف المواضع والمواقع.

١٨٩

٢ ـ ونبينا الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يعرف تماما حقيقة ما يفكر به المشركون ، واليهود والمنافقون ، وسائر القوى التي تحيط به. ثم هو يعرف طبيعة تركيبتهم السياسية والاجتماعية وواقعهم الثقافي والإقتصادي. ثم هو يعرف نهجهم ، وأساليبهم وطموحاتهم وطريقتهم في الحياة.

وقد أثبتت له التجربة الحسية في أكثر من موضع وموقع ما ينطوون عليه من غدر وخيانة ، ومن روح أنانية وتآمرية حاقدة وشريرة وغير ذلك من أوضاع وحالات.

وهذا الواقع العدائي ، والروح التآمرية ، وتلك الأعمال الخيانية التي كانت تهيمن على أعداء الله والإنسانية ، قد فرضت على النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمين أن يعيشوا حالة الحذر القصوى ، فكان أن بث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عيونه وأرصاده في طول البلاد وعرضها في الجزيرة العربية ، هذا بالإضافة إلى ما كان يلمسه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من التسديد بالوحي والألطاف الإلهية به «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وبالمسلمين في الفترات الحرجة والخطيرة.

وهذا ما يفسر لنا ما نشهده من معرفة النبي التامة بواقع ما يجري حوله ، فلم يكن ليفاجئه أمر داهم ، بل كان هو الذي يفاجئ أعداءه ويباغتهم. فهو إما يسبقهم بتوجيه الضربة الأولى لهم ، وإما بمواجهته لهم بالخطة التي تبطل كيدهم ، وتفشل مؤامراتهم ، ومكرهم السيّئ ، ولا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله.

وهذا بالذات هو ما حصل في حرب الخندق ، حيث فاجأ المشركين بحفر الخندق حول المدينة ، وتحصين سائرها ، الأمر الذي أحبط خطتهم ،

١٩٠

وتسبب لهم بالفشل الذريع ، والخيبة القاتلة والمريرة.

٣ ـ أما معرفة أعداء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» به فهي تختلف في مضمونها ، وفي آثارها ونتائجها عن معرفته بهم ، فإنهم وإن كانوا يعرفون نبوّته وصدقه وأمانته ، ولا يشكّون في حقانية ما جاء به. إلا أنهم يجهلون الكثير الكثير من آثار الإسلام ، والإيمان ، ولا يعرفون الكثير عما يحدثه الالتزام بتعاليمه وشرائعه من تغييرات عميقة في فكر وروح الإنسان وفي شخصيته ، وفي كل وجوده.

نعم .. إنهم يعرفون صدق هذا النبي ، وصحة نبوته ، وحقانية ما جاء به ، إلى درجة أن اليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، ويجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.

أما المشركون ، فقد عاش النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بينهم ، وعرفوه طفلا ويافعا ، وشابا ومكتهلا ، وهم الذين سموه بالصادق الأمين ، ورأوا منه الكثير من المعجزات والكرامات والخوارق ، وعاينوا وسمعوا منه من الحجج ما يقطع كل عذر ، ويزيل كل شبهة وريب ، حتى لم يعد أمامهم إلا البخوع والتسليم ، أو الاستكبار والجحود على علم ، فألزموا أنفسهم بالخيار الثاني ، كما حكاه الله تعالى عنهم : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ..) (١).

فكان من نتيجة ذلك : أن أصبح محض الحق يواجه محض الكفر والجحود وظهر بذلك صحة قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين برز علي «عليه

__________________

(١) الآية ١٤ من سورة النمل.

١٩١

السلام» لعمرو بن عبد ود الذي وضع المشركون فيه كل آمالهم : «برز الإيمان كله إلى الشرك كله».

ولا عجب بعد هذا إذا تعاون أهل الشرك والأوثان مع اليهود مدّعي التوحيد. بل لا عجب إذا رأينا هؤلاء اليهود ، الذين يدّعون أنهم يعبدون الله ، يشهدون لأهل الأوثان بأنهم أهدى من أهل التوحيد رغم أن ذلك يستبطن اعترافا من اليهود ببطلان دينهم وعقيدتهم!!

وبعد ما تقدم : فإننا نستطيع أن نتفهم بعمق السبب في أن هذه الحرب فيما بين المسلمين وأعدائهم لا بد أن تكون مريرة وقاسية وتتميز بالشمولية والاتساع ، والعمق. ثم برسوخ آثارها على كل صعيد ما دام أن أعداء الإسلام يرون ضرورة أن تستنفذ جميع الطاقات المتوفرة لديهم للهدم وللاستئصال ، والإبادة الشاملة ، فإن الهدف منها هو استئصال محمد ومن معه.

(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (١).

المشورة والتخطيط :

ويقول المؤرخون : إنه لما فصلت قريش من مكة إلى المدينة خرج ركب من خزاعة إلى النبي فساروا من مكة إلى المدينة أربعا فأخبروا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالأمر. وذلك حين ندب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الناس ، وأخبرهم الخبر وشاورهم في أمرهم ، وأمرهم بالجد والجهاد ، ووعدهم النصر ، إن هم صبروا واتقوا ، وأمرهم بطاعة الله وطاعة رسوله.

__________________

(١) الآية ٣٠ من سورة الأنفال.

١٩٢

وشاورهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ وكان يكثر من مشاورتهم في الحرب ـ فقال : أنبرز لهم من المدينة؟ أم نكون فيها ونخندقها علينا؟ أم نكون قريبا ونجعل ظهورنا إلى الجبل؟! فاختلفوا.

[زاد المقريزي قوله : وكان سلمان الفارسي يرى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يهم بالمقام بالمدينة (١) ويريد أن يتركهم حتى يردوا ثم يحاربهم على المدينة وفي طرقها فأشار بالخندق].

فقال سلمان : يا رسول الله! إنا إذ كنا بأرض فارس ، وتخوفنا الخيل خندقنا علينا ، فهل لك يا رسول الله أن نخندق؟!

فأعجب رأي سلمان المسلمين ، وأحبوا الثبات في المدينة.

فركب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فرسا له ، ومعه نفر من أصحابه من المهاجرين ، والأنصار ، فارتاد موضعا ينزله ، فكان أعجب المنازل إليه : أن يجعل سلعا ـ جبل معروف بسوق المدينة ـ خلف ظهره ويخندق على المذاد ، إلى ذباب ، إلى راتج.

فعمل يومئذ الخندق. وندب الناس ، وخبرهم بدنو عدوهم ، وعسكرهم إلى سفح سلع (٢).

واختصر ذلك المفيد وابن شهر آشوب ، فقالا : «فلما سمع النبي «صلى

__________________

(١) لا ندري من أين فهموا : أنه كان يرى ذلك ، ولو كان حقا يرى ذلك فلا ندري من أين فهموا أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يهم بالمقام في المدينة؟!.

(٢) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٤٤ والإمتاع ج ١ ص ٢١٩ و ٢٢١ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١١ وألمح إلى ذلك في : الثقات ج ١ ص ٢٦٥ و ٢٦٦ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٤ و ٥١٥.

١٩٣

الله عليه وآله» باجتماعهم استشار أصحابه ، فاجتمعوا على المقام بالمدينة وحربهم على أنقابها» (١).

ولنا مع هذا الذي يذكره المؤرخون وقفات ، وهي التالية :

من أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمسير الأحزاب؟!

قد تقدم : أن ركبا من خزاعة قدم إلى المدينة في مدة أربعة أيام فأخبروا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بمسير الأحزاب إليه.

ولكننا نجد نصا آخر عن علي «عليه‌السلام» يقول : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد علم بذلك من جهة جبرئيل «عليه‌السلام» «فخندق على نفسه ومن معه» (٢).

ولا نستبعد أن يكون كلا الأمرين قد حصل.

وقد ذكرنا فيما سبق : أن خزاعة كانت ترتبط مع الهاشميين بحلف عقده معها عبد المطلب «رحمه‌الله» ، وقد بقيت وفية لهذا الحلف وكانت عيبة نصح لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وقد أشرنا فيما سبق : إلى أنها قد دفعت ثمن هذا الوفاء غاليا فيما بعد وفاة رسول الله الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ؛ فجزى الله أنصار الله ، وأنصار رسوله خير جزاء وأوفاه. إنه ولي قدير ، وبالإجابة حري وجدير.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٩٧ والإرشاد ص ٥١ وكشف الغمة للأربلي ج ١ ص ٢٠٢ والبحار ج ٢٠ ص ٢٥١.

(٢) الخصال (باب السبعة) ج ٢ ص ٢٦٨ والبحار ج ٢٠ ص ٢٤٤ عنه.

١٩٤

من المشير بحفر الخندق؟!

إن السياق المذكور آنفا يدل : على أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي بادر إلى اقتراح حفر الخندق ، ثم لما اختلف المسلمون ، فتكلم سلمان الفارسي «رحمه‌الله» بطريقة بيّن لهم فيها وجه الحكمة في اعتماد إجراء كهذا ، فأعجبهم ذلك حينئذ ، فقبلوه واجتمعت كلمتهم عليه.

ولكن كلمات كثير من المؤرخين قد أظهرت : أن سلمان هو المشير بحفر الخندق (١) من دون أن تشير إلى أي تحفظ في ذلك.

وهذا هو ما استنتجه بعض المشركين حين فوجئوا بالخندق (٢).

__________________

(١) راجع : وفاء الوفاء ج ١ ص ٣٠٠ وج ٤ ص ١٢٠٦ والثقات ج ١ ص ٢٦٦ والتنبيه والإشراف ص ٢١٦ وسيرة مغلطاي ص ٥٦ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٧٨ والوفاء ص ٦٩٣ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨١ و ٤٧٩ والروض الأنف ج ٣ ص ٢٧٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٨ ص ٣٥ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣٤٣ ومناقب آل أبي طالب ج ٣ ص ١٣٤ وج ١ ص ١٩٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٣٤ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٠ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٠١ وعيون الأثر ج ٢ ص ٥٧ والبحار ج ٢٠ ص ٢٥١ و ٢١٨ و ١٩٧ وج ٤١ ص ٨. ومجمع البيان ج ٨ ص ٣٤٠ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٦٨ وتفسير القمي ج ٢ ص ١٧٧ وإعلام الورى (ط دار المعرفة) ص ٩٩ والخرايج والجرايح ج ١ ص ١٥٢ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٣ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٦٣ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١١ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٤ وحدائق الأنوار ج ٢ ص ٥١٥ والإرشاد للمفيد ص ٥١ وزاد المعاد ج ٢ ص ١١٧ ومختصر التاريخ ص ٤٣ وحبيب السير ج ١ ص ٣٥٩ وسعد السعود ص ١٣٨.

(٢) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٣٠ وتفسير القمي ج ٢ ص ١٨٢ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢٢٤ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٧٠ ونهاية الأرب ج ١٧ ـ

١٩٥

بل قال مسكويه : «فأشار سلمان على رسول الله «صلى الله عليه» لما رآه يهم بالمقام بالمدينة ، ويدبر أن يتركهم حتى يردوا ، ثم يحاربهم على المدينة وفي طرقها : أن يخندق. ففعل ذلك» (١).

لكن مؤرخين آخرين قد عبّروا عن شكهم في هذا الأمر ، فقال بعضهم : «استشار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سلمان ـ فيما يزعمون ـ بأمر الخندق» (٢).

وقال آخرون : «فحفر الخندق. قيل : أشار به سلمان» (٣). وفي مقابل ذلك نجد ابن إسحاق وكذا غيره ينسب حفر الخندق إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ولا يشير إلى مشورة سلمان ، لا من قريب ولا من بعيد (٤).

__________________

ـ ص ١٧٣ وراجع : الإرشاد للمفيد ص ٥٢ وكشف الغمة للأربلي ج ١ ص ٢٠٢ وإعلام الورى (ط دار المعرفة) ص ١٠٠ وراجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٥. وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٠ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٥ وراجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٤.

(١) تجارب الأمم ج ١ ص ١٤٩.

(٢) البدء والتاريخ ج ٤ ص ٢١٧ وراجع : إعلام الورى ص ٩٠.

(٣) راجع : تاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٠ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ قسم ٢ ص ٢٩ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٩٥ والمختصر في أخبار البشر ج ١ ص ١٣٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٨٢ و ١٨٣ وراجع قول ابن هشام في السيرة النبوية ج ٣ ص ٢٣٥ وراجع : جوامع السيرة النبوية ص ١٥٠.

(٤) راجع : السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٢٦ وجوامع السيرة النبوية ص ١٤٨ وعيون الأثر ج ٢ ص ٥٥ وتهذيب سيرة ابن هشام ص ١٨٩ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٣٩٩ عن ابن عقبة وص ٤٠٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٨٢ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٣٤ وشرح الأخبار ج ١ ص ٢٩٢.

١٩٦

بل إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد كتب في رسالته الجوابية لأبي سفيان : «وأما قولك من علّمنا الذي صنعنا من الخندق ، فإن الله ألهمني ذلك» (١).

وكل ذلك يجعلنا نميل إلى أن كلام الواقدي قد جاء أكثر دقة في هذا المجال. وهو يفسر لنا السر في كلام ابن إسحاق من جهة ، وكلام غيره المقابل له من جهة أخرى.

أما أولئك الذين ظهر منهم التردد في ذلك فلعلهم لم يقفوا على كلام الواقدي ، ولم يتمكنوا من الجمع بين كلام ابن إسحاق وهو الحجة الثبت في السيرة ، وبين كلام غيره.

وعي سلمان :

ولا نخفي هنا إعجابنا بهذا الوعي من سلمان المحمدي ، حيث بادر في الوقت المناسب إلى تقديم تبرير لأولئك الناس الذين اختلفوا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، يتوافق مع طريقة تفكيرهم ، حيث قرر لهم : أن الخندق المقترح من شأنه أن يحد من فاعلية الخيل في الحرب ، ويدفع غائلتها ، ويصبح الجهد الشخصي للأفراد هو الذي يقرر مصير الحرب ونتائجها.

فكان أن استجاب المسلمون لاقتراح حفر الخندق ، وأعلنوا موافقتهم عليه ، وتحملوا مسؤولية الخيار والاختيار ، وهذا بالذات هو ما أراده الرسول الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

__________________

(١) الإمتاع ج ١ ص ٢٤٠ وخاتم النبيين ج ٢ ص ٩٤٢.

١٩٧

لو كان الخندق بإشارة سلمان :

وقد رأينا : أن عددا من المؤرخين قد زعم أن الخندق حفر بإشارة سلمان ، وإن كنا نرجح : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي بادر إلى اقتراحه فاختلف المسلمون ، فكان دور سلمان أن بيّن لهم وجه الحكمة في ذلك ، حسبما تقدم بيانه عن الواقدي ..

ومهما يكن من أمر فقد ظهر : أن المشركين قد فوجئوا بالخندق وقالوا عنه : إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها (١) ، ولعل الأنظار قد اتجهت إلى سلمان الفارسي منذئذ.

وسواء أكان ذلك بمشورة سلمان أم لم يكن فإن ما نريد أن نؤكد عليه هو أن الإسلام لا يمنع من الاستفادة من تجارب الآخرين ومن خبراتهم في المجالات الحياتية البناءة ، فقد روي : أن «الحكمة ضالة المؤمن ، فاطلبوها ولو عند المشرك تكونوا أحق بها وأهلها» وفي معناه غيره (٢).

نعم .. إن المؤمن أحق بالحكمة من غيره ، ما دام أن ذلك الغير قد يستفيد منها لتقوية انحرافه ، وتأكيد موقعه المناوئ للحق وللأصالة والفطرة.

وقد رأينا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أطلق الصناع وأصحاب

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٣٠.

(٢) أمالي الشيخ الطوسي ج ٢ ص ٢٣٨ وتحف العقول ص ١٣٨ و ٢٩٢ وغرر الحكم ج ١ ص ٣٩٤ والبحار ج ٧٥ ص ٣٤ و ٣٨ و ٣٠٧ وج ٢ ص ١٧ و ٩٦ و ٩٧ ومواضع أخرى منه. وراجع : دستور معالم الحكم ص ١٩ والمجروحون ج ١ ص ١٠٥ والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٣٤٨.

١٩٨

الحرف في خيبر لينتفع بهم المسلمون (١).

وأمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المشركين في بدر ، الذين لا يجدون ما يفتدون به : أن يعلم الواحد منهم عشرة من أطفال المسلمين القراءة والكتابة ، ويطلق سراحهم في مقابل ذلك (٢).

ولكن هذه الاستفادة مشروطة : بأن لا تنشأ عنها سلبيات أخرى كما لو كان ذلك يعطي لأولئك المنحرفين فرصة لتضليل الناس وجرهم إلى مهالك الانحراف ، أو يعطيهم بعض النفوذ والهيمنة أو يجرئهم على التدخل في الشؤون الخاصة بالمسلمين ، وما إلى ذلك.

وهكذا ، فإنه يصبح واضحا : أن المرفوض إسلاميا هو التبعية للآخرين والانبهار الغبي بهم ، وتقليدهم على غير بصيرة. وأما الاستفادة الواعية من منجزاتهم الحيوية لبناء الحياة ، والتغلب على مصاعبها ، بصورة تنسجم مع أحكام الشرع ، ومن دون أن تنشأ عنه سلبيات خطيرة ، فذلك أمر مطلوب ، ولا غضاضة فيه.

وحتى لو كان الخندق بإشارة سلمان من الأساس ، وكان سلمان قد

__________________

(١) راجع : التراتيب الإدارية ج ٢ ص ٧٥ وستأتي إن شاء الله بقية المصادر في غزوة خيبر.

(٢) مسند أحمد بن حنبل ج ١ ص ٢٤٧ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٩٥ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٩٣ والروض الأنف ج ٣ ص ٨٤ والطبقات الكبرى ج ٢ ق ١ ص ١٤ والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٣٤٨ وج ١ ص ٤٨ و ٤٩ عن السهيلي ، وعن المطالع النصرية في الأصول الخطية ، لأبي الوفا نصر الهوريني ، وعن الإمتاع للمقريزي ص ١٠١.

١٩٩

استفاد ذلك من بيئته وقومه ، الذين ما كانوا على طريقة الإسلام ولا على دين الحنيفية ، فلا ضير ولا غضاضة في قبول مشورته. بل الغضاضة في ترك العمل بتلك المشورة إذا كانت موافقة للصواب ويتسبب الإعراض عنها بوقوع المسلمين في مأزق ، وهم في غنى عنه ولا مبرر للوقوع فيه. مع وجود مخرج ليس في العمل به حرج ولا تنشأ عنه أية سلبيات يرغب عنها.

طريقة استشارته صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه :

هذا ، ولا نرى أننا بحاجة إلى التذكير بمبررات مشاورة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أصحابه ، في أمر الحرب ، فقد تحدثنا عن ذلك ، وعن أسبابه وآثاره الإيجابية في أوائل غزوة أحد.

غير أننا نشير هنا : إلى أننا نلمح في طريقة مشاورة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأصحابه خصوصيتين رائعتين تجلتا لنا في النص الذي ذكره الواقدي.

إحداهما : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي بادر إلى اقتراح حفر الخندق ثم انتظر مبادرة سلمان الإقناعية ، متعمدا أن تسير الأمور بهذه الطريقة ، سياسة منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأصحابه ، وترويضا لعقولهم ، وإعدادا لهم ليبادروا إلى تحمل المسؤولية ، ولغير ذلك من أمور.

الثانية : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في نفس الوقت الذي يمارس فيه أسلوب المشاورة بهدف تحسيس أصحابه بالمسؤولية وإفهامهم ـ عملا ، لا قولا فقط ـ أنهم الجزء الحركي والفاعل والمؤثر حتى على مستوى التخطيط ، والقرارات المصيرية ، وأن القضية قضيتهم ، بما يعنيه ذلك كله من ارتفاع ملموس في مستوى وعيهم وتفكيرهم السياسي ، والعسكري ، وغير ذلك من أمور كانت

٢٠٠