الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-181-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٢

ثم قال : من له علم بسلاح هذا الغلام؟!

فقال عمارة : أنا يا رسول الله ، هو عندي.

فقال : ردّه عليه ونهى أن يروع المسلم ويؤخذ متاعه لاعبا» (١).

وكان المسلمون قد انكشفوا يريدون يطيفون بالخندق ويحرسونه ، وتركوا زيدا نائما ولا يشعرون به.

ونقول :

لا ندري مدى صحة ما ينسب إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أنه قاله في حق زيد بن ثابت ، دون سائر من كانوا ينقلون التراب من شباب وغيرهم ، من دون مبرر ظاهر ، أو سبب معقول ، أو فعل متميز من زيد على من سواه ، يستدعي أن يخلع عليه النبي الأوسمة ، ويخصه بالتقاريض والمدائح.

غير أننا نعلم : أن زيدا كان ممن تهتم السلطة بأمره ، وتعمل على رفعة شأنه ، وتخصيصه بكل غال ونفيس ما وجدت إلى ذلك سبيلا ، لأنه كان من أعوانها بل من أركانها كما أشرنا إليه في فصل تعليم زيد اللغة العبرانية ، فلا نعيد.

سلمان منا أهل البيت :

ويقولون : إن المسلمين جعلوا إذا رأوا في الرجل فتورا ضحكوا منه. وتنافس الناس يومئذ في سلمان الفارسي وكان قويا عارفا بحفر الخنادق ، فقال المهاجرون : سلمان منا ..

وقالت الأنصار : هو منا ونحن أحق به.

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢١٣ والإمتاع ج ١ ص ٢٢٢ والإصابة ترجمة زيد بن ثابت والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٤٨.

٢٤١

فبلغ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قولهم ، فقال : «سلمان رجل منا أهل البيت» (١).

«ولقد كان يومئذ يعمل عمل عشرة رجال ، حتى عانه (أي أصابه بالعين) يومئذ قيس بن أبي صعصعة فلبط به (أي صرع وسقط إلى الأرض) فسألوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : مروه فليتوضأ له ، وليغتسل به ، ويكفأ الإناء خلفه ففعل ، فكأنما حل من عقال» (٢).

وحسب نص آخر أوضح وأصرح : «روي أنه كان يعمل في الخندق عمل الرجلين.

وفي رواية : كان يحفر كل يوم خمسة أذرع من الخندق ، وعمقها أيضا خمسة أذرع ، فعانه قيس بن صعصعة ، فصرع وتعطل من العمل ، فأخبر بذلك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فأمر أن يتوضأ قيس لسلمان ، ويجمع

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ١ ص ٤٤٦ وراجع : الكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٧٩ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٣٥ وشرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٦٣ وسيرة المصطفى ص ٤٩٥ عن الطبري وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٢ السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٣ والإمتاع ج ١ ص ٢٢١ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٥ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٩٩ ومجمع البيان ج ٢ ص ٤٢٧ وج ٨ ص ٣٤١ والبحار ج ٢٠ ص ١٨٩ و ١٩٨ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٠٠ و ٤١٨ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٥٩٨ ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٠٥ وراجع ص ١٢٠٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٩٢.

(٢) المغازي للواقدي ج ١ ص ٤٤٧ والإمتاع ج ١ ص ٢٢١ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٥.

٢٤٢

وضوءه في ظرف ، ويغتسل سلمان بتلك الغسالة ويكفأ الإناء خلف ظهره ، ففعل ، فنشط في الحال كما ينشط البعير من العقال» (١).

وقصة التنافس في سلمان وقول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «سلمان منا أهل البيت» مذكورة في العديد من المصادر ، فلتراجع في مظانها (٢).

ونص آخر يقول : إنه حين حفر الخندق كان المسلمون ينشدون سوى سلمان ، فرأى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك ، فدعا الله تعالى : أن يطلق لسان سلمان ، ولو ببيتين من الشعر ، فأنشد سلمان ثلاثة أبيات هي :

ما لي لسان فأقول شعرا

أسأل ربي قوة ونصرا

على عدوي وعدو الطهرا

محمد المختار حاز الفخرا

حتى أنال في الجنان قصرا

مع كل حوراء تحاكي البدرا

فضج المسلمون ، وجعلت كل قبيلة ، تقول : «سلمان منا».

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٢ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٣ و ٣١٤ وراجع : الإمتاع ج ١ ص ٢٢١ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٤٧.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٤ قسم ١ ص ٥٩ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٩٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٩٢ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٣٥ وراجع : الكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٧٩ والبحار ج ٢ ص ١٨٩ عن مجمع البيان ج ٢ ص ٤٢٧ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٣ وأسد الغابة ج ٢ ص ٣٣١ وذكر أخبار إصبهان ج ١ ص ٥٤ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ٢٠٠ ونفس الرحمن ص ٣٤ و ٣٥ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٥٩٨.

٢٤٣

فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «سلمان منا أهل البيت» (١).

ونقول :

إننا نشك في صحة ذلك كله ، وذلك للأمور التالية :

أولا : إنه عدا عما في هذه الأبيات الأخيرة من الهنات ، لا نجد المبرر المذكور لدعاء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لسلمان كافيا في تبرير ذلك ، لأن الذين كانوا ينشدون الشعر ، ما كانوا ينشدون من نظمهم ، بل كان الناظم واحدا من الناس ، والباقون يرددون المنظوم بطريقة معينة ووقع خاص يتناسب مع الحالة التي يعيشونها ، وقد كان باستطاعة سلمان أن يردد ذلك النشيد مع المرددين ، من دون حاجة إلى أن ينظم شعرا ، كما صورته لنا الرواية.

وثانيا : إن ما ذكروه في سبب إطلاق هذه الكلمة النبوية الخالدة في حق سلمان : «سلمان منا أهل البيت» لا يعدو أن يكون أمرا عاديا بل وتافها.

لأن معناه : أن تكون قضية الاستفادة من قوة سلمان البدنية موضع تنافس الفرقاء ، وقد حسم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نزاعهم ، بتحويل سلمان إلى القسم الذي كان يعمل هو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأهل بيته فيه فكانت تلك الكلمة إيذانا بذلك.

وهذا معناه : أن تفقد هذه الكلمة قيمتها وأهميتها. وهكذا الحال بالنسبة لحكاية إطلاق لسان سلمان بالشعر ، ثم تنافس الفرقاء فيه فجعله

__________________

(١) راجع : المناقب لابن شهر آشوب ج ١ ص ٨٥ وقاموس الرجال ج ٤ ص ٤٢٤ والدرجات الرفيعة ص ٢١٨ ونفس الرحمن ص ٤٣.

٢٤٤

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» جزءا من فئة تحسن التكلم بالعربية ، وتحب أن تكرمه وتشجعه ، لأنه نطق بلغتها.

إذن .. فلم يكن هذا الوسام لسلمان قد استحقه لعلمه ، أو لدينه أو لمواقفه ، أو لغير ذلك من أمور تدخل في نطاق صفات وأعمال الخير والصلاح فيه.

وبعد هذا : فلا يبقى مبرر لما نلاحظه في كلمات الأئمة «عليهم‌السلام» من تركيز على هذا الوسام ، وتأكيد لواقعيته ومصداقيته فيه رضوان الله تعالى عليه.

كما لا معنى لاستدلال ابن عربي على عصمة سلمان بهذه الكلمة المأثورة عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حقه ، باعتبار أن أهل البيت معصومون مطهرون ، بنص آية التطهير (١).

الصحيح في القضية :

ولعل الصحيح في القضية ، الذي ينسجم مع وقائع التاريخ ومع ما عهدناه من سياسات انتهجها الحكام طيلة عشرات السنين هو النص التالي :

«إن سلمان الفارسي رضي‌الله‌عنه دخل مجلس رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذات يوم ، فعظموه ، وقدموه ، وصدروه ، إجلالا لحقه ، وإعظاما لشيبته ، واختصاصه بالمصطفى وآله.

فدخل عمر ، فنظر إليه فقال : من هذا العجمي المتصدر فيما بين العرب؟!

__________________

(١) راجع : سلمان الفارسي ، للعلامة السبيتي ص ٤٠ ونفس الرحمن ص ٣٢ كلاهما عن الفتوحات المكية

٢٤٥

فصعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المنبر ، فخطب ، فقال : إن الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط لا فضل للعربي على العجمي ، ولا للأحمر على الأسود إلا بالتقوى. سلمان بحر لا ينزف ، وكنز لا ينفد ، سلمان منا أهل البيت» (١).

وهكذا يتضح : أن سلمان المحمدي قد تعرض لمحاولة تحقير وامتهان ، من قبل رائد «التمييز العنصري» بعد وفاة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الذي شاع وذاع عنه أنه لم يحب تزويج سلمان. وكان يكره الفرس ويمقتهم وقد حرمهم من أبسط الحقوق (٢) فانتصر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لسلمان ، وأدان المنطق الجاهلي ، والتمييز العرقي والعنصري ، بصورة صريحة ، وقوية وقاطعة.

تقتلك الفئة الباغية :

روي في صحيح مسلم ، عن أبي قتادة : «أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لعمار حين جعل يحفر الخندق ، فجعل يمسح رأسه ويقول :

بؤس ابن سمية ، تقتلك الفئة الباغية» (٣).

__________________

(١) الإختصاص ص ٣٤١ ونفس الرحمن في فضائل سلمان ص ٢٩ والبحار ج ٢٢ ص ٣٤٨.

(٢) قد تكلمنا حول سياسات عمر تجاه غير العرب ومع سلمان في كتابنا : سلمان الفارسي في مواجهة التحدي فراجع.

(٣) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨١ عن صحيح مسلم وراجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٢.

٢٤٦

لكن القمي قد فصل ذلك حيث قال : «قوله : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ..) (١) ، نزلت في عثكن (عثمان) يوم الخندق. وذلك أنه مر بعمار بن ياسر ، وهو يحفر الخندق ، وقد ارتفع الغبار من الحفر ، فوضع كمه على أنفه ومر ، فقال عمار :

لا يستوى من يبتني المساجدا

يظل (فيصلي) فيها راكعا وساجدا

كمن يمر بالغبار حائدا

يعرض عنه جاحدا معاندا

فالتفت إليه عثكن ، فقال : يا ابن السوداء إياي تعني؟

ثم أتى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقال له (أي عثمان) : لم ندخل معك لتسبّ أعراضنا.

فقال له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : قد أقلتك إسلامك فاذهب. فأنزل الله : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ..) الخ ..» (٢).

وقد تقدم في جزء سابق حين الحديث عن بناء مسجد المدينة : أن ذلك قد حصل في تلك المناسبة في قضية حصلت بين عمار وعثمان.

ونقول :

إننا لا نريد أن ندخل في موضوع تحقيق الحق في كون ذلك قد حصل في البناء الأول للمسجد أو الثاني ، أو في حفر الخندق ، فإن تحقيق ذلك ليس له كبير أهمية ما دام أن أصل القصة ، وكلمة الرسول الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مما لا شك فيه ، ولا شبهة تعتريه ، وقد أجمع عليه المحدثون

__________________

(١) الآية ١٧ من سورة الحجرات.

(٢) تفسير القمي ج ٢ ص ٣٢٢ والبحار ج ٢٠ ص ٢٤٣.

٢٤٧

والمؤرخون ، بل والمسلمون قاطبة وأصبح من المسلمات. غير أننا نذكّر القارئ هنا بأمر هام ، وهو :

أن طريقة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والأئمة الأطهار «عليهم‌السلام» في التربية والتعليم لها مرتكز أساس ، وهو الإعتماد على بلورة المعايير والمنطلقات الأساسية في النهج الفكري والعقيدي للناس بصورة عامة ، ثم تفويض أمر اختيار ما يتناسب مع تلك المعايير ، ويتطابق مع هاتيك الضوابط إلى الناس أنفسهم ، فنجد الناس مثلا هم الذين يقومون بعملية التعرف على الإمام ، بما لديهم من ضوابط ومعايير يمارسون تطبيقها بأنفسهم ، وتوصلهم إلى الإمام الحق ، بصورة قويمة وسليمة ، من دون حاجة إلى التنصيص عليه بالاسم ، كما كان الحال حينما أوصى الإمام الصادق «عليه‌السلام» إلى خمسة أحدهم الإمام الكاظم «عليه‌السلام» ، حيث عرف الشيعة أن الإمام لا يمكن أن يكون ذلك الحاكم الظالم ، كما لا يمكن أن يكون هو زوجة الإمام ، ثم لا يمكن أن يكون هو الولد الأكبر مع إشراك الأصغر في الوصية (١).

والأمر في قصة عمار أيضا من هذا القبيل ، حيث قدم النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للناس آنئذ ضابطة يعرفون بها فريق البغاة ، ويميزونه عن غيره ، دون أن يصرح «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالاسم أو بالأسماء ، الأمر الذي قد يحمل معه سلبيات كثيرة ومتنوعة بشكل أو بآخر ..

ومن الواضح : أن لهذه التربية الفكرية ولصياغة الشخصية الإسلامية

__________________

(١) راجع : البحار ج ٤٧.

٢٤٨

بهذه الطريقة آثارا إيجابية كبيرة وهامة جدا. وذلك لما ينتج عنها من حصانة ومناعة لدى الإنسان المسلم في مقابل محاولات الخداع والتضليل التي ربما يتعرض لها من قبل أهل الدعوات الفاسدة والمشبوهة ، ويصبح في مأمن من الوقوع في شراكهم التي ينصبونها له ولأمثاله ..

كما إنها تجعله قادرا على نقل المفاهيم التي يؤمن بها إلى الآخرين بالطريقة المنطقية والمقبولة والمعقولة.

ثم هي تمكنه من أن ينأى بنفسه عن أن يكون من الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كل ناعق ، ويسيرون في ركاب كل قبيل ، دون وعي أو تأمل في الأمور وفي عواقبها ..

أضف إلى ذلك : أنها تخرج الإنسان المسلم عن دائرة التلقين الأعمى ، ليصبح قادرا على التفاعل مع الفكرة ، أو مع أية قضية تعرض عليه ، ولكن لا من موقع التأثر والانفعال العاطفي أو اللاشعوري ، بل من موقع التأمل والتروي والوعي والضبط والانضباط بكل ما لهذه الكلمات من معنى دقيق ، وعميق.

وهذا بحث هام ومتشعب ، يحتاج إلى توفر تام ، من أجل حشد الشواهد والدلائل الكثيرة والمتنوعة للاستفادة منها كطريقة عمل ومنهج حياة ، وسبيل صلاح وإصلاح ، إن شاء الله تعالى ..

٢٤٩
٢٥٠

الفصل الرابع :

كرامات في نطاق السياسة الإلهية

٢٥١
٢٥٢

مما سبق :

قد تحدثنا في الجزء السابق ، في غزوة ذات الرقاع : عن معرفة الأنبياء والأوصياء بلغات البشر ، بل منطق الطير وسائر الحيوانات.

وتحدثنا أيضا هناك : عن الكرامات التي نقلت عن نبينا الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعن الأئمة الأطهار وعن الأنبياء «عليهم‌السلام» السابقين وغيرهم ، مما أشار القرآن إلى بعض منه أيضا.

وقد ذكرنا ثمة توضيحا لا غنى عن المراجعة إليه ، من أجل جعل الأمور في نصابها في نطاق فهم هذه الكرامات والمعجزات التي سجل لنا القرآن والتاريخ والحديث منها العشرات والمئات في مختلف الشؤون والمجالات.

فنرجو من القارئ الكريم : أن لا ينسى مراجعة ما كتبناه هناك ، وبدون ذلك ، فإن فهم هذه القضايا ليس فقط سوف يكون ناقصا ، وإنما قد يكون غير واقعي ولا دقيق.

الكرامات والمعجزات في الخندق :

لقد كان المسلمون يواجهون يوم الخندق أعظم تحد واجهوه سواء من حيث العدد ، أو من حيث العدة ، بالإضافة إلى حالة الحصار التي يعانون منها.

٢٥٣

ثم يتعاظم إحساسهم بالخطر الذي يتهددهم : وهم يجدون أمارات الغدر والخيانة قد ظهرت ، لدى أولئك الذين كان لهم معهم عهود ومواثيق ، فلم تعد العهود قادرة على إعطاء أدنى شعور بالأمن والسكون إليها. كما أن كل ما عمله النبي والمسلمون من إحسان ، وما اتخذوه من مواقف إنسانية قد اتضح أنه لم يمنع من تلقوا ذلك الإحسان من أن يحالفوا العدو ، وينقلبوا على ما أحسن إليهم ليقابلوه بالإساءة ، فيكتشف المسلمون أنهم مجموعة من الذئاب ، والسباع الشرسة ، التي تفقد كل المعاني الإنسانية ، وكل الشيم التي يعتز بها الإنسان العربي ، ويفتخر بها.

ثم هناك وجود المنافقين فيما بين المسلمين ، الذين كانوا ينخرون في جسم الأمة ، ويعملون على تمزيقها ، وزرع الشكوك القاتلة ، وإيجاد الريب المهلك فيها.

فتأتي هذه الكرامات : لتكون صمام الأمان لهذه القلوب الخائفة ، والمفجوعة ، وليربط الله بها على قلوبهم ، ولتزيد في يقينهم وبصيرتهم ، وتشد من عزيمتهم.

قال الشيخ محمد أبي زهرة : «إن الآيات المادية قد تؤثر في أولئك الماديين الحسيين ، وخصوصا إذا كانت في موطن الفزع ، فإنها إذا جاءت من غير سبب يألفونه ويعرفونه ، فإنها قد تأخذ عقولهم إلى التفكير السليم ، وتخلعها من الوثنية ، إذ يدخل إليها نور الحق شيئا فشيئا ، والنور كلما دخل أشرق ، وإذا أشرق اتجهوا إلى الحق وطلبوه» (١).

__________________

(١) خاتم النبيين ج ٢ ص ٩٤٤.

٢٥٤

ويلاحظ هنا : أن بعض هذه الكرامات قد اقترن بإخبار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للمسلمين بأن البلاد سوف تفتح عليهم حتى الإمبراطوريات العظمى التي كانت تحكم العالم آنئذ ، وهما إمبرطوريتا الروم وفارس.

وإذا جاء الخبر من الصادق المصدق ، الذي يعتقد المسلمون أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، في حالة مواجهة الأخطار الكبرى والمصيرية ، فإنه يكون أكثر رسوخا في النفس ، وأعظم أثرا في إثارة الهمم وشحذ العزائم.

ونحن نشير هنا : إلى طائفة من هذه الكرامات ، بقدر ما يفسح لنا به المجال ، فنقول :

نبوءة صادقة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

يقول المقريزي وغيره : «وضرب بالكرزن ، فصادفت حجرا ، فصل الحجر (أي ترددت صوته في صليل الفأس) ، فضحك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فقيل : مم تضحك يا رسول الله؟!

قال : أضحك من قوم يؤتى بهم من المشرق في الكبول (الكبل القيد العظيم) ، يساقون إلى الجنة وهم كارهون» (١).

والظاهر : أن هذا إشارة لأهل فارس.

ومن الواضح : أن هذه البشارة منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للمسلمين إنما

__________________

(١) إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٢٣ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٤٩ وكنز العمال ج ١٠ ص ٢٨٥ عن ابن النجار.

٢٥٥

يراد منها أن تعطيهم انطباعا بصورة عفوية وتلقائية بأن هذه الدعوة مستمرة وباقية ، فلا يهولنهم جمع قريش والأحزاب لهم :

فما ذلك إلا : «سحابة صيف عن قليل تقشع».

كرامة أخرى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

عن جابر بن عبد الله قال : أصبح الناس كدية يوم الخندق ، فضربوا فيها بمعاولهم حتى انكسرت ، فدعوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فدعا بماء فصبه عليها ، فعادت كثيبا أهيل.

وفي نص آخر ـ ذكره البخاري وغيره ـ : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قام وبطنه معصوبة بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا الخ .. (١).

ويبدو أن هذه قضية أخرى غير قضية سلمان الآتية التي أخبر «صلى

__________________

(١) راجع المصادر التالية : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٥٢ وصحيح البخاري ج ٣ ص ٢١ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٢٨ والإكتفاء للكلاعي ج ٢ ص ١٦٠ وإعلام الورى ص ٩٠ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٣٤ و ٢٤٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٨٦ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٩٧ و ٩٨ عن ابن إسحاق ، وأحمد ، والبخاري والبيهقي ، وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٢٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٩ وحدائق الأنوار ج ٢ ص ٥٩١ ومجمع البيان ج ٨ ص ٣٤١ والبحار ج ٢٠ ص ١٩٨ ، ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٧٠ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤١٥ و ٤١٦ و ٤٢٣ ودلائل النبوة لأبي نعيم ص ٣٥٨ والمختصر في أخبار البشر ج ١ ص ١٣٤ وعيون الأثر ج ٢ ص ٥٧ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١١ وجوامع السيرة النبوية ص ١٤٨.

٢٥٦

الله عليه وآله» المسلمين فيها عن الفتوح التي يفتحها الله عليهم.

قصور الروم وفارس :

ومن الأمور التي يذكرها المؤرخون هنا : قضية الصخرة التي واجهت المسلمين وهم يحفرون الخندق وكانت سببا في أن يخبر النبي المسلمين بأخبار غيبية تحققت فيما بعد.

ونحن نذكر النص التاريخي للرواية أولا ، ثم نشير إلى بعض ما يرتبط به ، فنقول :

كان سلمان ، وحذيفة والنعمان بن قرن ، وعمرو بن عوف ، وستة من الأنصار يعملون في أربعين ذراعا فخرجت عليهم صخرة كسرت المعول ، فأعلموا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالأمر.

وفي نص آخر يقول فيه عمرو بن عوف : فحفرنا حتى إذا كنا بجب ذي باب [والظاهر : أن الصحيح : تحت ذباب] (١) أخرج الله من باطن الخندق صخرة مروة كسرت حديدنا ، وشقت علينا.

فطلبوا من سلمان أن يخبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأمرها ؛ فإما أن نعدل عنها ، فإن المعدل قريب ، وإما أن يأمرنا فيها بأمره ، فإنا لا نحب أن نتجاوز خطه.

فرقى سلمان إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو ضارب عليه قبة

__________________

(١) ذباب : جبل بجبانة المدينة. وهو الجبل الذي عليه مسجد الراية. واسمه ذوناب أيضا. راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٢.

٢٥٧

تركية فأخبره فهبط مع سلمان وبطنه معصوب بحجر ، ولبثوا ثلاثة أيام لا يذوقون ذواقا ، والتسعة على شفير الخندق.

وفي نص آخر عن سلمان ، قال : ضربت في ناحية من الخندق ، فغلظت عليّ ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قريب مني ، فلما رآني أضرب ، ورأى شدة المكان عليّ أخذ المعول ، وضربها به ضربة فصدعها ، وبرق منها برق أضاء منها بين لابتي المدينة ، فكبر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تكبيرة ، وكبر المسلمون.

ثم ضربها ثانية فكذلك ، ثم الثالثة فكذلك أيضا ، فصدعها.

فأخذ بيد سلمان ورقى ، فسأله سلمان عن الأمر الذي رآه ورآه المسلمون ، وعن تكبير النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأخبرهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أنه بالبرقة الأولى أضاءت له قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأخبره جبرئيل بأن أمته ظاهرة عليها.

وفي الثانية أضاءت له القصور الحمر من أرض الروم ، وأخبره جبرئيل بأن أمته ظاهرة عليها.

وفي الثالثة أضاءت له قصور صنعاء ، وأخبره جبرئيل : بأن أمته ظاهرة عليها فابشروا ، فاستبشر المسلمون وقالوا :

الحمد لله موعد صدق ، وعدنا النصر بعد الحصر.

فقال المنافقون ، ومنهم معتب بن قشير : ألا تعجبون من محمد؟! يمنيكم ويعدكم الباطل ، ويخبركم بأنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ، ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم ، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا ، فنزل القرآن : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ

٢٥٨

مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (١) الخ .. (٢).

__________________

(١) الآية ١٢ من سورة الأحزاب.

(٢) للرواية نصوص مختلفة. فراجعها على اختلافها في المصادر التالية : تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٢ و ٤٨٣ وراجع ص ٤٨٤ وعيون الأثر ج ٢ ص ٥٨ ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٠٧ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٥٠ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٣ و ٤ و ٥ والأمالي للشيخ الصدوق ص ٢٥٨ وحبيب السير ج ١ ص ٣٦٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٣ و ٣١٤ و ٣١٨ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢٥٣ و ٢١٩ ص ١٨٩ و ١٩٠ وج ١٨ ص ٣٢ ومجمع البيان ج ٢ ص ٤٢٧ و ٣٢٨ وج ٨ ص ٣٤١ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٣٩٩ و ٤٠٠ وراجع ص ٤١٧ و ٤١٩ ـ ٤٢١ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٧٩ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٣٥ و ٢٣٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٩ و ٥٢٠ ، عن أحمد ، والشيخين ، وابن سعد وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبي نعيم ، والطبراني والبيهقي ، وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦١ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٣٠ و ٢٢٨ وحدائق الأنوار ج ١ ص ٥٣ والخصال ج ١ ص ١٦٢ والإكتفاء للكلاعي ج ٢ ص ١٦٢ و ١٦٠ وإعلام الورى ص ٩٠ وكنز العمال ج ١٠ ص ٢٨١ والروض الأنف ج ٣ ص ٢٧٧ وصحيح البخاري ج ٣ ص ٢١ والخصائص الكبرى للسيوطي (ط الهند) ج ١ ص ٢٢٨ والوفاء ص ٦٩٣ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٢٤٦ و ٢٣٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٩٩ و ٩٧ و ٩٨ و ١٠٠ و ١٠١ و ١٠٢ والمختصر في أخبار البشر ج ١ ص ١٣٥ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٥٩٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٩١ ـ ١٩٥ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٥٢ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١١١ ـ ١١٢ ودلائل النبوة لأبي نعيم ص ٤٣٢ وعن سنن النسائي ج ٢ ص ٦٥ وعن ابن إسحاق وراجع : تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥١ وشرح بهجة المحافل ج ١ ص ٢٦٥ وتفسير القمي ج ٢ ص ١٧٨ والخرايج والجرايح ج ١ ص ١٥٢ وفيه أن المسلمين هم الذين رأوا تلك البلاد.

٢٥٩

وقيل : إن قائل ذلك هو عبد الله بن أبي بن سلول (١).

وفي نص آخر : أن المنافقين قد قالوا ذلك عند مجيء الأحزاب (٢).

وهذا هو ما نرجحه ، لأن سياق الآيات إنما يناسب حالة الشدة التي عانى منها المسلمون بعد مجيء الأحزاب ، وحدوث الحصار كما سنوضحه إن شاء الله تعالى.

ويظهر من نص للطبراني : أن هذه القضية قد حدثت بعد قصة دعوة جابر للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأهل الخندق للطعام (٣) كما سيأتي.

وصرح القمي : بأن هذه القضية قد كانت في اليوم الثاني من بدء حفر الخندق (٤).

وذكر نص آخر : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» «جعل يصف لسلمان أماكن فارس ، ويقول سلمان : صدقت يا رسول الله ، هذه صفتها ، أشهد أنك رسول الله.

ثم قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : هذه فتوح يفتحها الله بعدي يا سلمان» (٥).

وعن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق «عليه‌السلام» : لما حفر

__________________

(١) السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٥.

(٢) السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٩٢.

(٣) راجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٩٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٠١.

(٤) تفسير القمي ج ٢ ص ١٧٨ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢١٩ عنه.

(٥) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٤ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٥٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٢٠.

٢٦٠