الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-181-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٢

محط نظره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ،

نعم .. إنه في هذا الحين بالذات يطرح أمامهم خيارات من شأنها أن تخرجهم من حالة الضيق والحرج ، وتفتح أمامهم نوافذ جديدة على آفاق رحبة من التدبير العسكري ، الذي يحفظ لهم وجودهم ، ويبعد عنهم شبح الهزيمة المرة ، أو التعرض لحرب تحمل معها أخطار القتل الذريع ، دون أن يجدوا في مقابل ذلك أيا من تباشير النصر ، أو التفاؤل به.

الخندق في إيجابياته الظاهرة :

قد تحدثنا في غزوة أحد في الفصل الأول منها ، في فقرة : ما هو رأي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في أحد ، ما يفيد الاطلاع عليه في فهم إيجابيات البقاء في المدينة ، والتمنع فيها ، فيرجى مراجعة ما ذكرناه هناك.

أما هنا ، فنقول : إنه لم يطل الأمر بالمسلمين ، حيث إنهم سرعان ما أدركوا : أن حفر الخندق هو ذلك التدبير الذكي الرائع الذي فوّت على عدوهم ما كان يحلم به من منازلتهم ومكافحتهم إلى درجة إلحاق الهزيمة بهم ثم استئصالهم وإبادة خضرائهم ، وتقويض عزهم.

وقد أعطى الخندق المسلمين القدرة على ممارسة التسويف في الوقت ، وهو الأمر الذي لم يكن المشركون قادرين على تحمل التسويف فيه إلى أجل غير مسمى.

وقد رأى المسلمون بأم أعينهم :

١ ـ كيف أن عدوهم لم يستطع الصبر طويلا ، بسبب بعده عن مصادر الإمداد البشري والتمويني ، مع ملاحظة محدودية طاقاتهم التموينية ، لعدم

٢٠١

إمكان توفير مدخرات كافية لهذا العدد الهائل من الناس ، ولكل ما معهم من خيل وظهر كانوا بحاجة إليه في حربهم. فإن منطقة الحجاز لم تكن قادرة ـ بحكم طبيعة حياة الناس فيها ـ على توفير هذا النوع من القدرات والإمكانات بهذا المستوى الكبير والحجم الهائل ـ ولا أقل من أن المشركين لم يفكروا مسبقا بإيجاد خطوط تموين لحرب طويلة الأمد ، ولا خططوا أبدا لمثل هذه الحرب ، كما أنهم لم يعتادوا حروبا كهذه ولا ألفوها ، فمن الطبيعي ـ والحالة هذه ـ أن يملوا حربا كهذه ، وينصرفوا عنها.

٢ ـ إن هذا الخندق قد استطاع أن يحفظ لهم وجودهم وكرامتهم ، فلم يسجل عليهم عدوهم نصرا وقد كبت الله به عدوهم وردهم بغيظهم لم ينالوا شيئا مما كانوا يحلمون به ، دون أن يكلف ذلك المسلمين خسائر تذكر ، وحرم المشركين بذلك من إمكانية إشراك أعداد ضخمة في المواجهات مع المسلمين.

٣ ـ ثم وجد المسلمون أنفسهم بعد ذلك أمام فرص أكبر ، وحظ أوفر من ذي قبل ، واستمروا يواصلون جهدهم وجهادهم للحصول على المزيد من أسباب القوة ، والمنعة ، والعمل على إضعاف عدوهم وتقويض هذا التوافق فيما بين فئاته لصالح بقاء هذا الدين ، وترسيخ دعائمه وأركانه.

٤ ـ إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد جمع بين أن خندق على المدينة وبين جعل جبل سلع خلف ظهر المسلمين ـ كما سنرى ـ فيكون بذلك قد استفاد من الموانع الطبيعية ، ثم أحدث مانعا مصطنعا من الجهة الأخرى ، لتكتمل خطته بحرمان العدو من أية فرصة للنيل من صمود المسلمين ، أو إحداث أي إرباك ، أو تشويش ، أو خلخلة ، أو مناطق نفوذ وتسلل في صفوفهم.

٢٠٢

وأخيرا : نجد نصا عن سلمان الفارسي يصرح فيه بالمبررات لحفر الخندق ، فهو يقول : «يا رسول الله ، إن القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة.

قال : فما نصنع؟

قال : نحفر خندقا يكون بيننا وبينهم حجابا ، فيمكنك منعهم في المطاولة. ولا يمكنهم أن يأتونا من كل وجه. فإنّا كنا معاشر العجم في بلاد فارس إذا دهمنادهم من عدونا نحفر الخنادق ، فيكون الحرب من مواضع معروفة.

فنزل جبرئيل «عليه‌السلام» على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقال : أشار سلمان بصواب (١).

بين الأصالة والتجديد :

وآخر ما نقوله هنا : أن حفر الخندق قد أفهم المسلمين : أنه ليس من الضروري أن يبقى الإنسان أسير الأفكار والعادات والأساليب المتداولة في المحيط الذي يعيش فيه ، فإذا كان باستطاعته أن يبتكر أساليب ، ويحدث وسائل جديدة ، تمكنه من تحقيق أهدافه على النحو الأفضل والأمثل ، فعليه أن يبادر إلى ذلك ، ويكسر حاجز الإستغراب والإستهجان والرهبة ، ويتحرر من عقدة الحفاظ على القديم ، أو على العادة والتراث لمجرد أنه قديم وتراث ، ومن موقع الجمود ، والخواء والتقوقع.

أما إذا كان هذا القديم يمثل الأصالة ، والعمق والانتماء ، ويعيد للإنسان هويته الحقيقية ، ويحول بينه وبين التخلي عن خصائصه الإنسانية

__________________

(١) تفسير القمي ج ٢ ص ١٧٧ والبحار ج ٢٠ ص ٢١٨.

٢٠٣

الأصيلة ، فذلك القديم يكون هو الجديد النافع ، في مقابل كل ما هو غريب ، أو يجر الإنسان إلى غربة حقيقية ، تبعده عن واقعه وتجرده من خصائصه الإنسانية الأصيلة ، ليعيش في الظلام والضياع حيث الشقاء والبلاء ، وحيث الوحشة والوحدة والغربة ، بكل ما لهذه الكلمات من معنى ؛ فالتجديد الإيجابي البناء هو الأصالة ذاتها.

أما التجديد الذي يفقد الإنسان أصالته ، فهو الذي يمثل العودة إلى الوراء ، وهو حقيقة التغرب والإنحطاط ، والسقوط والتراجع. وهو بالتالي الكارثة الحقيقية والمدمرة له إن في الحاضر أو في المستقبل.

أضف إلى ما تقدم : أن التعارف فيما بين الشعوب المختلفة حين ينتهي إلى توظيف حصيلة تجاربها الحياتية لاستكمال سماتها الأصيلة للحياة بكل امتداداتها وعلى مختلف المساحات في الآفاق الرحبة ، فإن هذا التعارف يصبح ضرورة لا بد منها ولا غنى عنها لأية أمة تريد لنفسها الخير والسعادة والفلاح. وتريد كذلك أن تستثمر ذلك كله في خط التقوى والعمل الصالح. وفي صراط حصحصة الحق ليكون هو الملاذ ، والرجاء ، في كل شدة ورخاء.

وقد قال تعالى : (.. وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ..) (١).

أين كان الخندق وما هي مواصفاته؟!

قد تقدم : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد ركب فرسا وخط لهم الخندق

__________________

(١) الآية ١٣ من سورة الحجرات.

٢٠٤

وقد بينت النصوص التاريخية لنا مواضع الخندق وخصوصياته ومواصفاته بشيء من التفصيل ، ونحن نذكر طائفة من هذه النصوص فنقول :

١ ـ موضع الخندق :

قال الواقدي : «كان الخندق ما بين جبل بني عبيد بخربى ، إلى راتج. قال : وهذا أثبت الأحاديث عندنا» (١).

وفي نص آخر : «من المذاد ، إلى ذباب ، إلى راتج» (٢).

وعند القمي : «فأمر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بمسحه من ناحية أحد إلى راتج» (٣).

وفي نص أكثر تفصيلا : «حفر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الخندق طولا ، من أعلى وادي بطحان ، غربي الوادي ، مع الحرة ، إلى غربي مصلى العيد ، ثم إلى مسجد الفتح ، ثم إلى الجبلين الصغيرين ، اللذين في غربي الوادي. ومأخذه قول ابن النجار».

إلى أن قال : «والحاصل : أن الخندق كان شامي المدينة ، من طرف الحرة

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٥٠ ـ ٤٥٢ وراجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٢.

(٢) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٥ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٤٥ والثقات ج ١ ص ٢٦٦.

(٣) تفسير القمي ج ٢ ص ١٧٧ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢١٨ وقال الطبرسي في مجمع البيان ج ٨ ص ٣٤٢ وعنه في بحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢٠٣ «كان اسم الموضع الذي حفر فيه الخندق : المذاد».

٢٠٥

الشرقية ، إلى طرف الغربية» (١).

وروي بسند معتبر ، عن عمرو بن عوف قال : «خط رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الخندق عام الأحزاب من أجم الشيخين (السمر) طرف بني حارثة ، حتى بلغ المذاد (المداحج)» (٢).

والمذاد بطرف منازل بني سلمة ، مما يلي مسجد الفتح ، ومنازلهم في جهة الحرة الغربية (٣).

قال السمهودي : «سيأتي أن الشيخين أطمان شامي المدينة بالحرة الشرقية ، أما المداحج فلا ذكر لها في بقاع المدينة» (٤).

وأقول : لعل كلمة «المداحج» تصحيف لكلمة «المذاد» ، ولعل كلمة : «السمر» ، تصحيف لكلمة «الشيخين».

٢ ـ جعل الأبواب للخندق :

«وذكروا : أن الخندق له أبواب ، فلسنا ندري أين موضعها» (٥).

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٠٤ والفقرة الأخيرة ص ١٢٠٦ أيضا وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨١ والعبارة الأخيرة في السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٣.

(٢) راجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٣٥ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤١٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٥.

(٣) وفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٠٥.

(٤) المصدر السابق.

(٥) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٥٢ وراجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٢ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٠.

٢٠٦

وحسب نص آخر : «جعل له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أبوابا ، وجعل على الأبواب حرسا» (١).

ولكن كعب بن مالك قد أشار إلى وجود خندقين ، فهو يقول :

بباب خندقين كأن أسدا

شوابكهن يحمين العرينا (٢)

ويقول ضرار بن الخطاب :

كأنهم إذا صالوا وصلنا

بباب خندقين مصافحونا (٣)

وقال الفرزدق :

بدر له شاهد والشعب من أحد

والخندقان ويوم الفتح قد علموا (٤)

وذكر القمي : أن عدد الأبواب كان ثمانية (٥)

٣ ـ خصوصيات ومواصفات أخرى :

«والخندق فيه قناة ، يأتي من عين قباء إلى النخل الذي بالسنح ، حوالي مسجد الفتح.

وفي الخندق نخل أيضا. وانطمّ أكثره ، وتهدمت حيطانه» (٦).

__________________

(١) المصادر السابقة ، وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٥.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٥٤ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٦٧ ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٠٦.

(٣) السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٦٦.

(٤) مناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ١٧٤.

(٥) تفسير القمي ج ٢ ص ١٧٩ وعنه في بحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢٢٠.

(٦) وفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٠٤ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨١.

٢٠٧

وذكروا أيضا : أنه قد «بلغ طول الخندق نحوا من خمس آلاف ذراع وعرضه تسعة أذرع ، وعمقه سبعة أذرع» (١).

الموقع الجغرافي للخندق :

ونحن إذا راجعنا الواقع الجغرافي للمدينة ، فإنه يتضح : أن الخندق قد ضرب على المدينة في مواقع من الجهة الغربية والشمالية أما الجهة الشرقية والجنوبية فقد شبكت بالبنيان ، ولم يخندق المسلمون عليها.

ولعل ذلك يرجع إلى أن المواقع التي تستوعب ألوف الفرسان ، وتصلح أن تكون ساحة حرب ونزال هي المنطقة الواقعة بالقرب من ثنيات الوداع شمال غرب المدينة حتى تنتهي بجبل أحد. وهي منطقة واسعة ومسطحة ومكشوفة ، وليست فيها عراقيل مهمة ، وهي المنطقة التي حفر الخندق فيها.

أما سائر المناطق حول المدينة فلم تكن تصح لذلك ، ولا سيما بالنسبة لجيوش كبيرة تعد بالألوف ، من فرسان ورجالة ، بالإضافة إلى ما يتبع هذه الجيوش من دواب وخيول تحمل أزوادهم وأمتعتهم ، وتحمل الرجالة منهم أيضا في سفرهم الطويل.

ذلك لأن سائر المناطق حول المدينة كان فيها من الجبال والأودية ، ومن التضاريس والأشجار والحجارة ما يحد من قدرة تلك الجيوش الغازية على الحركة الفاعلة ، والمؤثرة ، ويفقدها الكثير من الامتيازات الحربية ، ويحرمها من الاحتفاظ بزمام المبادرة ، ويفوّت عليها نصرا تطمع إلى تحقيقه.

__________________

(١) الرسول العربي وفن الحرب لمصطفى طلاس ص ٢٤٠ و ٢٤١ والسيرة النبوية للندوي ص ٢٨١.

٢٠٨

ويوضح ذلك : أنه كانت توجد في الجهة الشرقية حرة واقم وفي الجهة الغربية حرة الوبرة ، وهي مناطق وعرة فيها صخور بركانية وتمثل حواجز طبيعية ، وكان في جهة الجنوب أشجار النخيل وغيرها بالإضافة إلى الأبنية المتشابكة ، وكل ذلك لا يتيح لجيش المشركين أن يقوم بنشاط فاعل وقوي ضد المسلمين.

وحيث إن بعض المواضع في جهتي الشرق والجنوب كان يمثل النقطة الأضعف من غيرها ، الأمر الذي يحمل معه احتمالات حدوث تسلل تكتيكي للعدو ، يهدف إلى إرباك الوضع العسكري والنفسي للمسلمين ، فقد كان لا بد من سد تلك الثغرة ، ورفع النقص ، وتفويت الفرصة على العدو ، حتى لا يضطر المسلمون لتوزيع قواهم وبعثرتها هنا وهناك بطريقة عشوائية ، أو من شأنها أن تضعف فيهم درجة الصمود والتصدي في ساحة الصراع الحاسم في ميدان الكر والفر الأول والأساس.

فكان أن بادر المسلمون إلى تشبيك المدينة بالبنيان وذلك في مواقع الضعف المشار إليها. وهذه الإجراءات كلها قد حالت دون استخدام قوات كبيرة في مهاجمة المدينة إلا من جهة الخندق ، وهي قد أصبحت مشلولة بسبب حفر الخندق تجاه العدو فيها.

غير أن هذا الذي ذكرناه : لا يعني أن يمر القادم من مكة على ثنية الوداع ، وهي الجهة الشمالية للمدينة. فإن طريق المسافرين ، الذين تضمهم في الغالب قوافل صغيرة محدودة العدد ، ليس كطريق الجيوش الضخمة التي تضم ألوفا كثيرة من الناس ومن وسائل النقل المختلفة ، حسبما ألمحنا إليه.

٢٠٩

وبذلك يتضح : أن من الممكن أن نتفهم أنه لا مانع من أن تأتي الجيوش إلى جهة ثنية الوداع من جهة الشام ، ولكن المسافرين يأتون من طريق آخر. ولا يمر القادم من مكة على ثنية الوداع ولا يراها ، كما جاء في النص التاريخي (١).

يقول مصطفى طلاس : «وبحفر الخندق استطاعت قيادة الجيش الإسلامي أن تعزل قوات العدو عن مكان التجمع الرئيسي للقوات المدافعة عن المدينة ، وأن تحول بينها وبين اقتحام مداخل المدينة ، لأن هذه المداخل أصبح من الممكن حراستها بعد حفر الخندق.

وقد أفادت قوات الثورة الإسلامية من مناعة جبل سلع ، الذي كان إلى يسارها وإلى الخلف ، كما أفادت من وعورة حرة الوبرة لحماية جناحها الأيسر ، ومن وعورة حرة واقم لحماية جناحها الأيمن ، ومن الحرة الجنوبية وجبل عسير لحماية المؤخرة» (٢).

تشبيك المدينة بالبنيان :

وكان سائر المدينة مشبكا بالبنيان ، شبكوها من كل ناحية ، وهي كالحصن (٣).

قال في خلاصة الوفاء : «كان أحد جانبي المدينة عورة ، وسائر جوانبها

__________________

(١) راجع : وفاء الوفاء ج ٤ ص ١١٧٢ و ١١٧٠ وزاد المعاد ج ٣ ص ١٠ والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ١٣٠.

(٢) مصطفى طلاس : الرسول العربي وفن الحرب ص ٢٣٤.

(٣) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٥ ومغازي الواقدي ج ٢ ص ٤٥٠ وراجع ص ٤٤٦ ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٠٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٢٤.

٢١٠

مشبكة بالبنيان والنخيل ، لا يتمكن العدو منها» (١).

ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «اختار ذلك الجانب المكشوف للخندق ، وجعل معسكره تحت جبل سلع» (٢).

وبذلك يكون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : قد سد الثغرات التي يمكن للعدو أن يتسلل منها ليحدث إرباكا خطيرا في معسكر المسلمين.

ثم جعل للخندق أبوابا ، وجعل على الأبواب حرسا ، بطريقة تمنع من التسلل ، ومن التواطؤ عليه كما سنرى.

ثم اختار الجانب المكشوف للخندق ، وجعل معسكره تحت جبل سلع ، مستفيدا منه كمانع طبيعي يصعب على العدو اجتيازه لمهاجمة المسلمين.

مدة حفر الخندق :

وقال المؤرخون : «وجعل المسلمون يعملون مستعجلين ، يبادرون قدوم العدو عليهم» (٣).

الأقوال في مدة حفر الخندق وهي التالية :

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨١ وراجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٥ ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٠٦.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨١ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٥.

(٣) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٤١١. والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٤٥ وراجع : الكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٧٨. وراجع البدء والتاريخ ج ٤ ص ٢١٧. وفتح الباري ج ٢ ص ٣٠٢.

٢١١

كان حفر الخندق : ستة أيام وحصنه (١).

وقيل : بضع عشر ليلة (٢).

وقيل : شهرا أو قريبا من شهر.

قال البعض : وهو أثبت (٣).

ووقع عند موسى بن عقبة : أنهم أقاموا في عمل الخندق قريبا من عشرين ليلة (٤).

وعند الواقدي : أربعا وعشرين (٥).

وجزم النووي في الروضة : أنهم حفروه في خمسة عشر يوما (٦).

وصرح القمي : بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد فرغ من حفر الخندق قبل

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٥٤ وسيرة مغلطاي ص ٥٦ والوفا ص ٦٩٣ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٢ وحبيب السير ج ١ ص ٣٦٠ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٤ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٢٤ ونهاية الأرب ج ١٧ ص ١٧٠ وعيون الأثر ج ٢ ص ٥٧ ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٠٤ و ١٢٠٨ و ١٢٠٩ و ١٢٠٥.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٤ وعيون الأثر ج ٢ ص ٥٧ ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٠٩.

(٣) المصدر السابق ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٠٩ عن الهدى لابن القيم وكذا في المواهب اللدنية ج ١ ص ١١١ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٠٢.

(٤) المواهب اللدنية ج ١ ص ١١٢ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨٢ وعنه والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٤ وراجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٤ ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٠٨ راجع فتح الباري ج ٧ ص ٣٢.

(٥) المصادر السابقة وعيون الأثر ج ٢ ص ٥٧ ووفاء الوفاء ج ١ ص ١٢٠٨ و ١٢٠٩.

(٦) راجع : المصادر السابقة في الهامش ما قبل السابق.

٢١٢

قدوم قريش والأحزاب بثلاثة أيام (١).

ونقول :

إن الأرقام التي تقول : إنهم أقاموا يعملون في الخندق عشرين يوما أو شهرا أو نحو ذلك ، يبدو أنها بعيدة عن الصواب ، لأن المفروض أن ركب خزاعة قد خرج إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد أن فصلت قريش من مكة إلى المدينة ، وبقي أربعا حتى وصل إليها ، وأبلغ الرسول بالأمر ..

ولنفترض : أن مسير قريش إلى المدينة قد استغرق أربع أضعاف الأربعة أيام المذكورة ، فتكون قد وصلت إلى المدينة خلال ستة عشر يوما فمع حذف الأربعة أيام الأولى لمسيرة ركب خزاعة فإنه يبقى اثنا عشر يوما تم حفر الخندق فيها ، فكيف يقال : إن العمل في الخندق قد استمر عشرين أو أربعا وعشرين أو ثلاثين يوما؟!

هذا .. ولكن يمكننا أن نخفي دهشتنا وإعجابنا بهذا الإنجاز الضخم والسريع جدا ، مع ملاحظة ضعف الوسائل والإمكانات المتوفرة للعاملين في حفر الخندق آنئذ ، بالإضافة إلى وجود المثبطين عن العمل ، كما سنرى.

فحيا الله هذه الهمم ، وبورك لهم جهادهم المبارك والرائد تحت قيادة وفي طاعة رسول الإسلام الأعظم والأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

زمام المبادرة بيد من؟!

وقد اتضح من خلال النصوص المتوفرة لدينا : أن العدو وإن كان قد فرض

__________________

(١) تفسير القمي ج ٢ ص ١٧٩ والبحار ج ٢٠ ص ٢٢١.

٢١٣

على النبي وعلى المسلمين معركة غير متكافئة من حيث العدد والعدة ، واختار هو التوقيت لحشد جيوشه وتحزيب أحزابه.

ولكنه بمجرد وصوله إلى المدينة : فقد زمام المبادرة ليصبح في يد النبي والمسلمين بصورة نهائية. فأصبح «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يتحكم بمسار الحرب ، وهو يفرض على عدوه الموقع الذي يريد ، في هذا المكان أو في ذاك ، ولا يملك عدوه أية وسيلة للتغيير في المواقع والمواضع فلا يمكنه أن يجر المسلمين إلى هذا الموقع أو إلى ذلك الموقع.

كما أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أصبح يتحكم بالزمام والتوقيت للحرب ، ولا يستطيع عدوه أن يهاجمه في وقت لا يرغب هو بدخول الحرب فيه.

ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أصبح قادرا على اختيار الوسيلة الحربية التي تلائمه ، وتنسجم مع ظروفه وقد أسقط العتاد والعدة الحربية للعدو من الخيول وغيرها من الفاعلية المؤثرة وأصبحت عبئا على العدو ، لا بد أن يهيئ العدو لها ظروف بقائها وصيانتها من التلف في مصابرته على الحصار الطويل ، الذي كان يستنزف طاقته وصبره ، حتى انتهى الأمر به إلى هزيمة مخزية ، كما سيتضح.

وهذه هي ثمرة التخطيط الواعي والمسؤول ، وثمرة الإدراك الواعي للواقع وللظروف المحيطة ، التي كان لا بد من التعامل معها والتغلب على سلبياتها ، والاستفادة من إيجابياتها على النحو الأكمل والأفضل والأمثل.

٢١٤

الفصل الثالث :

حفر الخندق : أحداث ودلالات

٢١٥
٢١٦

شدائد ومتاعب :

إن من الواضح : أن حفر خندق بهذا الحجم حول مدينة كبيرة ، ليس بالأمر السهل ، ولا سيما بالنسبة لأناس لم يقوموا بعمل ضخم طيلة حياتهم ، خصوصا مع بدائية الوسائل ومحدوديتها ، حتى اضطروا لاستعارة بعضها من يهود قريظة ، كما سنرى. هذا بالإضافة إلى انقطاع المسلمين عن العمل في سبيل لقمة العيش ، فانقطعت موارد أرزاقهم فكان من الطبيعي أن يعاني المسلمون من هذا الأمر من متاعب كبيرة ، وشدائد لا تطاق ، وذلك من ناحيتين :

إحداهما : في نفس هذا العمل الشاق والكبير ، وما يحتاج لإنجازه في فرصة محدودة وقصيرة جدا ، من جهد مضن لم يعتد هؤلاء الناس على أقل القليل منه ، ولا واجهوا نظيره ، ولو مرة واحدة طيلة حياتهم.

الثانية : في الضائقة المالية التي كانوا يعانون منها ، التي تتجلى فيما يصفه لنا المؤرخون من حالة الضعف والجهد ، والخصاصة والجوع في تلك الظروف بالذات ..

وقد يحاول البعض أن يقول : إن هذه الضائقة لم تنل جميع الناس آنئذ ، لأن الناس ـ كما يروى الواقدي والمقريزي ـ قد كان كثير منهم في وفرة

٢١٧

معقولة في تلك الفترة ، لأن مجيء الأحزاب كان بعد انتهاء موسم الحصاد ، وقد أدخل الناس غلاتهم وأتبانهم ، ولا يزال معظمها موجودا لدى أصحابها.

أضف إلى ذلك : أن بعض الروايات الآتية التي تحكي لنا قصة جابر تقول : إن الذين احتاجوا للإصابة من طعام جابر كانوا ثلاث مائة ، أي حوالي ثلث المشاركين في حفر الخندق ؛ فالباقون لم يكونوا بحاجة ماسة إلى طعام ، أو لعل أكثرهم كان كذلك.

ونقول :

إن هذه المحاولة غير كافية لإثبات ذلك ، إذ قد صرح المؤرخون : أن العام كان عام جدب ، ولم يكن ثمة غلات في مستوى يؤثر في تغيير ظاهرة الفقر والخصاصة والجوع ، التي كانت مهيمنة على عامة الناس آنئذ. ولو كان ثمة غلات بهذا الحجم لبادر أصحابها إلى تقديمها طوعا إلى هؤلاء الناس. بل كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يأمرهم ببذلها لإخوانهم ، ولا سيما في ظروف الحرب هذه.

ولكنا قد رأيناهم : يتسابقون إلى دفع أذى الجوع عن شخص النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويتسابقون إلى نيل بركاته والفوز برضاه.

إلا أن ذلك : لا يمنع من أن يكون لدى المنافقين قسط من تلك الأموال ، كانوا يضنون بها ويبخلون عن بذلها ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه.

حفر الخندق في روايات المؤرخين :

ونحن نذكر هنا : طائفة من النصوص التاريخية المرتبطة بحفر الخندق ،

٢١٨

متوخين فيها ـ قدر الإمكان ـ تبويبها وتقسيمها ، حسبما يتهيأ لنا ، ثم نعقب ذلك ببعض ما يرتبط بما أجمل منها أو أشكل ، ومن الله نستمد القوة والحول فنقول :

المساحي والمكاتل :

ويقولون : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استعار من بني قريظة آلة كثيرة ، من مساح وفؤوس ومكاتل ، يحفرون بها الخندق ، وهم يومئذ سلم للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ويكرهون قدوم قريش (١).

ونقول :

لا ندري مدى صحة هذا القول ، بعد أن كان رسول الله ـ حسبما تقدم ، حين الكلام حول إيمان أبي طالب ـ يدعو الله أن لا يجعل لكافر ولا لمشرك عنده يدا أو نعمة إلا أن يكون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قرر عليهم المعونة بهذا المقدار ، إن دهمهم عدو ، حسبما تقدم في معاهدته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مع يهود المدينة. فلا تبقى لهم بذلك منة على أحد ، بل لله المنة عليهم ، وإنما يعملون بما أخذ عليهم العمل به.

تقسيم العمل في الخندق :

قال الواقدي : «وكل بكل جانب من الخندق قوما يحفرونه فكان المهاجرون يحفرون من جانب راتج إلى ذباب ، وكانت الأنصار تحفر من

__________________

(١) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٤٥ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨١ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١١ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥١٥ والإمتاع ج ١ ص ٢٢٠ وراجع وفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٠٧.

٢١٩

ذباب إلى جبل بني عبيد».

وفي نص آخر : إلى خربي (١).

وفي نص آخر : وخندقت بنو عبد الأشهل عليها بما يلي راتج إلى خلفها ، حتى جاء الخندق من وراء المسجد ، وخندقت بنو دينار من عند خربي إلى موضع دار ابن أبي الجنوب اليوم (٢).

ومن جهة أخرى : فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قطع الخندق أربعين ذراعا بين كل عشرة (٣).

وقال القمي : «جعل على كل عشرين خطوة ، وثلاثين خطوة قوم من المهاجرين والأنصار يحفرونه» (٤).

وفي نص آخر يقول : «وجعل لكل قبيلة حدا يحفرون إليه» (٥).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٤٦ و ٤٥٠ وراجع : إمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٢٠ وحدائق الأنوار ج ٢ ص ٥٨٥ وراجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٣ ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٠٥.

(٢) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٥٠ و ٤٥١ ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٠٥.

(٣) راجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٣٥ والبحار ج ٢٠ ص ١٨٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٢١٥ ومجمع البيان ج ٢ ص ٤٢٧ و ٣٤١ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٦٣ وشرحه مطبوع بهامشه ، وقال : رواه الطبري والطبراني ، والحاكم ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٨١ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٧٩ والخرائج والجرائح ج ١ ص ١٥٢ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤١٨ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٠٥ ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٠٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٩٢.

(٤) تفسير القمي ج ٢ ص ١٧٧ وعنه في بحار الأنوار ج ٢٠ ص ٢١٨.

(٥) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٠.

٢٢٠