الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-181-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٢

القسم السابع

من الخندق إلى الحديبية

الباب الأول : التحضيرات لغزوة الخندق

الباب الثاني : معركة الخندق

الباب الثالث : غزوة بني قريظة

الباب الرابع : غزوة المريسيع

الباب الخامس : حديث الإفك

الباب السادس : زواج زينب وأحداث أخرى بعد المريسيع

الباب السابع : سرايا وغزوات بين المريسيع والحديبية

١٢١
١٢٢

آيات حول غزوة الخندق :

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (١).

قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً ، إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ، هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً ، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً).

(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً ، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا

__________________

(١) الآية ٢١٤ من سورة البقرة.

١٢٣

يَسِيراً ، وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً ، قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ، قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً ، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ، يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً ، لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً ، وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ، لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ، وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً ، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (١).

__________________

(١) الآيات ٩ ـ ٢٧ من سورة الأحزاب.

١٢٤

تقديم :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ، وبعد ..

فان حديثنا في هذا القسم سيكون ـ إن شاء الله ـ عن غزوة الأحزاب : «الخندق» وهي الغزوة التي سميت سورة قرآنية باسمها بسبب أهميتها البالغة ..

وحيث إن الحديث عن هذه الغزوة سوف يتخذ منحى تحقيقيا وتتبعيا ، بالإضافة إلى وقفات تحليلية سريعة ومقتضبة ، ومتناثرة هنا وهناك ، فسيكون من الصعب على القارئ لملمة أطراف الحديث وجمع شتات المطالب ، وربط بعضها ببعض ولو في حدود الخطوط العامة للحدث.

ولأجل ذلك رأينا أن نذكر نصا مختصرا لهذه الغزوة يكاد يقتصر على عناوينها العامة.

فنقول :

١٢٥

موجز عن غزوة الخندق :

إنه في السنة الرابعة ـ كما هو الأقوى ـ أو في الخامسة ـ سار عدد من اليهود إلى مكة واستنفروا أهلها لقتال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، واستئصال المسلمين. واتصلوا أيضا بقبيلة غطفان ، وقبائل عربية أخرى وحرضوهم على حرب محمد ، ووعدوهم بالأموال ؛ فساروا وهم ألوف كثيرة إلى المدينة لإنجاز هذا المهم.

فبلغ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خبرهم ، حفر خندقا حول المدينة من الجهة المكشوفة منها. وجعل للخندق أبوابا ، وجعل على الأبواب حرسا.

وقد شارك النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بنفسه في حفر الخندق ، وظهرت له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حينئذ كرامات ومعجزات ، سنذكرها في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

وقد عسكر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى جنب جبل سلع ، وجعل الخندق بينه وبين الأحزاب ، وجعل النساء والصبيان في بعض حصون المدينة ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم. وكان لواء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مع علي «عليه‌السلام».

ولما وافى الأحزاب فوجئوا بالخندق ، ونزلوا في الجهة الأخرى منه ، وحاصروا المسلمين.

وذهب حيي بن أخطب اليهودي إلى بني قريظة ، ولم يزل بهم حتى نقضوا العهد مع المسلمين.

فلما بلغ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك أرسل إليهم من يثبت له الأمر فرجعوا إليه وأخبروه بأن ما بلغه صحيح ؛ فاشتد الأمر على المسلمين

١٢٦

وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وعظم البلاء ، ونجم النفاق ، وكثر الخوض ، وبلغت القلوب الحناجر.

وقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً).

وكان أمير المؤمنين «عليه‌السلام» على العسكر كله بالليل يحرسهم ، فإن تحرك أحد من قريش نابذهم. وكان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يحرس بنفسه بعض مواضع الخندق.

ولم يكن بين المسلمين والمشركين قتال إلا الرمي بالنبل والحصا. وكان المشركون يتناوبون على الخندق ، فلا يمكنهم عبوره والمسلمون يمنعونهم بالنبل والحجارة.

وأصيب يومئذ سعد بن معاذ «رحمه‌الله» بسهم ، رماه به حبان بن العرقة.

وقيل : رماه به أبو أسامة الجشمي ، أو خفاجة بن عاصم.

فجعل سعد «رحمه‌الله» في خيمة رفيدة ، التي كانت تداوي فيها الجرحى. ويبدو أن جماعات من المسلمين قد تركوا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وفروا ، واختبأوا في حديقة هناك وفيهم عمر بن الخطاب وطلحة ، وقد كشفت عائشة أمرهم ، وذلك بعد إصابة سعد بن معاذ.

كما إن النصوص تؤكد على : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد بقي في ثلاث مئة من المسلمين.

بل في نص آخر : إنه لم يبق مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سوى اثني عشر رجلا فقط.

١٢٧

وقد تحدثت الآيات القرآنية عن هؤلاء الفارين ، فراجع سورة الأحزاب.

ومهما يكن من أمر : فقد انتدب فوارس من المشركين فأتوا مكانا ضيقا من الخندق ، وأكرهوا خيلهم على عبوره ، فعبره عكرمة بن أبي جهل ، وعمرو بن عبد ود ، وضرار بن الخطاب الفهري ، وهبيرة بن أبي وهب ، وحسل بن عمرو بن عبدود ، ونوفل بن عبد الله المخزومي.

فخرج أمير المؤمنين «عليه‌السلام» في نفر من المسلمين ، حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموها. وطلب عمرو بن عبد ود البراز فلم يبرز إليه أحد من المسلمين ، وخافوا منه خوفا شديدا ، لما يعرفون من شجاعته وفروسيته ، وكان يعد بألف فارس. وطلب عليّ «عليه‌السلام» من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يأذن له بمبارزته فلم يأذن له.

فكرر النداء ، وأنشد الشعر ، وعيّر المسلمين المحجمين عنه فطلب علي الإذن مرة أخرى فلم يأذن له الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فلما كان في المرة الثالثة ، ولم يبادر إلى ذلك سوى علي «عليه‌السلام» أذن له النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعممه ودعا له ، وقال : برز الإيمان كله إلى الشرك كله. فبارزه علي «عليه‌السلام» فقتله. وقتل ولده حسلا ، ونوفل بن عبد الله ، وفر الباقون.

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ضربة علي يوم الخندق تعدل (أو أفضل من) عبادة الثقلين إلى يوم القيامة».

وزعمت بعض الروايات : أن الذي قتل نوفلا هو الزبير ، وسيأتي الإشكال في ذلك.

وتزعم بعض الروايات : أن نعيم بن مسعود قد ساهم في إحداث

١٢٨

الفتنة بين بني قريظة وبين المشركين.

ولكن الظاهر : هو أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي ألقى فيما بينهم بذور الخلاف والشك كما سنوضحه.

ثم أرسل الله سبحانه الريح على المشركين فكانت تكفأ قدورهم ، وتطرح خيامهم ، وتعبث بكل ما يحيط بهم ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، فعادوا بالخزي والخيبة ، والرعب يلاحقهم ، وكفى الله المؤمنين القتال.

وقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حينئذ : الآن نغزوهم ولا يغزوننا ، فكان كما قال ..

وفي هذا القسم تجد التفصيل لكل ذلك ، مع بعض التحقيق والتكذيب والتصديق ، والتعديل والتحليل ، حسبما يقتضيه المقام فإلى ما يلي من مطالب وفصول :

١٢٩
١٣٠

الباب الأول

التحضيرات لغزوة الخندق

الفصل الأول : الأحزاب إلي المدينة

الفصل الثاني : الخندق في خطة الحرب والدفاع

الفصل الثالث : حفر الخندق : أحداث ودلالات

الفصل الرابع : كرامات في نطاق السياسة الإلهية

الفصل الخامس : جيش المسلمين وجيش المشركين في المواجهة

الفصل السادس : غدر بني قريظة

الفصل السابع : معنويات الجيشين والرعب والخوف أيام الحصار

١٣١
١٣٢

الفصل الأول :

الأحزاب إلى المدينة

١٣٣
١٣٤

تمهيد وبيان :

لقد كان لتوالي الحروب في المنطقة فيما بين المسلمين من جهة وبين أعدائهم من اليهود والمشركين ومن تبعهم من جهة أخرى ، وانشغال المسلمين الدائم بهذه الحروب تأثير قوي على حالة المسلمين الإقتصادية ، حيث اختلت الحياة التجارية والحرفية وظهرت عوارض خطيرة فيما يختص بالشأن الزراعي ، حيث كانت الزراعة بمثابة العمود الفقري للإقتصاد بالنسبة لأهل المدينة على الخصوص.

وقد بدأت بوادر الحاجة الملحة في النواحي المعيشية ، وشحة المواد الغذائية تظهر بصورة وبأخرى في هذا المجتمع الإسلامي الصغير الناشئ ، والمحاط بالأعداء ، والمستهدف بالشر والسوء من كل ناحية ومكان.

وبعد أن خاض المسلمون عدة حروب ، ومروا بأزمات كثيرة في أكثر من اتجاه ، وبعد كسر شوكة بني النضير ، وكشف خياناتهم وإفشال مؤامراتهم ، وبعد غزوة ذات الرقاع وغيرها .. جاء تأجيل المشركين للحرب في بدر الموعد بسبب رعبهم وخوفهم ثم استفادة المسلمين تجاريا من سوق بدر بهذه المناسبة أمرا يبعث على الإرتياح ، ويثير البهجة والأمل ، والشعور لديهم بإمكانية تحسن الأوضاع المعيشية ، حيث يتوفر الوقت الكافي لإعادة

١٣٥

تنظيم مواسمهم الزراعية ، والإنتعاش إقتصاديا في مجالات أخرى من حرفية ، وتجارية وغيرها في أجواء يهيمن عليها‌السلام والأمن ، والطمأنينة النسبية.

هذا بالإضافة إلى توفر الوقت لمواجهة المشكلات التي خلفتها الحروب السابقة ، فردية كانت أو اجتماعية ، ومحاولة وضع الحلول المناسبة لها ، أو التخفيف من وطأتها. وعسى ولعل يمكنهم أيضا ترتيب العلاقات بمن يحيطون بهم في المنطقة بصورة أكثر حميمية وصفاء ، وصياغتها بصورة أكثر قوة وثباتا عنها من ذي قبل.

ثم إنهم بعد وفوق كل ذلك يصبحون أقدر على ممارسة دور الإعلام المركز والهادئ للدعوة الإلهية التي يحملونها ، ويقومون بواجبهم في نشرها ، لتقوم على أسس متينة ورصينة من القناعات العقلية والوجدانية ، ولتثمر من ثم حياة في الفكر ، ويقظة في الضمير ومسؤولية وطهرا في الوجدان.

فجاءت حرب الأحزاب المفاجئة لتبدد كل هذه الآمال ، ولتزيد من قسوة الظروف ، ومرارة المعاناة ، ولتكون الكابوس المخيف والمخيف جدا. خصوصا بما تميزت به من حشد بشري هائل ، وإعداد واستعداد لم تعرفه المنطقة من قبل. مع هذا الإجماع المستقطب تقريبا على العداء لهم من مختلف القبائل والديانات والشعوب التي تعيش في المنطقة. يصاحبه اطمينان إلى التعاطف والتأييد من كل الآخرين من أي الديانات ، أو الفئات كانوا ، في جزيرة العرب ، أو في خارجها.

ثم إن حركة الأحزاب قد جاءت محرجة للمسلمين إلى درجة كبيرة وخطيرة من الناحية العسكرية والاستراتيجية الحربية ، لأنها اتخذت صفة

١٣٦

هجوم شامل عليهم ، من مختلف المواضع والمواقع ، (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ).

يقابل ذلك : ضعف ظاهر لدى المسلمين ، في العدة وفي العدد ، واختراق خطير من قبل الأعداء لصفوف أهل الإيمان ، من خلال قوى النفاق التي كانت تتغلغل داخل جسم هذا المجتمع الإسلامي الصغير والناشئ.

هذا كله ، بالإضافة إلى المشاكل المعيشية والحياتية على مستوى الفرد والجماعة. سواء تلك المشاكل الناشئة عن الحروب والمواجهات مع الأعداء ، أو المشاكل التي تنشأ عادة من صياغة حياة اجتماعية لفئات تعاني أصلا من تناقضات كثيرة فيما بينها ، بسبب اختلافها في مستوياتها وفي حالاتها الطبيعية والعارضة ، وبسبب وجود الكثير مما هو من مخلفات الجاهلية الرعناء.

ولا ننسى هنا الإشارة إلى ضعف تأثير العامل القبلي لدى الفريق الإسلامي ، لأن المسلمين كانوا لا يشكلون تيارا قبليا زاخرا وهادرا ذالون واحد ، لأنهم عبارة عن مجموعات صغيرة من قبائل شتى ، فيبقى الشعور والعصبية للقبيلة هو العامل الأضعف تأثيرا على صعيد رص الصف ، وتقوية البنية ، وتأكيد اللحمة الداخلية. وإنما الحالة الإيمانية والدينية وحدها هي التي توحدهم ، وتشد من أزرهم ، وتشحذ فيهم الهمم ، وتبعث فيهم روح الإباء والشمم. وقد كانت هذه الروح في بدايات تكوينها لدى الكثيرين منهم فلم تكن مؤهلة للصمود كثيرا وطويلا في المواضع الصعبة والخطيرة.

وأخيرا .. نشير إلى أن تحزيب الأحزاب قد انطلق من خلال قناعة تامة ،

١٣٧

ومن شعور أكيد بأن قوة المسلمين قد بلغت حدا لم يعد يمكن القضاء عليها إلا بحشد كامل وشامل لكل القدرات والقوى المادية والمعنوية على مستوى المنطقة بأسرها. وهذا ما حصل بالفعل ، كما سنرى. ويمكرون ويمكر الله ، والله خير الماكرين.

تحزيب الأحزاب في روايات المؤرخين :

لقد ذكر المؤرخون ـ والنص في أكثره للواقدي ـ : أنه لما أجلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يهود بني النضير ، ساروا إلى خيبر. وكان بها من اليهود قوم أهل عدد وجلد (وليس لهم من البيوت والأحساب ما لبني النضير) فخرج عدد من اليهود ، بعضهم من بني وائل والباقون من بني النضير ، وهم بضعة عشر رجلا ، أو حوالي عشرين ، خرجوا إلى مكة يدعون قريشا واتباعها إلى حرب محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله». وكان ذلك في السنة الرابعة ، أو الخامسة أو السادسة للهجرة.

وهؤلاء هم ـ كما ورد في النصوص المختلفة ـ : حيي بن أخطب ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وهوذة بن الحقيق ، وهوذة بن قيس الوائلي (أو الوالبي كما في الإرشاد) وهو أوسي من بني خطمة ، وابو عامر الراهب أو أبو عمار ، ـ الوائلي ـ أو أبو عمارة الوالبي ، كما عند المفيد في نفر من بني والبة.

وزاد البعض : سلام بن مسلم.

وأضاف آخر : «حوج بن عامر ، وأبا رافع ، والربيع بن أبي الحقيق» (١).

__________________

(١) راجع : جامع البيان ج ٥ ص ٨٦ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٥١٣ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٣ ص ٤٠٨ فقد ذكر أبا عمار وحوج بن عمرو.

١٣٨

وأضاف غيره : «سلام بن أبي الحقيق ، لكن عند ابن الأثير : عبد الله بن سلام بن أبي الحقيق».

قال المفيد : «فصاروا إلى أبي سفيان لعلمهم بعداوته لرسول الله ، وتسرعه لقتاله ، فذكروا له ما نالهم منه. وسألوه المعونة على قتاله ، فقال : إنا لكم حيث تحبون ، فاخرجوا إلى قريش ، فادعوهم إلى حربه ، واضمنوا النصرة لهم ، والثبوت معهم حتى تستأصلوه. فطافوا على وجوه قريش ، ودعوهم إلى حرب النبي».

ويستمر الواقدي وغيره فيقولون : فقالوا لقريش : نحن معكم حتى نستأصل محمدا.

أو قالوا : سنكون معكم عليه ، حتى نستأصله ومن معه.

قال أبو سفيان : هذا الذي أقدمكم ونزعكم؟

قالوا : نعم. جئنا لنحالفكم على عداوة محمد وقتاله.

قال أبو سفيان : مرحبا وأهلا ، أحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد.

زاد في نص آخر قوله : «ولكن لا نأمنكم إلا إن سجدتم لآلهتنا ، حتى نطمئن إليكم ؛ ففعلوا» (١).

قال النفر : فأخرج خمسين رجلا من بطون قريش كلها ، أنت فيهم ، وندخل نحن وأنت بين أستار الكعبة ، حتى نلصق أكبادنا بها ثم نحلف

__________________

(١) ويقال : إن ذلك أيضا قد كان في مرة سابقة ، وذلك حين جاء كعب بن الأشرف ومن معه ، يطلبون منهم المسير إلى حرب محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمين.

وربما يكون ذلك قد حصل مرة واحدة ، لكن الأمر قد اشتبه على الرواة. والله هو العالم بحقيقة الحال.

١٣٩

بالله جميعا : لا يخذل بعضنا بعضا ، ولتكونن كلمتنا واحدة على هذا الرجل ، ما بقي منا رجل.

ففعلوا ، فتحالفوا على ذلك ، وتعاقدوا.

ثم قالت قريش بعضها لبعض : قد جاءكم رؤساء أهل يثرب وأهل العلم والكتاب الأول ، فسلوهم عما نحن عليه ومحمد : أينا أهدى؟!

قالت قريش : نعم.

فقال أبو سفيان : يا معشر اليهود ، أنتم أهل الكتاب الأول والعلم ، أخبرونا عما أصبحنا فيه نحن ومحمد ، ديننا خير أم دين محمد؟! فنحن عمّار البيت ، وننحر الكوم (أي الناقة عالية السنام) ، ونسقي الحجيج ، ونعبد الأصنام.

قالوا : اللهم أنتم أولى بالحق ، إنكم لتعظمون هذا البيت وتقومون على السقاية ، وتنحرون البدن (١) ، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم ، فأنتم أولى بالحق منه. فأنزل الله في ذلك : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) (٢). فاتّعدوا لوقت وقتوه.

وفي نص آخر : «فلما قالوا ذلك لقريش نشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأجمعوا لذلك واتّعدوا له».

فقال صفوان بن أمية : يا معشر قريش ، إنكم قد وعدتم هؤلاء القوم لهذا الوقت وفارقوكم عليه ، ففوا لهم به! لا يكون هذا كما كان وعدنا محمدا

__________________

(١) الآية ٥١ من سورة النساء.

(٢) البدن : النياق والأبقار التي كانت تسمّن لتنحر لدى البيت الحرام.

١٤٠