الأزهر في ألف عام - ج ٢

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٢

بعض الزعماء من الأزهر

١ ـ الزعيم أحمد عرابي تلقى تعليمه الأزهري ثم التحق بالجيش وقاد نورة كبرى ما زال صداها يرن في أذن التاريخ وكانت مقدمة للثورات الكبرى في المنطقة.

٢ ـ الزعيم الوطني سعد زغلول الذي درس في الأزهر وتأثر بفكر الامامين الجليلين (جمال الدين لأفغاني والشيخ محمد عبده) وكان قائد ثورة ١٩١٩ وخطيبها المفوه ووصل إلى رئاسة الوزراء وأسس (حزب الوفد).

٣ ـ السيد / محمد صديق خان بن حسن البخاري القنوجي أمير بهوبال درس بالأزهر وكان منتسبا لرواق البخارية ثم عاد إلى امارته فأصلح شئونها وأقام فيها المعاهد العلمية والمجالس الثقافية وتزويج ملكة بهوبال وحكم المملكة واشتغل بالتأليف والدراسة وترك أكثر من سبعين كتابا وتوفى عام ١٣٠٧ ه‍.

٤ ـ الأمير محمد بن علي الادريسي مؤسس دولة الادارسة في (صبيا وعسير) باليمن تعلم بالأزهر ثم عاد إلى اليمن واستولى على اقليم صبيا واستولى على الحديدة وتوفي عام ١٣١١ ه‍.

٤٠١

٥ ـ الشيخ محمد بن عبد الله بن حسن الشهير بالملا الصومالي .. ولما عاد للصومال عمل على توحيد القبائل الصومالية وفي سنة ١٨٩٧ نزلت البعثات التبشيرية إلى الصومال فقاد الكفاح ضد الاستعمارين الانجليزي والايطالي ونال انتصارات عظيمة وظل يناضل حتى مات ١٩٢١ م ولم يشغله الكفاح عن التأليف وأصدر عدة رسائل كان أشهرها (مباحث المنافقين) وسجل فيها كيف (تعاون الانجليز والفرنسيون والايطاليون والقبائل المرتدة) ضده.

٦ ـ المجاهد الكبير السيد عبد القيوم الرئيس الحالي لجمهورية جزر ملديف الواقعة جنوب غربي جزيرة سيلان (سيري لانكا) بالمحيط الهندي.

٧ ـ الزعيم الجزائري هواري بومدين الذي درس في الأزهر وقاد الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي حتى تحررت بلاده وتولى رئاسة الجمهورية.

٤٠٢

الأزهر الجامعة الإسلامية الكبرى

ـ ١ ـ

نستطيع أن نقول : إن أقدم الجامعات الإسلامية هي الحلقات العلمية التي كانت تنعقد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد صاحب الرسالة العظمى بعد هجرته إلى المدينة المنورة صلى الله عليه وسلم ، وفي مختلف العصور الإسلامية حتى العصر الحديث.

وقد قامت الحلقات العلمية في المسجد الحرام بعد فتح مكة في العام الثامن للهجرة النبوية ، وتصدرها كبار الصحابة ثم التابعون من بعدهم ، ثم تابعوا التابعين ، واستمرت هذه الحلقات تؤدي رسالتها في خدمة الثقافة الإسلامية ، والفكر الإسلامي ، وشباب المسلمين ، في مختلف العصور حتى العصر الحديث ، وكانت هذه الحلقات العلمية تشكل ثاني جامعة إسلامية كبرى.

ثم بعد أن بنيت الفسطاط وبنى فيها جامع الفتح ، الذي سمى تاج الجوامع ، أو جامع عمرو بن العاص ، لم يلبث أن قامت فيه حلقات علمية كبيرة ، كان منها مثلا حلقة عبد الله بن عمرو بن العاص ، ثم حلقة الليث بن سعد ، وحلقة الإمام الشافعي ، وغيرهم ، فكانت هذه الحلقات العلمية تشكل ثالث جامعة إسلامية كبيرة في بلاد الإسلام.

٤٠٣

وقبل انشاء الأزهر كان جامع عمرو هو المكان المختار لالقاء الدروس العلمية ، فقد كان مركزا اتخذه الصحابة والتابعون لنشر الدين والعلم ولاقامة الحلقات العلمية فيه ، وأخذت الحركة العلمية في هذا المسجد تنمو وتتسع حتى أمه الكثير من العلماء والاعلام الذين تركوا ثروة جليلة من الكتب والتأليف ، كما كان لتلك الحلقات فضل اخراج عدد كبير من الفقهاء والمحدثين حتى أوائل القرن الرابع الهجري ، وأشهر هؤلاء عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن وهب وسعيد بن الصلت ويحيى بن أزهر سعيد بن عبد الرحمن.

وكانت الدراسة في أول أمرها دراسة دينية فقهية قامت في الزوايا التي أنشئت على مر السنين بالجامع العتيق. وأشهر تلك الزوايا ، زاوية الامام الشافعي التي كان الناس يهرعون إليها لسماع شروح الامام ومحاضراته والتي تخرج فيها عدد من أعظم الفقهاء والعلماء في ذلك العهد. ثم بنى محمد الدين أبو المحاسن الأزدي البهنسي الشافعي وزير الملك الأشرف موسى بن العادل أيوب ، زاوية سميت الزاوية المحمدية ، ورتب في تدريسها قاضي القضاة وجيه الدين عبد الوهاب البهنسي وأوقف عليها عدة أوقاف بمصر والقاهرة ، ثم الزاوية الصاحبية التي أنشأها صاحب التاج محمد بن فخر الدين ، وجعل لها مدرسين احدهما مالكي والآخر شافعي وجعل عليها وقفا بظاهر ، ثم حذا حذوه كثير من الأمراء وذوي اليسار المهتمين بالعلم ، فما وافى عام ٧٤٩ ه‍ حتى زادت حلقات جامع عمرو على الأربعين حلقة.

وكانت هذه الحلقات العامة والخاصة منها تؤدي رسالتها ، فالعامة منها ما كان يقام يوميا بجامع عمرو ، والخاصة في يوم الجمعة الذي كانت حلقته تفوق حلقات بقية الأيام أهمية ، اذ كان يوم الجمعة هذا يعد موسما علميا هاما ، يهرع الناس فيه لسماع أكبر عدد من الفقهاء والشعراء والأدباء وهم يتناقشون ويتباحثون في الفقه واللغة ويتطارحون الشعر ويروون الأخبار.

٤٠٤

أما الحلقات الخاصة فهي التي كانت تعقد في منازل أكابر العلماء والفقهاء حيث كانوا يجتمعون بتلاميذهم وأصدقائهم يقرأون عليهم بعض شروح الفقه الاسلامي وبعض كتب العبادات ويروون بعض الأشعار. وقد تألفت بعض تلك الحلقات ، اشتهر منها حلقة بيت عبد الله بن الحكم الفقيه المالكي وولديه عبد الرحمن ومحمد وكانوا من أنبغ الفقهاء المحدثين حتى أوائل القرن الثالث. وكانت حلقاتهم موضع التقاء أكابر العلماء والأدباء المعاصرين الذين كانوا يفدون على مصر من مختلف الأقطار ، فما أن وفد الامام الشافعي إلى مصر ، حتى وجد من تلك الأسرة كل عناية ورعاية وإكرام. فلما أقام حلقته في جامع عمرو ، كانوا هم أول من شجعه وحضر درسه.

وظل التدريس في جامع عمرو على هذا المنوال عامر الحلقات ، وموضعا لنشر العلم والتعليم مدة طويلة ، واقتفى أثره كثير من الجوامع الشهيرة كجامع أحمد بن طولون ، فلم يأت القرن الرابع حتى كان العلم في جامع عمرو قد وصل إلى مرحلة مثلى بفضل من كان يؤمه من أقطاب الفقه واللغة ، وأشهرهم أبو القاسم بن قديد وتلميذه الكندي الذي ترك كتابا عظيما في تاريخ ولاة مصر ومن تولى قضاءها ـ وأبو القاسم بن طباطبا الحسنى الشاعر.

فلما أن كان عصر الأمير محمد بن طغج الأخشيدي ، أصبحت مجالس الدراسة والحلقات الأدبية الخاصة من تقاليد الحياة الرفيعة ، وقد لقيت العلوم والآداب ، بفضل هذا الأمير وولده أنوجور ووزيره كافور ، وكثير من أمراء الدولة كل حماية ورعاية. وكانت حلقة الشاعر أبي الطيب المتنبي الذي وفد على مصر عام ٣٤٦ ه‍ (٩٥٧ م) على أثر مفارقته لبلاط سيف الدولة في حلب ، من أهم حلقات الشعر والأدب واللغة في ذلك العهد.

ثم قامت حلقات للمسجد الأموي بدمشق ، وفي مساجد البصرة

٤٠٥

والكوفة وبغداد وفي مسجد القيروان ، وفي مسجد القرويين (١) ، وفي غيرها من المساجد الكبرى ، ولكن هذه الحلقات لم يكتب لها الدوام والاستمرار ما عدا حلقات مسجد القرويين بفاس بالمغرب.

وكان انشاء الأزهر عام ٣٦١ ه‍ وقيام الحلقات العلمية فيه منذ انشائه حتى اليوم وطيلة ألف عام معجزة الثقافة الاسلامية التليدة الخالدة ، لأن الأزهر اليوم هو أم الجامعات الاسلامية ، وهو الذي يمدها بالتوجيه وبالأساتذة ، وبالخطط العلمية المدروسة.

وقامت بعد ذلك الجامعة النظامية التي أسسها الوزير نظام الملك وزير السلطان السلجوقي الب أرسلان وصديق الشاعر الصوفي الكبير عمر الخيام ، وذلك عام ٤٥٧ ه‍ ، ثم الجامعة المستنصرية في بغداد ، كما قامت جامعات إسلامية أخرى في نيسابور ودمشق وبيت المقدس والاسكندرية والقاهرة وغيرها من عواصم العالم الاسلامي ، ولكنها اندثرت ولم يبق منها شيء.

والأزهر على أية حال هو الصورة المشرقة لكل الجامعات الاسلامية ، وهو الذي يلخص تاريخ الحضارة الاسلامية كلها طيلة ألف عام ، فقد ازدهر بازدهارها وضعف بضعفها ، ولأنه لم يكن جامعة اسلامية لمصر وحدها ، بل كان جامعة اسلامية للعالم الاسلامي كافة ، يؤمه طلاب العلم من كل مكان في بلاد الاسلام ، وهو مفخرة المفاخر حظا ، لأنه روح الحضارة الاسلامية ودرعها الواقي. وبحسبنا انه كان موئل العربية وملاذها الأمين.

ـ ٢ ـ

والفاطميون هم الذين أنشأوا الأزهر في مصر ، اثر فتحهم لها مباشرة ،

__________________

(١) نوقشت في كلية اللغة العربية في ١٣ / ٣ / ١٩٧٤ رسالة دكتوراة عن (جامعة القرويين ودورها في حفظ ثقافة الاسلام قدمها أحمد البهي الحفناوي) باشراف د. عبد الحميد بخيت وعضوية الدكتورين محمد الطيب النجار والسيد عبد العزيز سالم.

٤٠٦

حيث أمر قائد الفتح جوهر الصقلي عام ٣٥٩ ه‍ بالبدء فورا في انشائه ، لا ليكون مكانا للعبادة والصلاة فحسب ، ولكن ليكون منبرا دينيا للدولة الفاطمية لنشر مذهبها وعقائدها مع ذلك أيضا.

وقد شرع في بناء الأزهر في الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة ٣٥٩ ه‍ ـ ٩٧٠ م وأقيمت الصلاة فيه أول مرة في اليوم السابع أو التاسع من رمضان عام ٣٦١ ه‍ ـ ٩٧٢ م ، واختير لبنائه مكان في الجنوب الشرقي من القاهرة بالقرب من القصر الكبير بين حي الديلم وحي الترك.

وسمي الأزهر لأنه كان محاطا بقصور زاهرة ، ولأنه كان أكبر الجوامع على الاطلاق فخامة ورواء ، وقد ذهب بعض المؤرخين الى القول بأنه سمي باسم فاطمة الزهراء التي ينتسب اليها الفاطميون ، ويقال إنه كذلك تفاؤلا بما سيكون له من الشأن والمكانة بازدهار العلوم فيه.

وما كاد جوهر يضع أساس القاهرة اذن ، حتى كان بعد تسعة شهور بناء المسجد يتلقى الناس فيه عقائد المذهب الفاطمي.

والأزهر أول مسجد أنشىء بالقاهرة المعزية ، وعند ما أنشأه جوهر الصقلي ترك امامه رحبة واسعة فكان الخلفاء حين يصلون بالناس بالجامع الأزهر ، تدخل العساكر كلها وتقف في هذه الرحبة حتى يدخل الخليفة الى الجامع. وبقيت هذه الرحبة الى وقت الدولة الأيوبية ، ثم شرع الناس بالعمارة فيها حتى لم يبق لها أثر. وكان الأزهر كسائر الجوامع الاسلامية في العصر الذي بنى فيه يشتمل على محل مسقوف للصلاة يسمى مقصورة وآخر غير مسقوف يسمى صحنا.

ويقول المقريزي إن أول ما درس في الأزهر من العلوم ، هو الفقه الفاطمي على مذهب الشيعة ، ففي صفر عام ٣٦٥ ه‍ جلس قاضي مصر أبو الحسن علي بن النعمان بن محمد بن حتون بالجامع الأزهر وأملي مختصر أبيه في الفقه عن أهل البيت (فقه الشيعة) ، ويعرف هذا المختصر

٤٠٧

(بالاقتصار) وقد حضر هذا الدرس عدد عظيم من الناس. وأثبت أسماء الحاضرين ..

وذكر لنا المقريزي وصفا حيا لصلاة الجمعة ، كما كان يقيمها الخلفاء الفاطميون في الجامع الأزهر في شهر رمضان : فكان صاحب بيت المال يذهب مبكرا إلى الأزهر ليشرف بنفسه على تنظيفه وتنظيمه واعداده لصلاة الجمعة للخليفة ، فيفرش الحرم بالسجادات اللطيفة والحصر ، ثم تغلق أبواب المسجد ويجعل عليها الحجاب والبوابون. وكانت توضع في المقصورة ثلاث طنافس دمقسية او سامانية بيضاء بعضها فوق بعض ، وتوضع فوق الجميع الحصيرة التي يقال انها كانت لجعفر الصادق وأحضرت الى مصر سنة ٤٠٠ ه‍ (١٠٠٩ م) في عهد الحاكم بأمر الله ، وكان ينصب على جانبي المنبر ستران احمران رقيقان كتب على الأيمن البسملة والفاتحة وسورة الجمعة وعلى الآخر البسملة والفاتحة وسورة المنافقين ، ويقوم قاضي القضاة قبل قدوم الخليفة بتبخير القبة التي يقف تحتها الخليفة وقت إلقاء الخطبة ، وكان يضعها أحد كتاب البلاد. وكان الخليفة في هذا اليوم يرتدي ثوبا من الحرير الأبيض ، ويتعمم بعمامة من الحرير الأبيض الدقيق كذلك ، ويحمل في يده قضيب الملك ويحف به عدد كبير من الأشراف والعلماء والعسس وحرسه الخاص.

وكان الخليفة يركب بين قرع الطبول ورنين الصنوج وقراءة القرآن بنغمات شجية ، بعد ان يسلم لكل واحد من مقدمي الركاب أكياس الذهب والفضة ، ويستمر الحال كذلك إلى أن يصل الخليفة الى قاعة الخطابة ويظل في القاعة حتى ينتهي الأذان. حينئذ يخرج ويأخذ مكانه تحت قبة المنبر ، فيقف الوزير على باب المنبر ووجهه للخليفة ، فاذا أومأ إليه صعد فقبل يدي مولاه ورجليه وزر سترى الحرير عليه ، وبذلك يكون المنبر والقبة كالهودج ، ثم ينزل الوزير وينتظر على باب المنبر ، فاذا لم يكن الوزير صاحب السيف ، فان قاضي القضاة هو الذي يزر السترين. وكانت الخطبة التي يلقيها الخليفة قصيرة تشتمل على آية من القرآن. ثم يذكر الخليفة

٤٠٨

نفسه بعد الآية ، ثم قومه بعبارة موجزة فيقول : (رب اوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه ، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) ويدعو بعد ذلك لوالده وجده ولمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولعلي رضي الله عنه. ثم يختم الخليفة الخطبة بالدعاء للوزير وبنصر الجيش وخذلان الكفار والمشركين فاذا فرغ من خطبته قال) «اذكروا الله يذكركم» ثم يصعد الوزير فيحل السترين ، ثم يأخذ الخليفة في الصلاة ، فيبلغ الوزير عنه ، ثم قاضي القضاة ، ثم المؤذنون ، فاذا ما انتهت الصلاة ، يخلو الجامع من الناس ، ويخرج الخليفة يحيط به الوزير عن يمينه وقاضي القضاة عن يساره ويعود بموكبه الى قصره.

وقد كانت الخطابة في عصور الأزهر الأولى من مهام الخليفة فنجد المعز لدين الله يلقي الخطبة بنفسه مكتسبا صفة الامامة ، متخليا بعض الشيء عن صفة الخلافة ، بل نجده في كثير من الأحيان وأثناء قيامه بواجباته الدينية حريصا على امامته ، ضنينا من أن يؤديها غيره ، بل نراه يحاول ان يتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين الذين كانوا يقومون بأنفسهم بالقاء خطبة الجمعة في الجامع. ومما ساعده على ذلك ما كان عليه المعز من صفات الخطباء ، فقد كان مفوها فصيحا ذا تأثير سريع قوي في سامعيه ، وكثيرا ما ذهب بالناس الى حد البكاء بقوة وعظة وعظم بلاغته.

وحذا حذو المعز كثير من الخلفاء الفاطميين ، فكانوا يلقون الخطبة بأنفسهم ، وعلى الرغم من حب الحاكم بأمر الله للمواكب العظيمة ، كان ينيب عنه وزيره في صلاة الجمعة ، لأنه كان يرتج عليه في الخطبة ، وكذلك كان في العصور المتأخرة ، ايام الخلفاء الضعاف ، فأصبح للجامع الأزهر خطيب خاص به يلقي الخطبة بين يدي الخليفة في أيام الجمع والموالد التي كانت تحتفل بها مصر في كل عام ، وهي المولد النبوي ومولد علي بن أبي طالب ومولد زوجه فاطمة الزهراء ومولد ولديها الحسن والحسين ، ثم مولد الخليفة القائم. ولم يقتصر خطيب الأزهر على ذلك ، بل كان يخطب في ليالي الوفود الأربعة متقدما على خطباء المساجد الأخرى.

٤٠٩

وكانت وظيفة خطيب الجامع الأزهر تعد من الوظائف الدقيقة التي يحاول أن يرتفع اليها كثير ممن يتولون مناصب الدولة الكبيرة ، وذكر ابن ميسر ان وظيفة الخطابة بالجامع الأزهر قد أسندت عام ٥١٧ ه‍ إلى داعي الدعاة أبي الفخر صالح.

وكان نظام الحلقات الذي كان متبعا في تلك الحقبة من الزمن هو النظام الوحيد للدراسة الممتازة ، وكان أساس الحياة العلمية والفكرية في مصر. فلما أن تحول الجامع الأزهر الى جامعة منذ انشائه ، اتخذت الدراسة فيه طابع الحلقات الموجودة في ذلك الوقت ، اذ لم يكن قد استعيض عنه بنظام آخر. وبانتقال هذا النظام الى الأزهر انتقلت معه دراسة العلوم بمختلف أنواعها ، فازدهرت فيه وترعرعت

ـ ٣ ـ

واستمر الأزهر كذلك الى نهاية القرن السادس حينما ابتدأ ملوك مصر وسلاطينها في انشاء المدارس. فأنشأ صلاح الدين الأيوبي عام ٥٦٦ ه‍ المدرسة الناصرية بجوار جامع عمرو لتدريس الفقه الشافعي ، كما أنشأ بجانبها المدرسة القمحية لتدريس الفقه المالكي ، وكان من أشهر من درسوا فيها العالم المؤرخ ابن خلدون ، وحذا حذو صلاح الدين كثير من أمراء البلاد وأعيانها ، فأنشأوا كثيرا من مدارس للتخصص ، بعضها شافعي والبعض الآخر حنفي أو حنبلي ، أو لتدريس الفقه والحديث.

وتعد المدرسة الصالحية التي أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب عام ٦٤١ ه‍ ، أول مدرسة درس فيها الفقه على المذاهب الأربعة.

ولقد عانى الأزهر منافسة شديدة من جراء وجود أمثال تلك المدارس التي كانت مكتظة بالطلاب ، مستأثرة بأعظم وأحسن الأساتذة والعلماء ، متمتعة بعناية الأمراء وذوي اليسار وثقتهم. فوهبوها المال والهدايا ، وأجروا

٤١٠

عليها الأوقاف والرباع. فكان التدريس بتلك المدارس من الأماني التي يصبو إليها كل أستاذ وعالم. فكانت موضع منافستهم الدائمة.

وما وافت نهاية القرن الثامن الهجري حتى كان الانتاج العلمي في أزهى عصوره ، وكثر عدد المدارس ومعاهد العلم التي كانت تقوم برسالتها بأمانة واخلاص بجانب الأزهر الذي لم يكن يستطيع مطاولتها في المرتبة ، فقد كان نصيبه من الأساتذة والعلماء لا يزال ضئيلا وكانت المدارس قد استأثرت بهم. وخلا الأزهر في تلك الحقبة من أعاظم العلماء المعاصرين أمثال سراج الدين البلقيني والمقريزي وجلال الدين السيوطي الذين كانوا يقومون بالتدريس في تلك المدارس. على ان الأزهر في ذلك الزمن لم يفقد ماله من عظيم الهيبة والمكانة ، بل كان لا يزال يحتفظ بمكانته العظيمة في النفوس ، لما كان يلقاه فيه الطلاب من الراحة واتساع الحلقات.

ثم أخذت الحركة الفكرية تضمحل شيئا فشيئا ، فما وافى القرن العاشر حتى كانت المدارس قد أغلقت بذهاب دولة السلاطين حيث لم تجد من يرعاها بماله وهباته ، فقلت مواردها فهجرها مدرسوها وطلابها.

ومما زاد الحال سوءا ضياع استقلال مصر ووقوعها تحت الحكم العثماني فقد قضى سليم شاه على ما بقي من مصر من حضارة وعلم وفن. وانتزع منها تحفها وآثارها وكتبها النفيسة ، وسلبها عمالها وعلماءها فتلاشت طبقتهم وانحط العلم والتعليم.

ولم يكن نصيب الأزهر من ذلك بأقل من غيره ، فدبت فيه عوارض الضعف وأهملت فيه دراسة كثير من العلوم. وان كانت اللغة العربية قد وجدت فيه ملجأ ترتاح إليه وتستكن فيه ، الى ان قيض الله لها الظهور والانتعاش بعد انقشاع الحكم العثماني عن مصر الذي رزحت تحت عبئه أمدا طويلا.

كان لكل مذهب من المذاهب الأربعة عمود معين من عمد الجامع لا يتعدى عليه أحد ولا نشب عراك شديد. وكان شيخ المذهب هو المنوط

٤١١

بالدفاع عن العمود ، فاذا تفاقم الخلاف رفع الأمر الى شيخ الجامع الذي كان الفيصل في كل خلاف ، وكان من عادة شيخ المذهب أثناء القاء الدرس أن يجلس على الأرض بجانب العمود مستقبلا القبلة ، ثم استعاض المشايخ عن ذلك بالجلوس على كراسي من خشب أو جريد بعد أن كانت تلك الكراسي من أخص امتيازات كبار العلماء فيه.

وكان الطلبة يجلسون حول أستاذهم على هيئة حلقة. ولكل طالب في الحلقة مكان لا يتعداه ، وكانت طريقة التعليم اذ ذاك هي الطريقة الاملائية ، يبتدىء الشيخ الدرس بالبسملة والحمد لله والصلاة على النبي ، ثم يأخذ في املاء الدرس على تلاميذه. وأثناء ذلك يقوم الطلبة بسؤال أستاذهم فيما غمض عليهم. فقد كان عماد الدراسة اذ ذاك المناقشة والحوار بين الطلبة وأستاذهم بما يثقف العقل وينمي ملكة الفهم ، فاذا انتهى الدرس قبل الطلبة يد شيخهم.

ولم يكن بالأزهر نظام امتحانات في عهده البدائي ، بل كانت الاجازة التي يعطيها الشيخ لتلميذه ، ولها قيمة عظيمة في تلك الأزمان القديمة ، تدل على أن الطالب قد فهم نصا معينا ، وتجعله أهلا للتدريس ، وكان الطالب يتلقى العلم زمنا طويلا ، فاذا أنس في نفسه القدرة على التصدر للعلم ، أعلن ذلك بين زملائه وشيوخه. فتعقد في إيوان الأزهر حلقة من العلماء النابهين ، يجلس الطالب في صدرها ويناقش نقاشا حادا في المادة التي يدرسها وفي جميع المواد التي تجرها المناسبات ، فاذا أثبت الطالب كفاءة ممتازة أعطى حق التدريس.

وكانت المواد الأساسية التي تدرس إحدى عشرة مادة كلها من العلوم الدينية والعربية ، يزيد عليها علم المنطق لمن يمتحن من طلاب العالمية ، ونورد هنا مثلا لتلك الإجازات التي كانت تمنح لطلاب الأزهر. فقد جاء في سند إجازة الشيخ عبد المنعم الدمنهوري المتوفى عام ١١٩٢ ه‍ ما ملخصه إنه تلقى في الأزهر العلوم الآتية : وله تأليف في كثير منها ، وهي الحساب

٤١٢

والميقات والجبر والمقابلة والمنحرفات وأسباب الأمراض وعلامتها ، وعلم الاسطرلاب والزيج والهندسة والهيئة وعلم الايماطيفي وعلم المزاول وعلم الأعمال الرصيدية وعلم المواليد الثلاثة وهي الحيوان والنبات والمعادن ، وعلم «استنباط المياه وعلاج البواسير وعلم التشريح وعلاج لسع العقرب ، وتاريخ العرب والعجم.

ومن مأثور ذلك الزمن عن علماء الأزهر ، ان العلم مقصود لذاته وان طالبه يجب أن يتجرد عن ملاهي الدنيا ، ولا يتطلع لحطامها ، وهو قول كان له قديما أحسن الأثر في نفوس الأزهريين ، الذين أحبوا العلم حبا جما ، وقنعوا بما ساق الله إليهم من الرزق ، وعاشوا عيشة راضية يحدوها التقشف والزهد ، وكلهم موضع احترام الكبير والصغير.

وهذا التصور يتمثل في تقديم العلوم ، ففي رأسها توجد العلوم النقلية مثل علم التوحيد والفقه والحديث والتصوف ، ثم تأتي بعدها العلوم العقلية مثل علوم اللغة والعروض والبلاغة والمنطق وعلم الهيئة ، ولم يدرس علم الهيئة إلا لأغراض عملية ، مثل علم التقاويم وتحديد مواقيت الصلاة ، ومن العلوم العقلية أيضا الأدب والتاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية والرياضة ، ولكن أهملت دراستها منذ القرون الوسطى ، وإذا درست فإنما تدرس في الأزهر حوالي عام ١٨٢٧ م قبل سفره إلى «سانت بطرسبرج» إنه لا يعرف أحدا قبله ، قرأ في الأزهر ما قرأه هو من مقامات الحريري والمعلقات مع شرح الزوزني ، ولم تتأثر الجامعة الأزهرية بالعلوم المدنية التي جاءت إلى مصر من أوروبا في القرن التاسع عشر وأثرت فيها تأثيرا قويا.

وأخذ القول بحرمة بعض العلوم العقلية يتسرب شيئا فشيئا إلى الأزهر كما تسرب إلى غيره من الجوامع الاسلامية الأخرى حتى انتهى الأمر باهمال تدريسها اهمالا تاما ، ويخبرنا الجبرتي بذلك فيقول : انه تولى حكم مصر عام ١١٦١ ه‍ أحمد باشا كور ، وكان ولعا بالعلوم الرياضية «فلما استقر

٤١٣

بقلعة مصر ، قابل صدور العلماء ، ومنهم الشيخ عبد الله الشبراوي شيخ الأزهر فتكلم معهم في الرياضيات ، فقالوا له لا نعرف هذه العلوم ، فتعجب وسكت» وكان الشبراوي يتردد على الباشا يوم الجمعة ، اذ كان خطيب جامع السراي فقال له الباشا «المسموع عندنا بالديار التركية ان مصر منبع الفضائل والعلوم ، وكنا في غاية الشوق الى المجيء اليها ، فلما جئتها وجدتها كما قيل «تسمع بالمعيدي خير من ان تراه» ، فقال له الشيخ : يا مولاي ، هي كما سمعتم معدن العلوم والمعارف» ، فقال : «واين هي وانتم اعظم علمائها وقد سألتكم عن بعض العلوم فلم تجيبوني ، وغاية تحصيلكم الفقه والوسائل ، ونبذتم المقاصد» ، فقال الشيخ : «نحن لسنا أعظم علمائها ، وانما نحن المتصدرون لقضاء حوائجهم ، وأغلب أهل الأزهر لا يشتغلون بالرياضيات ، الا بقدر الحاجة لعلم المواريث».

واستمر الحال كذلك من اهمال تدريس العلوم الرياضية والطبيعية والفلسفية ، فقد نهى أهل الأزهر عن قراءتها ونسبوا الكفر لمن يطالعها ، وفعلوا ذلك مع جمال الدين الأفغاني عند حضوره الى مصر عام ١٢٨٨ ه‍ ، وكان قد رأى ما آلت اليه حالة تلك العلوم ، فأوقف جهوده على نشرها ، مستعينا في ذلك بتلميذيه الشيخ محمد عبده والشيخ عبد الله وافي الفيومي.

وقد تنبه لتلك الحالة في الأزهر كثير من الأساتذة والعلماء وكثير من أمراء مصر ووزرائها ، فسعوا الى إعادة تدريس تلك العلوم ولكنهم خشوا الطفرة ونتائجها ، فتحايلوا باستطلاع رأي بعض كبار العلماء تمهيدا لذلك. فأوعزوا الى الشيخ محمد بيرم قاضي محكمة مصر حينذاك بمقابلة المرحومين الشيخ محمد الأنبابي شيخ الإسلام والشيخ محمد البنا مفتي الديار المصرية. واتفقوا على أن يفتى لهما الشيخ محمد الأنبابي في الأمثلة الآتية : «ما قولكم رضي الله عنكم ، هل يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية مثل الهندسة والحساب والهيئة والطبيعات وتركيب الأجزاء المعبر عنها بالكيمياء وغيرها من سائر المعارف ، ولا سيما ما ينبني عليه زيادة القوة

٤١٤

في الأمة ، بما تجاري به الأمم ، المعاصرين لها في كل ما يشمله الأمر بالاستعداد ، بل هي تجب بعض تلك العلوم على طائفة من الأمة بمعنى ان يكون واجبا وجوبا كفائيا على نحو التفصيل الذي ذكره فيها الإمام حجة الاسلام الغزالي في احياء العلوم ونقله علماء الحنفية وأقروه. وإذا كان الحكم فيها كذلك ، فهل يجوز قراءتها مثلما تجوز قراءة العلوم الآلية من نحو وغيره الرائجة الآن بالجامع الأزهر وجامع الزيتونة والقرويين وغيرها؟ افيدوا : الجواب ، لا زلتم مقصد لأولي الألباب».

فأجابه الشيخ الأنبابي عام ١٣٠٥ ه‍ بالفتوى الآتية :

يجوز تعلم العلوم الرياضية مثل الحساب والهندسة والجغرافيا لأنه لا تعرض فيها لشيء من الأمور الدينية ، بل يجب منها ما تتوقف عليه مصلحة دينية أو دنيوية وجوبا كفائيا ، كما يجب علم الطب كذلك ، كما أفاد الغزالي في موضع من الأحياء. وان ما زاد على الواجب من تلك العلوم مما يحصل به زيادة التمكن في القدر الواجب فتعلمه فضيلة ، ولا يدخل في علم الهيئة الباحث عن أشكال الأفلاك والكواكب ومسيرها علم التنجيم المسمى بعلم أحكام النجوم ، وهو الباحث عن الاستدلال بالتشكيلات الفلكية على الحوادث السفلية فانه حرام ، كما قال الغزالي وعلل ذلك بما محصله انه يخشى من ممارسة نسبة التأثير للكواكب والتعرض للاحياء بالمغيبات ، مع كون الناظر قد يخطىء لخفاء بعض الشروط أو الأسباب عليها لدقتها.

وأما الطبيعيات ، وهي الباحثة عن صفات الأجسام وخواصها ، وكيفية استحالتها وتغييرها كما في الأحياء في الباب الثاني من كتاب العلم. فان كان هذا البحث عن طريق أهل الشرع فلا مانع منها كما أفاده العلامة شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي في جزء الفتاوى الجامع للمسائل المنتشرة ، بل لها حينئذ أهمية ثمرتها كالوقوف على خواص المعدن والنبات المحصل للتمكن في علم الطب ، وكمعرفة علم الآلات النافعة في مصالح

٤١٥

العباد. وان كان على طريقة الفلاسفة فالاشتغال بها حرام ، لأنه يؤدي الى الوقوع في العقائد المخالفة للشرع ، كما أفاده العلامة المذكور. نعم يظهر تجويزه لكامل القريحة الممارس للكتاب والسنة للأمن عليه مما ذكر قياسا على المنطق المختلط بالفلسفة على ما هو المعتمد فيه من أقوال ثلاثة. ثانيها الجواز مطلقا .. وثالثها المنع مطلقا ..

وأما علم تركيب الأجزاء المعبر عنها بالكيمياء فان كان المراد به مجرد البحث عن التركيب والتحليل بدون تعرض لما يخشى منه على العقيدة الاسلامية ، فلا بأس به ، بل له أهميته حسب ثمرته وإلا جرت فيه الأقوال الثلاثة المقدمة.

وأما العلم المعروف بعلم جابر وسمي أيضا علم الصنعة وعلم الكاف وهو أيضا الذي ينصرف اليه علم الكيمياء عند غالب الناس ، فقد أفاد العلامة ابن حجر في شرحه على المنهاج انه ان قلنا بالمعتمد من جواز انقلاب الجسم عن حقيقته ، وكان العلم الموصل لذلك يقينا ، جاز تعلمه والعمل به ، والا حرم ، ولفقد هذا الشرط لم يتحصل المشتغلون به فيما رأينا إلا على ضياع الأموال وتشتت البال وتغيير الأحوال.

نعلم أن العلوم الرياضية لا بأس من قراءتها كما تقرأ علوم الآلات ، وكذلك الطبيعيات وعلم تركيب الأجزاء حيث كانت تقرأ على طريقة لا يفهم منها جهابذة الشرع بحال كيفية العلوم العقلية مثل المنطق والكلام والجدل. بل يجب كفاية من هذه الثلاثة ما يحتاج إليه في الحجاج عن العقائد الدينية.

وكتب العلامة الشيخ محمد البنا مفتي الديار المصرية عام ١٢٠٥ الفتوى الرسمية الآتية رقم ١٧١ ما أفاده حضرة الأستاذ شيخ الإسلام موافق لمذهبنا وما استظهره من أن الخلاف الجاري في علم المنطق يجري في علم الطبيعة أيضا.

وهذه الردود نفسها تشف عن عدم رضاء رؤساء الأزهر في ذلك العهد

٤١٦

عن هذه العلوم وعن عداوتهم لها ، والريبة فيها ، ولكن الجهر هكذا بوجوب ادخالها الى الأزهر ، برهان ساطع على أن روحا جديدة قد ابتدأت تجتاح الأزهر في ذلك الوقت وان كان دخول تلك العلوم لم يتم إلا في عصر عباس الثاني بن إسماعيل.

أما في تلك الحقبة من الزمن فقد كانت أهمية كل علم من العلوم تقف لا باعتبار قيمته الموروثة ، بل باعتبار شيوعه واقبال الطلاب عليه ، فإننا نرى ان اعلاها مرتبة وهو علم الفقه لأهميته في الحياة العلمية ولكثرة الوظائف التي يؤهل لها.

كما عظم اقبال الطلبة على علوم اللغة والبلاغة ودروس المبادىء التي كانت تخصص الناشئة من الأغراب والأجانب ، وكان أهم العلوم دراسة هو علم الكلام أو التوحيد ويليه تفسير القرآن والحديث الشريف.

وكان لمذاهب اهل السنة دائما أثر كبير في الأزهر وبخاصة في ادارته ، فقد أخرج الشيعة منذ ايام الفاطميين ، أما الحنابلة فلم يعين واحد منهم شيخا لقلة عددهم وضعف نفوذهم ، وكان للمالكية الذين يعيشون غالبا في صعيد مصر وفي بلاد الدلتا مقام كبير محترم وان قل منهم من تولى مشيخة الأزهر ، ولم يعلموا قط الاحتفاظ بالنفوذ الذي يخوله لهم كثرة عددهم فظلت المنافسة محصورة دائما بين الشافعية أتباع المذهب السائد وأتباع المذهب الحنفي الذي كان مذهب الباب العالي واتباعه التتر والقوقاز والترك والذين كانوا ذوي نفوذ كبير عدة قرون. وهذا الخلاف استغله الحكام لبسط نفوذهم على البلاد ، ولتحويل الأزهريين الذين كانوا يتقربون اليهم إلى المذهب الحنفي.

وقد قامت بين رجال الدين والمتصوفة كثير من المشاحنات هددت مراكز رجال الدين في كثير من الأحيان. وان كان المتصوفة قد تعرضوا لمهاجمات شديدة من رجال الدين عندما كان المتصوفة يحاولون تجريح آراء رجال الدين أو تعطيل أصول بعض العقائد ، وكانت الغلبة في النهاية لرجال

٤١٧

الدين ، وان تركوا الصوفية احرارا في الاشتغال بالتصوف ومناسكه عائشين عيشة وادعة يلطفها الزهد.

ولم يكن بالأزهر حتى آخر العقد الأول من القرن العشرين قانون بضبط أوقات الدروس وعدد الحصص اليومية ولكن جرت العادة من زمن قديم أو تكون كما يلي :

بعد الفجر : التفسير والحديث

بعد الشروق : الفقه

بعد الظهر : النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والأصول.

بعد العصر : الحساب والتاريخ والجغرافيا وسائر العلوم الحديثة.

بعد الغروب : المنطق وآداب البحث والهيئة.

ومدة الدرس عادة ساعة أو ساعتان وأغلب الطلبة يتلقى كل منهم درسين صباحا ودرسين مساء ، وبعضهم يتلقى اكثر من ذلك ، وبعضهم اقل حسب نشاط كل منهم وعدد العلوم التي يرغب في تلقيها.

ـ ٤ ـ

انتهت الدولة الفاطمية التي كانت تولي الأزهر كل عنايتها ، وجاء عهد الدولة الأيوبية ، وفي عهد صلاح الدين الأيوبي اهمل الأزهر وقطع الكثير مما أوقفه عليه الحاكم بأمر الله ، ويذكر لنا المقريزي ان صلاح الدين سيف بن أيوب قلد وظيفة القضاء للقاضي صدر الدين بن عبد الملك بن درباس الشافعي فعمل بمقتضى مذهبه وهو امتناع اقامة الخطبتين في بلد واحد كما هو مذهب الإمام الشافعي ، فأبطل الخطبة والتدريس في الجامع الأزهر ، وأقر الخطبة بالجامع الحاكمي ، بحجة انه أوسع. فأهمل الأزهر منذ ذلك التاريخ وامتدت يد المغتصبين الى معظم أوقافه ، وأخذت جدرانه وأركانه في التداعي.

٤١٨

ثم أعيد الى الجامع الدرس ، واول ما درس به من مذاهب أهل السنة مذهب الامام الشافعي رضي الله عنه ، ثم ادخلت اليه المذاهب الأخرى تباعا ، وانقضى نحو قرن من الزمان قبل ان يستعيد الجامع الأزهر عطف الولاة ووجوه البلاد عليه ، فلما تولى الملك الظاهر بيبرس سلطنة مصر تحدث في مسألة اعادة الخطبة الى الجامع الأزهر. ولكن قاضي القضاة ابن ثبت العز الشافعي امتنع عن اعادتها فعزله السلطان وولى مكانه قاضيا حنفيا فأعيدت الخطبة عام ٦٦٥ ه‍ (١٢٦٦ ـ ١٢٦٧ م) وزاد بيبرس في بناء الجامع ، وشجع العلم والتعليم فيه ، كما حذا حذوه كثير من أمرائه ، أشهرهم الأمير عز الدين أيدمر الحلي ، الذي أقام احتفالا رسميا عظيما في الجامع الأزهر ، ابتهاجا بعودة الخطبة اليه ، كما أقام احتفالا فاخرا في داره حضره رجال الدولة والأمراء والكبراء .. وكان هذا الأمير يجاور الأزهر بسكناه ، فلمس ما وصل اليه حاله من التأخر والاضمحلال ، فعزم على اصلاحه ، فانتزع له ما اغتصب مما أوقف عليه ، وتبرع له بمبلغ كبير من ماله الخاص ، وجمع له من الأمراء الكثير من المال ، بجانب ما أطلق من يد السلطان ، وشرع في عمارته ، فأعاد بناء الواهي من أركانه وجدرانه وسقوفه وبلطه وفرشه بالحصر وكساه فعاد إلى عظمته الأولى كما استجد به مقصورة حسنة الصنع. وقد عاد اثر ذلك ومنذ ذلك العهد الى الجامع الأزهر ما كان له من صيت قديم وأصبح معهدا علميا يؤمه الناس من كل فج ولقي الأزهر من عناية الشعب الشيء الكثير ، وزاد في مجده ان غزوات المغول في الشرق قضت على معاهد العلم فيه ، وان الإسلام أصابه في المغرب من التفكك العلمي المادي الذي نقلته وأهملت الجانب الروحي فعليها وزرها.

ويأتي الخطر هنا من ان القارىء العادي هذه الأيام وقد شغلته مقتضيات الحياة المعقدة المعاشة لا يجد وقتا للتقصي والتتبع والقراءة الدقيقة المتخصصة ، ومن هنا تسود البلبلة وتضطرب أفكار الناس وأحوالهم ، ومن هنا تخطىء اجتهادات الفقهاء الهدف ، ويبرز الخطر الذي يسببه ما يلي :

٤١٩

* انفراد فقهاء الشريعة وحدهم بالرأي دون الاستعانة بالمتخصصين في مختلف العلوم.

والانحلال ما أدى الى دمار مدارسه الزاهرة ، وان المدارس التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي لتنافس الأزهر بدأت في الاضمحلال.

وفي عام ٨٠٢ ه‍ (١٣٠٢ ـ ١٣٠٣ م) ضرب مصر زلزال عنيف فسقطت معظم جوامع مصر ومن ضمنها الجامع الأزهر والجامع الحاكمي وجامع عمرو. فتسارع امراء الدولة الى تجديدها ، فكان الأزهر من نصيب الأمير سيف الدين سلار (من رجال دولة المماليك البحرية) وكان ثريا ، فجدد مبانيه وأعاد ما تهدم منها.

وفي عام ٨٠٩ ه‍ (١٣٠٩ ـ ١٣١٠ م) انتهى الأمير علاء الدين طيبرس الخازنداري (نقيب الجيوش) من انشاء المدرسة الطيبرسية (دار الكتب الأزهرية الآن) وجعلها مسجدا ، وقرر بها درسا لفقهاء الشافعية ، وتأنق في رخامها وتذهيب سقوفها ، على أشكال المحاريب ، وفرشها ببسط منقوشة بشكل المحاريب كذلك ، وجعل في المدرسة خزانة كتب كبيرة.

وفي العهد العثماني نال الأزهر ما ناله من الاهمال. فقد قضى السلطان سليم على معالم الحضارة الشرقية عامة والمصرية خاصة ، فانتزع من مصر جميع نفائسها وكتبها ، وأرسلها إلى القسطنطينية. على ان الأزهر نال بعض الاهتمام من الفاتح سليم ، وأظهر له بعض الرعاية ، وأكثر من زيارته والصلاة فيه ، وأمر بتلاوة القرآن به. وتصدق على فقراء المجاورين ، كما زاره السلطان عبد العزيز خان فيما بعد. وفي عام ١٠٠٤ ه‍ (١٥٩٥ م) جدد الشريف محمد باشا والي مصر في عهد السلطان العثماني محمد الثالث الأزهر ، ورتب لطلبته الفقراء طعاما يجهز كل يوم ، فكان ذلك حافزا للطلبة على ان يؤموه من جميع البلاد. شرقا وغربا ، وفي عام ١١١٥ ه‍ (١٦٩٢ م) أوقف عليه محمد باي بن مراد حاكم ولاية تونس أوقافا جليلة ، كما جدد الأمير إسماعيل بك القاسمي ابن الأمير ايواظ بك القاسمي

٤٢٠