الأزهر في ألف عام - ج ٢

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٢

ولكن الذي حدث من المسئولين في الأزهر حيال أقسام الأستاذية هو :

١ ـ أغلقوا قسم الأستاذية إغلاقا نهائيا منذ أكثر من أربع عشرة سنة ، واحتجوا لذلك بأنهم سيعيدون النظر في نظامه.

٢ ـ سلكوا الحاصلين على هذه الشهادة مع حملة أدنى شهادات الأزهر في سلك واحد وحكموا الأقدمية المطلقة بينهم في الترقيات ومنح الألقاب العلمية.

وإنا لنقترح مساواة خريجي الأستاذية بنظرائهم في الجامعات من كل النواحي العلمية والأدبية والمادية ، وفتح أقسام الدراسات العليا في كليات الأزهر فورا وقبول المتقدمين إليها من الطلاب. وزيادة عدد الأساتذة ذوي الكراسي في كليات الأزهر بما يناسب الزيادة في عدد الطلاب والمدرسين والمواد الدراسية فقد حدد عدد هذه الكراسي في عام ١٩٣٦ ، ولم يكن بالكليات من المدرسين والطلاب أكثر من خمس العدد الحالي.

الصلات العلمية بين الأزهر والجامعة

منذ أعوام قلائل قرأت في بعض الصحف ، سؤالا لشاب أزهري كتب يقول : «أنا طالب أزهري حاصل على شهادة إتمام الدراسة الثانوية من معهد القاهرة وأجيد الفرنسية والانجليزية إجادة تامة ، فهل يجوز لي الالتحاق بكلية الآداب؟» ونشر مع السؤال رأي سيادة عميد كلية الآداب ونصه : «لا يمكن قبول الطالب بكلية الآداب ، وفقا للوائح التي لا تزال متبعة إلى الآن» ، وأمر هذه اللوائح عجيب حقا ، فهي التي تسيطر على التفكير الحر في مصر. وكيف يمكن إقناع الطالب المسكين الذي يريد إكمال دراسته بقسم اللغة بكلية الآداب بأن رد العميد عادل ومعقول؟ ولم فات الدكتور طه حسين أمر هذه اللوائح حين كان عميدا لكلية الآداب ، فأمر بقبول عدد كبير من طلاب الأزهر بكليته ، ونظم لمن لا يعرف منهم لغة أجنبية دراسات خاصة ، فكانوا أكثر خريجها نشاطا وانتاجا؟. ولا تزال هذه اللوائح أيضا تحول بين أساتذة الأزهر وحرية التقديم لشهادات الجامعة ، والانتظام في

٢٤١

دراساتها ، فإلى متى تظل هذه اللوائح والقيود والأفكار القديمة تتحكم في مصير الثقافة في مصر في القرن العشرين؟.

حياة الأزهر الثقافية

ـ ١ ـ

لقد ابتدأت الدولة الفاطمية حياتها السياسية بالقيروان سنة ٢٩٦ ه‍ على يدى مؤسسها الأول عبيد الله بن محمد ـ وأخذت توسع نطاقها السياسي ومجالها الدولي بالتدريج ، وفي عهد الخليفة الرابع المعز لدين الله دخل الفاطميون مصر بعد منتصف القرن الرابع الهجري بقليل .. فقضوا على نفوذ الخلافة العباسية فيها ، وعلى مذاهبها السياسية والاجتماعية والعقلية من جميع أرجائها ، وبسطت الدولة الجديدة سيادتها على البلاد بالقوة وأخذت تصبغ جميع نواحي النشاط في الدولة بصبغة تلائم عقيدتها الشيعية الاسماعيلية ، سواء في أداء الشعائر أم في سياسة الدولة وأمور الاجتماع ونواحي التفكير.

وكان لا بد للدولة الجديدة أن تقوم بدعاية واسعة النطاق تكرس لها كل ما تستطيع من قوة وجهد في سبيل تغيير الاتجاه الفكري في مصر كلها ، حتى يؤمن العقل المصري بعقيدتها الشيعية ، ويتحمس لها ويدعو إليها ، ويكون بين الدولة والشعب تفاهم عقلي بعد هذا الوثام السياسي الذي وجهته القوة وأملاه السيف.

ومن ذا الذي يقوم بهذه الدعاية ، وبدأ في جد لتغيير مناحي التفكير في مصر ، ولجذب الشعور الوطني نحو الدولة؟ إنهم العلماء الشيعيون الاسماعيليون ورجال السياسة والتفكير فيهم .. وإذا فلتقم جامعة علمية منظمة ، ولتشرف هذه الجامعة بأساتذتها وشيوخها على مناحي الثقافة والتفكير في الدولة ، داعية إلى العقيدة الشيعية بأصولها وتشريعها الفقهي وكافة آرائها السياسية والاجتماعية والعقلية ، حريصة على نشر هذه المبادىء في مصر وسائر أنحاء الشرق الإسلامي.

٢٤٢

وشيد الأزهر وتم تشييده في عامين وافتتح فعلا للصلاة في ٧ رمضان عام ٣٦١ ه‍ وقام رجال الدولة بإلقاء المحاضرات العامة فيه بين حين وحين إلى أن تولى العزيز بن المعز لدين الله العرش (من عام ٣٦٥ إلى ٣٨٦ ه‍) فاتجه بعنايته إلى الأزهر وجعله معهدا علميا منظما ، شمله برعايته الكاملة ، واختار للدراسة فيه أساطين الفقه الشرعي من شتى أنحاء العالم الإسلامي وأحاطهم بشتى أسباب الرعاية والتقدير وكان من بين هؤلاء وزير العزيز بالله يعقوب بن كلس (١).

وقام الأزهر بما طلبته منه الدولة ، وما هيأته له ، فأخذ ينشر العقيدة الاسماعيلية ويدرس مبادئها السياسية وتشريعاتها الفقهية ، وأصولها المذهبية واتجاهاتها الفكرية فضلا عن عنايته بالكثير من الدراسات العقلية واللغوية والأدبية ـ وصار أعظم بيئة علمية وأحفلها في الشرق الإسلامي بهذه الدراسات ، التي خرج فيها جيلا جديدا من العلماء الذين أصبحوا يد الدولة ودعاتها وقوام الحياة السياسية والاجتماعية والعقلية والأدبية فيها ، كانت الدولة الفاطمية تشمل بنفوذها السياسي حوض البحر الأبيض الأفريقي كله من مراكش إلى الشام ، فضلا عن الحجاز ويهفو إليها جميع الاسماعيليين في العراق وإيران والهند بقلوبهم ، ويتجهون إليها بشعورهم وكان الأزهر هو المثابة العظيمة للعلم والتفكير والثقافة في هذه الأقطار كلها ، وهو الذي يحمل مشعل النور والهداية إلى سائر هذه الأمصار ، ووفدت إليه أفواج الشباب من شتى هذه الأرجاء ، ترتوي من معينه ـ وتقتبس من نوره وتهتدي بهديه ، وتضافرت هذه العوامل الأجنبية والسياسية والفكرية كافة على تكوين شخصية مستقلة لهذه الجامعة الجديدة ، ظهر أثرها الفذ في الثقافة الإسلامية في مصر وجاراتها الشقيقة على عهد الدولة الفاطمية.

ومن العبث أن نوازن بين الأزهر حينئذ وبين المدرسة النظامية التي كان يدرس فيها أقطاب العلماء ببغداد كالغزالي وسواه ، لأن مواد هذه

__________________

(١) من محاضرة ألقاها المؤلف عام ١٩٤٠

٢٤٣

الموازنة مفقودة ، فالتاريخ الذي حفظ لنا تراث المدرسة النظامية في شخصيات كبار أساتذتها قد ضن علينا بتراث الأزهر وإنتاجه العلمي في هذه الحقبة ، لأنه إنتاج شيعي تعصب عليه وناوأه أعداء الشيعة.

ولقد شاء القدر العتيد أن تطوي الدولة الفاطمية وآثارها من الوجود بعد قرنين حافلين ـ حيث ثل السلطان صلاح الدين الأيوبي عرشها ومحى آثارها وثقافتها ، وقبض بيده على أمور مصر وسياستها عام ٥٦٧ ه‍ ، وكان فيما حاربه وقضى عليه المذهب الشيعي الفاطمي ، وأحل محله المذهب السني الذي تؤيده خلافة بني العباس وتنكر الزمن للأزهر فعطلت دروسه ، وتفرقت شيوخه ، ومنعت منه الخطبة ، وحل الكثير من أوقافه ، وشارك الدولة الراحلة آلام التطور السياسي الجديد وبعد عهد الانقلاب السياسي وعودة الاطمئنان العقلي ، عادت إلى حلقاته الدراسات الفقهية ، لا سيما الفقه الشافعي ولكن بشكل متقطع غير مستقر ، واستمر الأمر على ذلك قرنا من الزمن.

ولكن الأحداث السياسية العظيمة في الشرق الإسلامي أعادت إلى الأزهر ماضيه العلمي المجيد .. ففتح التتار المغول لبغداد وشتى عواصم البلاد الإسلامية وعصفهم بالتراث الإسلامي الثقافي بإحراق دور الكتب ، وتبديد نفائس الأسفار فيها حرقا وتمزيقا ورميا بها في ماء دجلة والفرات ، وتفريق العلماء ورجال الثقافة الإسلامية وتعطيل الدراسات الثقافية : دينية وعقلية ولغوية في شتى مدارس الشرق الإسلامي وجامعاته ، ثم انتقال الخلافة العباسية من بغداد إلى القاهرة في عهد المماليك وعلى يد السلطان الظاهر بيبرس سنة ٦٥٩ ه‍ ، ثم أهمية مصر السياسية والاقتصادية وصبغتها العربية ، ووقوعها في قلب العالم الإسلامي وثقافتها العقلية القديمة ـ كل هذه الأسباب أدت إلى إعادة النشاط العلمي في الأزهر فشجع بيبرس التعليم فيه وأعاد إليه الخطبة عام ٦٥٩ ه‍ ، ووقف على أساتذته وطلابه الأوقاف الكثيرة والأموال الطائلة.

ومنذ ذلك الحين ذاع صيت الأزهر واستعاد مكانته العلمية وأمه الطلاب من كل صوب وحدب ، من أواسط أفريقية إلى جنوب روسيا ، ومن

٢٤٤

مراكش إلى أقاصي الهند ، وجد الأزهر وعلماؤه في إحياء الثقافة الإسلامية التي رماها التتار بأقسى النكبات في فتحهم الوحشى لبلاد الخلافة العباسية ، فكان للأزهر جهوده العظيمة الحافلة في هذا المضمار ، مما وطد من مكانته ، ودعم من كيانه ، وأقر له منزلته العلمية العظيمة وشخصيته الجامعية الضخمة. وزاد من مكانة الأزهر قوة واستقرارا انقراض الحضارة الإسلامية من الأندلس عام ٨٩٧ ه‍ وانتهاء جامعاتها العلمية الكبيرة وتبديد مسيحيى أسبانيا للتراث العربي فيها ، فألقيت مقاليد الثقافة الإسلامية في الشرق كافة في يد الأزهر ، فحمل الأمانة ، وبذل في سبيل أداء رسالته كل ما يستطيع من جهد وقوة ، وأخذ الأزهر يسير في دراساته الدينية ، وفي انتاجه الثقافي على المنهج العلمي المألوف في عصره ، فكانت كتب الدراسة فيه والمؤلفات العلمية التي يؤلفها علماؤه ، شروحا لأصول الكتب العلمية الدائمة في عصره ، وحواشي على هذه الشروح وتقارير على هذه الحواشي؟ ـ وهذه الشروح والتقارير والحواشي تتجه إلى خدمة أمرين عظيمين : أولا : الشرح التحليلي التفصيلي لأساليب هذا الأصل العلمي المشروح ، والمبالغة البعيدة في توجيه الفهم فيه وجهة خاصة ، يتحرى فيها الدقة والعمق والإحاطة بألوان الثقافة المنوعة ، عند ما تستوجب هذه الإحاطة دراسة الأسلوب والفاظه. وثانيا : إثارة المشكلات العلمية العميقة التي تتصل بأصل الفكرة المبحوثة أو التي تضيء جوانب البحث فيها ، أو التي تعتبر لازمة للتوسع في دراستها ، وبجانب هذه الدراسة العلمية ، وهذا الانتاج الثقافي الخاص ، توجد موسوعات علمية ألفت في شتى نواحي الثقافة الإسلامية لتعويض ما فقده التراث الإسلامي من نفائس المؤلفات وكانت الطريقة العلمية ملائمة لعقول العلماء إذ ذاك ومتمشية مع أساليب المنهج العلمي المألوف في عصرهم ، فقد كان الشرق كله يقرها ويسير عليها في ميادين الثقافة والتعليم والتفكير ، وما زالت محل اعجاب الباحثين من المستشرقين والمفكرين ، ومن العبث أن نزوي بها أو نحط من شأنها ، أو نرميها بالخطأ والخمول.

٢٤٥

ومن أساتذة الأزهر في ذلك العهد عز الدين بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء وتلميذه القشيري وهو الذي لقبه بهذا اللقب ، وعز الدين هذا كما كان مثلا في الشجاعة وهو أصدق مرآة نرى فيها أخلاق العلماء ، يقول ابن السبكى في طبقاته : «إنه وقف في وجه القائم بأمر مصر وقتئذ لما أراد أن يفرض ضريبة على التجار قائلا : «إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك من الحلى وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلى الحرام وضربته سكة ونقدا وفرقته ولم يقم بالكفاية فلك أن تطلب القرض ، وأما قبل ذلك فلا». ويقول عنه أيضا إنه لما توفى عز الدين بن عبد السلام سنة ٦٦٠ ه‍ ومرت جنازته تحت القلعة ، وشاهد الظاهر بيبرس كثرة الخلق الذين معها قال لبعض خواصه : «اليوم استقر أمري في الملك لأن هذا الشيخ لو كان أمر الناس في بما أراد لبادروا إلى امتثال أمره». وكان عز الدين هذا خطيبا لجامع عمرو ، ولهذه المناسبة أقول : إن المقريزي المؤرخ العظيم كان هو الآخر خطيبا لجامع الحاكم.

ومن علماء مصر الأفاضل الذين أثروا في الأزهر وتأثروا به العالم البارع الطويل الباع في أصول الفقه وفروعه وفي العربية وغيرها ، الفقيه المالكي ابن الحاجب وكان أبوه حاجبا عند الأمير عز الدين موسك الصلاحي ، وقد صنف في الأصول : المختصر والمنتهي ، وفي فقه المالكية المختصر وله في النحو الكافية ، والوافية ، وفي التصريف الشافية ، وشرح الكل ، وله شرح المفصل ، والأمالي النحوية وقصيدة في العروض. ومن أساتذته في القراءات الشاطبي وتوفى بالأسكندرية سنة ٦٤٦ ه‍ ، ونذكر أنه مدفون بجوار أبي العباس المرسي ، ومنهم إمام النحو واللغة ابن هشام الذي قال عنه ابن خلدون «ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحي من سيبويه» ، ومن أكابر أساتذة العلم المنتجين الذين عرفتهم مصر : الثبت الثقة ، الصدوق النبيل ، الحافظ للحديث ، الحجة فيه ، أستاذ الحديث في المؤيد ، البدر العينى صاحب عمدة القارىء شرح صحيح البحارى ، ويقولون : إنه داوم على إقراء الحديث

٢٤٦

فيه وحده ما يقرب من أربعين سنة عدا ما له من الدروس في بقية مدارس القاهرة ، وتناوب وظيفة حسبة القاهرة هو والمقريزي مدة ، وقد ولاه الملك المؤيد «نظر الأحباس» ـ وزارة الأوقاف ـ وكان معاصرا للحافظ ابن حجر صاحب كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري «وكان ابن حجر هذا أصغر من العينى باثنتي عشرة سنة ، ويروي المقريزي أنه كان بينهما من المنافسة ما يكون بين المتعاصرين ، فلما فوض إلى العينى تدريس الحديث بالمؤيدية صادف أن مالت مئذنة الجامع المؤيدي على البرج الشمالي وكادت تسقط فهدمت وبنيت من جديد ، فقال الحافظ بن حجر في ذلك :

لجامع مولانا المؤيد رونق

منارته بالحسن تزهو وبالزين

نقول وقد مالت عليهم : تمهلوا

فليس على حسنى أضر من العين

فتحدث الناس أنه قصد التورية بالعينى ، ويروي المقريزي أن العيني رد عليه بهذين البيتين وهما من نظمه ، وغيره يقول إنهما لبدر الدين العنتابي :

منارة كعروس الحسن إذ جليت

وهدمها بقضاء الله والقدر

قالوا أصيبت بعين قلت ذا غلط

ما آفة الهدم إلا خسة الحجر

وللعينى مؤلفات كثيرة أجلها عمدة القاري الذي تقدم ذكره ، ويقولون : إنه ابتدأ فيه سنة ٨٢١ وأتمه سنة ٨٤٧ ه‍ بعد فراغ ابن حجر من شرحه فتح الباري بخمس سنوات ، وله أيضا «نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار ، في شرح معاني الآثار» في مجلدين ، ومنها «البناية في شرح الهداية» للإمام المرغيناني في عشرة مجلدات ، ومنها «الدرر الزاهرة في شرح البحار الزاخرة» لشيخه الرهاوي في المذاهب الأربعة في مجلدين ، ومنها

٢٤٧

عقد الجمان في تاريخ الزمان» في خمسة وعشرين مجلدا ، وعد مؤلفاته أمر يطول ، فليرجع إليها في مقدمة كتابه عمدة القارىء.

ومن رجالات مصر وأعيان العلماء جلال الدين السيوطي مؤلف حسن المحاضرة وسواه من نفائس المؤلفات.

وجاء العصر العثماني بفتح السلطان سليم مصر سنة ٩٢٢. وبقضائه على دولة المماليك فيها فاستمرت للأزهر أهميته البالغة في الدراسات الدينية. ولكن روحه أصابها الوهن. وقوته نال منها الضعف واعتورتها عوامل الخمول والجمود ، ولذلك أسبابه البعيدة والقريبة .. فقد ضعفت ملكات التفكير في الشرق كافة وصارت الدولة الحاكمة بعيدة عن الروح العربية الصحيحة ، بعنصرها ودمها التركي المتطرف وكثرت الفتن السياسية والأحداث الإجتماعية في مصر والشرق ولم تجد دولة العلم والثقافة من الدولة رعاية ولا عطفا ، اللهم إلا نوعا ضئيلا من التشجيع لا يجدي ولا يبعث على المجد والرجاء. كل ذلك أورث الأزهر صبغة من التقليد العلمي وأضاع منه روح التجديد والاجتهاد فأصبحت غاية رجاله نقل ما ورثوه عن السلف في أمانة واخلاص دونه العناية بالبحث والتمحيص والموازنة والتحقيق وعكف شيوخه على دراسة الكتب التقريرية التي ألفت في العصور المتأخرة دون الرجوع إلى الأصول الأولى التي ألفت قديما والتي قلت فيها روح البحث والجدة والابتكار.

وكانوا يقدسون كل ما يتصل بالقديم من خلق وعادات ودين ، وكانت الدراسة قاصرة على العلوم الدينية وما يتصل بها من العلوم اللغوية وقليلا من الفلسفة ، وقلت فيه الدراسات العقلية والفلسفية في كتبها الواسعة التي كان يحرمها عصره ، وتحاربها الهيئات العلمية والجماعات الدينية حين ذاك ، وفضلا عن ذلك فقد ناوأ الأزهر المذاهب المتطرفة لأنها كانت مشربة بفلسفة خاصة ، ولم يكن فيه مكان للشعراني الصوفي م سنة ٩٧٣ ولا لأمثاله ، وكانت كل جهود الأزهر في هذا العصر العثماني هي المحافظة على التراث القديم ، والذود عنه والقيام بشرحه والتعليق عليه دون زيادة به أو

٢٤٨

تغيير في أصوله أو تجديد في بحوثه ، وليس في ذلك من ذنب ، فالأحوال السياسية والاجتماعية التي عاش فيها المسلمون آنذاك ، كانت باعثة على الضعف العقلي الذي تجلى أثره في بيئة الأزهر العلمية.

كان الأزهر منذ نشأته يدرس العلوم العقلية والرياضية والطب والموسيقى ، وفي العصر الأيوبي شاعت فكرة تحريم علوم الفلسفة والرياضة على العالمين والمتعلمين ، وقد ساعد على ذلك فتوى ابن الصلاح بتحريم المنطق ، حيث سادت موجة كراهية علم المنطق والفلسفة ، ولذلك كره العلماء دراسة المنطق وتدريسه ، ومنهم السيوطي.

ولما تولى حكم مصر سنة ١٦١١ ه‍ أحمد كور باشا ، وكان ولعا بالعلوم العقلية ، قابل صدور العلماء ، ومنهم الشيخ عبد الله الشبراوي شيخ الأزهر ، فتكلم معهم في الرياضيات ، فقالوا لا نعرف هذه العلوم ، فضحك .. واستمر الحال كذلك إلى أن أصدر الشيخ محمد الانبابي والشيخ محمد البنا فتوى بجواز تعلم هذه العلوم ، وذلك في أواخر عام ١٣٠٥ ه‍.

وكان الأزهر مبعث المقاومة الوطنية للاحتلال الفرنسي فلقى من القائد وجيشه كثيرا من الأذى والمقاومة ، وإن استعان ببعض رجاله المرنين في أعمال الإصلاح والإدارة ، فكان في المجلس الوطني الذي ألفه نابليون بعض كبار شيوخه وأعلامه.

وكان الأزهر يكره الاستعانة برجال الغرب وعلمائه ، فقاوم محمد علي ، واستولت الحكومة على أملاكه وأوقافه ولكن بقى له على كل حال نفوذه الديني والأدبي بين الشعب.

فعلماء الأزهر وشبابه هم الذين اختارهم الوالي للدراسة في مدارسه الخصوصية الكثيرة التي أنشأها من طب وهندسة وزراعة وصناعة وقانون ولغات إلخ.

وأعضاء بعوثه العلمية التي أوفدها إلى أوروبا من بدء عام ١٨٢٦ كان جلها من أبناء الأزهر الناضجين.

٢٤٩

وعاد أعضاء هذه البعثات من أوروبا فكانوا في مصر جيلا جديدا له ميزته الخاصة في الثقافة والتفكير والترجمة والإنتاج.

وسار الأزهر على منهجه العلمي القويم بعيدا عن الدراسات العقلية والأدبية وعن العلوم الحديثة ، اللهم إلا دراسة الكتب الأولية في المنطق ودراسة بعض كتب الأدب وآثاره كالمقامات والمعلقات التي ابتدئت قراءتها فيه نحو عام ١٨٢٨.

ـ ٢ ـ

وفي الحديث انتشر النفوذ الأجنبي ، والثقافة الغربية في مصر ، ووفدت على ربوعها رسل الثقافة الأوروبية ورجال البعثات العلمية الذين أوفدهم إسماعيل إلى باريس وروما وجامعات انجلترا ، وأخذت هذه العوامل الجديدة تعمل عملها في تكوين العقلية المصرية تكوينا يتلاءم مع النهضة الفكرية والاجتماعية التي كانت تسود أوروبا ، وأبعد رجال الأزهر عن كثير من ميادين النشاط الاجتماعي في الدولة ، ومع هذه العوامل الهدامة في صرح الأزهر فقد كان إسماعيل يحلم بتكوين دولة عربية خاضعة لنفوذه ، مؤتمرة بأمره ، فدفعته آماله السياسية إلى العناية بأمر الأزهر وإصلاحه حتى يساير روح النهضة الحديثة في مصر ، وفي عام سنة ١٨٧١ صدر قانون بإصلاح الأزهر لرفع مستوى أساتذته وطلابه والثقافة فيه ، وذلك في عهد شيخه الشيخ محمد العباسي المهدي الحنفي الذي كان يتبرك به الخديوي ويصطفيه. ونص هذا القانون على إجراء امتحان نهائي للمتخرجين في الأزهر ، وعين المواد التي يجب أداء الامتحان فيها (وهي إحدى عشرة مادة) .. وقدرت مرتبات عالية للأساتذة ومكافآت مالية للطلاب. ولكن الأزهر عادى الإصلاح ، وحمل الشيخ عليش لواء المعارضة ، فوقفت روح الإصلاح فيه.

واضطرب جو مصر السياسي بالثورة العربية وأحداثها ، كما زلزل كيانها المالي في تصفية ديونها العامة ، وكان الاحتلال الأجنبي عام ١٨٨٢ ، فوقفت حركات التجديد في سائر مرافق البلاد ، وأخذ دنلوب وأعوانه يغيرون اتجاه

٢٥٠

الثقافة في المدارس المصرية ، حريصين على تغيير العقلية المصرية المعارضة لمبادىء انجلترا السياسية ، سواء بنشر الثقافة الانجليزية في مصر ومدراسها الحكومية أم بإرسال بعوث إلى انجلترا ، أم بإنشاء مدارس انجليزية لنشر الثقافة الغربية أم بإلقاء زمام الثقافة في مصر في أيدي الأساتذة والمستشارين الانجليز.

وأخذت المدارس المصرية تتأثر بالآراء الغربية على كل حال ، ما عدا الأزهر فإنه بقى على تقاليده الصريحة وآثر الذود والدفاع عنها ، ونجم عن ذلك أن اتسعت مسافة الخلاف بين الأزهر ورجال المدرسة الحديثة ، ووجدت في مصر ثقافتان مختلفتان متعارضتان : تقوم إحداهما على التراث الشرقي القديم والتخصص له وتتمثل في بيئة الأزهر ، وتقوم الأخرى على العلم والتفكير الغربي الحديث وتتمثل في مدارس الحكومة على شتى درجاتها ، وفي المدارس الأجنبية على اختلاف الثقافات التي تدعو إليها ، من فرنسية وانجليزية وأمريكية وإيطالية .. وهكذا استقلت الحياة السياسية في الدولة عن الأزهر ، وترك الأزهر على حاله ، يتصرف فيه رجاله كما يريدون ، بعيدين عن توجيه السياسة المباشرة لشئون الثقافة والتعليم فيه ، وفكر الغيورون على مستقبل العلم والدين من أبنائه مليا في أمره ، ورأوا حاجته الماسة إلى الإصلاح ، فطالبوا بإصلاح مناهجه ونظمه ، ولكن هذه الدعوات قوبلت في داخل الأزهر بعصبية متطرفة في الانكار ، بيد أن رغبات الإصلاح كانت قوية جبارة ، وكانت النهضة الحديثة تدفع الأزهر إلى التجديد العلمي ، وكان أبرز شخصية دعت إلى هذا الإصلاح هي شخصية الإمام محمد عبده تلميذ جمال الدين الأفغاني ، وكان الشيخ محمد عبده يرى أن بقاء الأزهر على حاله محال ، فإمّا أن يعمر وإما أن يخرب وابتدأ يعمل على تغيير مناهج الدراسة والثقافة فيه : بدراسته كتابى عبد القاهر الأسرار والدلائل ، وبقراءته البصائر النصيرية ، وقد علق الشيخ محمد عبده على نهج البلاغة ومقامات البديع ، وهو مدين في أسلوبه لمقدمة ابن خلدون ، واهتم الشيخ بالإصلاح.

فاستصدر مرسوما بكساوي التشريف ، واهتم بمساكن الطلاب

٢٥١

ومكافآتهم المالية وحدد مدة الإجازات السنوية وأدخل في مناهج الدراسة بعض العلوم الحديثة ، وعنى بمكتبة الأزهر ومكتبات المعاهد التابعة له. وفي عام ١٩١١ صدر قانون رقم ١٠ الذي انتقل بالأزهر إلى مرحلة أخرى من النظام فزيدت مواد الدراسة وجدد اختصاص شيخ الأزهر ، وأنشىء للأزهر مجلس يسمى الأزهر الأعلى ، ووضع نظام هيئة كبار العلماء وجعل لكل معهد مجلس إدارة ولكل مذهب شيخ.

وهكذا أثرت دعوات الإصلاح وأخذت تخطو بالأزهر خطوة فخطوة في سبيل التجديد والنظام والثقافة ، وكان من أثرها صدور قانون رقم ٣٣ عام ١٩٢٣ خاصا بانشاء قسم للتخصص .. ثم صدر عام ١٩٣٠ مرسوم بقانون رقم ٤٩ خاصا بإعادة تنظيم الأزهر وفروعه فقسم الأزهر إلى كليات ، وأنشئت معاهد فروعا له في كثير من الأقاليم. وأنشئت أقسام الإجازات وأقسام الدراسات العليا وتخصصات الأستاذية ، وعدل هذا المرسوم بمرسوم جديد عام ١٩٣٦. وهكذا خطا الأزهر خطوات جديدة واسعة في سبيل إصلاحه المنشود ، وصار الأزهر يخرج شبانا ناضجى العقلية والثقافة.

وأصبحت مناهج الدراسة والتعليم في الأزهر تنصرف تدريجيا عن القشور إلى اللباب وعن العناية بالبحوث اللفظية إلى الاهتمام بالفكرة وفهمها ومناقشتها.

ولكن رغم ذلك كله يجب أن نسائل أنفسنا من جديد. هل فرغنا حقا من خطوات الإصلاح ، وهل أثمرت هذه الإصلاحات ثمراتها المنشودة؟ وللجواب عن ذلك نقرر الحقائق الآتية :

١ ـ ما يزال المنهج العلمي السائد في الأزهر : كلياته ومعاهده ، هو المنهج القديم المحافظ. ولا تزال الكتب القديمة هي أهم المقررات العلمية للطلبة.

٢ ـ لا يزال انتاج الأزهر العلمي ضئيلا قليلا لا تكاد تحس به أو تلمس آثاره.

٢٥٢

٣ ـ ما تزال رغبات الإصلاح في الأزهر حائرة لا يستقر لها قرار ، ولا ندري كيف تسير مرافق الدولة بسرعة مدهشة ، ويبقى الأزهر وحده متخلفا عن القافلة لا يشعر بأثر الحياة فيه أحد.

٤ ـ ما تزال مكانة الأزهر الاجتماعية في الدولة ضئيلة وشخصيته في المجتمع غير واضحة.

ـ ٣ ـ

وقد بسطنا تاريخ الأزهر الثقافي والعيوب التي لا تزال محيطة به ، والآن نبسط رأينا في بعض مناهج الإصلاح ، راجين أن يتفضل الغيورون على الأزهر بإصلاحه وتمكينه من أداء رسالته.

إننا نريد أن يكون للأزهر شخصية علمية واضحة ، وأن يكون فيه بيئة قوية مهذبة أساسها الخلق الديني والنمو الروحي ، الذي يجب أن يشيع في نفس كل رجل من رجال الدين.

ونرى أنه يجب علينا أن نعني بالأمور الآتية :

أولا ـ مدة التعليم في الأزهر.

وفي رأيى أن يكون التعليم في الأزهر على المراحل الآتية :

١ ـ مرحلة التعليم العام ومدتها ست سنوات ، وتدرس فيها إحدى اللغات الأجنبية ، وتكون مناهجها قريبة جدا من مناهج التعليم في وزارة المعارف ويجب إقصاء الكتب القديمة والحواشي عن هذه المرحلة إقصاء تاما ، ويباح لمن ينال هذه المرحلة الالتحاق بجميع المدارس المتوسطة ، الزراعية والصناعية والتجارة والصيارف ومدارس الجيش ومدرسة أخرى تنشأ لتكوين المعلم تكوينا قويا ملائما للآمال المنشودة الملقاة على عاتق رجال التعليم.

٢ ـ مرحلة التعليم الخاص : ومدتها ثلاث سنوات ، ويعني فيها بدراسة العلوم الدينية والعلوم الحديثة ، وإكمال دراسة لغة من اللغات الأجنبية ، ويباح لخريجي هذا القسم الالتحاق بجميع المدارس العالية وبالجامعات المصرية.

٢٥٣

٣ ـ مرحلة التعليم العالي ومدة الدراسة فيها خمس سنوات ، ويمنح منها الطالب العالمية ويباح له الالتحاق بجميع وظائف الدولة وبالوظائف الدينية وسواها في الأزهر وفروعه وفي خارجه.

٤ ـ مرحلة الدراسات العليا ومدتها أربع سنوات ، ويخرج منها أساتذة الكليات وأعضاء البعثات التي تسافر إلى الخارج.

ثانيا ـ يجب تغيير الزي الأزهري بالزى المدني في المراحل الثلاث الدراسية ، أما مرحلة الدراسات الدينية فيجب الاحتفاظ فيها بالزي الأزهري خاصة.

ثالثا ـ خلق صلات ثقافية بين كلية اللغة وكليات الآداب وبين كليات الشريعة وكلية الحقوق.

رابعا ـ تنظيم الأزهر وفروعه ومعاهده وهيئاته العلمية تنظيما حديثا قائما على أساس الافادة من التجارب الحديثة في التربية والثقافة والتنظيم.

خامسا ـ وضع الفقه الإسلامي على نظام المجموعات الفقهية الحديثة كما هو متبع في الفقه المدني والكتابة فيه.

سادسا ـ برسم برنامج واضح لإصلاح الأزهر محدد الزمن والغاية والأهداف.

سابعا ـ يجب أن يؤلف رجال الأزهر مؤلفات حديثة في فروع الثقافة التي تدرس فيه ليستطيع أن يفيد منها الناس كافة.

ثامنا ـ يجب أن يكون مستوى القضاء الشرعي والأهلي واحدا ، كما يجب إتمام مدينة الأزهر. وإنشاء كراسي الأساتذة وجعل كادر الأزهر على نظام الكادر الجامعي.

دراسة النحو في الأزهر

كان يدرس في الأزهر من كتب النحو شرح الشيخ حسن الكفراوي

٢٥٤

على متن الاجرومية ثم حاشية أبي النجا على شرح الشيخ خالد ثم حاشية العطار على الأزهرية ثم حاشية السجاعي على شرح القطر ثم شرح الشذور وحواشيه ثم حاشية السجاعي أو الخضري على شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ثم حاشية الصبان على شرح الأشموني على الالفية ثم المغنى وشروحه وحواشيه وذلك في نحو ست سنوات وهذا كله بعد حفظ الطلاب متن الاجرومية ومنظومة الألفية وغيرهما وكيفية الدراسة أن يعين المدارس لطلبته جزءا من أول الكتاب المراد قراءته يطالعه كل واحد منهم على انفراده أو بالاشتراك مع غيره ثم يجيئون في اليوم التالي ويجلسون بين يدى شيخهم بهيئة حلقة ويسمعون منه توضيح ما عينه لهم ويناقشونه فيه هذا يسأل وهذا يعترض على المصنف وثالث يجيب عنه وهكذا وكل منهم يجتهد في اظهار علمه في مناقشاته وربما طالع لهذا الغرض حواشي غير المقرر قراءتها ولا يزال الطلبة في أخذ ورد وتصويب وتخطئة إلى أن ينتهي الدرس في نحو ساعتين وربما لا يتم الجزء المعين فيعين لهم جزءا آخر ويحصل فيه ما حصل في سابقه وهكذا إلى أن يفرغ الكتاب وهذه الطريقة تربي فيهم ملكة الجدل والبحث.

دراسة النحو في المدارس

نتقدم أولا بذكر نبذة من تاريخ المدارس في مصر فنقول :

قبل استيلاء محمد علي باشا رأس الأسرة الفخيمة الخديوية على مصر كانت المعارف فيها مقصورة على معرفة القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم بالكتاتيب التي أنشأها سلاطين المماليك وأمراؤهم وعلى التخرج من علوم الأزهر السابقة فكانت هذه الكتاتيب بمنزلة مدارس ابتدائية والأزهر بمنزلة مدارس ثانوية وعليا فلما استقام الأمر للباشا بهذه الديار أنشأ عدة مدارس ذات شأن كبير منها مدرسة للطب بأبي زعبل ومدرسة للهندسة ببولاق ومدرسة للألسن ومدرسة للزراعة ببلد نبروه ومدرسة للصناعات وثلاث مدارس للفنون الحربية ثم اقتفى أثره في ذلك من خلفه من أمراء هذه

٢٥٥

الأسرة الخديوية وكذا حكوماتهم وأشراف الأمة فزادوا في المدارس وشيدوا في أركانها وفرضوا لها النفقات إلى أن وصلت الى ما هي عليه في وقتنا الحاضر من التقدم والنظام يدير شئونها ديوان عال يرأسه وزير كبير من وزراء الحكومة وله وكيل من كبار الأمراء.

من تاريخ الأزهر المعاصر

تولى الشيخ عبد المجيد سليم المشيخة في ٢٦ ذي الحجة ١٣٦٩ ه‍ ـ ٦ أكتوبر ١٩٥٠ ، وأقيل منها في ٢ ذى الحجة سنة ١٣٧٠ ه‍ ـ ٤ سبتمبر ١٩٥١ ، وتولى مكانه في اليوم نفسه الشيخ إبراهيم حمروش.

وفي ١٤ جمادى الأولى ١٣٧١ ه‍ ـ ١٠ فبراير ١٩٥٢ أقيل الشيخ حمروش وعين مكانه الشيخ المجيد سليم.

وقد استقال الشيخ سليم في ٢٧ ذي الحجة ١٣٧١ ه‍ ـ ١٧ سبتمبر ١٩٥٢ م وعين مكانه الشيخ محمد الخضر الحسين ، وظل فيها إلى أن استقال في يوم ٨ يناير ١٩٥٤ وتولى مكانه الشيخ عبد الرحمن تاج شيخ الأزهر الحالي.

المعمرون من علماء الأزهر

في عام ١٩٥٢ أحتفل بالعيد المئوي للشيخ عبد المعطي الشرشيمي من كبار علماء الأزهر الشريف ، متعه الله بالصحة والعمر المديد.

ومن علماء الأزهر المعمرين ممن عرفناهم الشيخ محمد عبد الله العربي وقد ولد عام ٢٤٠ ه‍ فهو اليوم يبلغ أربعة وثلاثين ومائة عام من عمره المديد ، وقد تخرج في الأزهر عام ١٢٧٤ ه‍ ، واشتغل مدرسا في الأزهر ، وترك التدريس عام ١٣١٥ ه‍ ، وكان من شيوخه الشيخ الباجوري والشيخ عليش ، وحدثنا أن جمال الدين الأفغاني حدثه أنه ـ أي الأفغاني ـ من مواليد عام ١٢٣٥ ه‍.

٢٥٦

مكتبة الأزهر (١)

كان من تمام التيسير على طلبة العلم أن يكون لكل رواق مكتبة خاصة به ، تبتدىء بعدد قليل من الكتب يقفها أهل الخير ثم يتكاثر ، وعلى هذا كان لكثير من الأروقة مكتبات خاصة لا تخضع لأنظمة المكتبات التي عرفت أخيرا ، بل كان الانتفاع بها متروكا لمن ينشده من أهل الرواق أو غيرهم ، وليس في التاريخ نص صريح على أنه كان للأزهر مكتبة عامة قبل هذه المكتبة ، كما أنه يتعذر تحديد الوقت الذي نشأت فيه مكتبات الأروقة ، وكل ما يمكن أن يقال عنها : إنها قديمة أو قديمة جدا.

وقد لبثت مكتبات الأروقة على النحو الذي ذكرناه من عدم الضبط وإهمال الرقابة إلى عهد عبده ، فقد كان فيما تناوله تفكيره في الإصلاح إنشاء مكتبة أزهرية عامة تجمع شتات هذه الكتب المتفرقة في مكتبات الأروقة ، وتحفظ ما بقى من ذلك التراث العلمي الذي خلفه علماء الجامع الأزهر في العصور المتعاقبة من العبث والضياع. فقد ذكر بعض الباحثين أن كثيرا من نفائس الكتب التي كانت مودعة بمكتبات الأروقة تسرب إلى أيدي علماء أوروبا بواسطة سماسرة الكتب واستغلال الجهل والضعف الخلقي في نفوس القائمين على هذه المكتبات ، «فحين رئي تنظيم الجامع الأزهر وتوحيد مكتبته ظهر وهن الضمائر وضعف النفوس وإهمال الواجب نحو الكتب التي لعبت بها أيدي الضياع ، فتسرب بعضها وأهمل البعض الآخر للحشرات والأتربة فتلفت أوراقها وبليت ومزقت وخرمت وقطعت جلودها ، وأصبح لا يوجد منها كتاب سليم مستقيم إلا ما ندر ، ويظهر للباحث أن كتب الأزهر قبل سنة ١٨٩٧ كانت تتسرب لمتصيديها المتربصين لها منتهزين فرصة وجودها في عهدة أشخاص ملأ الجهل صدورهم وتبرأت الأمانة من قلوبهم بداعي الحاجة أو الاغراء ، فأساءوا للتعليم وخانوه جهلا أو عمدا أو تقصيرا من أولى الشأن ، فبدد هؤلاء الاشخاص أثمن ما ترك السلف ثروة

__________________

(١) من تقرير للأستاذ مدير مكتبة الأزهر : الشيخ أبو الوفا المراغى ـ مجلة الأزهر.

٢٥٧

للخلف من هذه الكتب القيمة ، وتصرفوا فيها تصرف الملاك فباعوها مع نفاستها بالثمن البخس» ولا أدل على مقدار ما فقدت مكتبات الأزهر في الماضي من المثال الآتي : «حوالي سنة ١٢٧٠ ه‍ ـ ١٨٥٣ م أمر ديوان عموم الأوقاف بجرد كتب مكتبات المساجد والتكايا وأروقة الأزهر وحاراته وقيدت جميعها في سجلين جامعين ، خصص أولهما لمكتبات الجامع الأزهر ، وثانيهما لمكتبات المساجد والتكايا ، وقد بلغ مجموع المجلدات الموجودة في ذلك الوقت في مكتبات أروقة الأزهر وحاراته ١٨٥٦٤ مجلدا : فإذا رجعنا الآن إلى هذا السجل التاريخي فلا نجد من أثمن الكتب وأنفسها إلا أسماءها ، وكأن هذين السجلين أنشأ ليكونا في الواقع مرشدا لأيدي الأغتيال التي عمدت إلى أنفس ما في المكتبات من المؤلفات الأصيلة القيمة فانتهبتها انتهابا. «وأغرب من هذا أن نفس السجلين تسربا أيضا إلى أيد أجنبية خارج الأزهر ولم يعودا اليه إلا بالشراء سنة ١٩١١ م ودفع لهما ثمن قدره ١٥٠ قرشا ، وأعيد قيدهما بالمكتبة».

ويقول الأستاذ عبد الكريم سلمان : «كان في الأزهر خزائن كتب وضعت في بعض الأروقة والحارات وبعضها في المساجد القريبة كجامع الفاكهاني وجامع العينى ونيط حفظها جميعها بأشخاص يقال لهم «المغيرون» فتصرفوا فيها تصرفا سيئا للغاية صح معه اطلاق اسم «المغيرين» عليهم ، لأنهم غيروا وضعها وشتتوا جمعها ، ومزقوا جلودها وأوراقها ، وتركوا ما لا عناية لهم به منها في التراب يأكله العث ويبليه التراب ، وهذا غير ما تصرفوا فيه تصرف الملاك وطار بأيدي باعة الكتب ، يباع على نفاسته بالثمن البخس ، ولم يبال المتصرف الأول والباغة بما كتب على ظهور تلك الكتب من العبارات التي تفيد وقفها على طلبة العلم والعلماء ، وبالجملة فلم يكن ليعرف للكتب قيمة ، ولا لينتفع بها لعدم إمكان الانتفاع». ولقد كان تعرض كتب الأروقة والحارات للضياع والتسرب إلى أيدي المترصدين لها ممن يعرف مقدارها ، هو الذي أوحى إلى الإمام بفكرة إنشاء المكتبة ، وقد تقدم بها إلى مجلس إدارة الأزهر وكان ذا نفوذ فيه فنالت القبول من أعضائه ،

٢٥٨

وبخاصة من الشيخ حسونة النواوي ، والشيخ عبد الكريم سلمان الذي كان عضدا قويا للأستاذ الإمام في حركات إصلاح الأزهر ، ووافق عليها المجلس واختار المكان المناسب ، وكتب لديوان الأوقاف الذي كان يتولى الاشراف على شئون الأزهر لاعداده للمهمة التي أختير لها ، فنفذت الفكرة فعلا من أول سنة ١٨٩٧ م الموافق شعبان سنة ١٣١٤ ، وقد لاقى صاحب الفكرة عناء عظيما في إقناع أهل الأروقة بفائدتها ، ورغم ما بذله من المحاولات في هذا السبيل فقد امتنع أهل بعض الأروقة عن ضم مكتباتها إلى المكتبة العامة كرواق الأتراك ورواق المغاربة ، وقد ضمت مكتبة الصعايدة إلى المكتبة العامة سنة ١٩٣٦ ، ولاقي المباشرون للتنفيذ صعوبات جمة في ترميم الكتب وإصلاحها وترتيبها للحالة السيئة التي كانت عليها في خزائن الأروقة كما أسلفنا .. ويصور الشيخ عبد الكريم سلمان هذه الصعوبات كلها ، فيقول :

«حملت تلك الكتب من خزائنها إلى المكان الجديد ، فكان يأتي بها أولئك المغيرون محشوة في الزكائب والمقاطف ، ثم يفرغونها تلالا وأكواما عليها خيوط العناكب وبينها الأتربة ، ويتخللها الجلود البالية ، وليس بينها من كتاب سليم مستقيم الوضع إلا ما لا يكاد يذكر ، وبجانبها أولئك الموظفون المكلفون بجمعها وترتيبها وأعضاء المجلس والأمين يراقبون عملهم ويرشدونهم إلى الطريق الأقوم ، فعملوا وأكدوا وأستخلصوا من بين هذه الدشوت والأوراق المتفرقة كتبا معتبرة في كل الفنون ، وكان معهم مندوب من ديوان الأوقاف وموظف آخر نيط به تقويم كل كتاب وجد أو جمع بالثمن اللائق به ، وقيدت في دفاتر بأعداد متسلسلة ، واستلمها الأمين بأثمانها المقدر لها ، ثم اشتغلوا بعد ذلك في توحيد الفنون ، وقرروا لكل فن موضعا مخصوصا من المكان ، وقد استغرق عملهم هذا أزمانا طوالا كانت كلها أتعابا ومشاقا ، وإني لأعرف كتبا كثيرة مما نجده الآن كاملا كان الكتاب الواحد منها بعضه في خزانة فلان ، وبعضه الآخر في خزانة فلان ، وباقيه في خزانة فلان. ولم تجمع أجزاؤه بعضها على بعض إلا بطريق المصادفة

٢٥٩

الحسنة ، وأعرف كذلك أن بعض الكتب النفيسة النادرة الوجود وجد في دشت كان في خزائن الجامع العينى ولم يعبأ به أحد ممن تولوا تغييرها للطلاب ، ولم يعن بفرز الدشت لتوحيد تلك النفائس ، إلا بعد أن كان قد صدر أمر أحد مشايخ الجامع بإحراقه وتدارك الأمر من يعرف قيمة العلم ولا يبالي بالتعب في المحافظة عليه ، وقد رأيت بعينى كثيرا من المصاحف الشريفة وهي بين الأتربة مع أنها من أجود المصاحف خطا وورقا وفيها من الفوائد وعلوم التجويد ما لا يوجد في سواها ، وغير ذلك كثير نكتفي بما ذكرناه ، فما الغرض إلا بيان حالها قبل جمعها ، وفي هذا القدر ما يكفي».

ولم يكتف الأستاذ الإمام في تكوين المكتبة بما جمع من مكتبات الأروقة ، بل دعا العظماء والعلماء إلى المشاركة في فضل تكوينها ، واستعان في ذلك بنفوذه عندهم ومكانته لديهم ، فاستجاب لدعوته بعض هؤلاء ، ووهبها الشيخ حسونة مكتبته الخاصة ، ووهبها ورثة سليمان باشا أباظة مكتبة والدهم ، وكان المرحوم سليمان أباظة من خاصة أصدقاء الشيخ ، وكان أبناؤه يعدون الشيخ كوالدهم في العطف والرعاية ، وهذه المكتبة أنفس المكتبات الخاصة بالمكتبة الأزهرية.

وتشغل المكتبة الأزهرية الآن ثلاثة أمكنة : اثنان منها داخل الأزهر وهما : المدرسة الأقبغاوية والمدرسة الطيبرسية ، والثالث خارج الأزهر ملاصق له وهو الطابق الثاني من بناء أنشأته مشيخة الجامع الأزهر سنة ١٩٣٦ كملحق للإدارة العامة المجاورة للأزهر. ولقدم المكانين الأولين وقيمتهما نلم بتاريخهما : أما المدرسة الأقبغاوية فهي على يسار الداخل إلى الأزهر من بابه الغربي الكبير «باب المزينين» وقد أنشأها الأمير أقبغا على نظم المدارس الإسلامية لهذا العهد ، والمدرسة الإسلامية لهذا العهد مسجد له خصائص المساجد من منارة ومحراب وميضأة ونحو ذلك ، إلا أنه تقام فيه الحلقات الدراسية فيقال له مدرسة ، وأنشأ بها مدفنا به قبة تعتبر من نوادر الفن الإسلامي في العمارة إلا أنه لم يدفن به ودفن بالإسكندرية ، وانتهت عمارة المدرسة سنة ٧٤٠ ه‍. ومن الطرائف التاريخية عن هذه المدرسة ما

٢٦٠