الأزهر في ألف عام - ج ٢

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٢

تباركت! هذا الدين دين محمد

أيترك في الدنيا بغير حماة؟

تباركت! هذا عالم الشرق قد قضى

ولانت قناة الدين للغمزات

زرعت لنا زرعا فأخرج شطأه

وبنت ولما نجتن الثمرات

مددنا إلى الأعلام بعدك راحنا

فردت إلى أعطافنا صفرات

وجالت بنا تبغى سواك عيوننا

فعدن وآثرن العمى شرقات

وآذوك في ذات الاله وأنكروا

مكانك حتى سودوا الصفحات

رأيت الأذى في جانب الله لذة

ورحت ولم تهمم له بشكات

لقد كنت فيهم كوكبا في غياهب

ومعرفة في أنفس نكرات

أبنت لنا التنزيل حكما وحكمة

وفرقت بين النور والظلمات

ووفقت بين الدين والعلم والحجا

فأطلعت نورا من ثلاث جهات

وفقت «لها نوتو» و «رينان» وقفة

أمدك فيها الروح بالنفحات

وخفت مقام الله في كل موقف

فخافك أهل الشك والنزغات

ووليت شطر البيت وجهك خاليا

تناجي إله البيت في الخلوات

١٦١

وكم ليلة عاندت في جوفها الكرى

ونبهت فيها صادق العزمات!

وأرصدت للباغي على دين أحمد

شباة يراع ساحر النفثات

إذا مس خذ الطرس فاض جبينه

بأسطار نور باهر اللمعات

فيا سنة مرت باعواد نعشه ،

لأنت علينا أشأم السنوات

حطمت لنا سيفا وعطلت منبرا

وأذويت روضا ناضر الزهرات

وأطفات نبراسا وأشعلت أنفسا

على جمرات الحزن منطويات

مشى نعشه يختال عجبا بربه

ويخطر بين اللمس والقبلات

تكاد الدموع الجاريات تقله

وتدفعه الأنفاس مستعرات

بكى الشرق فارتجت له الأرض رجة

وضاقت عيون الكون بالعبرات

ففي الهند محزون وفي الصين جازع

وفي «مصر» باك دائم الحسرات

وفي الشام مفجوع وفي الفبرس نادب

وفي تونس ما شئت من زفرات

بكى عالم الإسلام عالم عصره

سراج الدياجي هادم الشبهات

فلا تنصبوا للناس تمثال «عبده»

وإن كان ذكرى حكمة وثبات

١٦٢

فإني لأخشى أن يضلوا فيومئوا

إلى نور هذا الوجه بالسجدات

فياويح للشوري إذا جد جدها

وطاشت بها الآراء مشتجرات!

ويا ويح للفتيا إذا قيل : من لها؟

ويا ويح للخيرات والصدقات

فيا منزلا في «عين شمس» أظلني

وأرغم حسادي برغم عداتي

عليك سلام الله ، مالك موحشا

عبوس المغاني ، مقفر العرصات؟

لقد كنت مقصود الجوانب آهلا

تطوف بك الآمال مبتهلات

مثابة أرزاق ، ومهبط حكمة

ومطلع أنوار ، وكنز عظات

ويعد كذلك الأستاذ الإمام من فحول الكتاب الذين حرروا الكتابة العربية في النهضة الحديثة من قيودها القديمة ، وأخذوا يرجعون بأساليبها إلى أرقى عصورها وأزهر أيامها. ولقد كان الشيخ محمد عبده من أفاضل رجال الدين ، وقادة المفكرين ـ وكان أجمل وأروع قدوة المصلحين .. كما كان من أشهر رجال مصر العاملين في نهضتها الحاضرة. ولد سنة ١٨٤٥ م بمحلة نصر ، إحدى قرى مركز شبراخيت بمديرية البحيرة. وحفظ القرآن ، وتعلم مبادىء القراءة والكتابة بها ثم أرسله والده إلى معهد طنطا ، فصادف عناء في فهم العلوم لعقم طريقة التعليم وقتئذ ، وكاد ينكص على عقبيه ، ويعود إلى قريته ، ويشتعل بالفلاحة كأبيه وبقية أسرته. ولكن عناية الله قيضت له من يسر له سبيل الفهم ، وحبب إليه طلب لعلم ، فعاد إلى مناهل العلم نهما ، وغادر معهد طنطا إلى الأزهر. وأخذ يتزود من علومه بقدر استطاعته ، حتى نبه اسمه ، وعرف بالذكاء والفطنة بين إخوانه. ولما قدم إلى

١٦٣

مصر فيلسوف الشرق ، جمال الدين الأفغاني ، انتظم الشيخ محمد عبده في سلك تلاميذه ، واقتبس من علمه وفلسفته ، ولازمه ملازمة ظله ، ونال إجازة العالمية ، واختير مدرسا للأدب العربي والتاريخ بدار العلوم وأستاذا للغة العربية بمدرسة الألسن ، ثم اشتغل بالتحرير في الوقائع المصرية. وشبت الثورة العرابية ، فكان من أبطالها ، ونفى من القطر المصري بعد انتهائها ، فذهب إلى سورية ثم انتقل إلى باريس. وأنشأ مع أستاذه جمال الدين صحيفة العروة الوثقي. ثم عفى عنه سنة ١٨٨٨ م فعاد إلى مصر ، وعين قاضيا في المحاكم الأهلية ، ثم كان مفتيا للديار المصرية. وبقى في منصبه مسموع الكلمة ، واسع الجاه ، شديد البأس ، عظيم السلطان ـ إلى أن وافته منيته سنة ١٩٠٥ م فاهتز العالم الإسلامي لوفاته ، وفقد فيه الرائد المصلح ، والشجاع الأبي ، والمناضل المكافح ، والمشعل الذي أضاء دياجي الظلمات ، والسيف الذي روع الاستعمار.

بعوث الأزهر العلمية

اتصل الأزهر بأوربا التي كان يجتويها وينظر إلى علومها نظرة المعجب لا المصدق والمتفرج لا المتأثر ، والمشاهد الذي تدركه الغيبوبة في أثناء شهوده من الدهشة والغرابة ، ففي سنة ١٨٢٦ شهدت باريس وشهد الباريسيون الأزهريين في صفوف بعثات محمد علي ، وفي سنة ١٨٢٨ شهد السربون حفلا عاما من علماء فرنسا وعظمائها يستمعون إلى الأزهريين في امتحانهم ، ويعجبون باجابتهم ويصفقون لهم تنويها بهذا الاعجاب وأثبت الأزهريون عند هذا الامتحان للمرة الأولى في تاريخ مصر الحديث أن الإسلام دين علم ، وأنه لين هين لا يستعصى على نزعات الفكر ، إنما يستعصى على نزعات الشيطان تزجي اليه باسم العلم وباسم الدين .. نعم ، كان المرحوم رفاعة الطهطاوي إمام بعثات القرن التاسع عشر ، وكانت وظيفته أن يصلي بالمسلمين من أفرادها ، وأن يذكرهم إذا نسوا. وأن يتخولهم بالموعظة ليوقظ فيهم إلى جانب حاسة عرفان العلم ، إحساس وجدان

١٦٤

الفضيلة ، وما لبث رفاعة الأزهري أن كان إمام البعثات في العلم ، ومبرزهم في العمل ، وسابقهم في الفضل ، ولم تمض سنتان على عمله الذي اختطه لنفسه حتى كتب وترجم ونقل من الشمال إلى اليمين ، ما كان قد نقل من اليمين إلى الشمال ، فكان فيما كتب ونقل موفقا كل التوفيق ومسددا كل السداد.

رجع رفاعة إلى مصر فاكب وتلاميذه «تلاميذ مدرسة الألسن» على الترجمة والتأليف في السياسة والاجتماع والادب والجغرافيا والتاريخ حتى كان أول من بني قنطرة فوق الهوة التي كانت تفصل الأزهر ، بل الشرق كله ، عن أوربا. ورفاعة في كل أولئك لم ينس منبته ولا نشأته ولا أزهريته ، فإذا كتب في تاريخ فرنسا ، كتب إلى جانبه في تاريخ العرب وفي تاريخ مصر ، وكأنه يقول «لكم تاريخكم ولنا تاريخنا ، ولكم تراثكم ولنا تراثنا ، وإذا أخذنا فلكي نزيد شخصيتنا لا لنقلل منها» وإذا كتب في جغرافية «ملطبورن» نوره بذكر ياقوت الحموي وأبان عن معجمه ، وإذا تحدث عن المرأة قال : إن الإسلام لم يظلمها وإنما ظلمها أهلوها وإن تعاليم الإسلام لم تعد عليها وإنما عدت عليها اعتبارات وضعية من العادات والتقاليد. وضرب رفاعة بهذا الاتجاه الجديد المثل الأعلى لمن يريد أن يوفق بين ماضيه وحاضره ، واتخذ لمقياس التقدم وحدة الزمن الثلاثة التي تبتدىء بالماضي ، وتتطلع إلى المستقبل ، وتتخذ من الحاضر وصلة ما بينهما.

ومنذ أكثر من قرن أكب المستشرقون على دراسة الإسلام وعلوم الإسلام فبحثوا وأفادوا ، وما يفيد الأزهر أن يقف أمام المتطرف من هذه البحوث موقف الصاخب مكتفيا بما ينقل إليه عنهم إن بالحق وإن بالباطل ، بل يجب عليه أن يتصل بهم ، وأن ينازلهم في ميدانهم ، وأن يقارعهم بأسلحتهم حجة بحجة ودليلا بدليل .. وسيسمع الأزهر عن هؤلاء المستشرقين دروس المل والنحل ، الغريب منها عن الإسلام ، والمشتق منها من تعاليمه وآياته ، والمناسب منها مع عقلية العرب المسلمين ، وما أجبروا عليه إجبارا بلا مسوغ ولا تقدير. سيسمع الأزهر عن قرب وباتصال مباشر كيف تسربت

١٦٥

الفلسفة إلى المسلمين ، وكيف أساغوا ما أساغوا منها ، ورفضوا منها ما رفضوا ، وسيسمع عن تطور القراءات القرآنية وعلاقتها باللغة العربية وبلهجات العرب ، وسيدهش أبناء الأزهر إذ يرون أن كل هذه العلوم مبوبة مفصلة ، سهلة لا تستعصى على قارىء ولا تحتجب وراء أساليب تقرأ لتفهم هي لا مدلولاتها.

وقد رأى الأزهر مسايرة النهضة العلمية الحديثة في البلاد فأرسل البعوث من علمائه الأكفاء إلى البلاد الأوربية للتخصص في الفلسفة والتربية وعلم النفس والتاريخ وما إلى ذلك من علوم الحياة ليمكن الانتفاع بهم بعد عودتهم في كلياته الجامعية بدل الاساتذة المندوبين إليها من المعاهد الأخرى.

بقى أن نتحدث عن الاربعة الأزهريين الذين وصلوا باريس عام ١٩٣٦ والذين أحدثوا ضجة في أنحاء الحي اللاتيني فالمصريون كانوا يتوافدون على فندقهم جماعات يحيون في أشخاصهم عهدا جديدا ، ويمجدون في طلعتهم بلادهم الشرقية التي لم تمنعها شرقيتها أن تتطلع إلى الغرب في المفيد النافع من أساليبه مع احتفاظها بطابعها الشرقي ، ومدير البعثة كان يشغل بدراستهم وبترتيب مسكنهم ومأكلهم وكل ما يمس حياتهم في هذه البلاد ، وما ذلك بالشيء اليسير لعلماء الأزهر المعروفين بالتمسك بمبادئهم. أما الأستاذ ماسنيون فقد عنى بهم عناية خاصة فقدمهم إلى إخوانه من العلماء الفرنسيين الذين يعملون معهم ، وكان جميلا منه بعد أن عرف أن من بينهم واحدا بزوجه وأطفاله الثلاثة أن يعمل على إسكانه بالقرب من حديقة «لكسمبرج» لتكون متعة ومراحا لهؤلاء الأطفال. ولعل من الطريف أن نعرف أن الدكتور تاج أحد أعضاء هذه البعثة ، وخريج السوربون قد صار شيخا للأزهر. وقد كان من أعضاء بعثة عام ١٩٣٦ هذه في مشيخة الشيخ المراغي .. وقد أرسلت طائفة أخرى في عهد الشيخ مأمون الشناوي عام ١٩٤٩ ، وآخر مبعوث للأزهر هو الشيخ محمد فتحي عبد المنعم وقد سافر إلى فرنسا في شهر يوليو عام ١٩٥٢.

١٦٦

ومن الذين أوفدوا من الأزهريين إلى أوربا المرحوم الشيخ عبد العزيز المراغي ، والشيخ محمد عبد الله دراز ، والشيخ محمد الفحام ، والدكتور ماضي ، والدكتور البهي ، والدكتور عبد الحليم محمود ، والاستاذ علي حسن عبد القادر وسواهم.

وكتب الدكتور طه عام ١٩٣٥ يبدي رأيه في بعثات الأزهر العلمية إلى أوربا ، فقال :

«إذا أراد الأزهر أن يرسل بعوثا إلى أوربا فليرسل بعوثه أول الأمر إلى الجامعة المصرية ليتثقفوا فيها بالثقافة الحديثة ثم ليختر من بين البعوث من تظهر كفايته ، وينبه شأنه ، وتنهض الحجة على حسن استعداده. وإذا كان عند الأزهر اثنان أو ثلاثة أو أربعة قد امتازوا بكفاية نادرة واستعداد باهر فلا بأس بإرسالهم منذ الآن على أن ترسم لهم برامج ومناهج تلائم حاجات الأزهر الماسة وضروراته الملحة.

الواجب كل الواجب أن تتوازن الثقافات الاوربية حتى تستطيع الثقافة العربية الاسلامية أن تسيغها جميعا وأن تحتفظ بشخصيتها. إنا نضن بالأزهر كل الضن أن يلقي بنفسه في أحضان الثقافة اللاتينية أو السكسونية ونلح أشد الالحاح في أن يظل عربيا وعربيا خالصا يأخذ من الثقافات الاوربية المختلفة بمقادير متناسبة ، لا يطغى بعضها على بعض. فاذا لم يكن للأزهر بد من أن يتعجل إرسال البعوث إلى أوربا غير حافل بما يقدم إليه من نصح بالمهل والاناة ، فليعد للنظر في توزيع بعوثه على الاقطار الاوربية وليحذر كله أن يلتهم بلد من البلاد الاوربية بعوثه كلها ، أو أكثرها. ولينظر إلى الجامعة فقد يحسن الاقتداء بالجامعة في بعض الأشياء ، إنها لا ترسل بعوثها إلى بلد بعينه ، وإنما ترسلهم إلى البلاد الراقية في أوروبا ، فمنهم من يذهب إلى انجلترا ومنهم من يذهب إلى فرنسا ومنهم من يذهب إلى ألمانيا ، ومنهم من يذهب إلى إيطاليا. والأصل في هذا التوزيع ما قدمته من أن الجامعة حريصة كل الحرص على أن تأخذ بأطراف مختلفة من الثقافات

١٦٧

المختلفة لأنها ترى أن هذا أحفظ للشخصية المصرية الخالصة وأجدر أن يفتح للمصريين أبوابا متمايزة من العلم ، وأجدر بعد هذا كله أن يعصم العقل المصري من الاحتكار الثقافي».

وقد درج الأزهر كذلك منذ أمد بعيد على إرسال بعوث من علمائه البارزين لتثقيف الأمم الإسلامية والدعوة إلى الإسلام في البلاد التي تدين بالوثنية. فأرسل إلى الصين بعثة وإلى الحبشة وجنوب إفريقيا والهند واليابان بعثات ، وقد كان لهؤلاء جميعا أثر حميد في نشر مبادىء الإسلام ، وتبليغ تلك الأقطار رسالة الأزهر.

ولقد ظهرت آثار تلك النهضة الدينية ظهورا واضحا ، مما بعث الأقطار الإسلامية بعثا جديدا ، ورغبها في طلب بعثات من علماء الأزهر للتعليم في معاهدها ، فلبى الأزهر طلب تلك البلاد بسخاء وكرم ، وأرسل البعثات تلو البعثات إلى العراق والمملكة العربية السعودية وسوريا ولبنان وإمارة الكويت والسودان وأسمرة والبحرين وليبيا.

على الرغم من مشكلة إعداد طالب الأزهر ليكون مبعوثا ناجحا ، فإن الكثيرين نجحوا في رسالتهم ، وكان اللقاء مع نموذجين لهؤلاء المبعوثين الناجحين .. أولهما : الدكتور رءوف شلبي المتخصص في الدعوة الإسلامية والذي اتم ٤ سنوات في اندونيسيا وهو حاليا مدير المركز الإسلامي في ماليزيا منذ ٣ سنوات .. يقول : ان أهم المشاكل التي واجهته هي الدعاية الغربية والصهيونية هناك. ولذلك فهو يرى ضرورة الربط بين مبعوثي الأزهر والسفارات المصرية بالخارج وأجهزة الإعلام الموجهة بالاضافة إلى إراحة المبعوث ماديا حتى لا تمتد يده إلى مصادر غريبة تمده بالمال لاغراض معينة. ويضيف بأن من عيوب اعداد مبعوث الأزهر القصور اللغوي الواضح لدرجة أنه تعلم اللغة المالاوية بمجهوده الشخصي لا عن طريق الجامعة ، ورغم ذلك فقد أقنع آلاف البوذيين باعتناق الإسلام خلال ٣ سنوات.

ونموذج آخر للمبعوث الناجح. صاحبه علي علي الشربيني

١٦٨

المتخصص في التفسير والحديث والذي سافر إلى «جامبيا» عام ١٩٧٢ ، وهو مدير المدرسة الإسلامية التي تضم (٤٠٠) تلميذ ، ورشح ليكون مديرا للمدرسة الجديدة التي سوف تنشئها الجمعية الإسلامية في (بانجول) في العام القادم. ويتحدث عن المشاكل قائلا : لا يوجد في جامبيا برنامج تعليمي منظم ولا يوجد كتاب واحد مؤلف باللغة العربية ، حتى انه قام بكتابة الدروس بخط اليد لاساتذة مدرسية! ، وهو يرى ان جامعة الأزهر مسئولة عن اعداد برنامج الدراسة والكتب العربية.

وكذلك وقد من الأقطار الإسلامية طلبة يتعلمون في الأزهر ، وهو يقوم بكل ما تتطلبه إقامتهم من راحة ، ورفاهة عيش ، ويكل إلى بعض الأساتذة المربين تعليمهم أولا اللغة العربية ، ثم يعدهم لمراحل التعليم المختلفة. وقد بلغ عددهم عام ١٩٥٠ زهاء الألف طالب.

منهج الدراسة بالأزهر منذ إنشائه

أول كتاب درس بالجامع الأزهر هو كتاب الاقتصار الذي وضعه أبو حنيفة النعمان بن محمد القيرواني قاضي المعز لدين الله في فقه آل البيت ، وكان يتولى دراسته بالأزهر ولده أبو الحسن علي بن النعمان كما أسلفنا ، ودرسه بعده بنو النعمان الذين تعاقبوا في قضاء مصر حتى نهاية القرن الرابع. وكان يدرس بجانب الاقتصار كتب أخرى في فقه الشيعة للنعمان القيرواني أيضا ، وهي : كتاب دعائم الإسلام ، وكتاب اختلاف الأصول ، وكتاب الأخبار ، وكتاب اختلاف الفقهاء.

وقرىء بالأزهر كتاب ألفه الوزير يعقوب بن كلس ، وكان يجلس لقراءته وتدريسه بنفسه ، وأفتى الناس بما فيه. وموضوعه الفقه الشيعي على مذهب الاسماعيلية مما سمعه الوزير ابن كلس من المعز لدين الله ، والعزيز بالله ، ولهذا اشتهر بالرسالة الوزيرية.

وكان التدريس بالأزهر يجري على مذهب الشيعة يومئذ ، وكان في أول الأمر من المحظور أن يدرس غير ذلك ، ولهذا قبض على رجل وجد

١٦٩

عنده كتاب الموطأ للإمام مالك ، فحبس وجلد في سنة ٣٨١ ه‍ في عهد العزيز بالله. وفي أواخر الدولة الفاطمية كادت تكون الدراسة في الأزهر حرة ، ولكن لم يعرف بالضبط أسماء الكتب التي كانت تدرس في ذلك العصر.

وممن تولى التدريس بالأزهر ، في العصر الفاطمي ، الأساتذة بنو النعمان قضاة مصر ، فكان القاضي أبو الحسن علي بن النعمان أول من درس بالأزهر ، وتوفي سنة ٣٧٤ ه‍ ، ودرس بالأزهر أخوه القاضي محمد بن النعمان وتوفي سنة ٣٨٩ ه‍ ، ثم ولده الحسن بن النعمان قاضي الحاكم بامر الله ، والمؤرخ الحسن بن زولاق المتوفى سنة ٣٧٨ ه‍ والمسبحي المتوفى سنة ٤٢٠ ه‍ وكان من أعلام التفكير والأدب والفلك والتاريخ ، وأبو عبد الله القضاعي ، وهو محمد بن سلامة بن جعفر المتوفى سنة ٤٥٤ ه‍ والحوفي النحوي ، وهو أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سعيد المتوفى سنة ٤٣٠ ه‍ وأبو العباس أحمد بن هاشم المصري المتوفى سنة ٤٥٤ ه‍ ، وابن بابشاذ النحوي ، وهو أبو الحسن طاهر بن أحمد المصري المعروف بابن بابشاذ المتوفى سنة ٤٦٩ ه‍ وأبو عبد الله محمد بن بركات النحوي تلميذ القضاعي المتوفى سنة ٥٣٠ ه‍.

ولا شك أنه قد اشتهر من أولئك الأئمة من صنف الكتب الكبيرة ، والمراجع العظيمة في العلوم الدينية والعربية ، التي كانت تدرس في الأزهر ، كالعلامة أبي الحسن علي بن إبراهيم الحوفي إمام العربية والنحو وصاحب كتاب إعراب القرآن ، وابن بابشاذ النحوي صاحب كتاب المقدمة وشرح الجمل ، وابن القطاع اللغوي صاحب كتاب الأفعال ، وأبي محمد عبد الله بن بري المصري إمام اللغة في عصره ، وغيرهم ممن انتهت اليهم الرياسة في هذا العصر ، واعتبرت مصنفاتهم متونا ومراجع.

وفي أواخر القرن السادس أي بعد ذهاب الدولة الفاطمية ، وقيام الدولة الأيوبية نرى الأزهر جامعة حرة تدرس فيها العلوم العقلية أو العلوم

١٧٠

المدنية إلى جانب العلوم الدينية بصورة منتظمة. فمثلا نرى بين أساتذة الأزهر في هذه الفترة العلامة عبد اللطيف البغدادي يدرس الطب والفلسفة والمنطق مدى حين (١).

بيد أنه لا ريب أن صفة الأزهر الدينية كانت وما زالت تغلب على كل صفة أخرى ، وأن علوم الدين كانت وما زالت خلال العصور تحتل المقام الأول.

وهذه خاصة لم ينفرد بها الأزهر في العصور الوسطى. ذلك أن الحركة العقلية كانت خلال هذه العصور ترتبط في جميع الأمم بالدين أشد ارتباط ، وكانت الأديرة مراكز الدراسة في أوروبا والأحبار هم قادة الفكر. بيد أنه لما تقدمت الحركة الفكرية ، وتسربت النظريات الفلسفية إلى تعاليم الكنيسة ، أخذت سيطرة الدين على حركة التعليم تضعف شيئا فشيئا.

ولم تلبث الجامعة الأوروبية أن نشأت منذ القرن الثاني عشر ثم أخذت تقوى ويشتد ساعدها وتسير نحو استقلالها ، واضطرت الكنيسة أن تناصر هذا الاستقلال ، طالما كان بعيدا عن الاصطدام بتعاليمها وتقاليدها ، وذلك خوفا من أن يقع التعليم تحت سيطرة أمير أو حاكم مطلق يوجهه نحو خصومتها. ولم يأت ختام العصور الوسطى حتى كانت الجامعة الأوروبية قد حققت استقلالها العلمي ، وأخذت تسير نحو النور والحقيقة ، بعيدة عن المؤثرات الدينية والسياسية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.

وقد كان التعليم الجامعي يميل منذ البداية نحو التخصص ، وكانت الدراسة تجرى تقريبا على نفس الأساليب التي كانت تتبع في الأزهر وباقي المعاهد الإسلامية من الاستيعاب والتخصص ، مثال ذلك جامعة بولونيا التي اشتهرت في القرن الثاني عشر بتوفر أساتذتها وطلبتها على دراسة القانون الروماني ووضع حواشيه الشهيرة.

__________________

(١) ترجمة عبد اللطيف البغدادي في «مناقب الاطباء» لابن أبي صبيعة فيما يرويه عبد اللطيف عن نفسه ، ونفس هذه الترجمة في كتاب «الافادة والاعتبار» لعبد اللطيف.

١٧١

وقد وفد إلى مصر عقب انتهاء الدولة الفاطمية أبو القاسم الرعيني الشاطبي الضرير ، المقرىء الشهير المتوفى سنة ٥٩٠ ه‍ وهو صاحب حرز الأمانى ووجه التهاني الذي ما زال إلى اليوم من أهم متون التجويد والقراءات.

ويظهر من عناية الخلفاء الفاطميين بالعلوم الرياضية والفلكية والطبية والجغرافية أن تلك العلوم لا بد أن تكون قد درست في الأزهر في زمانهم ، كما كانت تدرس في دار الحكمة التي أسسها الحاكم بأمر الله سنة ٣٩٥ ه‍ (١٠٠٥ م).

وقد كان الأزهر في زمن الفاطميين موئل الثقافة الدينية ، وكان له الأثر الواضح في تنمية الحياة العقلية والفكرية وتخريج علماء الدين واللغة ، ولكنه لم يكن له أثر في توجيه الحياة السياسية في ذلك العصر ، مثل ما ظهر له ظهورا جليا في الدولة المصرية بعد ذلك.

ولما انقرضت دولة الفاطميين سنة ٥٦٧ ه‍ واستولى صلاح الدين بن يوسف الايوبي على ملك مصر ، أنشأ بالقاهرة مدرسة للفقهاء الشافعية ، وأخرى للفقهاء الماليكية ، ونحي قضاة مصر الشيعة كلهم ، وابتنى خلفاؤه من بعده المدارس المتنوعة والتي خصصت كل مدرسة منها بتدريس علوم خاصة ، وتحولت الحركة والنشاط العلمي في الأزهر إلى تلك المدارس ، وإن لم تنقطع الدراسة فيه ، كما أسلفنا.

وفي زمن الظاهر بيبرس البندقداري من ملوك الجراكسة سنة ٦٦٥ ه‍ أعاد للأزهر حياته العلمية والدينية. وأول ما درس به من مذاهب أهل السنة مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه ، ثم أدخلت اليه المذاهب الأخرى تباعا.

واتجهت العناية الكبرى حينئذ لا تقان تدريس العلوم الدينية بوجه خاص ، وتسابقت همم الفحول في إتقان آلاتها ، من نحو وصرف وبلاغة ، فنبغ بمصر أئمة أعلام يفتخر بهم اليوم العالم الإسلامي أجمع ، كالإمام عز

١٧٢

الدين بن عبد السلام ، والإمام السبكي وأبنائه ، والشهاب القرافي ، وابن هشام ، والسراج البلقيني ، وجلال الدين السيوطي ، وغيرهم من المصريين ، وإبراهيم بن عيسى الاندلسي ، وعز الدين عمر بن عبد الله عمر القدسي ، والإمام الاصبهاني ، والإمام الزيلعي ، وابن الحاج محمد العبدري الفاسي ، وأبي حيان محمد بن يوسف الغرناطي ، وتاج الدين التبريزي ، والحافظ العراقي ، والحافظ بن حجر العسقلاني ، وعلاء الدين الحموي ، والرضى الشاطبي ، ومحمد بن محمد البغدادي ، وشيخ الإسلام زكريا الانصاري ، وقاسم بن محمد التونسي ، وغيرهم من الذين رحلوا من أقاصي الأرض لمصر لتعلم العلم بالأزهر.

وكانت العلوم العقلية من رياضية وغيرها تدرس أيضا ، ولسكن المشتغلين بها كانوا نززا من الطلبة.

وفي أواخر القرن التاسع الهجري أصاب الأزهر ما أصاب المعاهد الأخرى من الذبول والركود ، وفقدت مصر استقلالها سنة ٩٢٢ ه‍ ـ (سنة ١٥١٧ م) فتقلص ظل النشاط والازدهار العلمي ، وانصرف كثير عن العلوم العقلية والفلسفية والرياضية والجغرافية ، وأخذ القول بحرمتها يتسرب شيئا فشيئا حتى تركت هذه العلوم من الأزهر ، وبقيت مهجورة ينظر اليها نظرة السخط ، حتى صدرت فتوى من شيخ الأزهر الشيخ الإنبابي والشيخ محمد البنا مفتي مصر بجواز تعلمها ، وعدم حرمة تدريسها.

ولا يفوتنا أن ننبه إلى أنه كان من العلماء في عهد ركود الأزهر وجموده من يعرف كثيرا من العلوم العقلية والطبية وغيرها زيادة على العلوم الدينية والعربية ، وهؤلاء لا يحصون ، نذكر منهم على سبيل المثال : الشيخ أحمد عبد المنعم الدمنهوري شيخ الأزهر المتوفى سنة ١١٩٢ ه‍ فقد جاء في سند إجازته ما ملخصه : أنه تلقى في الأزهر العلوم الآتية وله تآليف في كثير منها ، وهي : الحساب ، والميقات ، والجبر ، والمنحرفات ، وأسباب الأمراض وعلاماتها ، وعلم الأسطرلاب والزيج ، والهندسة ، والهيئة ، وعلم الأرتماطيقي ، وعلم المزاول ، وعلم الأعمال الرصدية ، وعلم المواليد

١٧٣

الثلاثة ، وهي الحيوان والنبات والمعادن ، وعلم استنباط المياه ، وعلاج البواسير ، وعلم التشريح ، وعلاج لسع العقرب ، وتاريخ العرب والعجم.

ومما لا ريب فيه أن العلوم الدينية والعربية كان لها الشأن الأول من العلوم نسبيا ، وما عداها من العلوم كالحكمة الفلسفية والتصوف لم يكن يدرس في الأزهر ولا بين جماهيره ، ولكن كان له دراسة خاصة في المنازل ، أو الأروقة التابعة للأزهر.

ويحسن أن نثبت هنا وثيقة رسمية لمشيخة الأزهر وضعتها بناء على طلب الحكومة لتبعث بها إلى لجنة معرض باريس ، وذلك في عهد الخديوي إسماعيل سنة ١٢٨٢ ه‍ (١٨٦٤ م).

وقد جاء في هذه الوثيقة أن المواد التي كانت تدرس بالأزهر في تلك العهد هي : الفقه ، الأصول ، التفسير ، الحديث ، التوحيد ، النحو ، الصرف ، المعاني والبيان والبديع ، متن اللغة ، العروض والقافية ، الحكمة الفلسفية ، والتصوف ، المنطق ، الحساب ، الجبر والمقابلة ، الفلك والهيئة.

وزادت المشيخة على ذلك أنه يقرأ في الأزهر ، فضلا عن هذه المواد المتداولة ، بعض مواد أخرى كالهندسة والتاريخ والموسيقى وغيرها لمن لهم اقتدار على دراستها ، بيد أنه لا يشتغل بدراستها سوى القليل.

الدراسة في الأزهر قبل النظام

منذ أصبح الأزهر مدرسة جامعة ، كان يسير على نظام سهل يكاد يكون فطريا ، أساسه التقوى ، وقوامه احترام الدين وأهله. وكان شيخ الجامع الأزهر المرجع الأعلى لمن كان فيه من أصغر طالب إلى أكبر عالم ، كلمته هي العليا ، وإشارته حكم لا يتخطاه واحد منهم ، يوزع الأحباس والهبات ، ويجيز العلماء والمدرسين ، وكان إذا أشكل عليه أمر استشار فيه أكابر العلماء.

كان الطالب يدخل الأزهر مختارا بلا قيد ولا شرط ، ويختلف إلى من

١٧٤

أراد من العلماء لتلقي العلم عنه ، ويبقى فيه ما شاء أن يقيم ، فاذا آنس من نفسه علما كافيا ، وملكة يتمكن بها من إفادة غيره ، استأذن أساتذته ، وجلس للتدريس حيث يجد مكانا خاليا ، وعرض نفسه على الطلبة ، فكانوا إذا لم يجدوا فيه الكفاية للإفادة انفضوا من حوله ، وإذا وجدوه على علم وثقوا به ، واستمروا على تلقي العلم عنه ، وحينئذ يجيزه شيخ الأزهر إجازة.

ولما كان أساس التعليم فيه دينيا ابتداء على الطريقة التي كان السلف يدرسون عليها الدين ، وعلومه ، فكانت الدروس تعقد به حلقات ، يتصدر كل حلقة أستاذها ، وقد يجلس على كرسي ليتمكن من إسماع طلبته الكثيرين.

وكان عماد الدراسة إذ ذاك النقاش والحوار بين الطلبة وأساتذتهم بما يثقف العقل وينمي ملكة الفهم ، وظلوا على ذلك مدة طويلة إلى أن أقتضى الحال وضع قوانين خاصة للأزهر وطلبته وعلمائه وإدارته والدراسة فيه.

قوانين الأزهر

أول قانون وضع للأزهر في عهد إسماعيل والى مصر الأسبق سنة ١٢٨٨ ه‍ سنة ١٨٧٢ م ، وكان شيخ الأزهر وقتئذ الشيخ محمد المهدي العباسي.

وقد نظم هذا القانون طريقة نيل شهادة العالمية ، وبين مواد امتحانها ، وقسم الناجحين فيها إلى ثلاث درجات : (أولى ، وثانية ، وثالثة) ، على أن تصدر بذلك براءة ملكية بتوقيع ولي الامر ، والمواد التي بينها ذلك القانون والتي يدرسها الطلبة ويمتحنون فيها هي : الأصول ، الفقه ، التوحيد ، الحديث ، التفسير ، النحو ، الصرف ، المعاني ، البيان ، والبديع ، المنطق.

ولكن مما يؤسف له أن هذا القانون لم يستطع أن ينهض بالأزهر النهضة المرغوبة ، ولم يتجاوز بمواد الامتحان لنيل شهادة العالمية «الاحد

١٧٥

عشر علما (١)» ، مما يدل على جمود الحركة العلمية ، وفتور النشاط فيه.

وحدث بعد ذلك أن عين المرحوم الشيخ حسونة النواوي شيخا للأزهر. وكان الشيخ محمد عبده رحمه الله عضده وساعده ، فتعاونا على إنهاض الأزهر من كبوته ، وفي ذلك الحين وضع القانون الصادر بتاريخ ٢٠ المحرم سنة ١٣١٤ ه‍ ـ ١٨٩٦ م.

وقد لحظ واضعو هذا القانون من وجوه الاصلاح مارأوه كفيلا بإنهاض الأزهر ، فأدخلوا فيه مواد جديدة هي : الاخلاق ، مصطلح الحديث ، الحساب ، الجبر ، العروض والقافية ، وجعل التاريخ الإسلامي ، والإنشاء ، ومتن اللغة ، ومبادىء الهندسة ، وتقويم البلدان وغيرها من مواد يفضل محصلها على غيره ، ويقدم عليه ، وفك التقيد بكتب دون أخرى ، وحرم قراءة الحواشي في السنوات الأربع الاولى ، وحرم التقارير التي على الحواشي ، وبذلك نهض الأزهر نهضة مباركة ، لو ظلت على حالها ولم تناهضها الاحداث لكان لها في تاريخ الأزهر شأن يذكر ، ولكنها كانت كلسان الشمعة أضاء حينا ثم انطفأ. فقد انفرط عقد النظام ، وانهارت النهضة العلمية بخروج الشيخ محمد عبده من مجلس إدارة الأزهر ووفاته سنة ١٩٠٥ م.

وما زالت تتوالى على الأزهر القوانين والأنظمة واللوائح حتى سنة ١٣٢٩ ه‍ (١٩١١ م) ولم تكن في تلك القوانين واللوائح ما يمس جوهر المواد الدراسية ، وإنما يتناول تنظيم بعض الحالات الداخلية في الأزهر ، كحضور الطلاب ، وصرف المرتبات ، ومنح كساوي التشريفات من ولي الأمر ، وتعيين بعض المدرسين لدراسة الحساب والجبر والهندسة والجغرافيا والخط وغير ذلك.

__________________

(١) كان لفط «الاحد عشر علما» هو اللقب الشائع لذلك القانون في عهده

١٧٦

قانون رقم ١٠ سنة ١٩١١ م :

يعتبر القانون رقم ١٠ سنة ١٩١١ م من أهم قوانين الأزهر في ذلك العهد ، حيث تناول الدراسة ، وجعلها مراحل ، وجعل لكل مرحلة نظاما وعلوما ، وزاد في مواد الدراسة ، وحدد اختصاص شيخ الجامع الأزهر ، وأنشأ هيئة تشرف على الأزهر تحت رئاسة شيخه تسمى مجلس الأزهر الأعلى ، وأوجد هيئة كبار العلماء وجعل لها نظاما خاصا ، وأن يكون لكل مذهب من المذاهب الأربعة التي تدرس في الأزهر شيخ ، ولكل معهد من المعاهد مجلس إدارة ، وجعل للموظفين نظاما في التعيين والترقية والتأديب والاجازات ، وللطلاب شروطا في القبول ، وحدودا للعقوبات والمسامحات ونظم الامتحانات والشهادات (١).

ونستطيع أن نبين بإيجاز الظروف والأحوال التي مرت فيها هذه القوانين ، والثمرات التي جناها الأزهر منها. والمآخذ التي أخذت عليها ، إلى أن وضع قانون سنة ١٩٣٠ م المعدل بقانون سنة ١٩٣٦ م.

أشرنا فيما سبق أن قانون سنة ١٢٨٨ قد وضع حدا للفوضى والارتباك الذي تورط فيه الأزهر في ذلك الحين. ولكنه لم يستطع أن ينهض به إلى الغاية التي يرنو إليها محبو الإصلاح ، ولم ينقله من جموده الذي استولى عليه ، فبقى التعليم فيه كما كان مقصورا على العلوم الدينية والعربية وقليل من الهيئة والميقات والحساب للحاجة إليها في مواقيت الصلات والمواريث. ولم يتأثر الأزهر ولا مناهج الدراسة فيه بالنهضة العلمية التي بعثها محمد

__________________

(١) وقد وضع هذا القانون لجنة مؤلفة من فتحي زغلول باشا ، وعبد الخالق ثروت باشا ، واسماعيل صدقي باشا ، على أثر ثورة إصلاحية قام بها طلاب الأزهر ، وساعدهم على ذلك بعض العلماء في ذلك العهد. ولم يقبل أولو الأمر منهم في مبدأ الحركة مطالبهم التي يعبرون فيها عن آلامهم من النظام القائم ، فلما اشتدت الحركة ورأت الحكومة ان الأمر كاد يخرج من يدها لاستغلال بعض الأحزاب هذه الحركة ، ولاستقالة الشيخ حسونة النواوي شيخ الأزهر بسبب ذلك ، أصدرت امرا بتأليف اللجنة التي أشرنا اليها ، ووضع القانون رقم ١٠ لسنة ١٩١١ م.

١٧٧

على الكبير في مصر ، على حين أن الباشا قد وجد في أبناء الأزهر المادة الأساسية التي أقام بها دعائم نهضته.

ورغم اقتصار الأزهر على هذه المواد فإن الطلبة كانوا يقضون في تحصيلها مددا طويلة أقلها خمس عشرة سنة ، ولا حد لأكثرها.

ومع أنها كانت تدرس في كتب سقيمة من المختصرات التي لا تفهم إلا بشروح وحواش وتقارير ، فإن الطلبة كانوا يقدرون على الاستقلال بدراسة الكتب ويقدرون على فهمها ، وكانت تنمو فيهم ملكات البحث والجدل. ولكن إذا وازنا بين الفائدة التي يجنيها الأزهر من التعليم التحاوري اللفظي والمزايا التي يفقدها من عدم عنايته بالعلوم الكونية التي لا بد منها في تطبيق الأحكام الشرعية على وجهها الصحيح ، لو وازنا بين ذلك أدركنا عدم قيام الأزهر بالثقافات التي تتطلبها حاجات العصر.

كل هذا كان يبعث أهل الغيرة من رجال الأمة ورجال الحكومة على تلمس وجوه الاصلاح ، ولم يكن من الميسور أن يكون إصلاح الأزهر سهلا لاعتبارات تقليدية تاريخية. ولا من الجائز أن يسلك في إصلاحه ما يسلك في تنظيم المدارس المدنية. بل كان يجب أن يتناوله الاصلاح برفق ، وأن يكون بإضافة القدر الضروري من المعارف ، وإصلاح طريقة التعليم ، وباختيار الكتب ، وبتوجيه هذه القوى الجبارة إلى جوهر العلم ، وأسرار الدين ، وأسرار العربية.

وهذا الذي أشرنا إليه هو الذي لاحظه واضعو قانون سنة ١٨٩٦ فضمنوه من وجوه الإصلاح مارأوه كفيلا بإنهاض الأزهر ، وكان من حسن الحظ أن الذي قام على تنفيذ هذا القانون مجلس إدارة يضم طائفة من العلماء خلصت نيتهم وتوافرت لديهم وسائل التنفيذ ، وهم المشايخ : حسونة النواوي ، محمد عبده ، سليم البشري ، عبد الكريم سلمان ، سليمان العبد ، أسبغ الله عليهم واسع رحمته ورضوانه .. وقد أضاف هذا القانون مواد جديدة هي : الأخلاق ، مصطلح الحديث ، الحساب ، الجبر ، العروض والقافية.

١٧٨

وجعل التاريخ الإسلامي والإنشاء ومتن اللغة ومبادىء الهندسة وتقويم البلدان ، وغيرها من مواد يفضل محصلها على غيره ويقدم عليه ، وفك التقيد بكتب دون أخرى ، وحرم قراءة الحواشي في السنوات الأربع الأولى. وجعل من اختصاص مجلس الإدارة أن يعدل في مواد التعليم طبقا لما يراه من المصلحة.

سار الأزهر على هذا النظام عشر سنوات سيرا متئدا متزنا ، لم تطغ فيه المواد الجديدة على المواد القديمة ، لأنها أخذت بمقدار يناسب حال الأزهر ، ونشطت دراسة العلوم الدينية والعربية بما كان يعطي للطلاب من المكافآت السنوية ، وبما كان ينشر بينهم من أفكار المرحوم الشيخ محمد عبده في دروسه ومجتمعاته. وقد انفرط عقد النظام بخروج الشيخ محمد عبده من مجلس الإدارة ثم وفاته سنة ١٩٠٥ رضي الله عنه ، كما قدمنا.

جدت بعد ذلك أحداث وفتن ، وعولت الحكومة على إنشاء مدرسة للقضاء الشرعي ، فصدر بها قانون في سنة ١٩٠٧ ، وشعر الأزهريون بأن الحكومة أصبحت في غنى عنهم ، لأن لها مدرسة لتخريج معلمي العربية في مدارسها ومعاهدها ، هي دار العلوم ، ومدرسة لتخريج القضاة.

وخاف القائمون على الأزهر من تقلص ظله ، ومن عدم إقبال الناس عليه ، حيث لم يبق بعد ذلك للعلماء إلا وظائف الإمامة والخطابة في المساجد ، ففكروا وفكر الناس معهم في إعادة تنظيم الأزهر على مثال مدرسة القضاء ، ومدرسة دار العلوم ، بل على مثال يوجد للدراسة مواد أكثر ومناهج أطول. وانتهى الأمر بهم إلى وضع القانون رقم ١٠ لسنة ١٩١١ وكثر الاقبال على الأزهر ، ووجدت معاهد أخرى في عواصم المديريات ، وبعض المحافظات ، جرت على نهجه ، وسارت عليها نظمه ، حتى صار عدد الطلاب في سنة ١٩١٧ م أكثر من عشرين ألفا.

وهذا القانون لم يخل من الفائدة ، لأن تعلم التاريخ والجغرافيا والرياضة ومبادىء الطبيعة والكيمياء قرب طلبة الأزهر من تلاميذ المعاهد

١٧٩

الأخرى ، وغير عقليتهم ، ووسع أفقهم ، وإدخال المطالعة والمحفوظات والإنشاء أوجد من أهل الأزهر عددا كبيرا من الكتاب والشعراء ، ومكن لهم من القدرة على الخطابة والوعظ.

وهذه الفائدة التي أفادها القانون رقم ١٠ لسنة ١٩١١ تعد ضئيلة بجانب الضرر الذي نجم عنه ، فقد اضطر الطلاب ليفوزوا بالنجاح في الامتحان التحريري إلى أن يعتمدوا على الحفظ والاستظهار ، واستهانت المعاهد بالامتحان الشفوي.

وقد شعر المهيمنون على التعليم في الأزهر منذ وضع ذلك القانون بأن الأزهر أخذ يفقد أهم خصائصه ومميزات تعليمه ، ولم تخل تقارير المفتشين في سنة من السنوات من الشكوى من اعتماد الطلبة على الاستظهار ، ومن ضعف ملكاتهم العلمية. وقد توالت على هذا القانون تعديلات آخرها التعديل الذي أدخل عليه بالقانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٣٠ وهو أظهر تعديل طرأ عليه ، ففي هذا القانون قسم التعليم العالي إلى ثلاث كليات : واحدة لعلم أصول الدين ، وثانية لعلوم الشريعة ، وثالثة لعلوم اللغة العربية ، وأوجد تخصصا سمى تخصص المادة ، وآخر سمي تخصص المهنة.

وقد كان الغرض من هذا تفرغ كل طائفة من التلاميذ في التعليم العالي والتخصص لطائفة من المواد الكثيرة التي كانت تدرس مجتمعة حتى يتيسر إتقان الدرس والفهم ، وإتقان التحصيل. ومع هذا ظلت الشكوى قائمة ، وظهر أن الداء الذي يجب أن يحسم ويستأصل هو ضعف الطلبة في القسم الثانوي بسبب كثرة المواد ، وبسبب طول المناهج في بعض المواد التي لا يحتاج الطالب في الأزهر إلى طول المناهج فيها. فهذه الكثرة وهذا الطول لم يدعا وقتا لفهم الدروس وتمثيلها ، ولم يدعا وقتا لطول التفكير والبحث والجدل ، وتنمية ملكات العلوم والاستنباط (١)

__________________

(١) كان الشيخ المراغى في آخر مشيخته الأولى وقد وضع مشروع قانون الاصلاح الأزهر ، وتقدم

١٨٠