الأزهر في ألف عام - ج ٢

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٢

رسول القريض في التأبين

بعثتني لأندب العلم والدين

وأبكيهما بدمع سخين

بعثتني وساقها حسن ظن

في ضعيف ينوء تحت الظنون

ولعمري لو لم تكن بعثتني

لرأتني بالدمع غير ضنين

فلقد كان بي حقيقا وكانت

بيننا عروة الود المتين

عقدت بيننا المودة قربي

زاد توثيقها توالى السنين

شيبتني مواقف الحزن تترى

ورثاء الخدن أثر الخدين

ووقوفي على الربوع الخوالي

وبكائي المكان بعد المكين

والتياعي على أيامي تخلت

عن حماها يد الكفيل المعين

ويتامى تذوق في العيش بؤسا

بعد خفض من الزمان ولين

برح الحزن والجوى بفؤادي

قرح الدمع والبكا من جفوني

من مجيري من بعدها ومقيلي

من وقوفي بطرف باك حزين؟

يا غريب الديار لم تفقد الأهل

فما مصر غير ام حنون

جئتها عالما وطالب علم

٤١

فتلقتك في الحشى والعيون

يا ربيب الامام في مجلس العلم

وفي موطن الهدى واليقين

كنت أو في بنيه حفظا لذكراه

وأبقى على الوفاء المصون

الشيخ محمد شاكر

١٢٨٢ ه‍ ـ ١٨٦٦ م ـ ١٣٥٨ ه‍ ـ ١٩٣٩ م

تعلم الشيخ محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر في الأزهر ، وكان من أسرة ابي علياء من أشراف الصعيد. وولد بمدينة «جرجا» في منتصف شوال من سنة ١٢٨٢ ه‍ ـ مارس سنة ١٨٦٦ ، (١) وقد تخرج من الأزهر. وفي منتصف رجب سنة ١٣٠٧ ه‍ ـ ٤ من مارس سنة ١٨٩٠ عين أمينا للفتوى مع مفتي الديار المصرية أستاذه الشيخ محمد العباسي المهدي. وفي السابع من شعبان سنة ١٣١١ ه‍ ـ ١٣ من فبراير سنة ١٨٩٤ ولي منصب نائب محكمة مديرية القليوبية ، ثم عين في منصب قاضي قضاة السودان في ١٠ من ذي القعدة سنة ١٣١٧ ه‍ ـ ١١ من مارس سنة ١٩٠٠ ، ثم عاد شيخا لمعهد اسكندرية في أبريل ١٩٠٤ ، وفي أواخر سنة ١٣٢٤ ه‍ ندب للقيام بأعباء مشيخة الأزهر نيابة عن الشيخ عبد الرحمن الشربيني شيخ الأزهر إذ ذاك ، فجمع بين ذلك وبين مشيخة المعهد الاسكندري ، حتى كان التاسع من ربيع الاخر سنة ١٣٢٧ ه‍ ـ ٢٩ من أبريل سنة ١٩٠٩ م ، حيث صدر أمر بتعيينه وكيلا للجامع الأزهر ، وفي عهد وكالته صدر قانون النظام في الأزهر سنة ١٩١١ م الذي قسمت بمقتضاه الدراسة إلى مراحل لكل منها نظام ومواد خاصة ، وعهد إليه بتطبيق القانون الجديد ، فأنشىء القسم الأول وعين شيخا له مع بقائه وكيلا للجامع الأزهر. وقد أنشأ معهدين في أسيوط وقنا. واختير

__________________

(١) راجع مجلة الأزهر في بحث للأستاذ محمد كامل الفقي عن الشيخ.

٤٢

عضوا في جماعة كبار العلماء ، وفي سنة ١٩١٣ عين عضوا في الجمعية التشريعية ، ولما اشتعلت الثورة المصرية سنة ١٩١٩ م صال فيها وجال ، وأذكاها بقلمه ولسانه ورأيه ، حتى إذا وافت سنة ١٩٣١ أعرض عن الدنيا ولزم داره لمرض الفالج الذي أصابه ، وظل ينتظر المنون حتى دعاه مولاه ، فلباه في صباح الخميس الحادي عشر من جمادى الأولى سنة ١٣٥٨ ، التاسع والعشرين من يونيه سنة ١٩٣٩.

مشايخ السادة المالكية

كانت العادة بالأزهر الشريف أن للسادة المالكية شيخا عليهم ، ودرجته قريبة من درجة شيخ الجامع ، وأما السادة الحنفية والسادة الشافعية والسادة الحنبلية ، فكان شيخهم هو شيخ العموم ، ومن عهد قريب صار للسادة الحنفية شيخ ، وصار للحنابلة شيخ كذلك ، ولنأت بذكر مشايخ السادة المالكية ، فمن تولى مشيخة السادة المالكية إمام المحققين ، وعمدة المدققين ، العلامة الشيخ علي العدوي المنسفيسي الصعيدي المالكي ، ولد ببنى عدي سنة ١١١٢ ه‍ وقدم إلى مصر وحضر دروس مشايخ عصره كالشيخ الحفني واضرابه وكان له كرامات عجيبة وله مؤلفات مفيدة وهو أول من خدم كتب مذهب المالكية بالحواشي وأول من درس بمسجد محمد بك ابي المذهب وكان يدرس بالأزهر وبمسجد الغريب ويوم الجمعة بمسجد مرزه ببولاق ، وكان على قدم السلف في التقوى والاشتغال بالعلوم .. وتوفي سنة ١١٨٩ ودفن بالبستان.

ثم تولاها أبو البركات سيدي أحمد الدردير العدوى المالكي الأزهري الخلوتي ، وولد ببني عدي سنة ١١٢٧ وحفظ القرآن الشريف وقدم الى الأزهر وحضر دروس مشايخ عصره كالشيخ علي الصعيدي والشيخ الحفني واضرابهما وألف وأفاد وتآليفه أشهر من ان تذكر ، وكان شيخا لرواق الصعايدة وتوفي سنة ١٢٠١ ه‍ ودفن بزاويته التي أنشأها بخط الكعكيين وهو مشهور يزار.

٤٣

ثم تولاها عالم عصره ، ووحيد دهره بلا خلاف سيدي محمد الأمير الكبير صاحب التآليف العديدة في كل فن معقول ومنقول ، ولد سنة ١١٥٤ بسنبو وهي بلد من قسم ديروط بمديرية أسيوط ، وختم القرآن الشريف وهو ابن تسع سنين ، ثم التحق بالأزهر وحصل ودرس ولم يدع فنا الا اتقنه ودرسه حتى فقه الحنفي والشافعي ، وله تآليف جمة في فنون كثيرة وهي كجوامع الكلم ، وكان توجه في بعض المقتضيات إلى دار السلطنة وألقى هناك دروسا حضره فيها العلماء وشهدوا بفضله واستجازوه ورجع الى مصر معظما مبجلا ومعه كتب توصية للباشا والأمراء وقد أنعم عليه من الدولة وكانت تأتيه الصلات من سلطان المغرب وتلك النواحي وكان كلامه حكما ، ومن كلامه :

دع الدنيا فليس بها سرور

يتم ولا من الأحزان تسلم

ونفرض أنه قم تم فرضا

فان زواله أمر محتم

وكن فيها غريبا ثم هيء

الى دار البقا ما فيه مغنم

وإن لا بد من لهو فلهو

بشيء نافع والله أعلم

وسبب تلقيبه بالأمير أن جده الأقرب أحمد بن عبد القادر كان له إمارة حكم في بلاد الصعيد وأصله من المغرب وتوفي عليه سحائب الرحمن والرضوان يوم الاثنين العاشر من ذي القعدة سنة ١٢٣٢ ه‍ ، ودفن أمام ضريح الشيخ العفيفي ، ومما قيل في رثائه تمثلا :

حلف الزمان ليأتين بمثله

حنثت يمينك يا زمان فكفر

ثم تولاها ابنه الشيخ محمد الأمير الصغير ، ثم تولاها الشيخ ابراهيم الملواني ، ثم تولاها الشيخ عبد الله القاضي ، ثم تولاها شيخ الشيوخ

٤٤

الجامع بين العلم والتقوى فرع الشجرة النبوية وخلاصة السلسلة الهاشمية الشيخ عليش ، وقد ولد رحمه الله بالقاهرة بحارة الجوار بجوار الجامع الأزهر في شهر رجب سنة ١٢١٧ ه‍ ، وحفظ القرآن واشتغل بالعلم بالأزهر وأدرك الجهابذة كالشيخ الأمير الصغير وأضرابه والشيخ مصطفى البولاقي والشيخ البناني صاحب التجريد وكثير من كبار العلماء ودرس سنة ١٢٣٢ ولم يدع فنا إلا درسه وتخرج من درسه جل أهل الأزهر أو كلهم وتوفي عام ١٢٩٩ ه‍ وتوفي ابنه الشيخ عبد الله عليش عام ١٢٩٤ ه‍ .. ثم ألغيت مشيخة المالكية بعده خمس سنوات حتى تولاها الشيخ سليم البشرى.

الشيخ البحراوي

هو الشيخ عبد الرحمن البحراوي الحنفي الأزهري ، ولد بكفر العيص قرية على شط النيل بمديرية البحيرة ، وكانت ولادته سنة ١٢٣٥ ه‍ ، وقدم لمصر وقرأ القرآن بالأزهر وجود فيه ، وفي سنة ١٢٤٩ شرع في حفظ المتداول من المتون ، وفي سنة ١٢٥١ حضر دروس المشايخ فتلقى الفقه والتفسير والحديث عن الشيخ محمد الكتبي وأهل طبقته وتلقى علوم الأدب والمنطق والتوحيد عن الشيخ إبراهيم السقا والشيخ مصطفى البولاقي والشيخ إبراهيم البيجوري واضرابهم. وكتب بيده كل كتاب حضره فضلا عما كان يكتبه للاقتيات بثمنه لأنه كان قد قل من العيش وقد اجتهد في التحصيل وسهر الليالي مع جودة قريحته حتى تأهل للتصدر للتدريس في سنة ١٢٦٤ وشهد بفضله أعيان الأزهر ولم يزل متصدرا للتدريس مع حسن القائه وعذوبة ملحه وكان محترما عند أولي الأمر ، وفي سنة ١٢٧١ نيط به تصحيح الفتاوى الهندية بالمطبعة الكبرى ببولاق مصر ، وبعد تمام الطبع تولى قضاء اسكندرية سنة ١٢٧٧ ثم رفع من قضائها سنة ١٢٨٢ فعاد للتدريس بالأزهر وفي سنة ١٢٨٩ عين للفتوى بالمجلس الخصوصي ، وفي سنة ١٢٩٣ عين رئيس المجلس الأول بالمحكمة الشرعية المصرية الكبرى ، ثم بعد ذلك تولى افتاء الحقانية ، ثم رفع وعاد للتدريس بالأزهر ، وله من التآليف تقرير

٤٥

على شرح العيني وحاشية على شرح الطائي ، وله كتابات على أغلب كتب المذهب الحنفي ، وتخرج من درسه كثير ممن تولى القضاء وممن درس بالأزهر ، ومن أجلهم الأستاذ الفاضل الشيخ محمد بخيث المطيعي.

الشيخ محمد بخيت المطيعي

في اليوم الحادي والعشرين من شهر رجب ١٣٥٤ ه‍ ـ الثامن عشر من شهر أكتوبر ١٩٣٥ استأثرت رحمة الله بالعلامة ، الشيخ محمد بخيت المطيعي ، فقضى مبكيا عليه من مئات الألوف من العلماء والطلاب في جميع بلاد المسلمين ، الذين كانوا يرون فيه المثل الأعلى للاطلاع الواسع والإفادة والفتيا .. ولد رحمه الله في بلدة المطيعة من أعمال أسيوط سنة ١٢٧١ ه‍ ـ ١٨٥٦ م ، وحفظ القرآن وحصل رحمه الله العلم بالأزهر فتخرج في علوم الشريعة والعربية ، ونال فيها شهادة من الدرجة الأولى سنة ١٢٩٤ للهجرة أي منذ نحو اثنتين وثمانين سنة ، وأكب من ذلك العهد على التدريس والافادة بهمة يندر أن يصادف لها مثيل في حياة العلماء العاملين ، ثم ندب للاشتغال في القضاء عام ١٢٩٧ ه‍ فتنقل في وظائفه حتى بلغ أعلى درجاته ، مظهرا في كل منها من الكفاية ما لا يكون إلا للعلماء الراسخين .. ومن المناصب التي شغلها قضاء مصر نيابة عن القاضي التركي ، وفي عام ١٩١٤ عين مفتيا للديار المصرية ، وبعد سبع سنوات بلغ السن القانونية لوظائف الحكومة ، فترك الاشتغال بالقضاء ، وعكف على الدرس والتدريس والافتاء. فكانت داره مثابة للمستفتين والمستفيدين ، وكان لا يبخل على أحد بفتيا ، حتى إذا كان بعيدا عنه تكلف له كتابة الفتوى وأرسلها إليه بالبريد.

وكان شهرته قد تجاوزت مصر الى العالم الإسلامي كله ، فكانت ترد اليه الاستفتاءات تترى في مختلف المسائل ، ومنها مسائل تحتاج الى مراجعات كثيرة مضنية ، فكان لا يضن بنفسه عن القيام بها فيحررها ويرسل بها للمستفتين.

٤٦

ومما انفرد به أنه كان قد استخدم كتابا لنقل فتاواه وتولى إرسالها إلى طلابها في مختلف الأقطار ، متحملا مكافآتهم شهريا وأجر ما يرسله بالبريد من الكتب والرسائل.

وقد عرف رحمه الله بالزعامة في علم الأصول ، فكان يرجع إليه جلة العلماء فيما يشكل من مسائله ، ويصادفون لديه لكل مشكلة حلا ، كأنها مرت به من قبل فعالجها وانتهى الى ما يحسن السكوت عليه من أمرها .. وكان خاتم طبقة من العلماء المحققين الذين تميزوا في حياة الأزهر بالتبسط في العقائد ، والتعمق في الفقه ، فانتهت إليه الامانة فيهما حينا من الدهر. كما كان ـ غفر الله له ـ من أشد المعارضين لحركة الإصلاح التي قام بها الامام محمد عبده. دفعه الى تلك المعارضة الثائرة دوافع المنافسة من جهة ، وتحريض أولى السلطان من جهة أخرى ، وكان في الشيخ زكاته شاهدة ودعابة لطيفة ، وطموح إلى مساماة الامام في منصبه ونفوذه وشهرته ، حرك فيه الأخذ بنصيب من الادب والثقافة العامة. ولعله كان أعلم أهل جيله بدقائق الفقه الحنفي ، وأبسطهم لسانا في وجوه الخلاف بين أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة.

وكان ميلاده في المطيعة من أعمال أسيوط في ١٠ محرم عام ١٢٧١ ه‍ ، وشب على الذكاء والعقل وحفظ القرآن المجيد ، ثم حفظ متن الإجرومية في النحو ومتن العشماوية في فقه المالكي وحضرهما على حضرة الأستاذ الشيخ محمد عنتر الكبير والد الشيخ محمد عنتر أحد علماء الأزهر ، ثم طلبت نفسه الشريفة التوجه الى الأزهر لتحصيل العلوم من معدنها فقدم لمصر في أوائل سنة ١٢٨١ واشتغل بالتحصيل مقلدا مذهب أبي حنيفة النعمان ، فحضر على مشاهير الأزهر كالشيخ الدرستاوي ، والشيخ عبد الغني الملواني ، والشيخ عبد الرحمن البحراوي ، والشيخ حسن الطويل ، والشيخ الدمنهوري ، والشيخ المهدي ، والشيخ عبد الرحمن الشربيني ، والشيخ جمال الدين الافغاني حتى حضر غالب الكتب المعتاد قراءتها بالأزهر من فقه ونحو

٤٧

وحديث وأصول وتفسير وبلاغة ومنطق وحكمة وغير ذلك على المشايخ المذكورين وغيرهم من كبار الأزهر ولازم الاجتهاد الى ان مهر وامتحن للتدريس وحاز الدرجة الأولى ودرس سنة ١٢٩٢ ولازم تدريس كتب المنطق والحكمة والتوحيد الى سنة ١٢٩٥ ثم درس الفقه والنحو الى سنة ١٢٩٧ وفيها تولى قضاء مديرية القليوبية ثم قضاء مديرية المنيا ثم قضاء محافظة بور سعيد ثم قضاء محافظة السويس ثم قضاء مديرية أسيوط ثم تولى تفتيش نظارة الحقانية ثم قضاء اسكندرية ثم تولى رياسة المجلس الشرعي بمحكمة مصر الكبرى ثم عضوية المحكمة العليا بها ، ومع ذلك كان حفظه الله ملازما لتدريس العلوم في كل جهة تولى بها مع همة ونشاط ، ولم يزل يدرس الكتب العالية مع القيام بكامل شئونه وأعماله ، وله تآليف عديدة ، منها حواشي الخريدة ، وحواش على شرح العقائد العضدية ، وارشاد الأمة في أحكام اهل الذمة ، وحسن البيان في ازالة بعض شبه وردت على القرآن ، والدرر البهية في الصلاة الكمالية لدفع شبه وردت على تلك الصيغة ، ومقدمة شفاء السقام المسماة بتطهير الفؤاد من دنس الاعتقاد وسواها.

الشيخ حسين والي

كان مقررا ان تنعقد لجنة الفتوى بالأزهر في الساعة الرابعة من مساء يوم السبت ٦ من ذي الحجة سنة ١٣٥٤ الموافق ٢٩ من فبراير سنة ١٩٣٦ برياسة فضيلة رئيسها المغفور له الشيخ حسين والي ، وما كادت تبزغ شمس ذلك اليوم حتى فوجىء أعضاؤها ، كما فوجىء الناس عامة بنعي رئيسها العظيم ، وما كادت تحين الساعة المحدودة لانعقاد اللجنة ، حتى كان شيخها الجليل يعبر الطريق من منزله الى الأزهر الشريف محموة فوق الأعناق ، مشيعا بقلوب مكلومة ، وزفرات حارة ، ودموع منهمرة ، فذاق اعضاء لجنة الفتوى الذي خبروا الفقيد عن كثب ، فعرفوا فيه العلم الغزير ، والخلق الكريم ، والعقل الراجح ، والفكر الثاقب ، والجلد على البحث ، والشغف

٤٨

بالاطلاع ، والدقة في تلمس الحق ، ذاقوا آلام الحزن العميق على هذا المصاب الجلل .. ويقول عنه الشيخ عبد الجواد رمضان : هو السيد حسين والي بن العلامة السيد حسين والي بن السيد إبراهيم والي ، ينتهي نسبه الى الإمام أبي عبد الله الحسين بن علي ، رضي الله عنهما ، ولد في منية ابو علي من اعمال مركز الزقازيق في مديرية الشرقية ، في رجب الفرد سنة ١٢٨٥ نوفمبر سنة ١٨٦٨ ، وطلب العلم في الأزهر ، منتسبا الى رواق معمر ، إلى ان نال شهادة العالمية سنة ١٣١٧ ه‍ ـ ١٨٩٩ م. وأذن له بالتدريس في الأزهر سنة ١٩٠٠ ، ثم ندب للتدريس في مدرسة القضاء الشرعي سنة ١٩٠٧. ثم عين مفتشا في الأزهر والمعاهد الدينية سنة ١٩١١ ، ثم وكيلا لمعهد طنطا سنة ١٩١٤ ، ثم سكرتيرا عاما للمجلس الأعلى بالأزهر سنة ١٩٢٠ ، وبقي في هذا المنصب الى أن ألغي في ديسمبر سنة ١٩٢٦ ، وفي ٧ من شهر ربيع الأول سنة ١٣٤٣ (٦ من أكتوبر سنة ١٩٢٤) عين في هيئة كبار العلماء بمرسوم جاء فيه : «عين في هيئة كبار العلماء كل من حضرات. الشيخ محمد مصطفى المراغى الحنفي المذهب رئيس المحكمة العليا الشرعية ، والشيخ حسين والي السكرتير العام لمجلس الأزهر الأعلى والمعاهد الدينية ، والشيخ محمد الحلبي ، والشيخ سيد علي المرصفي ، الشافعي المذهب». وتوفي ـ طيب الله ثراه ـ في ٢٨ من فبراير سنة ١٩٣٦ ، وهو عضو في مجلس الشيوخ ، وفي المجمع اللغوي. وما تزال أصداء جولاته تدوي في قبابهما فيتجاوب بها آفاق العروبة في مشارق الأرض ومغاربها إلى اليوم.

والسيد حسين والي ، أحد الأقطاب الذين سما حظهم من التبحر في علوم اللغة العربية وآدابها ، وأخذوا بآفاقها وشعابها ، على جميع الباحثين والمتأدبين ، في عصر النهضة ، فلا يسبقهم سابق ، وإن ناصاهم شواذهم في أقطار الشرق العربي معدودون معروفون. هم الأئمة «وسائر الناس على آثارهم مهتدون».

لا جرم ان مواهب السيد حسين والي ، جديرة بأن تبوئه هذه المنزلة

٤٩

الرفيعة التي لا ترام ، فلقد كان ـ إلى تبحره في علوم الأزهر ـ كاتبا قديرا ، وشاعرا فحلا. يكتب كما يكتب حمزة فتح الله ، والسيد توفيق البكري ، والشدياق الخ ، ويشعر كما يشعر حمزة فتح الله ، والسيد توفيق البكري ، وآل اليازجي ، وغيرهم من كبار الكتاب وفحول الشعراء ، في مصر والشام والعراق ، ويصاول المؤلفين والباحثين في وزارة المعارف وغيرها ، وينقدهم ، وينال منهم ويوجههم فيتجهون ، ويفتي في اللغة والأدب ، فينقطع كل قول ، ويخفت كل صوت. ذلك بأنه كان مطلعا فقيها لغويا ، ذواقة ، هاضما لما علم ، واثقا مما يقول .. والإيمان بالرأي أقوى أسلحة الشجاع. وكان من الطبيعي أن ينال السيد حسين والي من الشهرة عند الخاصة والعامة كفاء هذه المواهب المتوافرة ، بيد أنه عض من شهرته شمائل ، هي في شرفها وعنصرها أنفس جوهرا ، وأعز قيمة ، وأرفع جمالا من كل شهرة. وكان السيد حسين والي غاليا في التعصب للقديم ، يعتز به ، ويحافظ عليه ، ويرعاه في دينه ، وفي سمته ، وفي لغته ، وفي كل ما يحيط به ، حتى لقد سمي أولاده : أسامة ، ولؤي ، ونزار ، والفرات. يحدوه إلى ذلك نسبه الشريف ، ونشأته الأزهري ، ووقار ألبسة الله منه رداء فضفاضا ، ثم نزعة صوفية عميقة ظهرت فيه طول حياته.

الشيخ محمد الفحام

تخرج الأستاذ رحمه الله في الأزهر ، وبعد نيله شهادة العالمية التحق بخدمة القضاء الشرعي ، وتقلب في وظائفه سنين كثيرة عرف فيها بسداد الرأي والحزم ، ثم نقل من القضاء إلى الإمامة الخاصة للملك ، ثم خرج منها إلى مشيخة معهد الاسكندرية ، فكانت له فيها آثار ظاهرة ، ونظم مفيدة ، وسمعة بين الناس طيبة رشحته إلى تقليد وكالة الجامع الأزهر ، وكان قد تملأ خبرة بادارة الاعمال ، وبالزمان وأهله ، وبقيادة الموظفين ، فكان يخوض معهم في الادارة العامة عباب الأعمال المختلفة ، ويمضي معهم الساعات الطويلة مناقشة وبحثا وتحقيقا وتثبتا ، ويقابل في أثناء ذلك الوافدين

٥٠

عليه فيسعهم بتلطفه وطلاقة وجهه ، لا يكاد يفرغ من هذا العمل المتواصل آنا يسترد فيه ما فقده من قواه حتى موعد الانصراف.

لبث على ذلك بضع عشرة سنة ، ولو لا صفات متأصلة فيه من المضاء والمرونة المستندة إلى اللباقة ، لاصطدم طوال هذه المدة التي اجتاز الأزهر فيها أزمات خطيرة ، وعقبات كأداء ، بعواثير لا تذلل ، ولكنه رحمه الله عالجها على أسلوبه بالموازنة والمياسرة ، وتمكن بذلك أن يستبقي الادارة العامة قائمة تؤدي واجباتها الديوانية خلال هذه الأزمات الشديدة.

أصابه رحمه الله قبل نحو شهرين من وفاته ، مرض عضال أصاب الطحال والقلب ، بذل كثير من الأطباء جهد العلم في معالجته فاستعصى ، وما زال رحمه الله يضعف حتى أسلم الروح في مساء السبت ١٨ من جمادى الأولى سنة ١٣٦٢ (الموافق ٢٢ من مايو سنة ١٩٤٣).

الشيخ يوسف الدجوي

في مساء الثلاثاء ٤ صفر سنة ١٣٦٥ ه‍ ـ ٨ يناير سنة ١٩٤٦ م ، توفي الشيخ العلامة ، يوسف الدجوي الأزهري النابغة الكفيف البصر ، وعضو جماعة كبار العلماء.

وكان الأستاذ الدجوي من العلماء الراسخين في العلوم التي تدرس في الأزهر أخذها عن أئمتها مثل الشيخ هارون عبد الرازق والشيخ احمد الرفاعي الفيومي والشيخ محمد طموم والشيخ احمد فايد الزرقاني ، والشيخ رزق البرقامي ، والشيخ سليم البشرى ، والشيخ البحيري ، والشيخ العدوى ، وكلهم من أقطاب الجامعة الأزهرية الذين صانوا رسالتها الى هذا العصر الحديث.

ولد الدجوي في قرية دجوة التابعة لمركز قليوب في سنة (١٢٨٧) من أب عربي ، وأدخله والده الأزهر في سنة (١٣٠١ ه‍) ونال الشهادة العالمية في سنة (١٣١٧) بنجاح عظيم كان مدعاة لأن يزوره في دارة الشيخ راضي

٥١

الحنفي من كبار العلماء وهنأه على ما أصاب من توفيق. وما فعل ذلك إلا من شدة إعجابه به ، وإكباره لشأنه ، وتوقعه له حياة علمية تشرف الأزهر والأزهريين ، وقد صدق حدسه ، فإن الأستاذ الدجوي لم يلبث أن ظهرت مواهبه ، وتجلت خصائصه ، فصار مرجعا للمستهدين والمستفتين في جميع البلاد الإسلامية.

ولما أسست المشيخة الأزهرية مجلة الأزهر كان من أول من وقع اختيارها عليهم ليحرروها الشيخ الدجوي رحمه الله ، فكتب فيها البحوث الممتعة في الدين والتفسير والحكمة ، وبقي على موافاتها ببحوثه الى عهده الأخير.

ومن مميزات الشيخ رضي الله عنه أنه كان يأنس الى البحوث النفسية الحديثة في اوروبا ويراها خير أداة لكسر شوكة الماديين ، وقد اعتمد في كتاباته على ما حققوه منها وكان لا يخشى في مجاهرته بذلك لومة لائم.

وقد ترجم له قلم ترجمة مجلة الأزهر كتابه القيم (رسائل السلام) الى اللغة الانجليزية ، فطبعت المشيخة الأزهرية منه عشرة آلاف نسخة بعث كثيرا منها لمن لا يستطيعون فهم العربية وللأجانب الراغبين.

كان مفسر الأزهر ومحدثه ، بل فيلسوفه وكاتبه ، وخطيبه ، كما كان موضع ثقة الجماهير الاسلامية في شتى الأقطار ، تتوارد اليه استفتاءاتهم من جميع الجهات ، وتصلهم مقالاته النافعة بمجلة الأزهر وغيرها من المجلات والصحف العربية والافرنجية ومؤلفاته الممتعة (١).

ومنها كتاب سبيل السعادة الذي ألفه عام ١٩١٢ م في فلسفة الاخلاق الدينية وأسرار الشريعة الاسلامية ، والرد على الطبيعيين ، وقد قرظه امام اللغة المرحوم الشيخ حمزة فتح الله بكلمة طويلة منها : «أحسنت يا شيخ

__________________

(١) من كلمة لنجل الشيخ ـ الشيخ احمد يوسف الدجوي الأستاذ بمعهد القاهرة ـ نشرت في مجلة الأزهر.

٥٢

الدين ، وأديت فرض الكفاية عن علماء المسلمين ، وشفيت السقام ، ورويت الاوام».

ومن مؤلفاته رحمه الله : الجواب المنيف في الرد على مدعي التحريف في الكتاب الشريف ، اخرجه عام ١٩١٣ م ، رد فيه على القس الانجليزي (كولدساك) الذي طعن القرآن الكريم ونقص من شأن الاسلام ، فأتى الشيخ على مزاعمه فهدمها من أساسها ، وظل يتابع حملاته على كتاب هذا القس حتى صودر. ومن مؤلفاته النادرة رسالة في تفسير قوله تعالى :

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) لم يتقيد فيها بما قاله المفسرون ، بل ذهب فيها كل مذهب ، وتصرف فيها كل متصرف ، ودعا فيها علماء المسلمين شرقا وغربا للاجتماع والتشاور لاستنباط أسرار القرآن قبل ان يتهددهم الخطر ... ومنها رسالة في علم الوضع ، اخرجها عام ١٩١٧ م وقد نالت الجائزة الاولى من لجنة فحص الكتب العلمية ... ومنها مذكراته في الرد على كتاب الإسلام وأصول الحكم ، وكلماته في السلفيات الحاضرة ، وقد طبع هذه الكلمات علماء دمشق ونشرت هناك ... ومنها صواعق من نار في الرد على صاحب المنار. ومنها هداية العباد الى طريق الرشاد. جمع فيه من محاسن الدين الإسلامي الشيء الكثير ، وقد انفرد فيه بأشياء لم يسبقه بها غيره. ومنها كتاب رسائل السلام ورسل الإسلام ، انتهى من تأليفه عام ١٩٢٢ م على أثر تكليف مشيخة الأزهر له بإخراجه بمناسبة اعتناق الألوف المؤلفة من أهل أوروبا وأمريكا ، الدين الإسلامي ، وقد ترجمته مشيخة الأزهر باللغة الإنجليزية وطبع بالمطبعة الاميرية ، وأرسل الى الجهات النائية.

وقد وجهت صحيفة الاهرام الغراء في نهاية عام ١٩٣٩ م نصحها وارشادها الى زعيمي دول المحور الهر هتلر والسونيور موسوليني باتباع ما جاء بهذا الكتاب والعمل بالتعاليم الموجودة بين دفتيه ، إذ انها تدعو للوئام والسلام. ولا يفوتنا أن نذكر في هذه الكلمة ما كان يقوم به من المحاضرات

٥٣

العلمية في تفسر آي الذكر الحكيم ، وحديث النبي الكريم ، عقب صلاة الفجر بالرواق العباسي بالأزهر ، وكان جلة العلماء ، ومثقفو الطلبة حريصين على تلقي هذه المحاضرات ، للارتشاف من منهل الامام الكوثر العذب ، يبادرهم اليها ، سيادة السيد المجددي ، وزير الافغان المفوض بمصر سابقا ، وقد كتب بعض المستشرقين ؛ عند استماعه هذه المحاضرات ، مقالات ممتعة ، نشرتها صحف فرنسا بعنوان (سبنسر وباكون ، في الأزهر الشريف) الخ.

أما ناحيته العملية ، فتتمثل فيما قام به من تأليف الجمعيات الإصلاحية الدينية ، التي منها جمعية النهضة الإسلامية لمناهضة المبشرين الذين استشرى فسادهم ، وعم ضررهم حتى ضجت البلاد من شرهم ، فكانت جمعية موفقة أدت واجبها خير أداء ، وانتشرت فروعها في جميع الانحاء ، فوقفت هذا التيار الجارف. ومنها الجمعية العظمى لمساعدة منكوبي حرب الأناضول ، بمناسبة الحرب التركية اليونانية ، وأسندت رئاستها إليه اول مرة ، وبمناسبة تأسيسه لها أرسل إليه الخليفة عبد المجيد كتاب شكر وثناء وتقدير. ولم يقتصر نشاط الشيخ على ما تقدم ، بل لم يلهه الجهاد العلمي عن الجهاد الوطني ، فكانت له مواقفه المشهودة في خدمة أهداف البلاد الوطنية ، ومن تلك المواقف احتجاجه لدى العميد الإنجليزي على اعتقال المرحوم الزعيم الخالد سعد زغلول وصحبه المجاهدين المخلصين ، اذ قال : «عجبا لسياستكم العتيقة كيف يفوتها أن شدة الضغط تولد الانفجار ، وأن تقليم الأشجار لا يزيدها إلا تهيجا ونماء ، وأن النفوس الانسانية متى امتلأت بشيء استعذبت الموت في سبيله ، ولا تظنوا يا جناب اللورد ان هذه احتجاجات تفوه بها الألسن. وإنما هي قلوب متأججة وأرواح مشتعلة وأعصاب متنبهة ، فاعملوا إنا عاملون ، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون». وقد نشرته الصحف في حينه. ومن مواقفه التي تشهد له بالفخر والاريحية والاقدام والشجاعة ، ذلك الكتاب الذي رفعه الى ملك الانجليز طالبا به تخفيف حكم الإعدام الذي صدر على شاب من شباب الأزهر وهو ـ

٥٤

الشيخ محمد الشافعي البنا ـ وقد استجيب طلبه. كما أن الأستاذ الدجوي كان محاضرا ممتازا تدعوه الجمعيات الاسلامية لإلقاء محاضرات علمية إجتماعية ، إلى غير ذلك من مواقفه المجيدة ، وأعماله الحميدة.

كتبت عنه مجلة «هدى الإسلام» تقول : قد وقف (الدجوى) أمام المضللين الذين عرفوا أنفسهم ب (المبشرين) وقفات جبارة أحبطت جميع مساعيهم وحطمت آمالهم القوية من جهتين :

أولا : بكشف أغراضهم وبيان ضلالهم وبطلان عقائدهم ومبادئهم.

ثانيا : بيان صلاحية الشريعة الإسلامية للأزمنة والأمكنة ، وأنها الشريعة الكافلة لحياة البشر ، وله في ذلك رسائل ومقالات كثيرة تشهد له بفائدتها شدة وقعها في النفوس ، ومع ذلك فهو متعقب حركات المضللين وسكناتهم لا يدع لهم حيلة إلا فضحها ، وهذه المثابرة أنتجت فكرة المقاومة ويسرت سبيل الغلبة ، ولو لم يتداركوا أمرهم ويبدلوا خطتهم القديمة ، لما سمعت لهم صوتا في بلاد الإسلام ، وعلى كل فالهمم متضافرة والعزائم متعاونة على ملاحقتهم ومكافحة أفكارهم ، فللدجوى يد فعالة في كل حركة إسلامية لا تعرف الهوادة واللين ، وهو خير مثال للعالم الوقور ، وله مؤلفات عديدة تشف عما انطوت عليه نفسه من الحكمة والسياسة الدينية والترغيب فى التدين وتصوير حقائق الإسلام إلى غير ذلك من المباحث القيمة التي انفرد بها ، ولا تخلو منها مكتبة عامرة ، ومع ذلك فقد كان دائبا على الكتابة والنشر ، حريصا على استثمار حياته ، والمتتبع له يعتقد اعتقادا جازما بأنه قد جعل حياته كلها وفقا لخدمة الأمة الإسلامية.

وللدجوي أسلوب جذاب في الكتابة ، وهذه الجاذبية كما قلنا ليست بنت التصنع والتزويق وإنما من تواضع صاحبها ونوادر المعاني العالية ، تتخذ لها القوالب الموافقة ، فيأتي المبنى منطبقا على المعنى ، وعلى الرغم من ذلك فأسلوبه لا يتبدل مهما تبدلت مواضيعه.

وقد تكون بعض مقالاته فهرس مقالات خصبة ممتعة. فكتاباته كانت أشبه بالإلهام والخواطر بصرف النظر عن بعض الدواعي التي تدعوه إلى الكتابة حتما ، وهذا السر في أن كتابة الدجوى تأخذ مفعولا كبيرا في

٥٥

العقليات لأنها ابتعدت عن التصنع والزخرفة الفارغة ، وله قدرة جليلة على حسن الاختيار من بدائع المنقول ، فهو يعرف كيف يقتطف لباب الغير وأروع الحوادث من كتب المتقدمين وكذلك يعرف كيف يختار لها المناسبة ويعطيها اللائق بها ، فكثير من الناس لا يعرفون كيف يستفيدون من تلك العبر والحوادث وهي بين أيديهم ، فلا غرابة اذا هم لم يفيدوا بها وإذا فهموها فربما سولت لهم أنفسهم أن يستغلوا تأويلها في مآربهم الخاصة كما جرى على هذه الطريقة كثير من تجار النفاق. وأنت إذا قرأت منقول الدجوى ، اطمأنت نفسك اليه وارتاحت من عناء البحث والتنقيب وتعقيب المطولات ، فإنه إذا نقل حفظ الامانة وأشار الى خلافها كما أنه يبنى عليه المعقول البديع الذي يخلب الألباب ، وينادم الأفكار الحرة المجردة من قيود التعصب الأعمى والتقليد الطائش ، وتكاد تلمس تحكمه في معقوله تحكما ينطبق على الواقع ويلائم الأحوال.

ولع بالعلوم الدينية صغيرا ولم يكن ولعه مقصورا على الكسب والدرس ، بل أفسح لدماغه التجول والمناقشة والنقد للرواية والدراية فظهر نبوغه بين أقرانه ورمقته عيون الحاسدين فلم تنل منه شيئا إنما زادته جرأة وحرية أوسع ، ثم جمع بين العلم والزمان فرأى مفهوم العلم عند بعض الناس يناقض حاجة العصر. حيث إن بعض العلماء عاجزون عن التوفيق بينهما وذلك لأن فهمهم استمد من حالات قديمة تختلف كل الاختلاف عن الأحوال الراهنة. وقب ، أما اليوم فليحارب وليثبت ولهذا كان (الدجوي) يسعى في التوفيق ليوحد رأي العلماء ويكون منهم جبهة مناضلة بقوة العلم الحقيقي ، ليقضوا على الأدعياء الكاذبين ، فهو بطل العلم وحامل لواء نهضته.

هذه ناحية من جهاده تريك تأثيره القوي وما كان له من الكلمة النافذة في حياته عند المفكرين والجماهير.

الشيخ عبد الحكم عطا

كان مولده سنة ١٨٦٥ في «نواى ملوى ـ أسيوط» من أسرة كريمة ، فوالده المرحوم الشيخ عطا عبد الفتاح كان عالما جليلا مشهورا بالتقوى ،

٥٦

والعلم والجرأة في الحق ، وله مقام عظيم لدى الكبراء والعظماء ، وكان المرحوم محمد باشا سلطان يجل الشيخ ويحترمه ، حتى ألح عليه في الانتقال من بلدته. والاقامة في «بني أحمد بالمنيا» فاستجاب دعوته. وتوارث آل سلطان باشا حب أبناء الشيخ وإكبارهم. وفي بلدة بني أحمد. كان الشيخ عطا ، يلقي دروسه لأبناء الأعيان. وقد تتلمذ له ولده الناشىء «عبد الحكيم» حتى إذا كانت سنة ١٨٧٩ أرسله إلى الأزهر فأخذ عن العلماء الاعلام وابتدأ نجمه يتألق بين طلاب العلم في الأزهر.

وقد حصل على العالمية الممتازة ، سنة ١٨٩٥ ولفت الأنظار عامئذ ، إلى كفاءته وذكائه وعلمه ، وأشادت بذكره صحافة العهد. ثم اتخذ مكانة بين المدرسين في الأزهر ، فعمرت دروسه ، وغصت بالمئات من تلاميذه ، المعجبين به ، الناهلين من علمه. ومكث يدرس في الأزهر قرابة الثلاثين عاما ، ورفض غير مرة. أن يلي الوظائف ، وصدف عن التنعم في بحبوحة المرتبات. متلذذا بخدمة العلم وتخريج العلماء. حتى عرض عليه أستاذه المرحوم أبو الفضل ، بإلحاح ، مشيخة القسم الثانوي سنة ١٩٢٠ فخضع لأمر شيخه ، ومن وقتئذ بدأ حياته الادارية ، فولي مشيخة القسم الثانوي والقسم العالي ، وجمع بينهما في بعض الأوقات.

وفي سنة ١٩٢٨ ، في عهد مشيخة الشيخ المراغى الأولى ، عين شيخا لمعهد أسيوط ، فبقي به سنة. ثم نقل الى معهد الزقازيق عام ١٩٣٠ ، وقد أحيل إلى المعاش بعد حين. وكان من العلماء المقدمين ، في هيئة كبار العلماء ، وهو بحق شيخ الشيوخ بلا مراء لكثرة من أخذ عنه من الأساتذة .. والشيخ أحمد حميدة شيخ معهد أسيوط اليوم ، كان امتحانه في العالمية من ثلاثين عاما امام الشيخ عبد الحكم. ولقد كان في علمه دائرة معارف اسلامية أزهرية ، فقد حفظ كتاب الله ، وفهم دقائقه ، واستوعب كتب السنة ، وألم بالكتب الأزهرية صغيرها وكبيرها ، متونها وشراحها وحواشيها ، إلماما عجيبا ، كأنه استظهرها عن ظهر قلب. وذلك راجع إلى قوة عقله ، وشدة ذكائه وجلده وصبره على البحث والدرس.

٥٧

وفي إداراته ، كان مثال الإخلاص ، كل همه أن يتجه الأساتذة والطلاب ، بكليتهم ، نحو الثقافة الأزهرية الصميمة ، وأن يجعلوا وقتهم بأجمعه وقفا على تحصيل العلم ، لذلك كانت نتائج معاهده في مقدمة النتائج.

أما خلقه وتقاه ، فكان فيهما على سنن السلف الصالح ، لا يعرف مداجاة هذا العصر ، ولا رياءه. ديدنه الصدق والصراحة ، والتواضع والحلم ، والعطف على المحتاجين .. وبعد حياة حافلة ، عامرة بالخير ، لقي الله في ١٠ ذي الحجة سنة ١٣٥١ ه‍ (١٩٣٢) وصلى عليه بالأزهر ، واستقر جثمانه هنالك ، في جوار العلماء والصالحين ، بقرافة المجاورين. ولم يعقب ، الشيخ رحمه الله أبناء ، ولكنه ترك ثلات بنات أصهر بهن في حياته ، إلى الشيخ محمد علي سلامة ، المدرس بكلية أصول الدين ، والشيخ قطب أبو العلا المدرس بالمدارس الثانوية ، ومحمود افندي حسن من أعيان تله ـ المنيا. وقد قرت عينه بأسباطه قبل وفاته ، ومنهم الأستاذ محمود محمد سلامه ، والمهندس عزت بالهندسة ، وغيرهما.

الشيخ محمود الديناري

كان مولده في «قاي ـ بني سويف» سنة ١٨٧٥ ، وبين ربوعها نشأ وحفظ القرآن الكريم ، ثم مكث سنة في طنطا يجود حفظه وقراءته ، وفي سنة ١٨٨٨ ألحق بالأزهر الشريف وبقي ينهل العلم من أعذب مناهله ، حتى سنة ١٩٠٤ وفيها نال العالمية ، بدرجة ممتازة.

وفي هذه السنة عين مدرسا في الأزهر ، ثم اختير مدرسا بمعهد الاسكندرية ليكون من حراس النظام الناشىء بها. واستمر به إلى سنة ١٩١١ ثم نقل مراقبا للقسم النظامي الجديد بالأزهر ، فكان عونا وظهيرا للاستاذ الشيخ محمد شاكر على تركيز النظام. وفي سنة ١٩٢٠ عين شيخا للقسم الأولى ، فعضوا في مجلس إدارة الأزهر ، ثم أضيفت إليه مشيخة القسم المؤقت ، وفي سنة ١٩٢٥ عين شيخا للقسم العالي ، ثم اختير مفتشا

٥٨

للمعاهد الدينية عام ١٩٢٨ في عهد الأستاذ الشيخ المراغى.

وفي ديسمبر سنة ١٩٢٩ عين شيخا لمعهد أسيوط ، فظهر فيه حزمه وكفايته ، وسار المعهد في عهده سيرا حميدا ، وأحبه الأساتذة والطلاب جميعا ، وظهرت في المعهد روح الجد والنظام. وفي ديسمبر سنة ١٩٣٠ زار الملك فؤاد أسيوط ووضع الحجر الاساسي في بناء المعهد الجديد ، وكان الشيخ موضع رعايته.

وفي يونية سنة ١٩٣١ نقل شيخا لمعهد طنطا ، فعالج الروح الثائرة في الطلاب بحكمته ، ثم عني بإنشاء جمعيات المحافظة على القرآن الكريم ، في طنطا وما حواليها. حتى جعلها في مقدمة جمعيات القطر ، موردا وإنتاجا.

وفي سنة ١٩٣٤ قدم رسالة في (البلاغة) ، عين على إثرها عضوا في جماعة كبار العلماء ، وفي سنة ١٩٣٦ أنعم عليه بكسوة التشريفة الأولى.

ولقد كان من المشهود لهم ، بالقوة في العلم ، والدقة في الادارة ، كما عرف بالدهاء وحسن السياسة ، وهو كفء قليل النظير ، تتجلى كفاءته في كل عمل يسند إليه ، وهو مع ذلك رجل يقدر الناس رجولته ويعجبون بها ، ويجلونه ، ويحبونه .. وجمهرة كبيرة ، من أساتذة الأزهر والمعارف ورجال القضاء ، مدينون للشيخ ، بالأستاذية ، عارفون فضله حافظون عهده .. ثم استجاب نداء ربه ، بعد هذا الجهاد المبرور ، في فجر يوم الجمعة ٢٧ رمضان سنة ١٣٥٥ ه‍ (ديسمبر سنة ١٩٣٦) بمدينة طنطا ، ثم نقل جثمانه الطاهر إلى القاهرة ، حيث هدأ هدأة الخلود ، في قرافة المجاورين ، في ظلال من رضوان الله.

الشيخ محمد سليمان السرتي

عين مدرسا بالمعاهد ، عام ١٩٠٧ ، وتنقل بين وظائف التدريس والمراقبة ، حتى عين شيخا لمعهد دسوق ، فبقي فيه بضع سنين. وفي ١٢

٥٩

يونيه ١٩٣١ عين شيخا لمعهد أسيوط ، وهو الذي جمع الدراسة من الدور المتفرقة. إلى مكان واحد ، هو المدرسة الابتدائية القديمة ، وبفضله ابتدأ العلم في بناء المعهد الجديد ، بعد تعطيله ، وفي عهده انتقل المعهد من تلك الأماكن المستأجرة ، لدراسته وإدارته ، إلى ذلك الصرح المشيد ، المشرف على نهر النيل ، وله بأسيوط مواقف مشهودة ، في الغيرة على الدين ، ومن أجمل آثاره ، جمعية المحافظة على القرآن الكريم ، فقد أسسها وتعهدها ، حتى نمت وترعرعت .. والمدرسة الإسلامية الابتدائية بأسيوط ـ التي أنشأها المؤلف ـ لن تنسى تشجيعه لها ، وفضله عليها ، وكانت له صلات طيبة بالأهلين ، وكلهم محب له ، معجب بصراحته ، وجراءته ، وفصاحة منطقه ، وكثيرا ما كان يخطب الناس في المساجد ، والمحافل ، في الشئون الاجتماعية الهامة ، والحادثات الإسلامية المهمة ، وقد نقل شيخا لمعهد الزقازيق ، في فبراير سنة ١٩٣٥ ، فشيخا لمعهد الاسكندرية ، ثم نقل شيخا لمعهد طنطا ، وفي طلابها بعض الثورة ، فحاول علاجهم ، ولكن زمامهم أفلت من يده ، فأحيل إلى التقاعد في ١٩ يونيه سنة ١٩٣٧ ، وعمره نحو ٦٤ سنة.

الشيخ عبد المجيد اللبان

كان رحمه الله من أمثل العلماء خلقا ، وأقواهم دينا ، وأصحهم عقيدة ، وأرفعهم شخصية ، مات وهو في نحو السبعين من عمره ، وذلك نحو عام ١٩٤٠ م ، وكان يشغل منصب شيخ كلبة أصول الدين ، حيث ظل شيخا للكلية منذ إنشائها عام ١٩٣٢ إلى وفاته ، وكان مع ذلك عضوا في مجلس الأزهر الأعلى ، وعضوا في جماعة كبار العلماء ، وعضوا في كثير من اللجان التي ألفت لإصلاح الأزهر ، وتعديل مناهج الدراسة فيه ، وسوى ذلك ، وكان رحمه الله قبل أن يشغل منصب «شيخ كلية أصول الدين» يتولى منصب شيخ القسم العالي في الأزهر. وقد تخرج على يديه آلاف العلماء الذين كانوا يحبونه حب الابن لأبيه ، والتلميذ لأستاذه ، وعند ما بدأ لأول مرة امتحان أقسام الأستاذية في الأزهر ، التي تعد خريجيها للتدريس في الكليات

٦٠