الأزهر في ألف عام - ج ٢

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٢

٨ ـ تقي الدين الشمني (٨٠١ ـ ٨٧١ ه‍) : وهو أستاذه في التفسير والحديث وفي العربية وقد لازمه أربع سنين ولما مات الشمنى رثاه السيوطي بقصيدة طويلة من شعره.

وغير هؤلاء ، وهم كثير وذكر السيوطي أن شيوخه الذين أخذ عنهم نحو المائة والخمسين. وقد ترجم لهم في معجم خاص ـ وواصل السيوطي مسيرته العلمية حتى تفقه في علوم عصره وألف أول كتبه وهو في الخامسة عشرة وهو تفسير للاستعاذة والبسملة وذلك عام ٨٦٤ ه‍ وهو دليل على طموح علمي كبير وهذا النهم العلمي الذي لا يقف عند غاية هو أحد معالم شخصية عالمنا الكبير حتى لقد أجيز بتدريس العربية وهو في الخامسة عشرة ، وروى عنه علماء عصره الحديث وهو في الثانية والعشرين من عمره وذلك عام ٨٧١ ه‍ وأجيز بتدريس الفقه وبالفتيا وهو في السابعة والعشرين من سنى حياته المباركة وكان أول درس ألقاه في الأزهر الشريف في تفسير سورة الفاتحة.

لقد أحب السيوطي الكتاب منذ صغره ، وكان يرى في الإمامين البلقيني وابن حجر مثله الأعلى فدعا الله وهو يشرب من ماء زمزم أن يجعله في الفقه مثل البلقيني وفي الحديث مثل ابن حجر ، وكان والده قد ترك له مكتبة كبيرة زاخرة بالمخطوطات ، فكان يطالع فيها فوق تردده على مكتبة المدرسة المحمودية الحافلة بمختلف المؤلفات في شتى الفنون والعلوم ، وكانت من أنفس خزائن الكتب بالقاهرة وبها نحو أربعة آلاف مجلد ، وقد قام ابن حجر بفهرستها ثم تلاه السيوطي فكتب فهارس لها جمعها في كتاب سماه «بذل المجهود في خزانة محمود» وأخذ السيوطي يبحث عن خزائن الكتب المختلفة ويطالع فيها ، ثم أخذ يطوف في أنحاء مصر يلقى العلماء ويحادثهم ويأخذ عنهم ويأخذون عنه ، وبعد أن كان يتولى تدريس الفقه بالجامع الشيخوني خلفا لوالده صار يتولى منصب المشيخة في المدرسة الشيخونية وهو المنصب الذي كان يشغله أبوه من قبل ، كما شغله أيضا أستاذه الكحال بن الهمام (٨٦١ ه‍) وتصدى للافتاء

٣٠١

واملاء الحديث بالجامع الطولوني ودرس الحديث بالخانقاه الشيخونية وتولى مشيخة الصوفية بمدفن برقوق الناصري ، ثم تولى مشيخة المدرسة البيبرسية وهي أكبر خوانق (بيوت الصوفية) بالقاهرة وبيوتها الصوفية وأكثرها أوقافا في عصره (٣) ، ثم نحاه عنها السلطان محمد بن قايتباي (٤) وكان آنذاك في الأربعين من عمره فاعتزل الناس وزهد في الدنيا وعكف على التأليف طيلة عشرين عاما في منزله بالروضة ورفض أن يستقبل أحدا من زائريه ومريديه حتى لقد أغلق نوافذ منزله بالروضة المطلة على النيل وكتب في ذلك رسالة سماها «تأخير الظلامة إلى يوم القيامة».

ولما تولى «طومان باي» الحكم خاف السيوطي أن يضطهده فاختفى حتى توفي هذا السلطان ، ولحسن الحظ لم يمكث هذا السلطان في الحكم إلا شهورا قلائل عاد السيوطي بعدها إلى منزله في الروضة ، وكان قد تولى حكم مصر السلطان قانصوه الغوري ، وقد عرض هذا السلطان عليه العودة إلى المشيخة في المدرسة البيبرسية فاعتذر وآثر العزلة عن الناس.

حج السيوطي عام ٨٨٧ ه‍ ١٤٨٢ م ، وجاور في مكة المكرمة عاما كاملا (٥) وطاف في أنحاء العالم الإسلامي دارسا ومدرسا وموجها ، فرحل إلى الشام والحجاز واليمن والهند والمغرب وبلاد التكرور ، وتصدر مجالس العلم والعلماء في الأزهر وفي غير الأزهر من أمهات المدارس الإسلامية حتى غدا علم الأعلام ورائدا عظيما من رواد الثقافة الإسلامية.

وبعد عمر غير طويل وعن اثنين وستين عاما هجريا أو ستين عاما ميلاديا توفي الإمام جلال الدين السيوطي في التاسع عشر من جمادي

__________________

(٣) ابن العماد : شذرات الذهب : ٨ / ٥٢

(٤) السيوطي : طبقات المفسرين : ٢٦

(٥) السخاوي : الضوء اللامع : ٤ / ٦٥

٣٠٢

الأولى عام ٩١١ ه‍ التاسع عشر من أكتوبر سنة ١٥٠٥ ه‍ ، وقال فيه تلميذه عبد الباسط بن خليل الحنفي (٩٢٠ ه‍) :

مات جلال الدين غيث الوري

مجتهد العصر ، أمام الوجود

كانت الثقافة الإسلامية قد أصيبت بنكبات كبيرة في بغداد على أيدي التتار وفي الأندلس على أيدي الأسبان المتعصبين ، وسلمت مصر بهزيمتها للتتار في عين جالوت فسلمت لها مجالس العلم ومدارسه وجامعته الكبرى الأزهر وسلمت خزائن الكتب في القاهرة ، وبقيت حلقات الثقافة وأنديتها لم يمسها سوء ، وظلت القاهرة ترسل أشعتها إلى كل مكان وتوالى أداء رسالتها في خدمة الثقافة الإسلامية ، ووفد عليها العلماء والأدباء والشعراء من كل مكان.

وقد شمر علماء مصر عن ساعد الجد لتعويض ما بدد من التراث الإسلامي في بغداد والأندلس وصقلية وغيرها ، فألفوا الكتب وصنفوا الموسوعات وكتبوا في كل العلوم والفنون ، وجمعوا ما وصلهم من روايات ومأثورات من مختلف المصادر ، ورأوا أن هذه المهمة هي فريضة إسلامية كبيرة ألقيت على كاهلهم فنهضوا بها وقاموا بأدائها خير قيام ، فرأينا المؤلفات الضخمة من مثل : صبح الأعشى ونهاية الأرب والنجوم الزاهرة وفتح الباري وبدائع الزهور والدر المنثور وغيرها من أمهات الكتب التي خلفها لنا أمثال : القلقشندي والنويري وابن تغري بردى والمقريزي وابن حجر وابن اياس والسخاوي والقسطلاني والعيني والدماميني والشمني وابن الكمال والسبكي وابن فضل الله العسمري والدميري والأسنوي والمناوي والبلقيني والشعراني وغيرهم .. وكذلك فعل السيوطي بل لقد فاقهم جميعا في عظمة التحصيل وغزارة التأليف وروعة التحقيق ، وظلت القاهرة تتصد عواصم العالم الإسلامي حضاريا وثقافيا ، وظلت أنديتها العلمية والأدبية حافلة بالعلم والعلماء والطلاب.

لقد عكف السيوطي على الكتاب والكتابة والتأليف طيلة حياته فأثرى

٣٠٣

المكتبة العربية بنفائس المؤلفات وبذخائر المصنفات مما شهد لها المحققون وأقروا لصاحبها بطول الباع وسعة الاطلاع وبوفرة المحصول وموسوعية المعرفة وبغزارة العلم والرواية وبالوقوف على مختلف مصادر البحث والإحاطة بكل ما تشتمل عليه خزائن الكتب في القاهرة وغيرها .. وذهل الناس لما رأوا من باهر تحصيله ومن وقوفه على دقائق العلوم وحقائق المعرفة وخفايا المخطوطات.

ويقول السيوطي عن نفسه : «لقد رزقت التبحر في سبعة علوم هي التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع على طريقة العرب البلغاء لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة ، والذي اعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم السبعة سوى الفقه والتفول التي اطلعت عليها فيها لم يصل اليه ولا وقف عليه أحد من أشياخي فضلا عمن هو دونهم» وهو في كتابه حسن المحاضرة يذكر أن مؤلفاته آنذاك بلغت ثلاثمائة ، ويذكر ابن اياس أنها في جملتها تبلغ ستمائة ، ويذكر بروكلمان أنها أكثر من أربعمائة (٦) وأحصى له المستشرق فلوكل ٥٦١ مؤلفا ، وقد تكون بعض كتبه وريقات قليلات ، ككتابه «المتوكلي» مثلا ، وقد تكون أجزاء كثيرة مثل : الدر المنثور والجامع الكبير وغيرهما وقد جمع السيوطي في كتابه «الحاوي للفتاوي» الذي يقع في نحو ألف صفحة ثمانية وسبعين مؤلفا منفردا أغلبها من الفتاوي والبحوث المنفردة (٧) وجمع في كتابه «النقابة» أربعة عشر علما ، هي : التفسير والحديث وأصول الدين والمعاني والبيان والبديع والتشريع والخط والصرف والنحو والفرائض وأصول الفقه والتصوف والطب .. وله شرح عليه.

وليس في العالم من بلغ ما بلغه السيوطي في كثرة المؤلفات سوى رامون لول الأسباني وأحد كتاب العصور الوسطى الذي بلغت مؤلفاته نحو

__________________

(٦) بروكلمان : تاريخ الأدب العربي : ٢ / ١٤٥

(٧) الحاوي : ١ / ٩٩ ـ ١٤٦

٣٠٤

الخمسمائة (٨) ويقول الداودي تلميذ السيوطي (٩٤٥ ه‍) الشافعي المصري العلامة المحدث في انبهار بعظمة شيخه : كان السيوطي في سرعة الكتابة آية كبرى من آيات الله .. وهكذا كان جلال الدين السيوطي أرفع علماء عصره همة وأعظمهم نشاطا وأكثرهم تأليفا وأغزرهم مادة.

وعلى ما سبق نقول إن السيوطي كان أغزر علماء العربية قاطبة تصنيفا حتى لقد ضرب به المثل على طول العصور في غزارة التأليف ، ومن أجل ذلك لقب بابن الكتاب وبصديق الكتب والكتاب ..

وكان التأليف عند جلال الدين هواية وفنا تبحر فيه حتى لقد اتخذ منه سلاحا يدافع به عن نفسه ضد مخالفيه في الرأي من منافسيه وخصومه والحاقدين عليه ، يقول : خالفني أهل عصري في خمسين مسألة فألفت في كل مسألة مؤلفا بينت فيه وجه الحق (٩).

واختصر السيوطي الكثير من نفائس كتب التراث حتى لنجد من كتبه :

١ ـ مختصر الأحكام للماوردي.

٢ ـ مختصر الروضة في الفقه.

٣ ـ مختصر التنبيه في الفقه.

٤ ـ مختصر الأحياء للغزالي.

٥ ـ مختصر معجم البلدان لياقوت الحموي.

٦ ـ مختصر تهذيب الأسماء للنواوي.

٧ ـ مختصر تاريخ ابن عساكر : سماه تحفة المذاكر في المنتقى من تاريخ ابن عساكر.

٨ ـ وله كتاب سماه «ديوان الحيوان» وهو خلاصة لكتاب حياة الحيوان للدميري ، (ت ٨٠٨ ه‍).

__________________

(٨) د. محمد مصطفى زيادة : المؤرخون ٦٠

(٩) ٢ / ٢٨١ بدائع الزهور لابن اياس

٣٠٥

وألف مئات الكتب في شتى الفنون والعلوم ، فمنها في التفسير : الدر المنثور ـ لباب النقول في أسباب النزول تكملة تفسير الجلالين الذي كتب نصفه الأخير الجلال المحلي (٧٩١ ه‍ ـ ٨٦٤ ه‍) وكتب هو نصفه الأول ـ الاتقان ـ وغير ذلك وللسيوطي الباع الطويل في التفسير بالمأثور ..

وتبلغ مؤلفاته في الحديث أكثر من مائة وستين كتابا من أشهرها الجامع الكبير ـ والجامع الصغير ، ويقول السيوطي عن نفسه : ليس على وجه الأرض من مشرقها إلى مغربها من هو أعلم بالحديث والعربية مني (١٠).

وله في الفقه عشرات المؤلفات ومنها : جمع الجوامع وكتاب الجامع في الفرائض ، وكتاب «أدب الفتيا».

وفي علوم العربية : كان له القدح المعلي وله فضل السبق في ابتكار علم أصول اللغة والنحو وكان يعد من كبار المصنفين في العربية. ويقول عن علم أصول اللغة : هو علم اخترعته لم أسبق إليه ، لم يسبقني إليه ولا طرق سبيله طارق ، ومن أجل كتبه في هذا المجال : شرح ألفية ابن مالك ، الفتح القريب على «مغني اللبيب» الاقتراح في أصول النحو ، الأشباه والنظائر ، المزهر ..

وفي علوم البلاغة : ألف الكثير من الكتب ومن بينها : عقود الجمان في المعاني والبيان ..

وفي الأدب له عشرات الكتب : من بينها : ديوان خطب ـ ديوان شعر ـ المقامات ـ دور الكلم وغرر الحكم ـ شرح بانت سعاد ـ فصل الشتاء .. إلخ.

وفي أدب الرحلات نجد له الرحلة المكية ـ الرحلة الدمياطية ـ الرحلة الفيومية.

__________________

(١٠) تدريب الراوي ـ المقدمة.

٣٠٦

وفي التاريخ : نجده في مقدمة مؤرخي عصره وله في هذا المضمار كتب كثيرة منها : تاريخ الخلفاء ـ حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة ـ تاريخ السلطان الأشرف قايتباي ـ تاريخ أسيوط ـ تاريخ الصحابة. وغير ذلك مما يدل على منهجه التاريخي الذي بلغ فيه وبه غاية التحقيق ، وله كتاب في تاريخ جامع عمر وآخر في تاريخ جامع ابن طولون ..

وفي التراجم : نجد له كتبا كثيرة منها :

١ ـ طبقات النحويين واللغويين : الكبرى وهي مفقودة والوسطى طبعت في باريس والصغرى هي التي طبعت بعنوان «بغية الوعاة».

٢ ـ طبقات الكتاب.

٣ ـ طبقات شعراء العرب.

٤ ـ طبقات المفسرين.

٥ ـ طبقات الحفاظ.

٦ ـ طبقات الأصوليين.

٧ ـ طبقات الشافعية. وغير ذلك ...

لقد انتشرت مؤلفات السيوطي في العالم الإسلامي كافة وأقبل عليها الطلاب والدارسون والعلماء بشوق ولذة وأذن السيوطي في حياته لتلميذه الداودي بروايتها وقرئت في بلاد الشام والحجاز واليمن والروم والعجم والحبشة والمغرب وبلاد التكرور وامتدت إلى البحر المحيط .. وبالمثل سارت فتاواه وعلومه في سائر الأقطار مسير الشمس ، ورزق من القبول من علماء عصره ما لم يرزقه أحد سواه ..

وقد كان لمكانته العلمية والأدبية ولأسلوبه السهل الممتنع ولتحقيقاته الفريدة ولا حاطته الواسعة بشتى المصادر ومختلف المذاهب والآراء ولشخصيته الحرة الشجاعة التي لا تتملق حاكما ولا تتزلف لكبير ، كان لذلك كله أثره في عموم النفع بعلمه وكتبه إذ كان الشعب يرى فيه صورة الأمين على الشريعة ، والشجاع في قول كلمة الحق والنزيه في أحكامه وفتاواه ..

٣٠٧

كان السيوطي مخلصا للعلم وحده صادقا فيه مع نفسه بعيدا عن الملق والتزلف والرياء وحب الدنيا والرياسة والجاه ، شديد المراقبة لله عز وجل ، وإن غضب عليه الحكام والسلاطين ، وكم لاقى في سبيل جرأته وشجاعته ورأية الحر الكثير من العنف ..

أرسل إليه السلطان الغوري غلاما وألف دينار ، فرد الدنانير وأخذ الغلام أعتقه ، وقال لرسول السلطان : لا تعد تأتينا قط بهدية فإن الله أغنانا عن مثل ذلك.

وكان الأمراء يزورونه ويعرضون عليه هداياهم وهباتهم فيردها (١١) وقد عرض عليه الغوري رياسة مشيخة مدرسته بأول الغورية فرفض وقبل البقاء في عزلته ..

* ولم يكن يكترث لغضب الأمراء والسلاطين ، وكان الحريص على إقامة الحدود وتطبيق الأحكام الشرعية مهما كلفه ذلك من عنت ..

* رفض جلال الدين الذهاب مع العلماء لتهنئة السلطان بالشفاء من مرض ألم به وألف في ذلك كتابه «رواية الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين».

* ذهب ذات مرة لمقابلة قايتباي في مظلمة لإنسان وعلى رأسه الطيلسان مما خالف فيه التقاليد المرعية آنذاك ومما أخذ عليه عند السلطان فرد على ذلك بكتابه «الأحاديث الحسان في فضل الطيلسان».

* وحين عزل مشيخة البيبرسية كتب كتابا عنوانه «التنفيس في ترك الفتيا والتدريس».

وكان من أجل تلاميذ جلال الدين : الداودي (٩٤٥ ه‍) والشامي المحدث الحافظ (٩٤٢ ه‍) وابن طولون الدمشقي المحدث (٨٨٠ ـ ٩٥٣ ه‍) وسواهم ..

__________________

(١١) ٦٦٣ ـ المزهر

٣٠٨

وكان السيوطي كثيرا ما ينوه في كتبه. بنفسه وبمؤلفاته وبآرائه فيها حتى لنقرأ في آخر حاشيته على المغنى : فقد أودعتها من الفوائد والفرائد والغرائب والزوائد ما لو رامه غيري لم يكن له إلى ذلك سبيل.

وفي آخر كتابه «بغية الوعاة» يقول عن الكتاب : الجامع من كل شريدة ووريدة العجب العجاب. وكذلك كان في كل كتبه يقول في أنواع البديع : قررت فيها بضعة عشر نوعا من الأنواع البديعية ثم وقع لي التأمل فيها بعد ذلك ففتح الله بزيادة على ذلك حتى جاوزت الأربعين ، ثم قدحت الفكر إلى أن وصلت بحمد الله مائة وعشرين نوعا. وقد استخرج السيوطي هذه الأنواع كلها من الآية الشريفة (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) إلى آخر هذه الآية الكريمة .. ومن الأنواع التي ابتكرها ما سماه بالتأسيس والتفريع وما سماه بالانسجام أو بالمنتخل أو بحسن الطلب إلى غير ذلك ..

وقد دفعت المنافسة إلى إعلان الخصومة بينه وبين السخاوي الذي اتهمه بعدم الأمانة العلمية فيما يكتب ، فكتب السيوطي في الرد عليه كتابه المشهور «الكاوي في تاريخ السخاوي» كما عرض باقي كتب له .. والسيوطي بخاصة من أكثر العلماء التزاما بالأمانة العلمية حتى لنراه يذكر في مقدمات كتبه دائما المصادر التي رجع إليها وأخذ منها في حرص تام على الأمانة العلمية في كل ما يكتبه ..

يذكر في كتابه المزهر (١٤) بابا جعل عنوانه «عزو العلم إلى قائله» ويقول فيه : لا تراني أذكر في شيء من تصانيفي حرفا الا معزوا لقائله ..

ومما يذكره السيوطي في مقدمات كتبه من المصادر نجده قد أطلع على كثير من المخطوطات التي لم يطلع عليها الكثير من علماء عصره .. وبحق

__________________

١٢ ، ١٣ بغية الوعاة للسيوطي ٤٦٠ ، ١٥٥.

١٢ ، ١٣ بغية الوعاة للسيوطي ٤٦٠ ، ١٥٥.

(١٤) ٢ / ٣١٩ ـ المزهر للسيوطي : تحقيق جاد المولى وآخرين.

٣٠٩

لقد كان مفخرة من مفاخر العالم الإسلامي الثقافية وسيظل أثره وتراثه خالدين على الأيام ..

والسيوطي كان يرى في نفسه أنه المبعوث على راس القرن التاسع الهجري ليجدد للأمة الإسلامية دينها ، مصداقا للحديث الشريف «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة هذه الأمة من يجدد لها دينها».

ويقول السيوطي : ومن اللطائف أن المبعوثين على رأس أكثر القرون مصريون : عمر بن عبد العزيز (١٥) في المائة الأولى والشافعي في الثانية ، وابن دقيق العيد في السابعة والبلقيني في الثامنة وعسى أن يكون المبعوث على رأس المائة التاسعة من أهل مصر (١٦) وهو يعني بذلك نفسه ..

وكان السيوطي كثير الاجتهاد في عصره ، وكان يرى أن الاجتهاد فرض كفاية مفروض على العلماء أو خاصتهم ، وألف في ضرورة الاجتهاد كتابا سماه «من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض» وقد تحدث في هذا الكتاب عن الاجتهاد وضرورته في كل عصر لأنه فرض من فروض الكفاية وواجب على أهل كل عصر أن يقوم طائفة في كل قطر منهم ، ويحتوي هذا الكتاب على أربعة أبواب :

الأول : في نصوص العلماء على أن الاجتهاد في كل عصر فرض من فروض الكفاية.

الثاني : في نصوص العلماء على أن الدهر لا يخلو من مجتهد ، وأنه لا يجوز عقلا خلو العصر منه.

الثالث : في ذكر من حث على الأجتهاد وأمر به ، وذم التقليد ونهى عنه.

__________________

(١٥) كان أبوه عبد العزيز بن مروان أميرا على مصر في عهد أيخ عبد الملك بن مروان وقد نشأ عمر بن عبد العزيز طفولته الأولى في مصر.

(١٦) ١ / ١٣٥ ـ حسن المحاضرة.

٣١٠

الرابع : في فرائد الاجتهاد.

وهو في هذا الكتاب يقف مع العصر ومع العقل وينأي عن التقليد والمقلدين ..

كملت عند السيوطي أدوات الاجتهاد على ما اشترطه الأصوليون فكان عالما بآيات الأحكام وأحاديث الأحكام وشروط القياس ومعرفة مواقع الاجماع ، غير أنه لم يجتهد بالفعل إلا اجتهاد المذهب بالترجيح على مذهب الإمام الشافعي (١٧).

ويقول السيوطي : «اجتمع عندي ـ بحمد الله ـ الحديث والفقه والأصول وسائر الآلات من العربية ، فأنا أعرف كيف أتكلم وكيف أستدل وكيف أرجح (١٨).

ويقول : وقد كملت عندي أدوات الاجتهاد ـ بحمد الله ـ ولو شئت أن أكتب في كل مسألة تصنيفا بأقوالها وأدلتها العقلية والقياسية ومداركها ونقوضها وأجوبتها والمقارنة بين اختلاف المذاهب فيها لقدرت على ذلك (١٩).

ويقول : وقد كملت عندي الآن آلات الاجتهاد وبحمد الله تعالى أقول ذلك تحدثا بنعمة الله عز وجل (٢٠).

وبعقلية المجتهد أثرى السيوطي العلم وأثرى التراث الإسلامي وأثرى الثقافة الإسلامية ..

* * *

* وهكذا نرى شخصية الإمام السيوطي الجليلة في كل شيء شخصية

__________________

(١٧) مقدمة كتاب الراوي : تحقيق د. عبد الوهاب عبد اللطيف.

(١٨) الكاوي في تاريخ السخاوي.

(١٩) ٢ / ٢٤٨ ـ الحاوي للسيوطي

(٢٠) ١ / ١٤١ ـ حسن المحاضرة.

٣١١

جعلت منه أعظم رواد الثقافة الإسلامية في القرن التاسع الهجري ، وهي شخصية العالم العامل من أجل وطنه وعروبته ودينه ، شخصية المعتز بنفسه وكرامته ..

شخصية المجتهد ما شاء له الاجتهاد .. المخلص للعلم اخلاصا شديدا .. الصادق كل الصدق .. الكاره للنفاق والزلفى والرياء والملق للحكام .. المتعفف الزاهد في المال لا يقبل شيئا منه وان أتاه من حاكم أو أمير أو غنى .. شخصية العالم المفكر والفقيه الأصيل والأديب البليغ صاحب الأسلوب البارع الجميل والمضامين الإنسانية الرفيعة مما نجده في رسائله وشعره وفي مقدمات كتبه وفي مقاماته وعلى الأخص مقامته اللؤلؤية التي ذكر فيها أسباب تركه للتدريس ..

وهكذا تصدر السيوطي مواكب العلماء في عصره حتى كان ظاهرة فكرية فريدة في تاريخنا العلمي والثقافي الطويل.

كتبه المطبوعة والمخطوطة في كل مكتبات العالم وفي مكتبة الأزهر الكثير من مؤلفاته المخطوطة ، وفي مكتبة جامعة الرياض أكثر من سبعين مخطوطة له ، وقد صدر بها فهرست خاص .. الدراسات عنه تنمو على مدى الأيام وكتبت عنه رسائل جامعية كثيرة ..

فليس بعجيب أن يصبح السيوطي في عصره ، وبعد عصره رائدا للثقافة الإسلامية الخالدة ، وأن يكون في عصره كالجاحظ في عصره كلاهما بعد عن حياة الوظائف والمناصب وكلاهما كان ممثلا لشعبه ولعصره ولحياته نفسها ، وكلاهما تصدر زعامة الثقافة الإسلامية العربية في أيامه ..

أضاف السيوطي إلى سجل تراثنا الخالد من الثقافة الإسلامية حتى عصره اضافات كثيرة في كتبه مما جعل العالم الإسلامي كله يتطلع إليه بكل حب وتقدير وإكبار ..

لقد أكسب السيوطي العالم الإسلامي أولا ووطنه مصر ثانيا مجدا كبيرا خالدا على مرور الأيام .. رحمه الله وأجزل مثوبته ..

٣١٢

شمس الدين الحنفي

جامع الحنفي مسجد كبير معروف في القاهرة وشمس الدين شخصية جليلة من أعلام علماء الأزهر في القرن التاسع الهجري ..

نشأ شمس الدين يتيما من أمه وأبيه وربته خالته. وحفظ القرآن الكريم وكان ابن حجر رفيقه في الكتاب ثم اعتزل الناس للعبادة والاطلاع سبع سنوات وخرج من عزلته وهو أعلى كعبا في علوم الدين ، وتعلم في الأزهر الشريف وصار من أنبه طلابه وأكرم خريجيه.

وكان لا يترك حاكما إلا نصحه وأخذ بحق المظلومين منه.

وكان السلطان فجج بن برقوق (٨٠١ ـ ٨١٥ ه‍) من سلاطين المماليك بعد وقفه لزحف تيمور لنك الكبير على الشام قد أخذ يظلم الرعية ويجور في حكمها فكان الإمام شمس الدين الحنفي يعارضه ويندد به ويعنف في نصحه ويغلظ له القول وقال فرج للشيخ يوما بعد أن سمع منه ما ألمه : المملكة لي أم لك فقال الشيخ : إنها ليست لي ولا لك إنها لله الواحد القهار. وقام الشيخ متغيرا ثائرا فمرض فرج وعجز الأطباء عن علاجه فطلب السلطان الشيخ ليدعو له بالشفاء. وأرسل خلفه الأمراء فوجده بنواحي المطرية خارج القاهرة فطلبوا منه العودة معهم تنفيذا لأمر السلطان ، فأبى

٣١٣

فأخذوا يتلطفون بالشيخ حتى قام فصلى وأخذ يدعو للسلطان وقال لهم : قد برىء.

ويقول العيني في تاريخه الكبير : «ما سمعنا أحدا من الشيوخ أعطى من العز والرفعة والكلمة النافذة والشفاعة المقبولة عند الملوك والأمراء وأرباب الدولة والوزراء مثلما أعطى الشيخ ، وحسبك إنه لم يقم من مجلسه لأحد من الملوك والأمراء قط ، ولا من القضاة الأربع غيرهم».

وكان السلطان بحق يكره شمس الدين ، ومع ذلك كان يقضي للشيخ كل حاجاته وشفاعاته في الناس ويقول لحاشيته : كلما أقول لا أقبل لهذا الشيخ شفاعته لا أستطيع بل أقبل شفاعته وذهب الملك «المؤيد» للشيخ ليزوره في زاويته فوجد الشيخ فوق سطح الزاوية فأخبروا الشيخ بقدوم السلطان ، فقال لهم : قولوا له إن مما يرضيني عن السلطان أن يكف عن ظلم أحد.

وبعث الأمير للشيخ بأموال فوزعها شمس الدين كلها على الفقراء ، وبلغ ذلك الأمير فجاء للشيخ وقبل يده ، وكان «ططر» يذهب إلى شمس الدين ويخدمه في جملة أتباعه وخدمه ، فلما تولى ططر الملك ظل يذهب للشيخ كعادته والشيخ يقول له : انك صرت سلطانا والزم القلعة فقال له السلطان : لا أستطيع.

وكان «برسباي» يوقر الشيخ ويجله ويقضي له جميع حاجاته وشفاعاته.

وهكذا عاش شمس الدين العالم الأزهري معظما موقرا في قلوب الشعب والحكام حتى توفي إلى رحمة الله عام ٨٤٧ ه‍.

شهاب الدين السنباطي

كان لانتصار مصر في موقعة عين جالوت ٦٥٨ ه‍ ١٢٦٠ م وهزيمتها للتتار ، دوي كبير في أنحاء العالم الإسلامي ، وامتدت امبراطورية مصر

٣١٤

امتدادا لم تصل إليه من قبل ولا من بعد .. ولكن مصر فوجئت بالغزو العثماني لها .. فتوقفت حركة التاريخ وعادت مصر دولة تابعة لاستامبول وكان ذلك أعظم محنة امتحن بها الشعب المصري على طول عصور التاريخ .. ولكن مقاومة الشعب المصري وعلماء الأزهر للطغاة لم تسكت في يوم من الأيام .. وكان مظهر هذه المقاومة هو الشيخ الأزهري الخالد شهاب الدين أحمد بن عبد الحق السنباطي ..

كان عالما جليلا وإماما عظيما ومصريا كريما وكان واعظا في الجامع الأزهر ، ويذكر أمين سامي عنه إنه كان شيخ الجامع الأزهر ـ تقويم النيل ٢ / ١٦ ـ وقال الشعراني عنه لم نر أحدا من الوعاظ أقبل عليه الخلائق مثله.

كان السنباطي ملاذا للشعب المصري المغلوب على أمره ، وكان يهدد الوالي التركي باعلان الثورة عليه كلما تحزبت الأمور واشتهر ظلم الأتراك للشعب وكان القضاة الأربعة الذين ولا هم سليم على مصر عام ٩٢٣ ه‍ لا يستطيعون مجابهة الوالي التركي بشيء فكان السنباطي يحذر الحاكمين المستبدين من ثورة الشعب ويهدد الوالي إن لم يستمع له.

وكان السنباطي يلقب بشيخ الإسلام وهو لقب كان يطلق قبل الفتح العثماني لمصر على قاضي القضاة الشافعي وكان آخر من لقب به من علماء الأزهر قاضي القضاة شهاب الدين احمد بن عبد العزيز (٩٤٩ ه‍ ـ ١٥٤٢ م) فلما ألغى الأتراك نظام القضاء المصري وأقاموا في رياسة القضاء قاضيا تركيا ، أصبح هذا اللقب يطلق على ما نرجح على شيوخ الأزهر وعلى الرغم مما يذهب إليه كثير من المؤرخين من أن الشيخ الخرشي المالكي (١١٠١ ه‍) هو أول شيخ للأزهر فإنني أرجح أن السنباطي كان هو أول شيخ عرفه التاريخ للأزهر الشريف وبذلك يكون منصب شيخ الأزهر راجعا إلى أواسط القرن العاشر.

وفي شعبان عام ٩٥٠ ه‍ / ١٥٤٣ م كان والي مصر وهو داود باشا

٣١٥

الذي تولى حكمها قبل ذلك بخمس سنوات وكان داود ظالما متكبرا متعسفا وكان الشعب يئن من مظالم الأتراك ويتحمل كل ذلك بجلد وصبر ..

وكلم الشيخ الإمام السنباطي داود باشا في مظلمة من هذه المظالم فلم يبال داود بنصيحة الشيخ فصادف ان كان داود في موكبه في أواخر شهر شعبان من عام ٩٥٠ ه‍ فانبرى له السنباطي وجابهه بالقول ..

يا داود انك عبد مملوك لا يجوز لك أن تتولى الأحكام وان أحكامك باطلة ما لم تحصل على عتقك.

داود لجنده اقبضوا على هذا الشيخ.

ـ الجند ينحازون الى جانب الشيخ.

داود يرفع سيفه ويهم بقتل الشيخ.

ـ الجند : مهلا اطرح الحسام انه شيخ الإسلام ، واننا سنقاتلك معه إذا اضطررنا إلى ذلك.

داود : يجن وينحدر الى منزله ويرسل الى الخليفة العثماني يعلمه بما يحدث.

وبعد قليل جاء إلى داود أمر عثماني بعتقه مع تكليفه بتبليغ الشكر للشيخ .. وذهب داود إلى الشيخ ليبلغه رسالة الخليفة سليمان القانوني واسترضاه واعتذر اليه وقدم هدية الى الشيخ فرفضها.

وأصبح الوالي ذليلا حقيرا بجانب عظمة الشيخ وصموده وصلابته وكبريائه وصار الوالي لا يرد للشيخ رأيا ولا يرفض له شفاعة ..

وهكذا عاش السنباطي إماما جليلا وشيخا عظيما حتى توفي الى رحمة الله في آخر عام ٩٥٠ ه‍ ونسينا ذكره إلا من شارع صغير خلف الأوبرا سمي باسمه ومن مسجد متواضع فيه أطلق عليه اسمه .. ولكن التاريخ

٣١٦

لا ينسى أول شيخ للأزهر وأول مظهر لمقاومة الشعب لبطش الأتراك وأول زعيم للمقاومة الشعبية في أوائل الفتح العثماني لمصر .. رحمه الله ..

الشيخ أحمد الدردير

الشيخ الدردير من أشهر علماء الأزهر الشريف قبيل الحملة الفرنسية على مصر ، كان شيخ علماء المالكية في الأزهر. وكان مشهورا بالزهد والورع والتقوى. مشهودا له بالعلم الغزير ، والشجاعة الفائقة ، ومراقبة الله في السر والعلن.

قاد ثورة شعبية لها شهرتها في تاريخ الوطن ففي يوم من أيام ربيع الأول عام ١٢٠٠ ه‍ / يناير ١٧٨٦ م نهب أحد أمراء المماليك واسمه حسين بك شفت هو وجنوده دارا لشخص اسمه أحمد سالم الجزار وهو نائب رئيس الطريقة البيومية بالحسينية بالقاهرة ظلما وعدوانا فثارت ثائرة الشعب وتشاوروا فيما بينهم فيما يجب أن يفعلوه ، واتفقت كلمتهم أخيرا على الالتجاء إلى أقوى العلماء شخصية ، وأوسعهم نفوذا وهو الإمام الدردير ، فاجتمع الشعب في اليوم التالي للحادث ، ويمموا وجوههم شطر الجامع الأزهر ، وقصدوا الشيخ الدردير وهو في حلقته بين طلابه ومريديه وأخبروه بالحادثة فغضب الشيخ لاستهتار الأمراء وتعسفهم.

ونادى الدردير في الجماهير غير هائب ولا خائف قائلا لهم : أنا معكم ، وغدا نجمع الشعب من كل مكان في الحارات والضواحي وبولاق ومصر القديمة ، وأركب معكم وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم.

وأمر الشيخ بدق الطبول على المنارات ، إيذانا بالاستعداد للقتال وترامت الأخبار إلى الأهالي فأسرعوا نحو الأزهر للاشتراك مع الثائرين.

وبلغت أخبار الجماهير الثائرة إلى الأمير إبراهيم بك وبلغه تصميم الشيخ الدردير على قيادة الشعب ضد الأمراء ، وكان يعلم مقدار ما للشيخ

٣١٧

من مكانة ونفوذ بين الشعب فخشي أن يستفحل الأمر وتصبح هذه الثورة نهاية لحكمهم ونفوذهم وسلطانهم ، فأرسل نائبه ومعه أحد الأمراء إلى الإمام الدردير ليعتذر له عما حدث ووعد بأن يكف أيدي الأمراء عن الشعب كما قرر توبيخ حسين بك شفت على صنيعه ، وطلب قائمة بجميع ما نهبه ليأمره برد تلك المنهوبات إلى صاحبها ووافق الشيخ الدردير على ذلك.

وهكذا وضع هذا الإمام الجليل قاعدة دستورية هامة ، وهي احترام الحاكمين لارادة المحكومين [٢ / ١٠٣ و ١٠٤ الجبرتي].

وعاش الإمام الدردير أربعا وستين سنة (١١٣٧ ـ ١٢٠١ ه‍) وكان في نهاية حياته العلمية شيخا على المالكية ، ومفتيا على المذهب المالكي ، وناظرا على وقف الصعايدة ، وشيخا على طائفة هذا الرواق.

ويقول فيه الجبرتي : كان يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويصدع بالحق ، ولا تأخذه في الله لومة لائم وله في السعي على الخير يد بيضاء.

هذا هو الإمام الدردير شيخ من شيوخ الأزهر حرص على أن يؤدي الأمانة ويحافظ على شرف مصر ، وشرف الشعب وشرف الأزهر ، ومات راضيا مرضيا عنه من الله والملائكة والناس أجمعين.

الشيخ الصعيدي

الشيخ الصعيدي (١١١٠ ـ ١١٨٩ ه‍) من أشهر علماء الأزهر قبيل الحملة الفرنسية على مصر. كان أغلب وقته بين تلاميذه ومريديه متوافرا على درس العلم منقطعا للارشاد والهداية لا يقصد إلى أمير أو حاكم ما لم ير مظلمة يجب عليه أن يسعى لا بطالها.

ذهب في يوم إلى الأمير علي بك وعلم الأمير من حاشيته بقدوم الشيخ ، فقام كعادته يستقبله من خارج قصره ، ثم دخل الشيخ والأمير

٣١٨

وجلسا في صدر المكان ثم جاءت حاشية الأمير وشغلته عن الشيخ ، فبادره الشيخ يقول له «غضبك ورضاك سواء ، بل غضبك خير من رضاك» وقام الشيخ ، وقام الأمير يحاول إعادة الشيخ الى مكانه معتذرا إليه ، فرفض الشيخ.

ومرت الأيام ، وركب الشيخ في ليلة من ليالي رمضان ، مع شيخه الشيخ حسن الجبرتي ، والد المؤرخ الكبير ، وقال الشيخ حسن الجبرتي له اذهب بنا إلى علي بك نسلم عليه فقال الصعيدي : يا شيخنا انا لا أدخل ، وقال الجبرتي : لا بد من دخولك معي ، فلم تسعه مخالفة شيخه ، ودخلا على الأمير ، وكان مصادفة عجيبة ان الأمير مات في تلك الليلة ، فاستبشر أهله بالمغفرة له لزيارة الشيخين له.

وكان الشيخ الصعيدي من بني عدي وتلقى العلم على كبار الشيوخ في الأزهر من مثل الديربي ، والملوي ، وإبراهيم شعيب المالكي ، والحنفي ، وسواهم وتصدر حلقات العلم في الأزهر الشريف شيخا جليلا وقورا مهيبا ، في أدب وتواضع واكباب على الدرس والبحث. فأفاد وأجاد وصار له تلامذة ومريدون. وتخرج على يديه أجيال من العلماء من بينهم القلعي ، والفرماوي ، والدردير ، والجناحي وغيرهم ، وكلهم ممن لهم مكانتهم العلمية في الأزهر.

وكان الصعيدي من الراسخين في العلم ، والمبرزين فيه. فقد عاش منقطعا له ، مستزيدا منه ، محصلا لمسائله ، غيورا على الدين وأهله ومن فتاواه تحريم شرب الدخان ..

وكان الشيخ يتردد على محمد بك أبي الذهب يعظه ويذكره بالله ويخوفه من بطشه ، وكان يمسك بيدي ابي الذهب ويقول ما أحسنهما لوسلمتا من عذاب جهنم وأرجو ان يغفر الله لك ذنوبك ، ويتجاوز عنك.

وكان مريدو الشيخ وتلاميذه كثيرين ، وكانوا لا يملون دروس الشيخ ومجالس علمه ووعظه. ويقبل عليه الطلاب والعامة وجماهير المتعلمين

٣١٩

والمستفيدين وكان بيته يعج بالزائرين والوافدين وأصحاب الحاجات والمظالم ، والشيخ لا يمل ولا يكل مما يصنعه بالليل والنهار من مآثر وأعمال طيبات ..

ومات الشيخ وخلف وراءه تراثا علميا خالدا على الأيام.

عمر مكرم

من أنبه أعلام مصر والأزهر في القرن الثامن عشر والتاسع عشر ، وأسيرهم ذكرا .. قضى حياته في خدمة وطنه. وخدمة شعبه ، وفي السعي الى تحريره والدفاع عن حريته ، وكان من زعماء المقاومة الشعبية ضد الحملة الفرنسية ، وكما سعى لرفع الحيف عن الجماهير في بلاده. لتحقيق آمالهم في الحياة.

كان ممن أعلن المقاومة ضد طغيان ابراهيم ومراد من أمراء المماليك منذ عام ١٧٩٥ م ، وفي ثورة شعبية ألزم الشعب ، وعلى رأسه العلماء ونقيب الأشراف. امراء المماليك بوثيقة مكتوبة وموقعة منهم بالتزام العدل في معاملة الرعية ، وهذه الوثيقة يعدها المؤرخون وثيقة حقوق الانسان الأولى وقد سبقت اعلان حقوق الانسان في فرنسا في أعقاب ثورة عام ١٧٩٨ م ، وفي هذه الوثيقة الكبرى أعلن أمراء المماليك أنهم يتعهدون بالعدل ، ويتوبون عن المظالم ، ويعدون بالقيام بالواجبات التي يفرضها عليهم القانون والعرف ، من صرف الأموال على مستحقيها ورفع الضرائب الاضافية.

وفي نضال الشعب ضد الغزو الفرنسي لمصر عام ١٧٩٨ قاد مكرم العالم الأزهري الأسيوطي الجماهير ، إذ هبط من القلعة الى ساحل بولاق يحمل علما يسميه العامة «البيرق النبوي» ، والناس من حوله ، آلاف مؤلفة يحملون السلاح ، يشدون أزر جيش المماليك الذي كان يقاتل على الضفة الأخرى للنيل.

٣٢٠