الأزهر في ألف عام - ج ٢

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٢

الأزهرية ، كانت لجان الامتحان برياسة ثلاثة شيوخ من كبار الشيوخ في الأزهر ، وهم الاستاذ الأكبر الشيخ محمد مأمون الشناوي ، والشيخ عبد المجيد اللبان ، أجزل الله لهما مثوبته ، والأستاذ الأكبر الشيخ ابراهيم حمروش اطال الله في حياته ، وكانت للشيخ اللبنان رحمه الله مواقف محمودة ، وذكريات لا تنسى ، وكانت عصبية المراغى رحمه الله تناهضه ، لأنها كانت تعتقد أن الشيخ يعمل ليكون شيخ الأزهر المرتقب بعد المراغى. وكان الشيخ اللبان يحرص كل الحرص على أن يبقى للأزهر تقاليده ومقوماته وخصائصه ، وكان يرى ان الطفرة في الاصلاح قد تؤدي إلى نكسة ، ولذلك كان خير عماد للأزهر في تطوره ، وملاذا لشيوخه الحذرين الخائفين من نتائج الطفرة والسرعة.

وكان اللبان مكانة كبيرة عند الحكام ، ومنزلة عظيمة لدى أولياء الأمور ، وكانوا يستشيرونه دائما في أمور الأزهر وإصلاحه ، ولما تولى المراغى مشيخة الأزهر لثاني مرة ، وأقيمت حفلة لتكريمه في ٣ يوليو ١٩٣٥ ، كان الشيخ اللبان رئيس لجنة الاحتفال .. وكان في مطلع كل عام دراسي يستقبل اليوم الأول بخطبة بليغة يلقيها على الطلاب والأستاذة ، يضمنها نصائحه وتجاربه وخبرته الواسعة.

وقد بدأ الشيخ حياته العلمية بعد تخرجه من الأزهر الشريف مدرسا في معهد الاسكندرية الديني ، حيث مكث مدة طويلة ، كان فيها محبوبا مكرما من الشعب والحكام والمسئولين ، ودارت الأيام حتى أصبح شيخا للقسم العام فشيخا لكلية أصول الدين ، إلى أن توفي رحمه الله تاركا ذكريات أزهرية طيبة لا تنسى على مر الأيام.

الشيخ عبد الوهاب النجار

درس في الأزهر وتخرج في مدرسة القضاء الشرعي وعمل مدرسا في وزارة المعارف المصرية. وقد غضب عليه وزير المعارف فنقله من مدرسة عابدين إلى مدرسة أسوان ، وهو مدرس حديث العهد بالوظيفة إثر اشتراكه

٦١

في جمعية مكارم الأخلاق الاسلامية فاستقال من وظيفته. وسافر بعد فترة إلى السودان مدرسا في كلية غرودن ، ثم عاد إلى مصر فعين بمدرسة البوليس والإدارة بعد فترة قضاها في المحاماة ، ثم اختير مدرسا بمدرسة دار العلوم إلى أن أحيل إلى المعاش ، ثم عين ناظرا لمدرسة عثمان باشا ماهر وندب مدرسا بكلية أصول الدين. وهو في جميع هذه الوظائف كان الداعي إلى الدين بالبرهان الساطع ، والبيان الناصع ، الواقف لأعدائه بالمرصاد ؛ يرد كيدهم ويبطل سعيهم. وقلما وجد منبر من منابر الدعوة الإسلامية إلا كان الشيخ من أبطاله. وأبرز ما في تاريخ الشيخ اشتراكه في جمعية الشبان المسلمين ، ونهوضه بجزء عظيم من عملها العلمي والإداري عضوا فوكيلا ، ثم سفره إلى الهند بعد بعثة أزهرية لدراسة أحوال المسلمين وغيرهم هناك ، وتمكين الروابط بين مسلمي الهند وطوائفهم ، وللشيخ في التأليف العلمي آثار قيمة : فله كتاب (قصص الأنبياء) وهو كتاب استقصى فيه قصص الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن وغيره وجرده مما علق بها من ضلالات وأوهام. وله كتاب «تاريخ الخلفاء الراشدين». وله غيرهما آثار دينية وأدبية وتاريخية ، حفلت بها المجلات والصحف طول حياته (١) ، وتوفي رحمه الله في ١٩ ـ ٧ ـ ١٩٤١.

الشيخ عبد الرحمن الجزيري

كان بعيد الأثر في الاصلاح الديني والتهذيب العلمي. فقد كان مما اضطلع به وظيفة التفتيش على الأئمة والخطباء بمساجد الأوقاف ، في عهد ساءت فيه حال الخطابة الدينية بالمساجد ، وشكا الناس من طريقة إلقائها ، وضيق موضوعاتها ، التي كانت تدور غالبا حول النهي عن السرقة وشهادة الزور وتحريم الربا وشرب الخمر. فما زال الشيخ يلاحظ ويرشد حتى استطاع ان يخرج الخطابة عن هذا المحيط الضيق ، ويجعلها تلمس حياة الناس وما يجري بينهم ، مما ينغص الحياة ويبعد من الله. ثم أحيل إلى المعاش فندب في كلية أصول الدين مدرسا بها تقديرا لعلمه وفضله. وقد

__________________

(١) من كلمه للأستاذ ابي الوفا المراغى ـ نشرت في مجلة الأزهر

٦٢

يستطيع أحد تلاميذه ، وهم كثير ، أن يتحدث عن كفاية الشيخ وإخلاصه وإتقانه لعلمه.

وللشيخ في ناحية التأليف العلمي امتياز خاص ، فقد كان كثير الانتاج في تحقيق وتدقيق ومن يقرأ «كتاب الفقه على المذاهب الأربعة» وهو في أربعة مجلدات ، يعجب لمواهب الشيخ في هذا الباب ، ويدهش كيف واتته الفرصة على أن يقرأ الفقه في المذاهب الأربعة ثم يجمع ويهذب ويكتب.

وللشيخ غير هذا الكتاب كتب كثيرة منها : أدلة اليقين ، وتوضيح العقائد ، والأخلاق. هذا عدا ما للشيخ من مقالات نشرت في مناسباتها بالصحف والمجلات (١).

الشيخ محمد عبد الله أبو النجا

كان المرحوم الشيخ محمد عبد الله أبو النجا من أفذاذ العلماء ، ومن أمثلهم خلقا ودينا وورعا ، وحجة ثبتا في علوم الدين والعربية ، وكان يسيطر على قلوب تلامذته ومريديه : بأدبه الجم ، وتواضعه المأثور ، وصلاحه النادر ، وعفة لسانه ، وقوة بيانه ، وشجاعته في قول الحق والجهر به. وكانت محاضراته ودروسه في كلية اللغة ـ في النحو والصرف وأصول الفقه والحديث والتفسير وغيرها ـ ميدانا لتسابق العقول ، وشحذ الملكات ، وتربية المواهب. ولا يزال إخوانه وأبناؤه في العلم يذكرون ذلك بالوفاء والتقدير وعرفان الجميل. أية موهبة كان يضمها إهابه ، وأي دين كان ينطوي عليه قلبه ، وأي عقل كنا نعتز بالانصات لتفكيره والتأدب بأدبه. كان رحمه الله من خيار أساتذته في طلب العلم : والده المغفور له الشيخ عبد الله أبو النجا ، العالم الكبير ، والأزهري النابغة ، الذي اختير للتدريس بمعهد الاسكندرية الديني (١٩٠٨ ـ ١٩٢٢ م) ، وعند إنشاء أقسام التخصص في الأزهر اختير لتدريس الفقه والأصول فيها. وكان من خيار شيوخه في الله : العارف بالله الشيخ منصور أبو هيكل ، وولده الشيخ عثمان ، وقد وصل عليهما الشيخ ،

__________________

(١) من كلمة للأستاذ ابي الوفا المراغى عنه ـ نشرت في مجلة الأزهر

٦٣

والشيخ عبد الخالق الشبراوي الذي كان ملازما له ، والشيخ عبد الحميد ابراهيم. وسواهم من أولى الصلاح والولاية.

وكانت لذة البحث والعلم عند الشيخ واضحة جلية في جميع أطواره ، فكان يلازم والده في غدواته وروحاته ، ويناقشه في مسائل العلم والدين حتى حين تناول الطعام وفي أوقات الراحة ، وكثيرا ما كانت تعقد الندوات العلمية في منزل والده فيشترك فيها سامعا ومناقشا.

وقد ولد رحمه الله عام ١٨٩٧ في قرية «كفر عيسى» من بلاد مركز فاقوس ونال العالمية بتفوق كبير عام ١٩٢٥ م.

ثم عين مدرسا في المعهد الابتدائي ، ونقل للتدريس في المعاهد الثانوية ثم مدرسا في كلية اللغة العربية منذ إنشائها عام ١٩٣١ ، إلى أن نقل وكيلا لمعهد القاهرة ، فمفتشا بالأزهر ، فوكيلا لكلية اللغة العربية.

وفي ٨ مارس عام ١٩٤٩ شعر الفقيد الكبير بتعب واجهاد ، فاستراح في منزله يومين استأثرت به بعدهما رحمة الله تعالى في ١٠ مارس سنة ١٩٤٩ ، فخسرت كلية اللغة العربية بوفاته علما من أعلامها ، وركنا من أقوى أركانها ، وأذهلت لوعة المصاب فيه عقول تلامذته ومريديه وعارفي فضله.

فرحمة الله رحمة واسعة ، وجزاه على ما قدم من صالحات خير الجزاء.

وللشيخ كتاب في علم أصول الفقه ، يجمع صواب الرأي ودقة الملاحظة وعمق الدراسة ، وقوة الملكة. وكان شيخنا رحمة الله يدرس هذا العلم وهذا الكتاب.

محمود أبو العيون

طويت بوفاة أبي العيون صفحة خالدة من الإيمان والحماسة والكفاح والوطنية ووري الرجل في ومسه ، وفقدنا فيه أمة في رجل ، ومصلحا قل أن يجود بمثله الزمان. كان أبو العيون مضرب الأمثال في الغيرة الدينية ، والجهاد

٦٤

الوطني ، وحب الإصلاح ... وكانت الصحف والمجلات تتسابق إلى أحاديثه في مختلف المناسبات ، وكان في الأزهر ركنا من أركانه ، وعلما من أعلامه ، أحبه الجميع ، وقدروا فيه العفة والنزاهة وطيبة القلب وحلاوة اللسان.

ولد رحمه الله عام ١٨٨٢ من أسرة كريمة ، عرفت بالورع والتقوى والعلم ، وحفظ القرآن الكريم ، ثم التحق بالأزهر ونال العالمية عام (١٣٢٦ ه‍ ـ ١٩٠٨ م). وعين مدرسا بمدرسة ابتدائية ، ثم اختير للتدريس في الأزهر عام ١٩٠٩. وبدأت قصة كفاحه منذ عام ١٩١٢ م حين قامت الحرب الطرابلسية .. وكتب في ثورتنا الوطنية سنة ١٩١٩ م وما بعدها أروع الصفحات وأكرم الآيات. وقد اتجه إلى الرذائل الاجتماعية يحاربها ، فأعلن الحرب على البغاء والخمر ، وعلى المجون ، وعلى التبذل والاستهتار في المصايف والشواطىء. وكان أبو العيون كثير الاعتزاز بكرامته ، ولا نزال نذكر بالفخر قصة خطف احد رجال البوليس لعمامته. دون أن يعرف شخصيته ، أثناء حصار المعهد الأزهري الديني عام ١٩٤٦ ، واحتجاجه المشهور على رئيس الوزراء ، وإنذاره له بان طربوش رئيس الوزراء بعمامة أبي العيون ، واعتذار رئيس الحكومة له ـ وكان النقراشي باشا ـ في مأدبة غداء أقامها لهما أحمد عبد الغفار باشا .. ولأبي العيون كتب قيمة في تاريخ مصر والإسلام ، تدرس في الأزهر. وله مقالات وبحوث مشهورة. في محاربة البغاء جمعها في مؤلفات .. وقبيل وفاته نشرت مجلة «إلا خمسة» الجامعية حديثا وطنيا بعنوان «دم الانجليز ـ الذين يحاربوننا في القنال ـ غير معصوم» .. رحم الله أبا العيون ، لقد كان رجلا ، وكان بطلا ، وكان مؤمنا بربه ودينه ، وكان من الخالدين. تخرج الشيخ في الأزهر عام ١٩٠٩ ، وعمل مدرسا بوزارة المعارف ، ثم نقل إلى الأزهر وتقلب في وظائفه ، واشترك في الثورة المصرية عام ١٩١٩ وحكم عليه بالسجن ، وعين بعد الثورة مفتشا بالأزهر ، ثم اختير عام ١٩٣٥ شيخا لمعهد أسيوط ، ونقل في ١٩ مايو ١٩٣٥ شيخا لمعهد الزقازيق ، ثم نقل بعد سنوات شيخا لمعهد طنطا ، فالإسكندرية ، ثم اختير سكرتيرا عاما للأزهر ، وتوفي عليه رحمة الله في ٢٨

٦٥

صفر ١٣٧١ ه‍ ـ ٢٠ نوفمبر عام ١٩٥١ م ، وهو من مواليد دشلوط مركز ديروط من أعمال مديرية أسيوط .. ومواقفه في محاربة البغاء والسفور والعرى على الشواطىء مشهورة.

وقد أقيمت بدار الشبان المسلمين حفلة تأبين لأبي العيون يوم الجمعة ٢٨ ـ ١٢ ـ ١٩٥١.

ويقول فيه الأستاذ أبو الوفا المراغى (١) : جل مصاب الوطن ، وفدحت خسارته فيك ، فلقد كنت في الرعيل الأول من المجاهدين لحريته واستقلاله ، وجهادك صفحة خالدة في تاريخك ، يعرفها المجاهدون الأحرار ويقدرونها لك ويضعونك بها في الصف الأول من المجاهدين الصادقين. لقد كنت في طليعة العاملين في فجر النهضة الوطنية ، عرفتك المنابر العامة في الأزهر وغيره خطيبا مبرزا من خطباء الثورة ، واستضافتك السجون كما استضافت غيرك من قادة الثورة ومحركيها ، وشاركت في المظاهرات بشخصك ، وعرضت نفسك للحراب والرصاص ، ولقيت ما يلقى الأحرار من تشريد ، وكسب تجار الوطنية ما كسبوا من مال وجاه ، ولم تكتسب إلا ما ادخره الله لأمثالك من المجاهدين المخلصين. وكنت بين الأدباء من مواطنيك أديبا ممتازا ، واضح الأسلوب مشرق الديباجة ، جزل العبارة تصل الى غرضك في لباقة وكياسة ، عفا في عبارتك وخصومتك ، لم تدنس قلمك بما لا ترضى عنه أصول المناظرة وقواعد الآداب. وها هي ذي جولاتك في مجلات الأدب الراقية ، وأنديته الرفيعة تشهد بطول باعك في الأدب وتبريزك في فنونه ، وتضعك في الطليعة من أدباء العربية ، ولن ننسى لك جزالة أسلوبك وقوة روحك وشخصيتك في مؤلفاتك التاريخية لطلاب المعاهد الدينية ، وفي مقالاتك بمحلة الأزهر والهلال وغيرهما من المجلات الراقية ذات الطابع الأدبي الخاص.

__________________

(١) مجلة الأزهر. ربيع الأول ١٩٥١

٦٦

ومن قصيدة للشيخ عبد الجواد رمضان في رثائه :

شيعوا كواكب التقى والرشاد

وطووا راية الهدى والجهاد

حين قالوا : أبو العيون تردى

فجعت أعين العلا في السواد

قائد مات ، والبلاد جنود

تأثرت ، ترنو إلى القواد

حرة تنشد الحياة ، وتدعو

من بينها ، بكل حر مفادى

يا قريع الخطوب في كل هول

يا لواء الكفاح في كل عادى

كيف طاح اللواء ، قل لي ، متى ط

حت ، وما طحت في زحام الجلاد

كم تدرعته عزيزا كريما

خضبت وجهه دماء الأعادي

واقتحمت الصفوف تزخر بالمو

ت ، مشيحا ، تصيح : تحيا بلادي

في الرعيل السباق من حاملي الع

بء ، ومن كل أريحي جواد

نزلت مصر منهمو في السويدا

ء ، فهزت نفوسهم للطراد

رفعوا راية الجهاد وهبوا

حين نادى الجهاد. كالآساد

لا يبالون بالحديد وبالنا

ر ، وبالموت ، في سبيل المراد

٦٧

لهف نفسي عليك ، فارقت مرما

ك ، إلى غير رجعة أو معاد

عليكا لهدى والجهاد في يوم منعا

ك ، توارى سناهما في الحداد

فعزاء لمصر فيك ، إذا أغنى

عزاء لدى الكبود الصوادى

وسلام عليك في جنة الخلد ،

مجيدا ، من عترة أمجاد

ومن قصيدة لفضيلة الشيخ أحمد شفيع السيد الأستاذ المساعد في كلية اللغة العربية في رثائه أيضا :

طويت صحيفة عالم موهوب

قاد الطلائع وهو غير هيوب

ومجاهد في الله حق جهاده

لم يخشى من سجن ولا تعذيب

الثورة الكبرى ذكت نيرانها

ببراعة وبيانه المشبوب

فلو استمعت اليه في عزائها

لرأيت اي مناضل وخطيب

كم ذا يجلجل صوته فيهزنا

كالعاصفات تهز كل قضيب

وتخال من عجب نمير بيانه

نارا تلظى في نهى وقلوب

في كل مجتمع وكل صحيفية

ذوب البراعة من بنان أريب

٦٨

هو واحد حرس الفضيلة جاهدا

لم يلف من ند له وضريب

يا مذكى العزمات في أبنائه

ومواصل الارشاد بالتهذيب

مترفقا في كل ما يبديه من

نصح بلا لوم ولا تثريب

وشعاره في حكمة : لا تغضبن

لكنه للحق جد غضوب

في كل ناحية ترى آثاره

كالغيث شؤبوبا على شؤبوب

أو في السبعين وهو مجاهد

بذ الشباب بعزمه ودؤوب

الدين أول ثاكل بمكافح

قد كان عدته لكل عصيب

لو كان في الأعلام مثلك داعيا

هان المصاب لثاكل كل محروب

يا من رأى بطل الجلاد مجندلا

في غير ميدان وغير حروب

واها لحدثان الحياة فإنه

يأتي من الأهوال كل غريب

يا يوم نعي (ابي العيون) تركتنا

ريع النهار بحالك غربيب

فالليل ممدود الرواق مخيم

والصبح آذن ضوءه بمغيب

وترى العنادل أمسكت لهواتها

شجنا ، وللغربان شر نعيب

٦٩

لله اي شهادة كتبت له

حين الجهاد فنال خير نصيب

أدى رسالة ربه حتى إذا

هتف الحمام أجاب خير مجيب

هبني يراعك أقض حق مآثر

كالشمس لكن غير ذات غروب

وقد توفي رحمه الله يوم الثلاثاء ٢٨ صفر ١٣٧١ ه‍ ـ ٢٠ نوفمبر ١٩٥١ ، وشيعت جنازته في اليوم التالي في موكب رهيب إلى الأزهر الشريف. ونعته الأهرام إلى العالم الاسلامي ، فقالت :

ننعي إلى العالم الإسلامي أجمع ، فقيد الشرق والإسلام صاحب الفضيلة العالم الجليل الشيخ محمود أبو العيون السكرتير العام للجامع الأزهر ، فقد فدحت الفجيعة بوفاته ليلة أمس إثر حادث أليم ، ففقدت مصر والشرق بفقده عالما من خيرة العلماء العاملين ، ومجاهدا من صفوة المجاهدين المخلصين ، ومصلحا سلكته جهوده الإصلاحية التامة في الخالدين.

لقد درج الفقيد العظيم في حجر الأزهر يافعا يتلقى العلم عن شيوخه الاجلاء ، ويقف في الطليعة من طلابه النجباء ، حتى نال شهادة العالمية في عام ١٣٢٦ هجرية (١٩٠٨ ميلادية) واختير عقب ذلك مدرسا في الأزهر حتى رؤى الانتفاع بكفايته في التوجيه العلمي ، فأسندت اليه مهمة التفتيش في سنة ١٩٢٥ ثم ندب شيخا لمعهد أسيوط سنة ١٩٣٥ وعين بعد ذلك شيخا لمعهد الزقازيق فشيخا لمعهد الاسكندرية ، وقد ظل في هذا المعهد حتى اختير سكرتيرا عاما للجامع الأزهر والمعاهد الدينية.

ومع حرص الفقيد طيب الله ثراه على أن يخص العلم وأهله بالنصيب الأفى من وقته وجهده ، فقد استخلص جانبا من الوقت والجهد لما عمر به قلبه الكبير من رغبة قوية في الاصلاح الاجتماعي ، فكانت له جولاته

٧٠

الخالدة على صفحات الأهرام في مكافحة البغاء وفي غير ذلك من النواحي الاجتماعية التي يعنى بها أنداده من العلماء المصلحين.

وحين نهضت مصر نهضتها الوطنية الكبرى سنة ١٩١٩ كان الفقيد اكرم الله مثواه في مقدمة الصفوف ، يخطب ويكتب ويحفز الهمم ويشحذ العزائم ويدعو الى الجهاد لاسترداد المغصوب من حقوق البلاد ، حتى لقد غدت مواقفه الوطنية في ذلك الحين موضع التنويه والتقدير في كل مكان.

ومن مقالاته الرائعة مقال نشرته الهلال عنوانه «اتهم رجال الدين» جاء فيه :

«اتهم رجال الدين في الماضي القريب ، لأنهم قصروا في أداء رسالتهم من تبليغ حكم الله للمسلمين في الأحداث التي زحزحت الدين عن مكانه ، وعطلت تنفيذه في القضاء والأحكام ، وتطبيقه في الحوادث التي تخالف الشريعة وتناقضها.

في سنة ١٨٨٥ استبدل القانون الفرنسي بالشريعة الحنيفية الغراء التي سار عليها المسلمون أجيالا بعد أجيال في أزهر عصور الاسلام ، فلم يحرك علماء ذلك العهد ساكنا ، ولم ينكروا ذلك الحدث العظيم في الاسلام ، وإذا كانوا قد أنكروا فلم يسجل التاريخ لهم أنهم أوذوا ـ أو نفوا من الأرض ـ في سبيل إنكارهم لذلك التبديل والتغيير في شرع الله.

ونظم الاحتلال الانجليزي بعد استقراره البغاء ، وجعله رسميا ، وأصبحت المسلمة في بلاد الاسلام تمتهن حرفة الزنا علنا ، تحت حماية الحكومة والقانون ، وبين سمعها وبصرها ، فلم يحرك رجال الدين ساكنا ، ولم يرو التاريخ انهم غضبوا لله وللحق وللأعراض تستباح وتنتهك ، او انهم انكروا تشريع هذا الرجس.

وشاع الربا ، واستعملت الحكومة الربح والفائدة رسميا ، وسمحت بها للجمهور وتأسست له المصارف الأجنبية والوطنية في طول البلاد وعرضها فلم نسمع ان العلماء أنكروا ذلك الاثم ، أو انهم غضبوا لتشريعه وتنظيمه.

٧١

وأباحت الحكومة الخمر والميسر ، وانتشرت الحانات ، وأنواع القمار ، في النوادي والأمكنة العامة ، وفي المدن والقرى والطرقات ومنازل الأثرياء ، فلم يعرف عن رجال الدين أنهم عارضوا الحكومة معارضة جدية في انها أحلت ما حرم الله.

وفي عهدنا الحاضر ذاع الفساد ، وتحللت الأخلاق ، واستشرى الداء ، وخلعت المرأة العذار. وهجرت المنزل وخالطت الرجال على شواطىء البحار ـ عرايا ـ وفي النوادي العامة ، وفي الحفلات الزاخرة بالمجانة والعبث والهوى والعربدة ، ونبذت التقاليد الصالحة الموروثة وهجر الدين ، وزال طابعه في مقدرات البلاد ومعنوياتها ولم يدرس دراسة تعليمية تطبيقية نافعة في المدارس والجامعات. وقعت تلك الأحداث الخطيرة الفاجعة ، فلم نر جمهرة العلماء ورجال الدين يجمعون جموعهم ، ويرفعون عقائرهم بالانكار والاحتجاج على أولي الأمر من أجل هذه المنكرات الشائعة ، وهذه المقابح الظاهرة ، وما رأينا أحدهم غامر وجاهد في سبيل الله ، حتى ناله الضر في نفسه او رزقه ، لم نر شيئا من ذلك ولم نسمع به ، بل كل ما نفعله هو أن نكتب في الصحف ، وأن نرفع العرائض الفاترة لأولياء الأمر ، وهم لا يحركون ساكنا ، ولا نحرك نحن ساكنا كذلك ، زعما بأننا أدينا واجبنا بالخطابة والعرائض وبالكلام وعلى الورق.

وتفرقت البلاد أحزابا وشيعا ، وانشقت على نفسها أقساما وفرقا ، وتزعم كل فريق زعيم يدعو الى شخصه ، وإلى تولي الحكم دون الآخرين ، حتى نسي القوم قضية الوطن ، وإصلاح أداة الحكم وشئون البلاد ، ورجال الدين يتفرجون على الموقف ، على حين أن الله أمرهم بإصلاح ما فسد من أحوال المسلمين ، ورتق ما تصدع من أمورهم «(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ، وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ») فلم نجتمع ولم ندع المتخاصمين إلى الصلح ، والمتنازعين إلى التفاهم والمتفرقين إلى الاتحاد ، والمدبرين إلى الرجوع إلى الحق ، ولم نقل كلمة الدين في المخالف ، حتى يفيء إلى أمر الله ، وحتى ننقد البلاد من البلاء المسلط عليها ، والمحيط بها من كل

٧٢

جانب ، لم نفعل ذلك ، بل إن جماعتنا نفسها في حاجة إلى إصلاح ذات بينهم والعمل على جمع كلمتهم ، وتأليف قلوبهم.

إني أتهم رجال الدين ـ وأنا منهم ـ وعزيز علي أن أتهم نفسي ورفاقي وعهدي بهم أن يكونوا رجال ورع وتقى ، ورشاد وهدى.

ومن بحث له عن «الإشتراكية في الإسلام» :

لا ريب ان في الاسلام يؤيد الملكية الفردية ، والاقتصاد الإسلامي اقتصاد رأسمالي ، له شأنه في الإسلام ، بل هو يقوم على الأسس الثلاثة : المصلحة الشخصية كهدف ، المزاحمة كوسيلة ، الحرية كشرط. ولكن قيام الملكية في الاسلام على هذه الأسس ليس على إطلاقه ، بل يصاحبها في كل اتجاهاتها العامل الأخلاقي ، فهو في تلك الأركان الثلاثة عنصر جوهري فيها لازم لها ، إن هدف الإسلام هو تكوين مجتمع مثالي ، فالعامل الأخلاقي يسير معه جنبا إلى جنب ، بل يكون رائده ، فإذا انحرف السلوك الاجتماعي رده العامل الأخلاقي بقوة إلى الاستقامة ليكون ضابطا عاما في مصلحة المجتمع ، وعلى هذا الاعتبار نجد ان العيوب التي أخذت على الأسس الثلاثة في الاقتصاد الشائع في امريكا وفي اوروبا ليس لها أثر في الاقتصاد الإسلامي ، لأن المصلحة الشخصية في الرأسمالية الفردية في الغرب تجرف كل شيء يقف في طريق الانتاج أو العبث به ، فهي لا تبالي بالعامل الأخلاقي ، ولا بمصلحة المجتمع ، بل هي تنكره ، ولا تتعرف عليه. أما الرأسمالية في الإسلام ، فإن مصلحة المجتمع عنصر لا غنى عنه فيها ، كما أن الإسلام دين له منهج ثابت هو تطهير المجتمع من عوامل الفساد ، ويمتاز بطابعه الذي يقرن الأعمال بالخلق والعقيدة ، فلا ضرر ولا ضرار .. وهو يناهض تكديس الثروات ، وتجميعها في يد فئة قليلة ، وحرمان الأكثرية من ضرورات العيش ، ورنق الحياة ، وما كانت الناحية الروحية في القرآن الكريم إلا تهذيبا للأمم ليعيش الناس في ظلال الأخوة والمساواة والمودة والأمن والاطمئنان ، ويكون التعاون بينهم على الجد والتفاني في الصالح

٧٣

العام ، لذلك وضع دستورا ثابتا واضحا يجعل الثروات رأسماليات متوسطة وصغيرة ، فحث المسلمين على الانفاق في أكثر من سبعين آية ، وفرض الزكاة في مال الأغنياء للترفيه عن الفقراء والمساكين ، ولقد قاتل الخليفة أبو بكر منكريها ومانعيها ، وجعل الاسلام إطعام الفقراء ، والتصدق على المساكين كفارة لكثير من الهفوات كما في حنث اليمين ، وفي إفطار رمضان عمدا أو لعذر ، وفي الظهار ، وفي محظورات الحج. كما شرعه في مناسبات كثيرة مثل يومي عيد الفطر والأضحى وغيرهما من المواسم الدينية. في كل هذه الأحوال وغيرها جعل الإسلام التخفيف من ويلات الفقراء والعطف على المساكين ، من سمات تلك المواسم والأحوال.

أضف إلى ذلك النظام الارثي في الإسلام ، فإنه يحطم الثروة ويفتتها تفتيتا لا مثيل له في أي قانون آخر. فالقانون الانجليزي يحصر الثروة في البكر من الأولاد ، ويحرم من عداه ، وبعض القوانين الأخرى تجيز الوصية لأي كائن بجميع المال ، سواء أكان وارثا أم غير وارث حتى للكلاب والقطط ، وسائر الحيوان ، أما الإسلام فيوزع أنصباء الارث توزيعا واسعا ، فيعطي للقرابات أنصبة متفاوتة ، ولا يسمح لصاحب الثروة ان يتصرف فيها بالوصية إلا بالثلث ، والثلث كثير ، وهذا كله محافظة على التوازن الاقتصادي ، ويقول الله تعالى في سورة الحشر : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ.)

فأنت ترى أن الإسلام قد نحا بالاقتصاد منحى عادلا ، رعاية منه للمصلحة الاجتماعية ، واجتنابا لطغيان الاغنياء (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى.) وهكذا نجد الدين الإسلامي قد وقف موقفا رائعا في توزيع الثروة وتجزئتها إلى ملكيات متوسطة وصغيرة من غير إكراه ، ليقي المجتمع شرور البطر من الأثرياء ، والحقد والبغضاء من الفقراء.

والمزاحمة هي وسيلة في الاقتصاد الغربي ، وكانت عيبا من عيوبه ، وهي أيضا وسيلة الاقتصاد الإسلامي لكنها ليست عيبا فيه. فهي مختلفة في النظامين ، فما قيل من أنها تؤدي إلى دخول الرأسماليين في السوق بغير

٧٤

أسلحة متكافئة ، وأن المنافسة في معركة الحياة الاقتصادية ليست متساوية كما هو معروف في الاقتصاد الغربي ـ هذا الذي قيل ـ منفى في الاقتصاد الإسلامي ، فالإسلام قد قرب أصحاب الملكيات بعضهم من بعض بما شرعه في نظام الوصية والإرث والزكاة ، وجعل الارث أنصبة متعددة ، وشمول الزكاة ثمانية أصناف «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها ، والمؤلفة قلوبهم ، وفي الرقاب والغارمين ، وفي سبيل الله وابن السبيل».

ونضيف إلى ما قدمنا تحريم الربا لكيلا يثرى أحد من عمل على حساب غيره ، وتحريم لعب الميسر لكيلا يثرى أحد بطرق الحظ. هذه الاعتبارات كلها إذا روعيت كعهد المسلمين من قبل لا تدع أحدا محروما من سلاح يزاحم به مضمار الحياة ، ففي الإرث يدور دولاب تجزئة رأس المال باستمرار ، ولا يجيء عام جديد حيث يبدأ صندوق الزكاة إلا ترى المال يدور في أيدي جميع الأصناف ، حتى من أثقلتهم الديون ، فإن صندوق الزكاة يدفع عنهم مغارمهم ، ويسلحهم من جديد ليدخلوا السوق آمنين مطمئنين ، فأي ضمان للناس بعد هذا؟ وما عيب الرأسمالية في الإسلام؟

أما الحرية التي هي شرط في الاقتصاد الرأسمالي الغربي ، وعدت من عيوبه ، فإن هذا العيب منتف في الاقتصاد الاسلامي ، فالحرية في الاقتصاد الغربي تسير مطلقة لا تقف عند حد ، حتى انقلبت تلك الحرية الى فوضى ، مما اضطر أصحابها إلى إتلاف الحاصلات أحيانا للاحتفاظ بالأسعار العالية ، أما هذه الحرية في الاقتصاد الإسلامي ، فمقيدة بقيدين هما : العامل الأخلاقي والمصلحة الاجتماعية ، ويتدخل ولي الأمر في السوق حين يرى تنكب التجار أصول التعامل ، ويضرب بيد من حديد على أيدي المحتكرين المتحكمين في الأسواق ، والعازفين عن المصلحة العامة ، وكان عمر بن الخطاب يمشي في الأسواق ومعه الدرة يؤدب بها ذوي الأثرة والطامعين في الكسب الحرام. والحسبة معروفة في الإسلام ، وكان رجالها يقام لهم في الأسواق وزن واعتبار.

٧٥

فأي نظام نجده نزيها وعادلا كنظام الإقتصاد في الإسلام؟ إن الإسلام قد امتاز في نظامه عن الشيوعية والإشتراكية ، فالإقتصاد الإسلامي رأسمالي فردي من نوع خاص ، قد جمع خير ما لدى الشيوعية والإشتراكية ، وتجنب عيوبهما ، ولكن كثيرا ممن أخذوا بزيف المدنية الغربية يشيدون بالاشتراكية ، التي تضمنت المساواة في لذة العيش ، وبسطة الحياة ، من غير تفرقة بين سوقة وسادة ، وأغنياء وفقراء ، وهي مذاهب وضعية خاضعة للتجارب والتعديل والتغيير ، كما هو حادث فعلا ، والاشتراكية الصحيحة المعقولة في الإسلام الذي يضمن للعاجز العيش ، وللعامل الكسب ، وللفقير القوت ، وللمريض الصحة ، وللعالم كله أمنا وسعادة ، الإشتراكية الصحيحة المعقولة هي في الإسلام الذي يشعر المسلمين بأنهم أسرة واحدة ، وأنهم جميعا كأسنان المشط وأنهم تتكافا دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وأنهم «كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر».

هذه هي الإشتراكية في الإسلام. فأين منها تلك المذاهب الحديثة المادية المتداعية الواهنة.

الشيخ عبد الحليم قادوم

في ديسمبر عام ١٩٥٣ توفي المغفور له الشيخ عبد الحليم قادوم أستاذ كرسي التفسير في كلية اللغة العربية بالأزهر الشريف ، وقد عرفت الشيخ قبل هذا التاريخ بنحو ستة عشر عاما حينما دخلت عليه في لجنة من لجان الامتحان الشفوي ، فسألني وأجبت ، ثم بعد حين رأيت تقديره لي في الشهادة التي استلمتها ، وفي عام ١٩٤٠ كنت في الفرقة الأخيرة ، وكان الشيخ يدرس لنا بلاغة عبد القاهر الجرجاني في كتابيه أسرار البلاغة ودلائل الاعجاز ، فلم أر ذوقا أصفى من ذوقه ، ولا بيانا أنصع من بيانه ، ولا تحليلا لأسرار كتابة عبد القاهر في النقد الأدبي مثل تحليله .. ومن قبل ذلك طالعت كتابين مطبوعين للشيخ : احدهما في المنطق ، والثاني في الحديث.

٧٦

فوجدت فيهما المؤلف ذا مواهب نادرة قلما تكتمل في عالم ، من عمق الدراسة ، وكثرة الإحاطة بالآراء والمراجع ، ودقة الفهم ، وبراعة التعبير ، وزرت الشيخ في منزله في فترات متباعدة فوجدت نفسي حيال شخصية لطيفة جذابة تختلف عن شخصية الشيخ العلمية ، وكان يقيم في منزله كل أسبوع حلقة علمية يدرس فيها كتب الأخلاق والتصوف والتفسير والحديث وفي مقدمتها الاحياء للغزالي ، وكانت هذه الحلقة عامة للمستمعين من الناس ، وفي مقدمتهم أهل (منشية الصدر) الذين كان الشيخ يسكن بينهم .. ثم كنت مدرسا بمعهد الزقازيق الديني ، وكان الشيخ شيخا للمعهد ، فوجدت من الشيخ خبرة واسعة بشئون إدارة معهد كبير مثل هذا المعهد ، كما كنت أجد لطفه مع الأساتذة ، وحنوه على الطلاب ، ما لا يتسع المقام لتفصيله ، وكان الشيخ من قبل مفتشا عاما بالأزهر فكانت له أعمال محمودة في التوجيه العلمي والديني.

وقبيل وفاته مرض مرضا خطيرا ألزمه الفراش ، واستمر في العلاج ومقاساة المرض ، إلى أن استأثرت به رحمة الله في أواخر عام ١٩٥٣ .. تاركا وراءه ذكريات لا تنسى ، وتراثا عاليا عزيزا على كل من طالع فيه.

وقد درس الشيخ في معهد الأسكندرية الديني ، ونال العالمية عام ١٩٢٤ من الدرجة الأولى ، وعين مدرسا في الأزهر ، ثم اختير مدرسا في كلية اللغة منذ بدء إنشائها ، ثم اختير مفتشا ، فشيخا لمعهد الزقازيق الديني ، فاستاذا للتفسير في كلية اللغة العربية.

عبد العزيز المراغى

هو شقيق المراغى شيخ الأزهر ، توفي صباح الخميس ١٦ نوفمبر عام ١٩٥٠ م. فخبا بوفاته نجم لامع ، وتوارت ومضات أمل ضاحك. وقد لاقى ربه بعض مرض لم يمهله ، ولم يشفق عليه ، وهو شاب القلب ، فتى الفؤاد ، يقظ الرأي ، موثب الرجاء.

يقول عنه صديقه الأستاذ محمود رزق سليم :

٧٧

كان عبد العزيز واسع الأفق في نواح من الحياة كثيرة ، فقد هيأت له ملابساته ـ مع ذكائه وفطنته ـ ان تكشف له كثيرا من حقائقها ، كما دفعته إلى تجربة الأمور وملاحظتها. فاكتسب من وراء ذلك مرانة وخبرة ، وحنكة وحسن بصر بالأمور ومعالجتها. وقد كان منذ صغره شغوفا بأخيه الأستاذ الشيخ المراغى ، يرى فيه نموذجا يقتدى به ، وقد جمعت بينهما ظروف الحياة ، أكثر مما تجمع بين شقيقين. فرحل معه إلى السودان ، وتعلم بكلية غردون. ثم عاد إلى مصر فاندمج في سلك طلاب الأزهر ، مبرزا بينهم حتى تخرج منه بأرقى شهاداته حينذاك. وأرسل في بعثة علمية إلى انجلترا ، فلبث بها زهاء خمسة أعوام ، ازداد فيها علما بالحياة ، ومعرفة بمذاهبها ومآتيها.

وتخصص في دراسة التاريخ الاسلامي وتاريخ الأديان ، وهما من أهم المواد الثقافية صقلا للأذهان ، ودعما للتجارب وتبليغا إلى الحق.

ولما بلغ أخوه الأكبر مرتبة المشيخة الجليلة ، للمرة الثانية ، كان عبد العزيز ـ وبخاصة بعد عودته من انجلترا ـ أشد سواعده القوية ، ومن أقرب مستشاريه إلى نفسه ، فحمل معه شيئا من العبء ، على مقدار طاقته وجهده. وطبعى أن يصبح في ذلك الحين ، موضعا للأمل والآملين ، كما كان محطا للنقد والناقدين.

وقد استطاع عبد العزيز في هذه الحقبة ـ وهو على كثب من أمور الأزهر ـ أن يدرسها ظاهرها وباطنها ، صريحها ومؤولها ، وأن تتكشف له منها مواضع الداء وأن يقدر لها الدواء. ولا أغلو حينما أذكر أن حدب عبد العزيز على الأزهر ، وشغفه به ، وأمله القوي أن يسمق بنيانه ، وترتفع أركانه ، كان شيئا فوق مكنة الطالب الذي يعشق معهده ، ويتعصب له.

وقد عرف فيه إخوانه دماثة الخلق ، والمرح ، وبشاشة الوجه ، وابتسامة الثغر ، وعفة اللفظ ، كما كان مطاوعا لكل ذي حديث ، ولو كان فيه إملال. لا يصده عنه إلا بكيس ورفق ، وربما نعى عليه بعض خلطائه أنه يلقى عدوه كما يلقى صديقه ، فلا برم ولا تنكر ـ وما كانت هذه منه إلا لرحابة صدره

٧٨

وحسن سياسته ، وحبه لتلافي ما يستطاع باللطف تلافيه. ولذلك ظل كثير ممن يقدرونه ويحملون عليه ، يبجلونه لذاته ، ويحبونه لشخصه ، ويلقونه لقاء الإخوة الكرام.

ولما اختير إماما للمعية الملكية تفتحت له من الحياة سبل جديدة ، ازداد بها مرانة ومعرفة ، وأخذ يخطو ويبرز نحو الصفوف الأولى بين رجالات الوطن. وكان إذ ذاك حركة دائبة ، يؤدي واجبه الديني ، ويلقى دروسه وخطبه ، ويذيع في المذياع ، ويكتب في المجلات ، في الأمور الدينية والإجتماعية والتاريخية.

وقد كان عبد العزيز عالما أزهريا ، بالمعنى الذي يفهمه التاريخ والعرف ، ومرجع ذلك ـ فيما أعتقد ـ إلى حبه العميق للأزهر ، وما في الأزهر من علم ، وما له من تقاليد.

وأهم خصوصيات العالم الأزهري ـ فضلا عن معرفة الشريعة الغراء ـ حبه الجدل والمناقشة ، وقدرته على سوق الحجة والدليل ، وعدم تسليمه لخصمه في سهولة ويسر. وقد كان عبد العزيز في ذلك ، من الطراز الأول ، لا يكاد المرء يدخل معه في نقاش حتى يفيض بالاعتراض والاستشهاد ، وبالتدليل والتعليل ، والموازنة ، حتى يصل إلى قرار الحق. يشهد بذلك تلاميذه الكثيرون في كليات الأزهر ، وأصدقاؤه أعضاء لجنة الفتوى وكان زميلا لهم ، قد لمسوا فيه هذه الخصوصية ، خلال عضويته بها.

وكان ضليعا في معرفة الشريعة السمحة وأحكامها ، خبيرا بمذاهب أئمتها على اختلافهم ، بصيرا بمذاهب الكلاميين من فقهائها ، وقد أخرج كتابا في حياة «تقي الدين بن تيمية الحراني» ، ألقى فيه ضوءا على جهاد هذا العلامة في سبيل دينه ، موضحا عقيدته ، مبينا أنها عقيدة السلف ، وأنها بعيدة عن مزالق المبتدعة من متطرفي الحنابلة.

وقد كان مؤرخا واعيا لتطورات التاريخ الإسلامي وتقلب دوله ، منقبا عن ذلك في كتب التاريخ الإسلامي : العربي منها وغير العربي.

٧٩

وكان أديبا متذوقا. فقد أوتي حافظة قوية كنت أغبطه عليها ، ملمة بشتى عصور الأدب وتقلباتها وحوادثها إلماما محمودا ، وكثيرا ما تجود بالأبيات والطرف الأدبية والأمثال ونحو ذلك عند أدنى مناسبة .. وكان يطرب للدعابة اللطيفة والنكتة الرائعة ـ ولو على حسابه ـ ويأخذ حينذاك سبيله إلى المرح قائلا : «لقد قتلتنا كثرة الجد» ، ولكنه سرعان ما ينحدر إلى سوق الحكم ، والنعي على الدنيا ، مع الرضا والاستسلام لقضاء الله وقدره.

وكان كثير البحث عن مظان اللغة ، يحفظ من ألفاظها عددا تكتنز فيه المعاني ، أو يعبر عن المعاني الغريبة او المستحدثة ، ويعني بالألفاظ الطوافة في اللغات ، وما كسبته في كل لغة من المعاني. وأغلب الظن أن في مسجلاته كثيرا منها.

ولا نقول جديدا إذا نوهنا بدروسه الدينية وخطبه المنبرية ، فإنه أسبغ عليها سمة من التجديد ، وغذاها بما تفيض به نزعته الأدبية وثقافته الواسعة ، فخرجت بجديد أسلوبها ومعناها ، عصرية بريئة من السمت التقليدي القديم. ومنذ سنوات أخذ على عاتقه إخراج كتاب من أهم كتب الحديث والفقه والقضاء الإسلامي ، وهو كتاب (أخبار القضاة) لمحمد بن خلف بن حيان ، المشهور بوكيع ، استعار نسخته الشمسية الوحيدة ، وأنفق فيها النفيس من وقته ، والمرجو من راحته ، حتى استقام له تقديمها إلى المطبعة. فأنجزت منها جزءين وبقي جزآن.

وقد عنى في الكتاب بالتصحيح والتعليق وشرح الغامض وتخريج الأحاديث ، بما يشعرك بعمله الغزير وأدبه الجم وإحاطته بمسائل الفقه ومواضع الحديث ومظان الأدب. وبما يشعرك بصبره وبالغ جهده في سبيل خدمة دينه وشريعته.

وقد توفي بعد الشيخ بقليل أخوه الأكبر الشيخ أحمد مصطفى المراغى صاحب «تفسير القرآن الكريم» المسمى تفسير المراغى ، وسواه من الكتب ، وذلك عام ١٩٥٢.

٨٠