الأزهر في ألف عام - ج ٢

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٢

الشيخ فكري ياسين

هو أحد علماء الأزهر الأجلاء .. كان رحمه الله هينا لينا مهذب النفس ، بعيدا عن اللغو واللهو ، وكانت همته مصروفة إلى زيادة مادته العلمية ، بمعالجة المسائل الإجتماعية الكبرى بالتحليل الدقيق تحت ضوء الدين والعلم ، فكان في كل ما يكتبه مفيدا لقارئه يأتي له بشيء جديد ، وهذه ميزة علمية نادرة.

ولد ـ رحمه الله تعالى ـ ببلدة قصر هور مركز ملوى في ٢٤ يناير ١٨٩٧ ، وهو من أسرة مشهورة بالعلم ، فوالده كان من العلماء ، وجده كان عالما.

وقد تعلم في الأزهر ، ونال الشهادة العالمية النظامية منه سنة ١٩٢٥ ، ودرس فيه علوم اللغة والأدب على المرحومين الشيخ سيد علي المرصفي ـ الذي كان معروفا بشيخ اللغة في ذلك الوقت ـ والشيخ مصطفى عبد الرازق ، والشيخ مصطفى القاياتي ، وتلقى كثيرا من العلوم الأخرى ، مثل الفقه والأصول والبلاغة والنحو والتصريف وعلوم القرآن والسنة والفلسفة والمنطق وغيرها عن كثير من علماء الأزهر البارزين في ذلك العصر ، من أشهرهم الشيخ محمد بخيت والشيخ محمد حسنين والشيخ حسين والي.

وكان يزاول الكتابة والتحرير في الصحف والمجلات وهو طالب ، وكانت أول مقالة نشرت له في جريدة النظام عن إصلاح الأزهر ، ثم واصل الكتابة بعد ذلك ، إلى أن جاءت الحركة الوطنية في سنة ١٩١٩ فاشترك فيها واعتقل ، وأذكت فيه روح الحمية والنشاط ، وزاد إقباله على الكتابة ومتابعته لها ، وكانت أكبر عنايته في الكتابة موجهة في ذلك العهد إلى إصلاح الأزهر ، وإلى الشئون الإسلامية ، وحرية الوطن في جهاده المقدس آنذاك ضد الغاصب المحتل ، ولقد كان هذا الجهاد باعثا لزملائه في الأزهر على ان يعتبروه رائدا لهم في المناداة بالآراء الاصلاحية ، وقد جر ذلك عليه متاعب كثيرة ، فلقد كان أول طالب في الأزهر أحيل مع زملاء له على

٨١

المجالس التأديبية سنة ١٩٢٤ ، ولقد رأى طلاب الأزهر في ذلك الحين ان تكون لهم لجنة تمثلهم وتتكلم باسمهم ، فاختاروه رئيسا لهذه اللجنة ، وكانت مهمتها الدعوة الى إصلاح الأزهر.

وفي سنة ١٩٢٦ عين مدرسا في الأزهر ، وأسند إليه تدريس مادتي الأدب والتاريخ فوضع في المادة الأولى مؤلفا في جزءين ، ووضع في المادة الثانية مؤلفا في ثلاثة أجزاء ، واختير الى جانب ذلك سكرتيرا لجمعية الهداية الإسلامية ، ومحررا بمجلتها ، وفي سنة ١٩٣١ فصل من الأزهر مع عدد كبير من العلماء ، فصلهم المرحوم الشيخ الظواهري ، وكان منهم الشيخ الزنكلوني والشيخ العدوى والشيخ دراز والشيخ شلتوت والشيخ فكري ، ولقد كان هذا الفصل سببا قويا في نشاطه فأخذ ينشر آراءه في الجهاد والبلاغ والكوكب والسياسة اليومية والأسبوعية والوادي ، وفي فبراير سنة ١٩٣٥ ، أعيد إلى التدريس في الأزهر وندب مع قيامه بالتدريس في القسم الثانوي سكرتيرا للجنة الفتوى ، وفي سنة ١٩٣٨ اختير مدرسا بكلية الشريعة ثم وكيلا لمعهد قنا ، ثم أعيد إلى كلية الشريعة ، وجاء الشيخ مصطفى عبد الرازق فنقل من الكلية إلى معهد الزقازيق ، ثم أعيد إلى الكلية مرة أخرى حتى جاء المغفور له الأستاذ الاكبر الشيخ مأمون الشناوي ، وكان قد خبره وعرف فيه مراقبا مساعدا لمكتب البحوث والثقافة بالأزهر.

وقد كتب في جملة موضوعات علمية نافعة منها «غريب القرآن» و «أعلام القرآن» و «التجارة في الإسلام ، والفقه والفقهاء» وفي بحوث قيمة أخرى ، ووضع رسالة في الحديث لم تطبع بعد. وقد قام بالكتابة في السنة المحمدية عن الأحاديث النبوية. في مجلة لواء الاسلام من أول إنشائها إلى يوم وفاته ، كما قام بالتحرير في باب السنة المحمدية ايضا بمجلة الأزهر ، وقد كتب أكثر من ألف مقال في الصحف في مصر وفي صحف سوريا وتونس والعراق والبلاد الشرقية .. وكان رحمه الله كريم الخلق عف اللسان محبا لطلابه محبوبا عندهم رحيما بأهله وأقاربه عطوفا عليهم.

٨٢

وقد توفي ـ طيب الله ثراه ـ في الساعة الرابعة بعد عصر يوم الثلاثاء ٢١ من ربيع الثاني سنة ١٣٧٠ ه‍ ـ الموافق ٢٩ من يناير سنة ١٩٥١ م.

الشيخ نافع الخفاجي

حفيد العلامة الشيخ نافع الخفاجي الكبير

ولد يوم الجمعة ٢ شوال سنة ١٣٢٢ م ، الموافق ديسمبر سنة ١٩٠٤ م. ثم تعلم الكتابة وحفظ القرآن الكريم ، وذهب إلى المعهد الأحمدي بطنطا سنة ١٩١٩ م ليتعلم فيه وأخذ منه الإبتدائية عام ١٩٢٣ م ، ثم كان قد أنشىء في ذلك الحين معهد فالتحق به واستمر في دراسته إلى أن أصيب بمرض عصبي عضال كان يحول بينه وبين المشي وحده ، فأخذ يعالج نفسه منه ولكن العلاج لم يجد شيئا ، اللهم إلا في تأخير زحف المرض على صحته ، ثم أخذ الثانوية من الخارج من معهد الزقازيق عام ١٩٢٨ م الموافق سنة ١٣٤٦ ه‍ ، ثم التحق بالقسم العالي بالأزهر ، ونال منه شهادة العالمية في يونيو سنة ١٩٣٢ م الموافق سنة ١٣٥١ ه‍.

وعاد العالم بعد ذلك فأقام بالقرية يطالع في أسفار الأدب وبنظم القريض ويعالج نفسه من مرضه العضال ، ثم تزوج في سبتمبر سنة ١٩٣٩ م ، ووافاه أجله المحتوم في ١٣ أغسطس سنة ١٩٤٠ م ـ الثلاثاء ٩ رجب سنة ١٣٥٩ ه‍. وكان شاعرا مجيدا.

نماذج من شعره ـ قال في الغزل :

رويدا مهجتي هذا الأنين

لعمري كاد يقتلني الحنين

أحن إلى مغان شمت فيها

بروق الصدق يتلوها الهتون

مغان ليلها عندي قصير

يقصر طوله نوم رصين

٨٣

وإن غاب الكرى فالسهد حلو

بأخدان تساليهم فنون

ندامى لا يجالسهم بئيس

يجوس خلال جدهم المجون

من السمر البرىء لنا مدام

تطير به من الرأس الشجون

ومن ضحكاتنا نغم لذيذ

كقرع الكأس يتبعها رنين

تخالس دهرنا لمحات انس

فتسهل في مسالكنا الحزون

ونجني من فم الدنيا ابتساما

كغصن الزهر تجلوه الغصون

ووجه زماننا حسن بشوش

تلاشت من نضارته الغضون

وقال في قصيدة عنوانها «أين الصباح»؟ :

طلت ياليل فأين الصباح

والكرى خاصم عيني وراح

طلت ياليل على مغرم

مسبل الدمع طويل النواح

رب ليل لم يكن شملنا

يتلاقى فيه والديك صاح

وسواء طلت أم لم تطل

ليس ياليل عليك جناح

لست أنسى فيك حسن اللقا

وعلينا منك ستر وجناح

٨٤

واجتماع فيك أخفيته

عن رقيب وعذول ولاح

فيك من ليلى شبيه لها

قمر يحكي وجوه الملاح

فيك شهب كلحاظ المها

تلك في قلبي ، وذي في البطاح

في سكون الليل كم آهة

من فؤاد أن وجدا وناح

في سكون الليل كم عاشق

هاجت الذكرى عليه الجراح

في سكون الليل كم مدنف

بخفايا السر لليل باح

لا تلوموا الليل في طوله

أيها العشاق أين السماح؟

يحمل الطيف لأهل الهوى

إن يكن جفن المحب استراح

يكتم السر ويخفي الجوى

عن وشاة السوء خوف افتضاح

أيها الليل لك الشكر من

كل قلب فيه حب صراح

يا نجوم الليل لا تنكري

أن عيني والكرى في كفاح

فاحملي عني سلامي لمن

هو لي روح وروح وراح

وقال من قصيدة أخرى :

٨٥

بحسبك ما أشكو وما أتوجع

زفير وآهات وسهد وأدمع

فيا للنوى ، لا بارك الله في النوى

وقلبي من حر النوى يتقطع

فبتنا جميعا ثم أصبح شملنا

شتيتا كأن لم يحتو الشمل مجمع

تكلفنا الأيام ما لا نريده

وطبع الليالي صدع ما يتجمع

لقيت هوانا في الهوى وسل الدجى

ونجم الدجى إن كنت في الليل أهجع

ولي مهجة ذابت من الوجد والجوى

وطارت بخارا أينما هب يتبع

رعى الله عهدا كان بالأمس ناضرا

غدا وهو مطموس المعالم أصلع

شربنا كؤوس الحب حتى ثمالها

ولم يبق في قوس الصبابة منزع

ولم ترتكب في الحب ذنبا يسوءه

سوى أن نفسينا إلى الطهر تنزع

وإن أنسى م الأشياء لا أنسى قوله

غداة النوى : هل على البين تزمع

فقلت وما أدراك والعزم في الحشا

فقال فؤادي عن فؤادك يسمع

فقلت له : حينا ، فقال : يخيفني

ويوم النوى شهر وعام وأفظع

فقلت تجلد قال جهدي وإنما

تأكد بأني رغم أنفي سأجزع

٨٦

وقال في شكوى الزمان :

أواه من عثرات الحظ أواه

والحظ ما شاء قد شاءه الله

لا الحزن يجدي ولا حظى يساعفني

ولا الزمان رقيق في سجاياه

أرزاء شتى إذا ما خلت أصغرها

مضى أرى ضعفه يحتل مأواه

تترى دراكا كطير طاب موردها

فزاد وارده شوقا لمرعاه

يلج صرف الليالي في معاكستي

كأنما أنا وحدي كل أعداه

خطوب دهري لا تنفك تذكرني

بعطفها ذكر مجنون لليلاه

فالحزن والسهل في سيري سواسية

والليل والبوم في الظلماء أشباه

كلما قلت لما استحكمت فرجت

أرى قشيب شقاء كنت أنساه

إن غاب عني شقاء جاء مصطحبا

إخوانه ليقيموا في راعاياه

ما حيلتي وهي الدنيا وسلطتها

أي امرىء نال منها ما تمناه؟

نصيب كل امرىء في عكس همته

ورفع كتفه وزن خفض أخراه

ورب ذي عزمة تنبو مضاربه

وطائش السهم أصمى الحظ مرماه

٨٧

ونابه النفس سوء الحظ أخمده

وخامل القدر حسن الحظ رقاه

وكم حريص له من علمه صفة

وكم كسول له من جهله جاه

هي المقادير لا سعى ولا كسل

وكل ذي قدر لا بد يلقاه

انظر إلى قطع الشطرنج إذ نحتت

ما ذا أتى الشاه حتى انه شاه

كم بيدق مات لم يذنب وصاحبه

سما مسوقا ولم يعمل لمرقاه

كذلك الكون لم تعلم عواقبه

وليس يعلم ساع غب مسعاه

الدهر علمني الشكوى فقمت بها

طوعا وكرها وخير العلم أفشاه

أشكو الزمان وفي الشكوى رفاهية

وما علاج شقى غير شكواه

وقال :

حرام على عينيك أن تتنازعا

فؤادي إلى أن صار نهبا موزعا

أفر من اليمنى لياذا بأختها

فتطعنني اليسرى فأرجع موجعا

أرى لك لحظا كالقذيفة لو رمى

يميل من العشاق ليتا وأخدعا

بعينيك ومض كالشهاب إذا هوى

فيحرق أكبادا ويخرق أضلعا

إذا نظرت عيناك أبصرت فيهما

لذاذة نفسي والعذاب المبرقعا

٨٨

لحاظك من حظى سوادا وقوة

وأبيضه يبدو ويذهب مسرعا

أخاف نفارا حين أرجو تعطفا

وأخشى فراقا حين أبغي تجمعا

دلالك أخشى أن يكون ملالة

وحبك أخشى أن يكون تصنعا

حنانيك إني قد ثكلت سعادتي

وذبت غراما واحترقت تفجعا

ظننت هنائي في الهوى فأتيته

فلم أر إلا لوعة وتصدعا

سهاد وأشواق وسقم وحسرة

فيا أسفي إني سأقضي توجعا

ولو كان لي في الجاذبية حيلة

لكنت من السلوى جمادا وأفظعا

فلو رمت سلوى بالنوى لتوترت

حيال الهوى لكنها لن تقطعا

يزيد الهوى قبضا بقلبي كلما

بعدت كحبل كلما شد قطعا

وللحب مغناطيسه واجتذابه

يخالف قانون التجاذب موضعا

فيضعف ذا بالبعد والحب شأنه

يزيد اهتياجا لو تباعد موضعا

بحسبك يا ليلى غرام زرعته

فأنبت أشجانا وأثمر أدمعا

سفحت دموعي في غرامك مرغما

على حين أنى ما هويتك طيعا

٨٩

فما كدت ألقي نحو وجهك نظرة

إلى أن غدا قلبي من الحب مترعا

سحرت فؤادي وامتلكت زمامه

وأطلقت عبدا في جمالك مولعا

عتبت على قلبي جواه وذله

فثار وكادت أضلعي أن تصدعا

سكرت غراما وانتشيت صبابة

وأعييت يأسا واشتفيت تطلعا

ومن عجب آلام حبي لذيذة

ولو لي آمال لعشت ممتعا

أحب ولا أرجو من الحب غاية

سوى أن أرى وجه الحبيب وأسمعا

وحسبي إذا أغفيت طيف يزورني

فأقطف من خديه وردا تضوعا

أقبل فاه أو أضم خياله

فإن زاد بي وجدي صحوت وودعا

أحبك يا ليلى بدون ملالة

وأنت دجى بدر وشمس ضحى معا

وأنت المها والغصن والدر والطلا

تبارك ربي في جمالك مبدعا

عبدتك يا ليلى وحسنك دلني

على الله حتى لا أضل فاخدعا

وقال :

ذهبت ومن رام المعالي يذهب

وأبت ولم أظفر بما أتطلب

٩٠

سعيت إلى العلياء غاية طاقتي

ورحت إلى أفلاكها أتوثب

سبحت على بحر المجرة ماخرا

عبابا من الآمال أطفو وأرسب

رصدت السهى حينا فأبصرت طالعي

جميلا ولكن فيه سر محجب

فيا طالعي بالله هل من هناءة

تألق لي أم أن برقك خلب

وهل مطمئن أنت أم أنت خائف

تفر من النحس البغيض وتهرب

وهل لي إلى النعمى سبيل موصل

وهل لي من البؤسى مناص ومهرب

أتسعدني الآمال بعد مطالها

ويدنو من الآمال ما أترقب

إزاء شقائي مطعم الصاب كالجنى

ونور نهاري من مشاكيه غيهب

ولو لم أصادف سوء حظي وشؤمه

لعشت سعيدا لم يضق بي مذهب

يسمونه حظا وجدا وطالعا

وأما المسمى فالقضاء المغيب

مقادير شتى والمقدر واحد

مشيئته كالسيف بل هي أثقب

له المثل الأعلى وفي كل ذرة

من الكون سر بالتأله يعرب

هنالك شيء كل فكر يمسه

ويلمسه الوحشى والمتهذب

٩١

هو الله سماه الطبيعي قوة

وطبعا ، وفي علم الأثير تربب

ومن شأنه فينا الظهور بفيضه

وآثاره ، والشأن فينا التعجب

أأجهل روحي ثم أعلم ربها

ضلال غريب والتشبث أغرب

سننظر وجه الله في الخلد ظاهرا

كما هو يجلوه الجلال فنطرب

نراه بإحساس بديع مخصص

يطيب خيالا والتحقق أطيب

هنالك يبدو كل حسن مذمما

وكل ارتياح غير ذلك متعب

عن المثل والأضداد جل جلاله

وراجى سوى التوفيق منه مخيب

وما الكون إلا ذرة فوق ذرة

سماء وأفلاك وأرض وكوكب

فكل بكل في نظام مدبر

جماد وحى ، كل شيء مرتب

بدائع إحكام وإتقان صانع

فسبحانك اللهم أنت المحجب

تمنيت موتا ليس فيه جهنم

وإلا فعيشا لست فيه أعذب

وكيف حياة المرء ناء بعبئه

وجمر الأسى في صدره يتلهب؟

وكيف حياة المرء عي طبيبه

وأعضله الداء العقام العصوصب؟

٩٢

برمت بآمالي وعفت تجلدي

ومل جليس ما أقول وأكتب

ولو نلت من عين العناية نظرة

فما مر بي عذب وما بعد أعذب

أزهريون في سجل التاريخ

ومن أظهر الشيوخ الذين قضوا نحبهم : الشيخ سيد علي المرصفي إمام علماء اللغة والأدب في مصر ومن هيئة العلماء ، وصاحب (شرح الكامل) ، وشرح (ديوان الحماسة) ، وشرح (أسرار البلاغة) ، وغيرها .. وقد توفي في ١٢ فبراير سنة ١٩٣١ م.

ومنهم الشيخ عبد العزيز البشرى نجل الشيخ سليم البشرى شيخ الأزهر الأسبق والقاضي الشرعي النابه ، والمؤلف الكاتب المحدث اللبق الممتاز ، وصاحب (المرآة) (والمختار) وسواهما ، وقد توفي في ٢٥ ـ ٣ ـ ١٩٤٣ م.

والأزهر فضل على كثيرين ، ممن جلسوا في حلقاته العلمية ، وإن لم يكملوا ثقافتهم فيه ، وهؤلاء عدد كبير لا يحصون ، ومن أوائلهم الشيخ أحمد على السكندري ، وقد توفي في ١٩ ابريل ١٩٣٨ م ، وكان عضوا في المجمع اللغوي بالقاهرة ، وأقام المجمع في ١٣ يناير ١٩٣٩ م حفلة تأبين له وللمستشرق الايطالي نلينو (١٨٧٢ ه‍ ـ ١٩٣٨ م) بدار الأوبرا ...

والسكندري كان طالبا بالأزهر ، وتخرج من دار العلوم ، ثم عمل مدرسا في المدارس الأميرية ، فناظر المدرسين المعلمين. وكان يؤمن باللغة العربية ، وبقدرتها على استيعاب المعاني المتجددة التي تأتي بها الحضارة ، حتى في الكيمياء والطب ، واختير عضو في المجمع اللغوي بعد إنشائه بقليل ، وله كثير من المؤلفات العميقة ، ومن بينها كتاب في الأدب العباسي ، كما أنه اشترك في تأليف الوسيط ، وفي كتب أخرى.

٩٣
٩٤

الباب الخامس

صور من الأزهر القديم والحديث

٩٥
٩٦

ـ ١ ـ

أوقاف قديمة للأزهر :

في كتاب الخطط للمقريزي (١) نص سجل الوقف الذي وقف «الحاكم» بمقتضاه بعض أملاكه بمصر والقاهرة على الجامع الأزهر ودار الحكمة وبعض المساجد الأخرى ، وقد مضى تلخيص لهذا السجل في هذا الكتاب (٢).

ـ ٢ ـ

أول درس للسيوطي الأزهري :

في عام ٨٦٧ ه‍ ألقى السيوطي العالم الأزهري بعد تخرجه من الأزهر أول درس له. وقد عرض له الشيخ مصطفى عبد الرازق في حديث له في محرم عام ١٣٦٥ ه‍ ومما جاء في كلمته عنه :

منذ حوالي خمسمائة عام ألقى العالم الشهير «جلال الدين السيوطي»

__________________

(١) ج ٤ ص ٤٩ ـ ٥١ ـ الطبعة الأهلية

(٢) ص ٢٨ ـ ٣٠ ج ١ الأزهر في ألف عام

٩٧

المتوفى سنة ٩١١ ه‍ أول درس من دروسه حين أجلس للتدريس ، بحضور شيوخه وكبار القضاة والأفاضل في عهده ، وقد ألقي هذا الدرس في جامع شيخون المسجد المعروف في هذه العاصمة. وفي دار الكتب الأزهرية مخطوطة تجمع مؤلفات ورسائل للجلال السيوطي رحمه الله. وورد في هذه المجموعة أنها بخط المؤلف. ومما حوته هذه المجموعة رسالة جاء في أولها : «تصدير مبارك ألقيته يوم أجلست للتدريس بجامع شيخو ، رحمه الله ، بحضرة شيخنا قاضي القضاة شيخ الإسلام علم الدين البلقيني وجماعة من القضاة والأفاضل ، وذلك يوم الثلاثاء تاسع ذي القعدة سنة ٨٦٧ ه‍ ، وقد مضى من عمري ثمان عشرة سنة وأربعة أشهر وثمانية أيام والحمد لله».

وهذا الدرس الذي ألقاه السيوطي في مفتتح عهده بالتدريس هو في تفسير آية من سورة (الفتح) الكريمة.

وهذا التصدير على صغر حجمه يفيد الباحثين في تطور الدراسات الإسلامية وأساليبها ، وفي الطرق التي كانت تعتمد عليها مدارس المسلمين في إجازة طلابها وتخريجهم ، وقد بدأ المؤلف درسه بذكر المراجع التي طالعها فقال : «طالعت على هذا التصدير الكشاف وتفسير الإمام الرازي وتفسير الإمام ابن العربي والبحر لأبي حيان وأسباب النزول للواحدي وتفسير السجاوندي وينبوع الحياة لابن ظفر وصحاح الجوهري ، والخطبة إلى آخر الصلاة من كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه يعني من خطبة ، ، الرسالة ، ،» ... وبعد أن حمد الله بما حمد به الإمام الشافعي في صدر «الرسالة» وصلى على النبي وآله قال : «رضي الله عن السادة الصحابة أجمعين وعن إمامنا الشافعي المطلبي وسائر الأئمة وعن سيدنا ومولانا شيخ الإسلام ووالده شيخ الإسلام وسائر مشايخنا والسادة الحاضرين وجميع المسلمين ، ثم قال : «أما بعد فقد قال الله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ، وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً ، وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً).

الكلام على هذه الآية من جهات : الأولى سبب النزول ومكانه

٩٨

وزمانه ، والثانية علم اللغة ، والثالثة علم الإعراب ، والرابعة علم المعاني ، والخامسة علم التفسير.

أقول : قدمت أولا الكلام على النزول وما يتعلق به ، ومناسبة تقديمه ظاهرة ، وثنيت باللغة وقدمتها على الإعراب ، لأنها تبين المعنى ، والاعراب فرعه ومتوقف على معرفته ، وثلثت بالاعراب وقدمته على المعاني الذي هو ثمرة الإعراب ، ثم تلاه المعاني ، ولما انتهيت من الأدوات ذكرت المقصود بالذات من الآية وهو التفسير وبيان المراد ، ثم ختمت بالنهاية وهو علم التصوف ، وهذا ترتيب حسن لطيف.

وبدأ بالكلام على سبب النزول وما يتعلق به نقلا عن الواجدي ، ثم تكلم عن اللغة فبين معنى النصر والبيان والمغفرة والذنب والنعمة والهدى والصراط المستقيم والعزيز. وذكر بعد ذلك ما يتعلق بالآية من جهة الإعراب ، ثم ما يتعلق بها من جهة علم المعاني. ثم قال : وأما ما يتعلق بها من جهة التفسير ، قوله : (إنا فتحنا) ، في المراد بالفتح هنا أقوال : أحدها فتح مكة واختاره الفخر الرازى من الجميع وأبو حيان ، والثاني عام الحديبية عند انفكاكه منها ، والثالث قاله مجاهد فتح خيبر وفي بعض الآي ما يدل عليه ، والرابع قال الضحاك : والمراد فتح الله بالإسلام والنبوة والدعوة بالحجة والسيف ، ولا فتح أبين منه وأعظم ، وهو رأس الفتوح كلها ، إذ لا فتح من فتوح الاسلام إلا وهو عنه ومشتق منه. الخامس قال غيره : المراد نصر الله تعالى على أهل مكة بعد ان أوحي اليه : إنك تدخلها أنت وأصحابك من قابل لتطوفوا بالبيت. قوله : (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) قال ابن عباس : ما تقدم قبل النبوة وما تأخر بعدها. وقال غيره : ما وقع وما لم يقع على طريق الوعد بأنه مغفور له. وقال سفيان : ما تأخر هو ما لم يعلمه ، وقال آخر : المتقدم والمتأخر معا ما كان قبل النبوة. وقال آخر تأكيد للمبالغة كما تقول : أحبك من عرفك ومن لم يعرفك. وقال آخر ما تقدم من ذنبك يعني من ذنب أبيك آدم وحواء ، وما تأخر : ذنوب أمتك. وقال آخر :

٩٩

المعنى لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه. قوله : (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ*) قيل النبوة والحكمة ، وقيل بفتح مكة والطائف وخيبر ، وقيل بخضوع من استكبر ، والصحيح بدخول الجنة.

قوله : (وَيَهْدِيَكَ) المراد يثبتك على الهدى كما في قوله : («يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) وأمثال ذلك. قوله (صِراطاً مُسْتَقِيماً*) المراد به هنا الإسلام ... وآخر جملة في هذه الرسالة هي (وأما من جهة علم التصوف) ، ثم يتلوها بياض بالأصل مقداره نحو ثلاثة أسطر بخط السيوطي الدقيق. وإذا كان لم يصل إلينا ما كتبه السيوطي في تصديره عن التصوف فإن بعض المؤلفين أشار في تحديد معاني الفتح إلى معنى هو أقرب إلى معاني الصوفية. قال الراغب في كتابه (المفردات في غريب القرآن) : وقوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) قيل عن فتح مكة ، وقيل بل عنى ما فتح على النبي من العلوم والهدايات التي هي ذريعة إلى الثواب والمقامات المحمودة التي صارت سببا لغفران الذنوب ، ولعل هذا المعنى هو الذي عبر عنه بعض المفسرين بالإلهام.

ـ ٣ ـ

الحفنى شيخ الأزهر :

كان شيخ الأزهر الحفني (١١٠٠ ه‍ ـ ١٦٩٨ م ـ ١١٨١ ه‍ ـ ١٧٦٧ ه‍) شجاعا في الحق شجاعة نادرة. تخاصم علي بك الكبير مع طائفة كبيرة من الأمراء وتفاقم بينهم الشر حتى أوشك أن ينتهي إلى الحرب. واجتمع لذلك كبار القوم ومعهم الشيخ الحنفي. فعارض الميل إلى الحرب معارضة شديدة ، لما يصيب الناس من شرها. وقال للأمراء : إنكم خربتم البلاد ، بحربكم وخصامكم. ثم أرسل إلى علي بك ، وكان خارج القاهرة ، كتابا شديدا فيه زجر وعظة ونصيحة. وقد انفرد علي بك بعد ذلك بحكم مصر ، وفتح الشام والحجاز ، وكان مع ذلك لا يستطيع مخالفة الشيخ. وله مع الأمراء والولاة مواقف من الشجاعة والصلابة يطول بنا الحديث عنها. وكان لا يتم أمر من أمور الدولة ، إلا بعلمه وإذنه. وكانت له

١٠٠