الأزهر في ألف عام - ج ٢

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي

الأزهر في ألف عام - ج ٢

المؤلف:

الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٢

ولما احتل نابليون القاهرة خرج من مصر إلى العريش ثم عاد الى القاهرة واشترك في ثورة القاهرة الأولى والثانية فنفاه الفرنسيون الى دمياط.

وبعد جلاء الجيش الفرنسي ، كان محمد علي يلتف حول الوطنيين المصريين ويعدهم بالآمال المعسولة فرشحه عمر مكرم حاكما على مصر ، وقاد مكرم الشعب في ثورته ضد الحاكم خورشيد باشا ، وفي المناداة باسناد ولاية مصر الى محمد علي.

وقاد بعد ذلك حملة مقاومة الغزو الانجليزي لبلادنا عن طريق رشيد وهزمت حملة فريزر هزيمة ساحقة ، رفع بعدها مكرم رأسه للسماء بالحمد والدعاء والشكر.

وتولى محمد علي حكم مصر حسب إرادة الشعب والعلماء وكان محمد علي لا يفتأ يلجأ الى مكرم لأنه يدرك مدى زعامته الشعبية في نفوس العلماء والجماهير وقادة الرأي وجميع الطبقات ولما اطمأن محمد علي الى نفسه وجيشه قلب للزعيم عمر مكرم ظهر المجن وامتنع عن مشاورته وأقصاه عن جميع أمور الدولة وعن مسائل الدفاع عن الوطن.

وأخذ محمد علي يغتصب أرض الأوقاف فاجتمع عمر مكرم بالعلماء ، محتجين على مسلك الوالي فكان رده عليهم :

إنني على استعداد لأن أرمي عنق كل من يستظل بلواء المعارضة في وجه سياستي.

وبادر مكرم بجمع العلماء ، وفي الاجتماع أعلن أمامهم : إن محمد علي محتال وإذا تمكن فسيصعب ازالته فلنعزله من الآن.

ونفى محمد علي عمر مكرم من مصر ، فكان رد هذا الزعيم الشجاع : إن النفي غاية ما أتمناه غير أنني أريد العيش في بلد لايدين بحكم محمد علي.

وفي الثالث عشر من أغسطس عام ١٨٠٩ م احتشدت على ساحل

٣٢١

بولاق طوائف كبيرة من الشعب يودعون زعيمهم المنفي ، وهو يبحر في مركبه الى دمياط ، وبكى الشعب بكاء مريرا ، وهو يودع الرجل الذي اوقف حياته في سبيل الدفاع عن حقوقه ورد المظالم عنه. وهكذا اختفت الزعامة الشعبية من الميدان ، وأصبح محمد علي يتحرك بهواه كما يريد دون مراعاة للشعب ولا لحقوقه ومواثيقه.

وقضى الشيخ حياته بين العبادة والمطالعة وخاصة أهله. ولما مات بكاه الناس في كل مكان.

الشيخ الشرقاوي

شيخ الأزهر الشيخ عبد الله الشرقاوي عاصر الحملة الفرنسية على مصر ، وقاد الشعب من أجل مقاومتها حينا ، ومن أجل التخفيف من شدة وطأتها على الشعب حينا آخر ، وطار صيته في كل مكان ، وكتب عنه الأوروبيون فصولا طوالا ، وذهب كل من كتب عنه مذهبا يتفق ومدى فهمه للأحداث الجسام التي وقعت في هذه الفترة القصيرة الحافلة في تاريخ الوطن.

ولد بالطويلة إحدى قرى بلبيس عام ١١٥٠ ه‍ ـ ١٧٣٧ م ، وتعلم في الأزهر ، وتخرج منه ، وصارت له حلقة علمية قيمة ، وكثر طلابه ، وعم علمه الآفاق.

ولما مات الشيخ أحمد العروسي شيخ الأزهر عام ١٢٠٨ ه‍ تولى الشرقاوي مشيخة الأزهر بعده ، وكان من المرشحين معه لتولي هذا المنصب العلمي والديني الجليل الشيخ مصطفى العروسي ، فآلت إليه ، وأسندت له ، وتولاها وهو موضع ثقة الجميع ، وكان شيخ علماء الشافعية ومفتيهم في عصره ، وله مؤلفات دالة على سعة فضله في الفقه والحديث والعقائد. ومن مؤلفاته :

مختصر الشمايل مع شرحه وشرح على «الحكم» لابن عطاء الله ،

٣٢٢

ومختصر على «مغني اللبيب» لابن هشام في النحو ، وطبقات فقهاء الشافعية المتقدمين والمتأخرين ، وتاريخ مصر وهو الذي أنشأ رواق الشراقوة في الجامع الأزهر.

واشترك الشرقاوي في قيادة الشعب في كل الأحداث السياسية والقومية .. في الحملة الفرنسية كان الناطق أمام الغزاة باسم الشعب ، وأذاع نابليون نبأ رياسة الشرقاوي للمجلس المخصوص الذي ألفه ، ودون موافقة من الشيخ ، ليسكت ثورة الشعب وغضبه ومقاومته ، وقبل الحملة الفرنسية قاد ثورة شعبية ضد المماليك تعد من أشهر الثورات الشعبية في مصر ففي شهر ذي الحجة عام ١٢٠٩ ه‍ / ١٧٩٥ م ، وبعد توليه مشيخة الأزهر بعام جاء له الفلاحون من إحدى قرى بلبيس وشكوا له من ظلم محمد بك الألفي وجنوده وأتباعه لهم ، وفرضهم على القرية اموالا كثيرة لا طاقة للفلاحين بها ، وتأثر الشيخ بما سمع ، وبلغ الشكوى الى كل من مراد بك وابراهيم بك ، ولكنهما لم يفعلا شيئا ، فعقد الشيخ مؤتمرا شعبيا وطنيا في الأزهر ، حضره العلماء والطلاب ، حيث استقر الرأي على مقاومة الأمراء المماليك بالقوة ، حتى يخضعوا لمطالب الشعب ، وعندئد امر الإمام الشرقاوي باغلاق أبواب الجامع الأزهر وأعلن للشعب قرارا باضراب العام وباغلاق الأسواق والمحلات.

وفي اليوم التالي ركب الشرقاوي ومعه العلماء ، وتبعتهم الجماهير ، وسار الموكب الى منزل الشيخ السادات وهو من كبار العلماء ، وكان منزله قريبا من قصر ابراهيم بك الذي إفزعته مواكب الشعب الثائرة فبادر ـ إبراهيم بك ـ بارسال رئيس ديوانه ايوب بك ليسأل العلماء عن مطالبهم ، وحاول المماطلة في تحقيق مطالب الشعب ، ولكن العلماء أصروا على موقفهم. وتقاطرت الجماهير صوب الأزهر وبدأت ثورة وطنية عاصفة.

وهال إبراهيم بك ما بلغه عن الأحداث. فأرسل إلى العلماء يعتذر إليهم ، وفي اليوم التالي توجه إلى مصر العثماني الى منزل ابراهيم بك ،

٣٢٣

واجتمع بأمراء المماليك حيث أرسلوا الى العلماء ليجتمعوا بهم. فحضر الإمام الشرقاوي والسيد عمر مكرم ، والشيخ السادات. والشيخ البكري والشيخ الأمير. وانتهى الاجتماع بالموافقة على مطالب الشعب التي قدموها.

وتم تحرير وثيقة تتضمن هذه القرارات ، وقع عليها الحاكم العثماني وأمراء المماليك ، وكبار العلماء ، ورجع العلماء يحيط بهم الشعب بمواكبه الزاخرة.

ويجمع أكثر المؤرخين على أن هذه الوثيقة كانت بمثابة إعلان لحقوق الانسان ، سبقت بها مصر غيرها من الشعوب ، وسبقت بها إعلان حقوق الإنسان الذي اعلنته الثورة الفرنسية في باريس بسنوات. ومصر دائما هي قائدة المواكب ، ورائدة الحرية ، وحاملة مشاعل الحضارة في كل مكان وزمان.

ومات الشيخ الشرقاوي رحمه الله يوم الخميس الثاني من شهر شوال عام ١٢٢٧ ه‍ / ١٨١٢ م.

الشيخ حسن العطار

ولد الشيخ حسن العطار في أول الثلث الأخير من القرن الثامن عشر ١٧٦٦ أي قبل الحملة الفرنسية على مصر باثنين وثلاثين عاما ، فهو يعطينا بمولده هذا صورة لمصر السياسية في القرن الذي كان نهاية لحكم الولاة العثمانيين في مصر.

والحق أن مصر في القرن الثامن عشر كانت تختم القرون الثلاثة من الحكم العثماني الذي ساقه القدر إليها على يد السلطان سليم الأول الذي فتح مصر ١٥١٧ م وهي قرون شهدت البلاد فيها من الظلام والجهل والضعف والتأخر في كل الميادين ما لا يمكن أن يصار الى أسوأ منه. وكان بادية القرون الثلاثة كنهايتها : سوء حال وضعف آمال.

٣٢٤

وكان والد الشيخ حسن عطارا ـ ومن هنا جاءه اللقب ـ وكان لهذا الوالد مشاركة في بعض العلوم ، فما رأى من ولده إقبالا على العلم ، ساعده على تحصيله ، فكان يتردد على الأزهر ويحضر حلقات كبار مشايخه في ذلك العصر ، فلما جاء الفرنسيون الى مصر ١٧٩٨ هرب حسن إلى الصعيد خوفا على نفسه من أذاهم ، ثم عاد الى القاهر بعد قليل فاتصل ببعض رجال الحملة من العلماء فأفاد منهم وأطلع على كتبهم وآلاتهم وتجاربهم العلمية فكان ذلك بدء اتجاهه الى تقدير العلوم الطبيعية والمناداة بضرورتها وقد اشتغل في الوقت نفسه بتعليم اللغة العربية لبعض هؤلاء العلماء الفرنسيين ، كما اشتغل بالتدريب في الأزهر.

وقد عرف الشيخ حسن العطار بمؤلفاته الكثيرة ، كما عرف بأسلوبه الأدبي وعباراته الانشائية الأنيقة التي كانت تجري على طريقة الزخرف والمحسنات ، وله أشعار رقيقة ، أما ميله الى العلوم الطبيعية والرياضية والفلك والطب ، فيدل عليه كتبه ورسائله في كيفية عمل الأسطرلاب ، والربعين المقنطر والمجيب ، والطب والتشريح ، وأشكال التأسيس في علم الهندسة بالاضافة إلى اتقانه رسم المزاول الليلية والنهارية بيديه.

وقد امتاز حسن العطار بقراءاته الواسعة العميقة للكتب العربية والمعربة في زمانه ، ولم يختص بعلم معين ، او بفن بعينه من الفنون ، ولكنه كان حريصا على الإفادة من كل علم ، وكان يطرز الكتب التي يقرؤها بهوامشه وتعليقاته ، ويقول في ذلك في تلميذه الشيخ رفاعة الطهطاوي : كان له مشاركة في كثير من العلوم ، حتى في العلوم الجغرافية ، فقد وجدت بخطه هوامش جليلة على كتاب تقديم البلدان لإسماعيل أبي الفداء سلطان حماة المشهود أيضا بالملك المؤيد ، وللشيخ المذكور هوامش ايضا وجدتها بأكثر التواريخ وعلى طبقات الأطباء وغيرها ، وكان يطلع دائما على الكتب المعربة من تاريخ وغيرها .. وكان له ولوع شديد بسائر المعارف البشرية ..

٣٢٥

ويعتبر رفاعة الطهطاوي ـ رائد الفكر وإمام النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر ـ أنجب تلاميذ حسن العطار ، فأحبه الشيخ لما أنسه فيه من الذكاء والانكباب على العلم ، وقربه إليه ، وحفه برعايته ، وكان التلميذ رفاعة يتردد على شيخه كثيرا في بيته ويأخذ عنه العلم والأدب والجغرافيا والتاريخ ، ولما كان العطار ميالا بطبعه الى العلوم العصرية ، ولا يرى الانحصار في دائرة كتب الشرع فحسب ، فقد أودع هذا الميل في نفس تلميذه رفاعة الطهطاوي ، مما أهله بعد ذلك ليكون إماما للبعثة العلمية في باريس ، ومما فتح ذهنه إلى البحث وسلامة التفكير والاسهام في نقل العلوم عن الغربيين حتى يفيد منها اهل وطنه ، وهنا يظهر فضل العطار على الطهطاوي فهو أول من وجهه إلى الاغتراف من موارد العلم والأدب. وهو أول من دله على قيمة العلوم العلمية الطبيعية وضرورتها بما لا يقل عن أهمية العلوم الشرعية.

والشيخ العطار من القلائل الذين جمعوا بين التدريس في الأزهر ـ في اول عمره ـ ومشيخة الجامع الأزهر في ختام حياته ، وكان حلقته بالأزهر تغص بالطلاب ، فكان العلماء يتركون حلقات غيره ويتكاثرون على حلقته يستمعون. ولا شك أن تحرر الشيخ العطار الفكري وبعده عن الجمود ، ودعوته الجديدة الى الأخذ بالعلوم الحديثة مع الاهتمام بالعلوم القديمة ، قد جذب إليه الطلاب من كل فج ، ، وهداهم إلى مجلسه في أثناء تدريسه بالأزهر ، ويستوي في ذلك مقامه بمصر أم بالخارج ، ففي مقامه بدمشق لفت إليه أنظار طلبة العلم هناك (فتلقاه اهلها بما لاق ، وعقدوا على تفوقه وتفرده بالفضائل كلمة الاتفاق).

٣٢٦

الشيخ محمّد عياد الطنطاوي

لا يكاد أحد من العرب ممن كان له علاقة بروسيا في القرن التاسع عشر يكون شخصية طريفة كشخصية أستاذ جامعة بطرسبرج الشيخ الطنطاوي ، فالدور الذي لعبه الشيخ في تاريخ الاستعراب الأوروبي ليس بيسير (١). كان الطنطاوي رجل الآداب العربية الحديثة العامل في حفل الاستعراب الروسي (٢) ويبرز الطنطاوي في تاريخ هذا الاستعراب والآداب الجديدة في صورة فريدة لا نظير لها حتى الآن (٣). فشخصية هذا «المستشار» تبرز بروزا فريدا في تاريخ كرسي اللغة العربية وآدابها في مدى قرن ونيف في جامعة بطرسبرج (٤).

هكذا يقول المستشرق الروسي كراتشكوفسكي عن الطنطاوي الذي كان شخصية فذة في تاريخ الاستشراق ، والذي وضع أصولا ثابتة للدراسات الاستشراقية في الغرب وقد شغل أذهان المستشرقين وكتاباتهم أمدا طويلا. ويعد استاذ الكثيرين منهم.

__________________

(١) ص ١١٤ حياة الشيخ محمد عياد الطنطاوي لكراتشكوفسكي

(٢) ص ١٧ المرجع نفسه.

(٣) ص ١٠٨ المرجع نفسه.

(٤) ص ٩ المرجع نفسه.

٣٢٧

٢ ـ كتبت دور الاستشراق عن الطنطاوي كتابات طويلة ، ونوهت بدوره الفعال في خدمة اللغة العربية ، ووصفت أعماله العجيبة وصفا رائعا ، وسجلت دوائر المعارف العالمية الكثير من المعلومات عنه.

وعكف كراتشكوفسكي شيخ المستشرقين الروس عشر سنوات لكتابة دراسة عنه ، وأخيرا ألف بالروسية كتابه الرائع «حياة الشيخ محمد عياد الطنطاوي (١) ، الذي عهد المجلس الأعلى للفنون والآداب في الجمهورية العربية المتحدة إلى السيدة كلثوم عودة. وهي عربية فلسطينية مقيمة في روسيا ، بترجمته الى العربية ، وعهد إلى الأستاذين : عبد الحميد حسن ومحمد عبد الغني حسن بمراجعة النص العربي وتحقيقه والتعليق عليه ، ثم قام بنشره عام ١٣٨٤ ه‍ ـ ١٩٦٤ فجاء سفرا نفيسا في نحو ١٨٠ صفحة ؛ ولكنه يمثل جهادا عليا جليلا في الكشف عن حياة الطنطاوي ومواهبه وآثاره وثقافته ، وفي تفصيل خدماته للاستشراق والمستشرقين في القرن التاسع عشر.

لقد تناولت الكتاب لقراءاته ، فاذا بي أمام بطولة علمية حقة ، قام بها كراتشكوفسكي ، من أجل تسجيل حياة مواطن عربي ، مصري ، أزهري ؛ اعترافا بفضله على الثقافة الاستشراقية في العصر الحديث ...

وكنت أقرأ الكتاب وكأنني امام أحداث مصورة ؛ كل الألوان والظلال والسمات ، وكل خطوة خطاها هذا العالم الأزهري الخالد ، منذ ميلاده حتى وفاته ، وكل حدث علمي أو فكري أسهم فيه ؛ قد أبرزه كراتشكوفسكي بصورة زاهية أمينة ، معتمدا على كثير من المصادر والمخطوطات وسجلات المستشرقين ومؤلفاتهم ؛ وعلى مجموعة الشيخ محمد عياد الطنطاوي

__________________

(١) لكراتشكوفسكي دراسة عن الوأواء الدمشقي ، وعدة دراسات أخرى وهو الذي نشر كتاب البديع لابن المعتز وكان كتابه عن الطنطاوي أحب كتبه إلى نفسه وتوفي كراتشكوفسكي بعد الحرب العالمية الثانية بعد ان أنقذ مخطوطات مكتبة ليننجراد من الدمار الذي لحق بالمدينة في الحرب العالمية الثانية.

٣٢٨

الخطية ، التي تبلغ نحو ١٥٠ مخطوطا عربيا ، مودعة في مكتبة جامعة بطرسبرج ، والتي نرجو أن تقوم بعثات دار الكتب المصرية في الخارج بتصويرها كلها أو بعضها مما له أهمية خاصة. وكان كراتشكوفسكي يكتب عن الطنطاوي مأخوذا بروعة أعماله ، وجهاده العلمي ، ويسجل كل رأي فيه ، ويزن أعماله بميزان نقدي سليم منصف ، ويقول : لقد بدت لي فجأة شخصية شيخنا واضحة مغيرة (١).

وكان عمل المترجمة وعمل المراجعين موازيا لعمل المؤلف نفسه ؛ دقة تامة ، وأمانة علمية بارزة ، وتحر لجميع الحقائق ، ووقوف صوفى ، كأنه الاستغراق ، امام جميع النصوص .. مما جعلني مذهولا حقا أمام هذا العمل العلمي الفريد ، الذي يجب ان ينال تقدير الدولة ، وتقدير جامعاتها ، وبخاصة الأزهر ، وكما أود أن تكون أعمال الطنطاوي في ميدان الاستشراق الحديث مادة للدراسة في جميع معاهدنا وجامعاتنا ، وأن يطلق أستاذنا أحمد حسن الباقوري مدير جامعة الأزهر اسم الطنطاوي على احد مدرجات الجامعة ، تخليدا لذكرى رجل نشأ بين صفوفه طالبا ، وعمل في حلقاته العلمية مدرسا ، وقدره العالم كله عالما ومفكرا ومصدرا للحركة الاستشراقية في العالم كله ، وأكسب وطنه مصر مجدا علميا باقيا على مر الزمان.

٣ ـ كان الطنطاوي أعظم من ضحوا من العرب في خدمة الثقافة الإنسانية ، وخدمة البحث العلمي الحر. ولقد ولد في قرية نجريد المصرية عام ١٢٢٥ ه‍ : ١٨١٠ م ؛ وكان أبوه تاجرا كثير التجول ، من محلة مرحوم بقرب طنطا ، وأمه من بلدة الصافية (٢).

وذهب الى طنطا في سن السادسة لحفظ القرآن الكريم. وبدأ في تلقي دروس العلم في سن العاشرة في حلقات الجامع الأحمدي. ثم رحل

__________________

(١) ١١٢ المرجع السابق

(٢) قرية تقع الآن في مركز دسوق من أعمال محافظة كفر الشيخ.

٣٢٩

مع أبيه إلى القاهرة عام ١٢٣٨ ه‍ : ١٨٢٣ م ، ودخل الأزهر ، وفيه تتلمذ علي : محمد الكومي ، ومحمد أبي النجا ، ومصطفى القناوي ، وإبراهيم الباجوري شيخ الأزهر (ت ١٨٦١ م) ، وحسن العطار (ت ١٨٣٥ م) ، وإبراهيم السقا (ت ١٨٨٠ م).

وكان من زملائه في الدراسة : الشاعر الشيخ شهاب الدين (١٨٥٧ م) ، ورفاقه الطهطاوي (١٨٧٣ م) ، ومحمد قطة العدوى (١٨٦٤ م) ، ومحمد الأشموني ، وإبراهيم الدسوقي (١٨٨٣ م) ، الذي تتلمذ عليه كثير من المستشرقين.

وفي عام ١٨٢٧ م توفي أبوه فترك الطنطاوي الدراسة في الأزهر ، تحت ضغط الظروف القاسية ، وعاد إلى طنطا ، ومنحه أستاذه مصطفى القناوي شيخ المسجد الأحمدي إجازة في التدريس عام ١٨٢٨ م ، ثم عاد ودرس في الأزهر عام ١٨٣٠ م ، ثم عاد ودرس في الأزهر عام ١٨٣٠ م ، وكان أول من قرأ المعلقات والمقامات في حلقاته العلمية وهو في العشرين من عمره. وظل في الأزهر عشر سنين ، وله تعليقات على مقامات الحريري وشرح الزوزني على المعلقات.

ومن تلاميذ الطنطاوي في الأزهر : يوسف الأسير السوري (١٨٨٩ م) ، وإبراهيم مرزوق (١٨٦٦ م) ، وعبد الهادي نجا الأبياري.

واشتغل مع عمله في الأزهر بالتدريس في المدرسة الانجليزية بالقاهرة (مدرسة الارسالية البروتستانتية) عام ١٨٣٥ م. وفيها اتصل بكثير من الأوروبيين الوافدين على مصر ، ومن بينهم جماعة من المستشرقين مثل فليمانس فريثل الفرنساوي (١٨٥٥) الذي ترجم لامية العرب للشنفري الى الفرنسية بمساعدة أستاذه الطنطاوي ، والذي علم أستاذه اللغة الفرنسية ؛ وكذلك بيرون وفيل وبرونر ، وأصبح الشيخ أثيرا عندهم ، واعتمدوا عليه اعتمادا كليا في بحوثهم وتتلمذوا عليه تلمذة فعلية.

وكتب قرينل يقول : «أنه مدين للطنطاوي الشيخ المصري الوحيد ،

٣٣٠

الذي يدرس لغته بمحبة واهتمام ، ويدرس كتب الآداب العربية القديمة».

ومن تلاميذه : موخين ، وقرين الروسيان وبسببهما سافر الطنطاوي الى روسيا عام ١٨٤٠.

غادر الطنطاوي القاهرة في ٢٤ من المحرم ١٢٥٦ ه‍ : فبراير ١٨٤٠ م الى الاسكندرية حيث نزل في ضيافة قنصل روسيا فيها «مديم» وفي ٢٦ مارس ركب باخرة نمساوية الى استامبول ، ومنها إلى أوديسا ؛ وفي يوم ٢٩ يونيو ١٨٤٠ وصل الى بطرسبرج.

وكانت روسيا آنذاك تهتم باللغات الشرقية ، وأنشأت في بلادها دراسات لها. وفي نحو عام ١٨٣٦ أنشأت معهدا للغات الشرقية وألحقته بجامعة بطرسبرج (بتروغراد ثم ليننجراد او لنينجراد فيما بعد) ، وخصصت كرسيا فيه ـ لتدريس اللغة العربية ، بجانب اللغات الشرقية الأخرى كالفارسية والتركية ، والمغولية والصينية ، والفضل في ذلك راجع الى م. بوشكين «وزير المعارف الروسية آنذاك» ، وأرادت روسيا شغل كرسي اللغة العربية ، فكلفت قنصلها في القاهرة ، ليقوم بالاتفاق مع من يعرف فيه القدرة على القيام بهذه المهمة ، فاتصل بالشيخ وحبب إليه السفر الى روسيا لهذه الغاية ، فتردد الشيخ ، إلا أن أصدقاءه رغبوه في القبول ، وأضيف الى ذلك إلحاح القنصل وسخاء العرض ، فوافق على السفر ليأخذ مكانه بين أساتذة اللغات الشرقية في بطرسبرج.

وقوبل الشيخ هناك بالحفاوة ، وجعل له مرتب سخي ، واشتغل منذ ٢ يوليو ١٨٤٠ بالتدريس في معهد اللغات الشرقية. وبالعمل في ديوان الخارجية في بطرسبرج.

كتب سانيليف ـ الذي صار فيما بعد من أشهر علماء الآثار ، وأحد ، مؤسسي جمعية الآثار ـ يرحب بالطنطاوي : وبعث بمقال له ـ مذيل بتوقيعه ، وبتاريخ ١٧ أغسطس ١٨٤٠ الى جريدة (فدومستي بطرسبرج) ، ونشرت الجريدة المقال في عدد ١٨٩ بتاريخ ٢٢ / ٨ / ١٨٤٠ ، وجاء فيه :

٣٣١

(انت تسألني : من هذا الرجل الجميل ، في لباس شرقي ، وعمامة بيضاء ، وله لحية سوداء كجناح الغراب ، وعينان تشعان باشعاع غريب ، وعلى وجهه سمة الذكاء ، وقد لفحت الشمس بشرته ، وليست بالطبع شمس بلادنا الشمالية الباردة ، هو ضيف جديد من ضفة النيل ، الشيخ الفاضل محمد عياد الطنطاوي. ان إسمه معروف لدى كل من يدرس اللغة العربية ، وكل السياح الذين انتفعوا بخدماته والمدنين له بنجاح أبحاثهم يذكرونه بالشكر ، ويكنون له المودة ، مذيعين شهرته في أوروبا. فمن هنا نرى ما كسبته كليات اللغات الشرقية المحلية التي دعت الشيخ القاهري ليحتل كرسي اللغة العربية الشاغر. ويمكنك الآن أن تتعلم اللغة العربية بدون ان تغادر بطرسبرج ، وفي الاسبوع الماضي ألقى الشيخ الطنطاوي اول محاضرة له في قاعة الجامعة حضرها ما عدا تلاميذ المدرسة وبعض المستشرقين غير المنتمين إليها).

خلف الطنطاوي في قسم اللغات الشرقية سلفه (ديمانج) الذي توفي عام ١٨٣٩ م ؛ وقضى ما يقرب من سبع سنوات مجاهدا في تدريس اللغة العربية ثم عين بعد ذلك عام ١٨٤٧ أستاذا لكرسي اللغة العربية في جامعة بطرسبرج وعين المستشرق الروسي «نفروتسكي» مساعدا له. وظل أستاذا لهذا الكرسي طيلة أربعة عشر عاما (١٨٤٧ ـ ١٨٦١ م) ، وعلى يديه تتلمذ كثير من المستشرقين الروس والألمان والفنلنديين الذين كان من أشهرهم «فالين».

وفي سبتمبر عام ١٨٥٥ أصيب الشيخ بشلل في رجليه. وظل يغالب المرض والمرض يغالبه سنوات صعابا على نفسه. وأقام في منزله رهين المرض.

كان يشرف على العناية بالشيخ زوجته المصرية «ام حسن» التي ولدت له في ١٩ مايو ١٨٥٠ ولدا سماه «أحمد».

وتوفيت زوجه المصرية عام ١٨٦٠ وابنه في سن العاشرة ، ولما لم

٣٣٢

يكن الشيخ بمستطيع القيام على تربية ابنه طلب ادخاله في داخلية احدى المدارس الوسطى ، ودخل أحمد جمناز لاريتا في ١٩ نوفمبر ١٨٦٠ على حساب الدولة ، ولم يلبث الشيخ غير قليل حتى أحيل على التقاعد في ١٩ / ١ / ١٨٦١ ، ثم وافاه الأجل في ٢٤ ربيع الثاني ١٢٧٨ ه‍ : ٢٩ اكتوبر ١٨٦١ م ، ودفن في قرية فولكوفا بجوار بطرسبرج بجوار مقبرة زوجه المصرية الوفية ؛ وكان في هذه القرية مقابر المسلمين. وتسمى المقابر التي دفن في وسطها مقبرة التتر. وعين نفروتسكي خلفا له في كرسي اللغة العربية بالجامعة ، وصرفت الدولة معاش الشيخ الى ابنه أحمد ، واختير نفروتسكي وصيا عليه ، وفي عام ١٨٧١ باع أحمد مجموعة والده الخطية الى مكتبة الجامعة. ثم تزوج أحمد وخلف بنتا ولم يلبث كذلك الا قليلا وتوفي عام ١٨٨١ ، ودفن بجوار أمه ، وألحقت ابنته بدار ايتام الاشراف باسم هيلانة ، وصارت مسيحية منذ ذلك التاريخ او اريد لها ذلك ، اذ كانت طفلة صغيرة آنذاك ، ولا ندري من أخبراها بعد ذلك شيئا.

٤ ـ ترك الشيخ آثارا كبيرة تبلغ الواحد والأربعين مؤلفا ، أحصاها كراتشكوفسكي ، وفي مقدمتها : تاريخ حياته وكتابه المخطوط «تحفة الأذكياء بأخبار بلاد روسيا» ، وورد اسمه في مرجع آخر غير كتاب كراتشكوفسكي هكذا «هدية النجباء في تحقيق اقليم روسيا» (١) ، وقد ألفه الطنطاوي عام ١٨٥٠ م / ١٢٦٦ ه‍ ، وأهداه إلى السلطان عبد المجيد ، وكانت كتابته في دقيقة ، وملاحظاته فاحصة ، وإحساسه وروحه عاليين ولم يكن الكتاب سردا تاريخيا أو جغرافيا ، بل كان وصفا دقيقا حيا بيئيا لرحلته من القاهرة إلى بطرسبرج وزياراته لأقاليم روسيا ، وانفعالاته مع الإقليم والشعب فيها خلال إقامته طيلة العشر سنوات التي قضاها هناك منذ هجرته عام ١٨٤٠ حتى تاريخ تأليف الكتاب (١٨٥٠) ووصف رحلاته في روسيا وفي دول البلطيق وفنلندا من حولها ، ويتضمن الكتاب كذلك دراسة مفصلة لتاريخ روسيا

__________________

(١) ص ١١٥ بين المخطوطات العربية لكراتشكوفسكي طبع ليدن ١٩٥٣.

٣٣٣

الحديث وصورا سريعة لطبوغرافية بطبرسبرج في ذلك الحين ؛ وهذا العمل مكتوب بصورة لامعة ولا يزال محتفظا بقيمته العلمية إلى اليوم.

وللطنطاوي كتاب عنوانه «النحو العربي» أو قواعد اللغة العربية» ، وهو أول كتاب كتبه كاتب عربي باللغة العربية للتدريس في جامعات روسيا ومعاهدها العالية ، وهو موضع اهتمام المستشرقين ، ونال شهرة كبيرة في كل دوائر الاستشراق الأوروبي. الى كتب أخرى ألفها الشيخ ، وأحصاها كلها كراتشكوفسكي في كتابه القيم.

٥ ـ كان الطنطاوي يجيد عدا العربية الفرنسية والروسية والفارسية والتركية واللغة التترية ، ويقول كراتشكوفسكي : انه كان إلى جانب اللغة العربية له إلمام بست لغات أخرى ، وإن هذا أفق كان بعيدا عن مواطنيه في ذلك الحين (١).

٦ ـ إن هذا الكتاب القيم لتاريخ حي من تاريخ مصر وأزهرها في العصر الحديث فهو ينطق بعظمة الفكر المصري في أول عصر النهضة ، ويصور الحياة الثقافية في مصر وحياة الأزهر العلمية في القرن التاسع عشر تصويرا صادقا أمينا وهو من أجمل الكتب التي أخرجتها المطبعة العربية ، والفضل في ذلك راجع إلى عمل المؤلف وعمل الترجمة وعمل المراجعين الفاضلين الذي ينم عن جهد كبير بذلاه فيه.

والكتاب مقسم إلى :

١ ـ توطئة أو مقدمة تحدث فيها المؤلف عن مصادر حياة الطنطاوي وعن ظروف قيامه بهذه الدراسة.

٢ ـ ثم ثلاثة فصول : الأول عن «الطنطاوي في مصر وسفره الى روسيا» ، والثاني عن «الطنطاوي في روسيا» ، والثالث عن «مصنفات الطنطاوي».

__________________

(١) ١٠٢ تاريخ حياة الشيخ محمد عياد الطنطاوي

٣٣٤

٣ ـ ويلي ذلك ملحقات بعضها بقلم الطنطاوي نفسه ، وبعضها نصوص أخرى للمؤلف وغيره.

٤ ـ ثم رسائل من الطنطاوي إلى غولد المستشرق (١٨٩٧ م) والأستاذ في جامعة قازان.

٥ ـ ويلي ذلك كله تعليقات وتحقيقات بقلم المراجعين كتباها شرحا أو تعليقا على بعض نقاط وردت في الكتاب.

وفي صدر الكتاب صورة للطنطاوي رسمها له مرتينوف عام ١٨٥٣ ، وصورة أخرى لقبره أخذها له بعض المستشرقين عام ١٩٢٣ ؛ وتقديم بقلم المراجعين الفاضلين.

وبعد فقد مضى على وفاة الطنطاوي أكثر من مائة عام ، ومع ذلك فجهوده في خدمة الاستشراق حديث الجامعات في الغرب ، فمتى تذكر الجامعات العربية هذا الرجل الفذ ، ومتى ترد له بعض ديونه وتعترف بقيمة ما أداه للفكر العالمي والعربي من خدمات جليلة باقية على مر الأيام؟.

ويروي المرحوم أحمد تيمور باشا في كتابه «أعلام الفكر الاسلامي في العصر الحديث» سيرة الشيخ الطنطاوي فيقول إنه من مواليد طنطا ، سنة ١٨١٠ ، وقد تلقى تعليمه في الجامع الأحمدي ، ثم انتقل الى الأزهر.

وكان يجيد الشعر والنثر والنقد والنحو والفقه وعلم الكلام والحساب والجبر والتاريخ وله أكثر من مائة مؤلف في كل هذه العلوم ، أكثرها لا يزال محفوظا بخط يده في مكتبة الكلية البتروغرادية.

وقد قضى الشيخ الطنطاوي في روسيا نحو ربع قرن ، الى أن مات ، وترك زوجه وولده هناك من بعده ، وليدفنا إلى جواره.

وكانت بينه وبين رفاعة الطهطاوي مراسلات أدبية ، يقول في إحداها :

«أنا مشغول بكيفية معيشة الاوروبيين وألفاظهم وحسن ادارتهم ،

٣٣٥

خصوصا ريفهم وبيوتهم المحدقة بالبساتين والأنهار ، الى غير ذلك مما شاهدته قبل بباريز ، اذ بطرسبرج لا تنقص عنها ، بل تفضلها في أشياء ، كاتساع الطرق.

«أما من جهة البرد ، فلم يضرني جدا ، وانما الزمني ربط منديل في العنق ، وليس فروة اذا خرجت. اما في البيت ، فالمداخن المثبتة معدة للادفاء».

على أن إقامته الطويلة في روسيا لم تؤثر في دينه ، وله في ذلك قصيدة نذكر منها :

انا بين قوم لا أدين بدينهم

أبدا ، ولا يتدينون بديني

ويحدثنا تيمور باشا في هذا الكتاب ان الشيخ الطنطاوي كان تلميذا للشيخ حسن العطار ، وهو الآخر علم من أعلام الفكر الإسلامي ، عاصر الحملة الفرنسية ، وأفاد بها من الناحية العلمية ، واستحدث بما أفاده ثورة في الأزهر أثارت عليه أثرة كثير من أصحاب العمائم.

وكان الشيخ حسن العطار في طليعة الرواد فقد كان علم الأزهر في عصره مقصورا على الدين وحده.

وكان الشيخ العطار قد عاشر علماء الحملة الفرنسية ، وقرأ ما ترجموا من كتب علمية الى التركية والعربية ، في الهندسة والعلوم الطبيعية والفلك والصناعات الحربية ، ورأى كيف يحولون العلم الى عمل ، فآمن بضرورة الدعوة إلى مثل هذا التحول ، ووضع بنفسه المؤلفات في المنطق والفلك والطب والطبيعة والكيمياء والهندسة والعلوم الطبيعية والاجتماعية والانسانية.

وتولى منصب شيخ الأزهر ، وأمر بتدريس المواد الممنوعة كالجغرافيا والتاريخ.

وحتى تدريس الأدب كان ممنوعا في الأزهر ، فحرض تلميذه الشيخ

٣٣٦

الطنطاوي على تدريسه .. كما حرض تلميذه الآخر رفاعة الطهطاوي على تدريس الحديث والسنة عن طريق المحاضرة ، وبلا نص ، مما لم تكن له سابقة في تاريخ الأزهر.

ويروي تيمور باشا من ان علماء الأزهر غضبوا ايما غضبة عند تعيين الشيخ حسونة النواوى شيخا للأزهر.

وكان لهذه الغضبة أكثر من سبب ، ولكن أبرز هذه الأسباب ، انه جاء مؤيدا لتدريس الحساب والهندسة والجبر وتقويم البلدان وما إليها في الأزهر ، بدعوى أنها علوم مستحدثة ، بينما هي في الحق علوم قديمة ، اشتغل بها المسلمون الأوائل ، وألفوا فيها كثيرا ، وكانت تدرس في الأزهر قبل نكسته.

ولكن خصوم الشيخ حسونة زعموا أنها من علوم الفرنجة ، وأنها ما أدخلت إلى الأزهر إلا للقضاء على العلوم الشرعية أو تقليل الرغبة فيها.

٣٣٧

ائمة الأزهر في القديم والحديث

الشيخ محمّد بن عبد الله الخراشي

ولد ببلدة (أبو خراش) من أعمال شبراخيت بمحافظة البحيرة سنة ١٠١٠ ه‍ تلقى تعليمه على يد نخبة من العلماء ودرس علوم الدين واللغة والمنطق وكانوا يهتمون في الأزهر بدراسة (علوم التفسير والحديث والفقه واللغة والفلسفة والمنطق) واستوعب معارف عصره وتخرج على يديه علماء كثيرون جاوزوا المائة من أعلام عصره ومن تلاميذه (الشيخ إبراهيم بن موسى الفيومي) وقد تولى مشيخة الأزهر بعد ذلك وكان بمثابة معيد للشيخ الخراشي يلخص ما قاله الشيخ ويوضح ما غمض (كما هو دور المعيد بالنسبة للأستاذ في الجامعة الآن).

وكان جم الحياء متواضعا يذهب إلى السوق ويشتري حاجياته ويحملها بنفسه وتمسك بالسنة وكان لا يتخلف عن صلاة الجماعة بالجامع الأزهر ووفد عليه الطلاب من كل قطر وذاعت شهرته ووصفه الجبرتي بأنه (الامام العلامة والحبر الفهامة شيخ الإسلام والمسلمين وارث علم سيد المرسلين) وكانت النذور تأتيه من كل الجهات فلا يحتفظ بشيء بل يتركها لمعارفه يتصرفون فيها وكانت له كرامات اشتهرت في عصره وظل في كفاحه العلمي حتى جاوز التسعين ولحق بربه في ٢٧ من ذي الحجة سنة ١١٠١ ه‍.

٣٣٨

مؤلفاته :

كان رحمه الله واسع الثقافة وخاصة فيما يتعلق بعلوم التفسير والفقه على مذهب الإمام مالك .. ويمكن إجمال مصنفاته فيما يلي :

١ ـ رسالة في البسملة في نحو أربعين كراسا

٢ ـ الشرح الكبير لمختصر خليل في ثمانية مجلدات.

٣ ـ منتهى الرغبة في حل ألفاظ النخبة (وهو شرح لكتاب نخبة الفكر لابن حجر العسقلاني).

٤ ـ الفرائد السنية في حل الفاظ السنوسية

٥ ـ الانوار القدسية في الفرائد الخراشية (وهو شرح للعقيدة السنوسية).

٦ ـ حاشية على شرح الشيخ علي ايساغوجي في (المنطق) وهو كتاب شهير.

٧ ـ إجازة أجاز بها تلميذه الشيخ علي الشبراملسي (ليستحق بها ما يشبه العالمية)

* * *

الشيخ إبراهيم بن محمد البرماوي

ينسب الى بلدة (برما) من أعمال محافظة الغربية.

حفظ القرآن ودرس في الأزهر على كبار الشيوخ وعكف على (دروس الشيخ أبي العباس شهاب الدين محمد بن أحمد القليوبي) وكان من أعظم علماء عصره متعدد الثقافات وألف كثيرا من الشروح والحواشي والرسائل ثم أذن له أن يقوم بالتدريس فأقبل الطلاب على علمه وكان من أنجب تلاميذه (الشيخ إبراهيم الفيومي) الذي سبقت الإشارة إليه وترك

٣٣٩

مؤلفات عدة تدل على غزارة علمه في (الحديث وفقه الشافعية والمواريث والتصوف).

١ ـ حاشية على شرح القرافي لمنظومة ابن فرح الأشبيلي (كما شرحها كثيرون لأهميتها).

٢ ـ حاشية على شرح ابن قاسم

٣ ـ رسالة في أحكام القول في (الكلب والخنزير) على مذهب الشافعي.

٤ ـ حاشية على شرح السبط على الرحبية في المواريث.

٥ ـ الميثاق والعهد فيمن تكلم في المهد.

٦ ـ رسالة في الدلائل الواضحات في إثبات الكرامات (في التصوف والتوحيد).

تولى مشيخة الأزهر سنة ١١٠١ ه‍ ولقى ربه سنة ١١٠٦ ه‍.

* * *

الشيخ محمد النشرتي

كان من أعلام المالكية ولم يعثر له على ترجمة دقيقة.

ولكنه كان واسع العلم وتتلمذ على يده نخبة من فقهاء عصره منهم (الديربي الشافعي الأزهري) صاحب المؤلفات العديدة (عبد الحي بن الحسن بن زين العابدين) العالم الشهير (والمحدث الأصولي الشهير بالجوهري) وكان بمثابة شيخ لعلماء المالكية.

ولد ببلدة (نشرت) بمحافظة كفر الشيخ وحفظ القرآن ودرس في الأزهر ولما تولى مشيخة الأزهر سنة ١١٠٦ ه‍ ظل يواصل الدرس وشغله منصبه وطلابه عن التأليف ولقد سئل جمال الدين الأفغاني لماذا لم تترك

٣٤٠