تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجار

زاهر بن سعيد

تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجار

المؤلف:

زاهر بن سعيد


المحقق: أحمد الشتيوي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: وزارة التراث والثقافة سلطنة عمان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٩٦

الباب السادس (١)

في السفر من بورت سعيد إلى ليسبون

في الساعة الثامنة ونصف من صباح ذلك النهار رفعت باخرة السلطان أنجرها من مرسى بورت سعيد. وسافرت في كنف الرحمن حتى إذا عادلت بارجة من بوارج حضرة الخديو (منور) أمر قبطانها بإطلاق ٢١ مدفعا لجلالة السيد برغش. ثم نشر أعلاما كثيرة في دقال (٢) البارجة ، وأمر جنوده البحريين بالاصطفاف على سطح البارجة ، وهم حاملو السلاح. ثم رفعوا أصواتهم بالدعاء والسلام لحضرة السلطان. وكان قوم من الجنود البحريين يعزفون بآلات موسيقة. فقام جناب السيد ومن معه ، وأقبلوا نحو بارجة الخديو ، وردوا السلام على قبطانها وعلى من فيها من الضباط. وما زال الفريقان يشيران إلى بعضهما بالتحية والسلام حتى افترقا. وسافرت باخرة سعادة السيد على بركة الله تعالى.

ولما كان اليوم ٢٢ (٣٠ مايو) من أيام السفر عادلت (٣) باخرة سعادته جزيرة مالطة (٤) ولكنها لم تعرج على مرساها.

وفي اليوم الرابع والعشرين (٢ يونيو) عادلت (٥) جزيرة مسينا من بلاد الإيتليان (٦) وكذلك لم تعرج عليها. وكان الجوّ مدّة هذا السفر بطوله صاحيا والبحر هادئا غير أنّه في ليلة

__________________

(١) أ : الخامس (وقد تكرر مرتين)

(٢) ب : أرجاء

(٣) ب ـ واجهت

(٤) أرخبيل صغير في البحر الأبيض المتوسط يتكون من ٣ جزر غير آهله ، غربي جزيرة صقلية (مساحتها ٣٢٠ كلم ٢) ولها موقع استراتيجي. فصل : ٥ ـ ٧٤٤ / ٧ : Malta : N.E.B

(٥) ب : وصلت إلى

(٦) نطق حرفي للكلمة الأجنبيةItalian ، وهي تعني الإيطاليين.

٤١

اليوم الخامس والعشرين احتبكت (١) الغيوم في الجو ، وأظلمت الدنيا ، ولاح وميض البرق من المغرب ، وتراكم السحاب ، وعصفت الرياح ، وهطلت الأمطار ، وتعالت الأمواج من ذلك البحر العجاج ، وغدقت (٢) على سطح السفينة ، وطفحت عليها. ودام الحال على هذا المنوال إلى اليوم السادس والعشرين.

ثم احتبك (٣) الضباب بالأكثر (٤) ، وأظلم الجو في قلب النهار حتى عجز البحارة عن رصد ما يمر بهم من السفن ، فخشوا (٥) من أن تمرّ بهم سفينة تصدم باخرة السلطان ، وهم لا يرونها من شدة الضباب والظلام ، فباشروا يبدون أصوات الصّفير أوائل (أنجين) (٦) البخار لينبهوا من كان وراءهم ومن كان أمامهم سائرا (٧) في تلك البحار حتى يحترسوا على (٨) أنفسهم من مصادمة سفنهم.

ولما كان مساء ذلك النهار انكشف ذلك الضباب وانجلى الظلام عن وجه البحار بأمر الله تعالى صاحب العزة والاقتدار.

وفي الليلة السابعة والعشرين (٥ يونيو) ، مرّت باخرة السلطان بمضيق جبل طارق (٩).

وجبل طارق حصن منيع على مدخل البحر المتوسط تدخل السفن من مضيقه إلى بحر الأوقيانوس الاتلنتيك (١٠).

__________________

(١) ب : اشتدت

(٢) ب : اندفعت إلى

(٣) ب : اشتد

(٤) بالأكثر : ساقطة في ب

(٥) أ ، ب : خشيوا

(٦) ب : والظلام فأخذوا في إطلاق أصوات ... (وأنجين هي تعريب للكلمةEngin)

(٧) ب : يعج

(٨) ب : يجنبوا

(٩) هو جبل في أقصى جنوبي إسبانيا ومنه دخل طارق بن زياد هذه البلاد وفتحها ، وهو الآن تابع لبريطانيا. فصل :

٢٥٣ / ٥ : Gibraltar : N.E.B

(١٠) نطق حرفي للكلمة الأجنبية : Ocean Atlantic وتعني المحيط الأطلسي / الأطلنطي.

٤٢

وهذا الجبل صخر عظيم يبلغ ارتفاعه ١٤٣٩ قدما (فوتا) وفيه مغارات (١) واسعة منقورة في الصخر الأصم ومحصنة بالمدافع وغيرها من الأسلحة (٢) فهي (٣) حصون طبيعية قد زادتها استحكاما القوى العقلية ودراية الإنكليز في الفنون الحربية. ولم يزل هذا الجبل إلى الآن في يد الدولة البريطانية منذ أخذته من مملكة أسبانيا سنة ١٧٠٩. وقد أفرغت (٤) مملكتا (٥) أسبانية وفرنسة (٦) جهدهما في أخذ هذا الحصن المنيع من يد الإنكليز فلم تستطيعا (٧) أخذه. وسميّ هذا الجبل باسم" جبل الطارق" (٨) نسبة إلى القائد العربي طارق بن زياد (٩) الذي دخل بلاد أسبانيا من جهة هذا الجبل وفتحها في الجيل الثامن في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان (١٠) وهو سادس الخلفاء الأمويين.

وفي اليوم السابع والعشرين قرب الغروب عادلت (١١) باخرة السلطان محطة السلك البرقي على ساحل بلاد أسبانيا ، فطلب المتوظفون في إدارة السلك من قبطان باخرة السلطان أن يخبرهم بمن كان في باخرته. وكان خطابهم مع القبطان برفع رايات مختلفة الألوان والنّقوش.

__________________

(١) أ : مغاير

(٢) أ : غير أصلحة

(٣) ب : كما أنها

(٤) ب : حاولت

(٥) أ : مملكتي ...

(٦) ب : اسبانيا وفرنسا

(٧) أ : يستطيعو على

(٨) نطق حرفي للكلمةGibraltar

(٩) قائد بربري (٥٠ / ٦٧٠ ـ ١٠٢ / ٧٢٠) أسلم على يدي موسى بن نصير شارك في فتح الأندلس. الزركلي : الأعلام ٣ / ٢١٧ وفصل : ٣ ـ ٢٤٢ / TariK b.Ziyad : E.I.٢ : X

(١٠) الوليد (٤٨ / ٦٦٨ ـ ٩٨ / ٧١٥) ولي الحكم سنة ٨٦ / ٧٠٥. وجّه قواده للفتوحات ، وفي عهده تمّ فتح اسبانيا الزركلي :

الأعلام ٨ / ١٢١. وفصل : ١١١ / Al ـ Walid : E.I : VIII

(١١) ب : واجهت

٤٣

وكل راية ذات نقش تدل على كلام (١) : فمتى طلب القبطان شيئا نشر على رأس الدقل (٢) الرّاية التي تدلّ على مطلوبه فيفهمها الناظر إليها من بعيد ويرفع له الراية التي تدل على جواب مطلوبه.

وهذا علم جزيل الفائدة للقباطين يتمكنون به من مساعدة بعضهم في حدوث الأخطار. فإذا عرض لمركب حادث مهلك أو كان مشرفا على الغرق أو محتاجا إلى مؤونة ورأى قبطانه مركبا آخر مارّا على مسافة بعيدة عنه لا يصل صوته إلى مسامع قبطانه ليستغيثه بالكلام أخذ بطلب إغاثته بواسطة إشارات الرايات ، وحصل منه على الفرج.

فبهذه الطريقة أفهم قبطان باخرة السلطان المتوظفين في إدارة التلغراف (٣) أنه حامل في مركبه جلالة السيد برغش سلطان زنجبار ، وأنه يريد الذهاب إلى مدينة ليسبون (٤) ويكون وصوله إليها في وقت كذا إن شاء الله تعالى. ففهم المتوظفون في إدارة التلغراف كلامه ، وأرسلوا ذلك الخبر بسلك الإشارة إلى مدينة ليسبون.

وبلغ ملك البورتكال (٥) خبر وصول سعادة السلطان برغش إلى ليسبون في أقرب وقت ، وأمر باستحضار قصر جميل لسكنى سعادته عند وصوله بالسلامة.

وفي اليوم الثامن والعشرين وكان نهار الجمعة وصلت الباخرة إلى ميناء مدينة ليسبون.

__________________

(١) هو التلغراف

(٢) ب : الراية

(٣) هو نقل الكتابة على مسافات بعيدة بواسطة آلة بصرية أو كهربائية. أول محاولات هذا الاختراع تمت سنة ١٧٩٢ لكن مورس الأمريكي (١٧٩١ ـ ١٨٧٢) هو الذي طوّره ، فصل : ٧ ـ ١١٧٣٥ / ١٩ : Telegraphie : G.E

(٤) نطق حرفي للفظة الفرنسيةLisbonne وهي لشبونة عاصمة البرتغال ، تقع على المحيط الأطلسي (وبالرتغالية والإنكليزية : Lisboa) ـ فصل : ٣٩٢ / ٧ : Lisboa : N.E.B

(٥) نطق حرفي للفظةPortugal أي : البرتغال

٤٤

وبعد أن ألقت أنجرها أتى طبيب الصّحة بأمر (١) الحكومة ، وسأل القبطان عن صحة أهل الباخرة ، فأجاب القبطان أن سعادة السيد برغش ومن معه في غاية الصحة والعافية. ثم أخرج قرطاس الشهادة وعرضه على طبيب الصحة فتيقن الطبيب أن باخرة سعادته قد سافرت من بلاد ليس فيها وباء معد ، وأن جميع من كان فيها سالمون. فكتب ذلك في كتابه. وانصرف إلى حال سبيله (٢).

__________________

(١) أ : عن أمر

(٢) عملية مراقبة صحة المسافرين إلى أوروبا كانت تدخل ضمن نظام الحجز الذي يدوم أربعين يوما للتأكد من سلامة المسافر من الأمراض المعدية ولا سيما الملاريا. وهي تسمى بالكرنتية (الأربعينية) فصل :

١٣٧٥ : Quarantaine : P.R

٤٥

ثم أتى بعده نفران من حرّاس المدينة وسألوا القبطان عمّا عنده من البارود. فقال : " عندنا شيء يكفينا لإطلاق مدفعين فقط" قالوا : لا تسمح شريعة المملكة أن يدخل مركب إلى مرسى بلادها وهو حامل شيئا من البارود ، ونحن نحفظه عندنا إلى وقت رحيلكم قال القبطان : " حبّا وكرامة". ثمّ أمر البحارة أن يسلّموا حراس البلد ما فضل عندهم من البارود ، ففعلوا.

وبعد ذلك دخلت الباخرة إلى قلب المرسى. وكان فيه عدة مراكب منها ستة لدولة الإنكليز. ولما عادلت (١) باخرة السلطان في مرورها بارجة من بوارج الإنكليز أطلقت تلك البارجة ٢١ مدفعا لسلام حضرة السلطان. فكان البادئ بإطلاق المدافع مركب كبير (٢) ذو خمسة دقال (٣) وكان حاملا (٤) أمير البحر الإنكليزى. ثم تبعه باقي المراكب الإنكليزية ، ورفعوا علم السلطان على دقال (٥) مراكبهم إكراما له. وكذلك لما مرت باخرة سعادته بجانب بارجة الدولة البورتيكيزية (٦) (منور) أمر قبطانها البورتكيزي بإطلاق ٢١ مدفعا لجلالة السلطان ونشر علمه على دقل (٧) بارجته الحربية.

ثم ألقت الباخرة أنجرها (٨). وبعد ذلك أطلقت البارجة الأميريكانية ٢١ مدفعا لسلام السلطان. ثم تبعتها بارجة دولة أوستريا (٩) (منور) وأطلقت كذلك ٢١ مدفعا.

وفي الساعة الرابعة من نهار ذلك اليوم قدم إلى باخرة السلطان أمير البحر البورتكيزي ووزيره ومعاونه وسلّموا على سعادة السيد وهنأوه بوصوله بالسلامة. فرحّب بهم جناب

__________________

(١) ب : قاربت

(٢) أ : مركبا كبيرا ذا

(٣) ب : ذو خمسة دقال : ساقط

(٤) ب : يحمل

(٥) ب : سارية

(٦) نطق حرفي للكلمة : Portugaise إي : برتغالية.

(٧) ب : سارية

(٨) ب : مراسيها

(٩) نطق حرفي للفظة : Austria أي : النمسا.

٤٦

السيد وقابلهم باللطف والبشاشة. ثم قالوا : " قد أرسلنا إليك مولانا ملك البورتكيز بالنيابة عن جلالته لنطلب إلى سعادتك أن تشرّف بلاده بنزولك إلى البرّ ، وقد أعد لجلالتك قصرا من قصوره لكي تكون سعادتك في ضيافته مدة إقامتك في عاصمة ملكه. وها نحن مأمورون أن نتمثل بأمر سعادتك". فرحّب بهم السيد برغش ، وقال : " بارك الله فيكم وفي جلالة ملككم. إنّنا لننزل إن شاء الله تعالى في الساعة التاسعة ، ونتشرّف بمصافحة جلالة ملككم المعظم".

وفيما كان السلطان يخاطب أولئك السفراء وإذا بأمير البحر الإنكليزي الأول ومعه الأمير الثاني وبقية قباطين الإنكليز قد أقبلوا ليسلّموا على سعادته ، فتلقاهم جناب السيد بالسرور والترحاب. وبعد أن قضوا واجبات السلام انصرفوا إلى حال سبيلهم.

ثم عاد السلطان إلى سفراء ملك البورتكيز وأعاد عليهم كلامه الأول. ثم ترخصوا من سعادته بالانصراف ، فودّعهم ، وانصرفوا إلى ملكهم وهم حاملون إليه بشارة قدوم السلطان برغش إلى تخت ملكه.

وفي الساعة التاسعة من نهار ذلك اليوم وصل وزير ملك البورتكيز في فلك (ماشوه) (١) يديرها اثنا عشر نوتيا وهي مزينة بالأثاث والأقمشة. وكانت في معيته فلك أخرى يديرها أربعة وعشرون نوتيا وكانت كذلك مزيّنة بالأرناج والسنيري (٢). فنزل جناب السيد برغش في أفخر الماشوّات رتبة مع خمسة أنفار من وزرائه ، ونزل باقي حشمه في الفلك الثاني ، وساروا إلى البرّ حتى إذا خرجوا إلى المدينة وجدوا جواري الخيل (عربيات) متأهبة على السّاحل لتحملهم.

وكانت عساكر البورتكيز قائمين صفوفا صفوفا ، وهم رافعون السّلاح في سلام جلالة السلطان. فركب السيد برغش ووزير البورتكال في عربية (٣) تجرها أربعة رؤوس من الخيل ،

__________________

(١) ماشو : نوع من السفن طولها ٢٥ قدما ، مستطيلة. وزارة الإعلام (سلطنة عمان) : عمان وتاريخها البحري ط ١٩٧٩ ، ص ١٥٣

(٢) ب : بالأرناج والسنيري : ساقط ، وتم تعويضها ب : كزميلتها

(٣) ب : عربة

٤٧

وركب السيد حمود بن أحمد والسيد حمد بن سليمان ومسترجون كيرك قنصل جنرال دولة الإنكليز في عربية ثانية تجرها كذلك أربعة رؤوس من الخيل ، وركب باقي حشم السلطان في جواري (١) يجرها رأسان من الخيل ، فسارت جواري الحشم أولا. ثم تبعها بالترتيب الجاري (٢) الذي كان حاملا للسّيدين محمد بن أحمد وناصر بن سعيد. ثم أردفه الجاري الحامل (٣) للسيّد حمود بن أحمد وحمد بن سليمان وجناب الدكتور كيرك قنصل جنرال الدولة البريطانية. ثم تبعهم فرسان البورتكيز. ثم سارت في أثرهم المركبة الحاملة لسعادة السلطان برغش ووزير ملك البورتكال حتى وصلوا إلى دار الملك وهو قصر عالي البنيان راسخ الأركان. وكانت الجنود مصطفة أمام القصر وهي رافعة السّلاح.

فلمّا (٤) وصل السلطان عزف الجنود بآلات الموسيقة ورحبوا بقدومه ، وخرج ملك البورتكال ومعه جلالة الملكة ، وهي لابسة أفخر الحلل ، وعليها من الزينة والجواهر ما يبهر النواظر ، فتلقت جلالة السلطان بالحشمة والترحاب.

وبعد أن انقضت واجبات السلام والرّسميات صافح السلطان ملك البورتكال وقرينته. ثم ركب في مركبته وسارت الجنود به وبحشمه إلى القصر المهيأ لهم.

وبعد أن حلّ ركابهم في المنزل العظيم وصل جلالة ملك البورتكال ومعه ثلاثة من الوزراء الكبار فصعدوا القصر ، ودخل الملك إليه وقال له : " قد أعددت هذا المنزل لجلالتك لتقيم فيه أنت والحشم ما دمتم مشرّفين عاصمة ملكي. وقد أتيت أريد زيارتك وتبليغك التهاني بوصولك سالما غانما إلى بلادي. وهذه عاصمة ملكي تحت أمرك ، ووزرائي في خدمتك ، وقد أوصيتهم أن يطوفوا بك المدينة ويفرجوك على ما فيها من التحف والنوادر".

__________________

(١) ب : جوار (عربات)

(٢) ب : العربة

(٣) ب : ثم من بعدها العربة الحاملة.

(٤) ب : ولما

٤٨

فشكره السلطان على مآثره وجزيل فضله ، واعتذر إليه من [عدم](١) إطالة الإقامة في بلاده ، وقال إنه مصمّم على السفر في تلك الليلة نفسها.

أما مدينة ليسبون عاصمة مملكة البورتكال فهي مبنية على جانبي نهر تاغوس (٢) بالقرب من مصبّه. وفيها أبنية فاخرة جميلة وقصورها أجمل قصور أوروبا. وشوارعها متساوية ، وجميع طرقها واسعة مرصوفة بحجارة ، وقد جعلوا في وسطها طريقا عريضة تمرّ فيها المركبات والخيل. وعلى طرفيها طريق لا يمرّ فيها إلا الناس المشاة فقط. وبيوت المدينة مبنية على طبقات عديدة من خمس إلى ستّ طبقات ، تحفّ بها بساتين وجنائن تتخللها سواقي المياه الصافية. وبعض جدران المنازل منقّشة (٣) بالفخّار الصيني ، وأنواع الأرناج (٤) المختلفة وفيها ١٤٠ كنيسة (٥) و ٧٥ ديرا للرّهبان والرّاهبات ، ولها مكتبة فيها ٨٠٠٠٠ مجلّد وسكانها نحو ٢٦٠٠٠٠ نفس (٦).

__________________

(١) اضافة يقتضيها السياق

(٢) نطق حرفي لكلمةTagus ، أي نهر التاج ، أهم أنهار شبه الجزيرة الايبيرية. فصل : ١٧٣٢Tage : P.R : p

(٣) ب : منقوشة

(٤) ب : الزجاج

(٥) ١٤٠ : ساقط في ب

(٦) ب : نسمة

٤٩
٥٠

الباب السابع

في سفر السلطان من ليسبون إلى لندن

لما عزم السيد برغش على السفر من ليسبون أتى الرجلان اللذان استلما البارود من الباخرة عند وصولها إلى الميناء وسلّماه لرجال باخرة السلطان ، وفي أثناء ذلك أمر السيد برغش أمين صندوقه بأن ينعم عليهما بصلة في نظير أتعابهما ، فقبلاها بمزيد الشكران ، وأثنيا على مكارم السلطان وانصرفا.

ثم أمر القبطان برفع أنجر (١) الباخرة نهار السبت ٢٩ الشهر (٧ يونيو) ، فسارت بكنف الرحمن. وما زالت سائرة حتى غرّة هلال" جمادى الأولى".

وفي اليوم الثالث منه وصلت الباخرة إلى جزيرة بريطانية. ثم سارت من هناك ووصلت إلى ميناء بورتسموت (٢) نهار الأربعاء. وحال وصولها أطلقت بارجة حربية إنكليزية كانت في الميناء ٢١ مدفعا إجلالا لسعادة السلطان ، ونشروا بيرقه في دقال (٣) البارجة إلى نهاية إطلاق المدافع.

ثم سارت باخرة السيد من هناك تريد مدينة لندن. وكانت في سيرها تمرّ بسفن وبواخر لا تحصى منها قادمة من لندن تريد الذهاب إلى أقطار العالم ، ومنها قادمة من أقطار الدنيا تريد الذهاب إلى لندن. وما زالت سفينة السيد تسير سيرا هنيئا حتى وصلت إلى ميناء اسمها

__________________

(١) ب : مراسي

(٢) ميناء حربي يتكون من عدة منشآت. فصل : ٦٣١ / ٩ : Portsmouth : N.E.B

(٣) ب : ساري

٥١

كريفزند (١) وهي عند مصبّ نهر التيمس (٢) ، فرست الباخرة فيها ، وكانت الباخرة الكبيرة لا تصلح للصعود بنهر التيمس لصغره.

وكانت الدولة البريطانية قد جهّزت باخرة صغيرة اسمها (ريفركوين) (٣) ، وأرسلت فيها عدّة (٤) رجال من أصحاب المناصب ليلاقوا سعادة السلطان ، ويبلغوه تهاني جلالة الملكة فيكتوريا بوصوله سالما غانما إلى بلادها. وكان من جملة هؤلاء الرجال القس جرجس باجر الفقيه (٥) ، وكانت قد اختارته جلالة الملكة ترجمانا لسعادة السلطان لما كان بينه وبين سعادة السيد برغش من المودّة القديمة.

وكانت تلك الباخرة مزيّنة كلها برايات مختلفة الألوان تخفق في دقالها (٦). وكانت راية الإنكليز منشورة في مؤخر الباخرة ، وراية السلطان الحمراء منشورة في دقل الباخرة الأوسط (٧). فلمّا دنت الباخرة الصغيرة من الباخرة الكبيرة صعد رجال الملكة إلى باخرة السلطان ، وحيّوه بالسلام ، ورحّبوا (٨) بقدومه. فتلقّاهم السلطان بالعزّ والترحاب ، وشكر لهم ولجلالة الملكة كرمها وعنايتها به غاية العناية.

ثم طلب إليه رجال الدولة أن ينتقل إلى الباخرة التي أعدتها له الدولة ، فأجاب طلبهم بلطف وشكران. ثم نشروا رايته في دقال (٩) الباخرة حذاء راية الدولة البريطانية ، وأخذوا يسيرون

__________________

(١) نطق حرفي للكلمة : Gravesend : وهي بلدة في مدخل نهر التيمس. فصل : ٤٢٥ / ٥ : Gravesend : N.E.B

(٢) هو أكبر أنهار إنكلترا يصب في بحر الشمال ، طوله ٣٣٨ كلم. وعليه تقع لندن. فصل :

٦٧١ / ٢ : Thames River : N.E.B

(٣) نطق حرفي للكلمةRiver Queen (ملكة النهر).

(٤) أ : عمدة

(٥) وصفه ابن سعيد أيضا بالقس والفقيه وخليل السلطان ، انظر صورته.

(٦) ب : جوانبها

(٧) ب في وسط الباخرة

(٨) أ : ترحبوا

(٩) ب : ساري

٥٢

في نهر التيمس حتى إذا عادلوا (١) بارجة من بوارج الدولة البريطانية أطلقت المدافع سلاما لجلالة السلطان. ثم لمّا مرّت بجانب وليج مارشس (٢) أطلق الجنود ٢١ مدفعا من الحصن سلاما لسعادة السيد برغش.

ولمّا وصلت الباخرة إلى مكان يدعى فيسكارد (٣) كانت هناك بارجة إنكليزية ، فاصطف الجنود على ظهرها وسلّموا على السلطان برفع السلاح. وكان مقدّم (٤) الجنود القبطان بالمر يذكر مودّة السلطان له وهو في زنجبار لمّا كان قبطانا في بارجة الدولة البريطانية المسماة برشن. فلما درى (٥) السلطان بوجوده أمر بتوقيف الباخرة وأخذ يخاطبه بمودّة ولطف. فسرّ القبطان من ذلك غاية السرور ، وشكر لجلالة السلطان حسن مودته له ولطفه معه.

وبعد انقضاء التحيات مخرت السفينة حتى إذا مرّت حذاء قلعة لندن (٦) أطلق الجنود ٢١ مدفعا سلاما لجلالته. وما زالت الباخرة تسير هنيئا (٧) حتى بلغت لندن.

ولا يخفى أن هذه العاصمة مبنية على ضفّتي نهر التيمس وهو يمرّ بوسطها بتعاريج كثيرة ويقسمها إلى شطرين. وعليه عشرة جسور : منها [ما بني](٨) من حجارة ومنها ما بني من حديد تسير عليه الناس والخيل. وجسور أخرى كثيرة تمرّ من فوقها أرتال سكك الحديد ومن

__________________

(١) ب : قاربوا

(٢) نطق حرفي للكلمتين Wellig Marshes

(٣) Viscard

(٤) أ ، ب : مقدام

(٥) ب : علم

(٦) تقع هذه القلعة الملكية على مرتفع من نهر التيمس في شرق لندن بناها وليام الأول سنة ١٠٧٨ ثم وقع توسيعها. فصل :

٤٥٩ / ٧ : Tower of London : N.E.B

(٧) ب : الهوينى

(٨) ما بني : لم يرد في أ ، والمعقّفان أضافة منّا.

٥٣

تحتها السفن والبواخر ذهابا وإيابا. وعرض هذا النهر في قلب المدينة يختلف من ٢٣٠ ذراعا إلى نحو ٤٣٠ ذراعا ومعظم عرضه عند الجسر الحجري العظيم المسمّى (واترلو) (١).

فمرّت باخرة السلطان ـ أعزّه الله ـ أولا بجسر لندن وهو من أعظم جسورها. باشر بناءه المهندس جون ريني وأولاده سنة ١٨٢١ وانتهى منه سنة ١٨٣١. وقد وضع في أساسه المدافع التي اغتنمها الإنكليز في حرب بينينسولا. وله خمس قناطر من حجر إهليليجية (٢) الشكل واتساع (٣) القنطرة الوسطى نحو ٤٦ ذراعا وعلوها فوق الماء نحو ٩ أذرع ويبلغ طول الجسر نحو ٢٨٣ ذراعا. وبلغت نفقة بنائه نحو ٥٠ مليون من الفرنكات (٤).

ثم مرّت باخرة سعادة السيد برغش بجسر آخر صغير. ثم وصلت إلى جسر آخر من حجر اسمه (ابلاك فرايرس) (٥) معناه : " الرهبان السود". فكان بقربه دير يسكنه رهبان يلبسون ملابس سود فسمّي الجسر باسم" الرهبان السود" وهو جسر عظيم شاده المهندس روبرت ملنى سنة ١٧٦٠ ، وفرغ (٦) من بنائه سنة ١٧٦٩. وله تسع قناطر وطوله نحو ٣٠٣ أذرع.

ثم وصلت الباخرة إلى جسر (واترلو) الذي سبق ذكره. وهو من أجمل الجسور التي بنيت في العالم كله. باشروا بناءه على هندسة السيد رالف دود في ١١ تشرين الأول (أكتوبر)

__________________

(١) هو جسر يحمل اسم المعركة الشهيرة بين الإنكليز ونابليون بوبنارت (الأول) وانتهت بخسارته الفادحة وقد تمت المعركة في واترلو بيلجيكا. ١٩٠٣ / ٢ : Waterloo : P.R

(٢) ب : هلالي

(٣) أ : وسع

(٤) نلاحظ أن الكاتب يستعمل عدة عملات نقدية مثل الفرنكات (الفرنسية) والليرة (الإيطالية) والجنيه (الإنكليزي)

(٥) تأسس دير الرهبان السود في القرن ١٣ من جالية الدومنيكان. فصل : ٢٦٢ / ٢ : Blackfriars : N.E.B

(٦) أ : فرغ من : ساقط

٥٤

سنة ١٨١١ وسمّوه بهذا الاسم تذكارا لانتصار الإنكليز على نابليون الأول (١) في الواقعة الشهيرة التي جرت بين الدوق ويلنكتن (٢) ونابليون الأول بقرب مدينة واترلو.

والجسر المذكور مبنيّ على تسع قناطر إهليليجية (٣) الشكل ، عرض كل قنطرة نحو ٣٦ ذراعا ، وعلوها نحو ١٢ ذراعا ، وعرض سطح الجسر ٢٢ ذراعا ، وطوله نحو ٤٢٠ ذراعا. وإذا أضفنا إليه القناطر المبنية على شاطئيه خارج الماء بملاصقته بلغ طوله نحو ٨٠٠ ذراعا. وبلغت نفقة بنائه نحو ٢٥ مليونا من الفرنكات.

ثم مرت السفينة تحت هذا الجسر وسارت حتى وصلت جسر جارين كروس. وهو جسر عظيم مؤسس على سبعة عواميد ، خمسة منها مصنوعة من حديد ومغروسة في قرار النهر على عمق عظيم. وعلو القناطر عن مساواة الماء نحو ١٠ أذرع وكان قد رسم هندسة بنائه السيد برونل (٤) ، وكمّل بناءه في ١٨ نيسان (ابريل) سنة ١٨٤٠. وهو جسر عريض تمرّ في وسطه أرتال سكك الحديد ولا يسمح للخيل بالمرور من فوقه. وأما البشر فمسموح لهم المرور به عن جانبيه. فسارت بارجة السلطان من تحته حتى وصلت إلى الجسر المسمّى ويستمنستر. وهو جسر عظيم جديد البناء يشغل محل جسر قديم كان قد عني بهندسته السيد لابيلى السويزي بين سنة ١٧٣٨ و ١٧٥٠. أما الجسر الحاضر فقد عني بهندسته المهندس باج. وهو قائم على دعائم من حديد مظفورة من ٢٣٣ قضيبا من حديد ومغروسة على عمق ثمانية أذرع في أرض صماء تحت الماء في قرار النهر. ويبلغ عرض أكبر قناطره نحو ٧٠ ذراعا وكل قناطره مبنية على شكل

__________________

(١) هو نابليون بونبارت (١٧٦٩ ـ ١٨٢١) بطل فرنسا المشهور ، حارب الدول الأوربية وبدأ الاستعمار في مصر (١٧٩٨ ـ ١٨٠١) ثم صار إمبراطور فرنسا من ١٨٠٤ إلى ١٨١٤. فصل : ٨٣٧١ / ١٤ : Napoleon I : G.E

(٢) هو أرتور (١٧٦٩ ـ ١٨٥٢) جنرال ، وسياسي بريطاني ، حارب كثيرا في الهند وانتصر على نابليون في واترلو سنة ١٨٠٩ ، تولى عدّة مناصب سياسية ، فصل : ١٢٧٧٠ / ٢٠ : Willington (Arthur ,Duc de) : G.E

(٣) ب : هلالية

(٤) إزمبار (١٨٠٦ ـ ١٨٥٩) : مهندس بريطاني في الميكانيكا والمدنية له أعمال عظيمة مثل سكة الحديد والجسور ، فصل :

٥٧٦ / ٢ : Brunel ,Isambard : N.E.B

٥٥

إهليليجي (بيضاوي). وكمل بناؤه سنة ١٨٦٢ عيسوية. وهو محاذ دار الندوة الكبرى (١) بلندن حيث يجتمع نواب الأمة وشرفاء المملكة (٢) لمعاطاة الأحكام ومصالح الأمة وهي الدار المعروفة باسم (برلمنت) (٣).

وسوف نطيل الشرح بوصفها في بابها ونطبع رسمها إن شاء الله.

ولما وصلت باخرة سعادة السلطان إلى هذا الجسر أمر القبطان بإلقاء أنجرها (٤) وكان شعب لندن قد سبق وعرف بوصول سعادة السلطان في الساعة المعينة. فاجتمع الناس أفواجا أفواجا إلى الميناء ليشاهدوا أميرا من أول أمراء العرب قد أتى يريد زيارة بلادهم ، وكانوا قد فرشوا أرض القصر حيث مرّ السلطان بطنافس وبسط من جوخ أحمر. واصطفت فرقة من الجنود الشرفية تحت إمرة الأمير الاي فريمانتل والقائد برتى والملازم مانسفليد في سلام سعادة السلطان. وكانت فرقة أخرى من الجنود تعزف بآلات الموسيقة العسكرية تحت إدارة السيد فريد كودفراي.

وكان قوم من رجال الدولة قد قدموا إلى الشاطئ لملاقاة جلالته ، وهم السيد الشريف بورك من أعضاء مجلس النواب ، وثاني كاتم أسرار وزارة الخارجية ، والأميرال (٥) كليفورد ، وسار بارتل فراير ، وسار كنناوي عضو من أعضاء مجلس النواب ، ولورد جون مانرس عضو من أعضاء مجلس النواب ، والقبطان الشريف اكرطن كاتم أسرار الوزارة البحرية ، والسيد

__________________

(١) يقصد كما ذكر بعد حين البرلمان ونلاحظ أن الكاتب استعمل مصطلحا عربيا قديما يعود إلى العصر الجاهلي لأن" دار الندوة" كانت في مكة قرب الكعبة تناقش فيها قضايا قريش. فصل :

Dar al Nadwa : E. I. ٢ : II / ٨٢١) Paret (

(٢) يقصد اللوردات

(٣) نطق حرفي للكلمة الإنكليزية : Parliament المأخوذة من الفرنسية القديمةParlement ، وهو المؤسسة التشريعية الأهلية للمملكة المتحدة. فصل : ١٦٠ / ٩ : Parliament : N.E.B

(٤) ب : مرساها

(٥) ب : الأمير

٥٦

كليمنت هيل من إدارة وزارة الخارجية ، وحضرة القس جرجس باجر الفقيه ، وحضرة الدكتور كريستي وغيرهم كثيرون من أعضاء مجلس الشورى ومجلس الأعيان. (١)

فلمّا رست باخرة السلطان صعد إليها السيد بورك وسار بارتل فراير ، وغيرهم كثيرون ، وصافحوا جلالة السلطان ، وترحّبوا (٢) بقدومه ، وبلغوه تحيات جلالة الملكة. فقابلهم السيد بسرور وبشاشة ، وشكر لهم ما أبدوه نحوه من الإكرام والإعزاز. ثم نهض السيد بورك المومأ إليه وقال لجلالة السلطان باللغة الإنكليزية ما تعريبه : " قد أمرني اللورد داربي وزير الخارجية أن أبلغ سعادتك باسم جلالة الملكة التهنئة بوصولك إلى بلادها سالما غانما. وتؤمّل بأن تسرّ سعادتك بزيارة المملكة البريطانية. فإنها ترغب في أن سعادتك تشاهد كل ما في ملكها من النفيس والمليح والمفيد. ولهذا قد أصدرت أمرها إلى رجال دولتها أن يعيّنوا رجالا من (٣) ملكها يحسنون التكلم باللغة العربية ليكونوا في خدمة سعادتك مدة إقامتها (٤) في هذه البلاد. وهؤلاء الرجال الأمناء هم الدكتور كيرك والقس جرجس باجر الفقيه والسيد كليمنت هيل. فكل ما اشتهته نفس سعادتك مر حضرة الدكتور كيرك (٥) وكيل جلالة الملكة فيكون أمرك مطاعا على الرأس والعين".

فلمّا ترجم الدكتور باجر هذا الكلام بالعربية لسعادة السلطان شكر السيد بورك على مكارمه الأثيلة ، وقال : " بارك الله في جلالة الملكة ، وأدام عزّها بالمجد والإقبال".

وفيما كان السيد برغش ينطق بهذه العبارة ثارت عاصفة شديدة فوق المدينة ، وهطل مطر غزير كادت تطفح الازقة من فيض مياهه. ثم خرج السلطان من السّفينة إلى البر. وكان السيد بورك وحضرة الفقيه باجر والسيد داوز عن شماله. وكان حشمه يتبعونه حسب مقامهم

__________________

(١) يتكون البرلمان البريطاني من مجلسين : مجلس النواب (انتخاب) ومجلس اللوردات (تعيين).

(٢) أ : ترحبوا

(٣) ب : خيرة

(٤) ب : إقامتك

(٥) ب : كيرث

٥٧

حتى إذا وصلوا إلى رأس الدّرج الموصل إلى جسر ويستمنستر ضجّ الشعب المزدحم فوق الجسر بأصوات السرور والفرح ، وكشفوا قلانسهم عن رؤوسهم حسب عوائدهم ، وسلّموا على السلطان ورحّبوا بقدومه.

وكانت الموسيقة (١) تعزف بألحان الأمّة البريطانية (٢) ، والجنود مصطفّة في سلامه. فسار بحشمه حتى إذا وصلوا إلى صحن دار الولاية كانت هناك عربيات (٣) تجرّها الخيول مهيأة لركوب السلطان وحشمه.

فركبوا ، وساروا إلى المنزل الذي أعدته الدّولة لسعادة السلطان.

وكان هذا منزلا عظيما رحبا جدّا مشيدا على قارعة طريق رحب وبإزائه أكبر بستان بلندن يعرف بهيد بارك (٤) ، واسم المنزل ألكزاندرا هوتل (٥). وهو من أشهر منازل لندن وأعظمها فخرة (٦) وزينة واتّساعا. وموقعه في حصّة (٧) المدينة التي يسكنها أعيان الأمة والأمراء والشرفاء.

فلما (٨) وصل السلطان إلى هذا المنزل خرج الخدم صفوفا إلى لقائه ، وهم يمتثلون أمره ، ويقومون بخدمته حتى دخل إلى القاعة الكبرى ، واستراح من تعب السّفر في اليوم الحادي عشر من يونيو سنة ١٨٧٥ (٦ جمادى الأولى ١٢٩٢).

وفي اليوم الثاني زاره اللورد داربي وسلّم عليه ولبث يتفاوض مع السلطان زمانا طويلا في أمور السياسة.

__________________

(١) ب : الموسيقى

(٢) يقصد النشيد الوطني الرسمي

(٣) ب ـ عربات

(٤) اشتهرت بزاوية" ركن الخطباء"Speakers corner ". فصل : ١٨٤ / ٦ : Hyde park : N.E.B

(٥) Alexandra Hotel

(٦) ب : جمالا

(٧) ب : قلب

(٨) ب : ولما

٥٨

الباب الثامن

فيما نشرته جرائد لندن عن سعادة السيد برغش

قالت جريدة التيمس (١) : " من جملة سلاطين المشرق وأمرائهم الذين شرّفوا بلادنا بحضورهم هو السيد برغش بن سعيد سلطان زنجبار. فهو رجل ذو هيبة ووقار تلوح على هيئته سمات البشاشة واللطف. وقد سرّت الأمة بمشاهدة هذا الحاكم الأفريقاني (٢) الذي هو من أعزّ ضيوفها وأجلّهم مقاما. وهو أول أمير عربي خاض البحار ، وأتى يريد زيارة جزيرتنا هذه. فهو مستحق إكرامنا لأجل صفاته الحميدة ومآثره الجليلة ، ولأجل غايات سياسية لا بدّ لأمة الإنكليز من مراعاتها. فهذا الأمير الأفريقي متصف بمزايا وخلال حميدة ، ومتسلسل من (٣) نسل عربي شريف قديم النسب والحسب. وقد قصد بلادنا يريد الارتباط بودنا. فمن الواجب علينا أن نمدّ إليه يمين الوداد ، فإنه إمام همام قد قام حقّ القيام بكل ما وعد به من إبطال تجارة الرقيق ، وتحمّل خسائر باهظة ، وعانى مشقات شديدة ، وعرّض نفسه وملكه لأخطار عظيمة من جرّاء إبطال هذه التجارة الذميمة كما شهد له بذلك سربارتل فراير.

فلو كان مقام أمير من الأمراء موقوفا على سعة أملاكه وامتداد سلطته إلى مسافة بعيدة من الأميال الجغرافية كان مقام السيد برغش مقام السلطان العثماني أو مقام شاه إيران أو خديو مصر. فإنّ ملك السلطان برغش يمتد إلى عرض ١٢ درجة من العرض الجغرافي وذلك عبارة عن ٦٦٠ ميلا. وأما بالطول الجغرافي فلا يعرف حدّ لسلطته. ومنذ ٤٠ سنة قد انفتحت أبواب

__________________

(١) من أشهر صحف لندن إلى جانب الدايلي تلغراف والجاردن ، أنشأها جون والتر سنة ١٧٨٥. فصل :

٧٨٠ / ١١ : Time (the) : N.E.B

(٢) ب : الإفريقي. والأفريقاني نطق حرفي لكلمةAfricain

(٣) أ : وهو من

٥٩

تجارة واسعة في أملاكه الأفريقية الشرقية ، وفاض الثراء في أراضيه ، وعن قريب سيضحى ملكه من أعظم ممالك الشرق لأنه الطريق الوحيد لمرور القوافل للتجارة مع أواسط قارة أفريقية العظيمة.

أما باعتبار صفاته الطبيعية الخارجة فهو رجل مهيب قد بلغ سن الأربعين ، تلوح عليه سمات الرقة والكرم العربيين ، وهو ذو عقل حاذق يحبّ مراعاة كل ما يشاهد ويدقّق في حقائقه بعين البحث والإدراك. وله اطلاع واف في العلوم العربية ، وقد ارتقى إلى درجات التمدّن ، وخلع عنه رداء التعصب ، وطرق سبل العدالة والإنصاف. وقد أضحت الأمة البريطانيّة مدينة (١) له بإعطائه إيّاها ما اقترحته عليه. فوجب عليها أن تقوم بإكرامه حقّ القيام ، وتمدّ إليه يد الوداد والمساعدة ليكمّل (٢) ما باشر به من الإصلاح والتمدّن في بلاده.

وقد نشرت جريدة الديلي تلغراف (٣) وغيرها مقالات طويلة في مدح السيد برغش ووصف أملاكه وعظم أهميتها وسعيه على قدم النجاح. وقد استوفى المؤلفون البارعون الكلام عن هذه المملكة السعيدة منهم القبطان برطن (٤) في كتابه عن زنجبار ، وحضرة الدكتور باجر في تاريخه عن سليل بن رزيق ، والسيد بالكراف في كتابه عن البلاد العربيّة الشرقية ، وسار بارتل فراير في مخابراته مع الدولة البريطانية المجموعة إلى كتاب الدولة المسمى" بالأزرق" ، وغيرهم من العلماء الذين ساحوا في البلاد الأفريقية والعربية. وقد لخّصنا عن تواليفهم المطوّلة ما يأتي :

__________________

(١) أ : مديونة

(٢) أ : لتكميل

(٣) هذه إحدى أشهر ثلاثة صحف لندنية مع التايمز والجارديان ، تم اصدارها سنة ١٨٥٥. تعتبر من الصحف الراقية في مقالاتها.

فصل : ٨٥٠ / ٣ : Daily Telegraph : N.E.B

(٤) هو السير ريشار (فرنسيس) (١٨٢١ ـ ١٨٩٠) مستكشف ومستشرق اكتشف بحيرة طنجنيقة وغيرها ، نشر ٤٣ جزءا تتحدث عن استكشافاته و ٣٠ جزءا ترجمت منها ألف ليلة وليلة وغيرها. فصل :

٦٦٧ / ٢ : Burton ,Sir : N.E.B

٦٠