تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجار

زاهر بن سعيد

تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجار

المؤلف:

زاهر بن سعيد


المحقق: أحمد الشتيوي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: وزارة التراث والثقافة سلطنة عمان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٩٦

الباب الثاني عشر

في زيارة السلطان للبرنس أف ولس وليّ العهد (١)

قصد السيد برغش زيارة وليّ عهد الدولة البريطانية في ١٥ جون (يونيو) في موكب حافل. فاستقبله ولي العهد بلطف وبشاشة لا مزيد عليهما. فسرّ السّلطان غاية السّرور. وقال إلى بعض من محبيه الثقاة : " لما التقيت بولي العهد في مدخل الدار رأيت لوايح السرور والبشاشة تلوح على وجهه الأغرّ فعلمت أنه يقابلني ليس مقابلة رسمية بوجه عبوس كعادة رجال السياسة ، بل مقابلة ودادية (٢) وقلبية".

ولما أحضر البرنس وليّ العهد حضرة الأميرة قرينته المصونة وحضرة أخته الكريمة الأميرة أليس وزوجها الشّريف ليسلّموا عليّ غدق (٣) السرور على قلبي بمشاهدتهم ، وبما رأيته منهم من اللطف والبشاشة. وازددت فرحا وسرورا لمّا سألني ولي العهد إن كنت أحب أن أرى أنجاله المحروسين ، فقلت : حبّذا هذا ، فإنه تمام المرغوب!

فظننت أن وليّ العهد يريد أن يحضر إليّ واحدا من أنجاله. ولكن أخذ الفرح مني كل مأخذ لمّا رأيت جميع أنجال الأمير واقفين أمامي كحور الجنان في حشمة وكمال لا مزيد عليهما. ولا أقدر أعبّر عن شعائر فؤادي لما رأيت هؤلاء الأمراء الحديثي السنّ يقبّلون والدهم واحدا بعد واحد بحنوّ غريب ، ويعانقونه معانقة حلوة.

__________________

(١) هو إدوارد السابع (ح. ١٩٠١ ـ ١٩١٠) وقد ولد سنة ١٨٤١ ، وعند ما زاره السلطان برغش كان أميرا لوايلز (ولس).

فصل : ٣٧٨ / ٤ : Edward VII : N.E.B

(٢) ب : ودية

(٣) ب : بقلبي

٨١

وكان وليّ العهد يمد ذراعيه الأبوية إلى أصغرهم ويرفعه عن الأرض ويقرّبه إلى فمه ليطبع على شفتيه العذبتين قبلة الحب الأبوي. فتحركت حينئذ شعائر الحنو في صميم فؤادي وكادت الدموع تطفح من عيني حنوّا. فقلت في قلبي : " اللهمّ بارك هذه العائلة السعيدة ، واحفظ بيمينك العزيزة هؤلاء الأنجال المحروسين".

وتضاعف سروري لما جلس هؤلاء الحور إلى جانبي واحدا بعد الآخر بلطف وأنس وثقة تعهد في الأطفال الأبرياء. ولم يستغربوا منظر رجل أعرابي مكتس بملابس عربية لم يشاهدوها عمرهم بطوله قبل ذلك الوقت ، وكانت الحشمة والكمال قد ضاعفت محاسنهم ، وزيّنت أشخاصهم.

وبعد أن تمليّت من مشاهدتهم سألني ولي العهد ما الذي سرّني بلندن أكثر. قلت في جوابي له : قد سررت غاية السرور بكل ما رأيته في مملكة جلالة الملكة. ولكن منظر أنجالك الأمراء المحروسين قد زادني سرورا لم أشعر به قبلا (١) عمري بطوله. فتبسم وليّ العهد تبسما حلوا وقال : " هذا من فرط لطفك وحبك أيها السيد الكريم". وقلت : " كلا أيها الأمير ، وإنما قولي هذا قول جدّ. وقد انطبعت في مرآة عقلي صورة ما رأيته من منزلك العامر من السعادة ولطف أنجالك المحروسين ، ولا تزول هذه الصورة المحبوبة من عقلي".

ثم قال : " ولمّا رأيت بعضا من أنجالك مرتدين بملابس على زيّ ملابس البحرية خطر ببالي أنّ مجد الدولة البريطانية وعزّها وفخرها قائم في حبّها قوّة الجنديّة البحريّة حتى جعلت أنجال ملوكها يتوشّحون بملابس البحرييّن. والآن أنا ألتمس من الحقّ ـ سبحانه وتعالى ـ أن يؤيّد هذه الدّولة ، ويطيل عمر جلالة الملكة والدتك الفخيمة ، ويحفظك عزّا لأنجالك هؤلاء المحبوبين ، ويضاعف فرحك بهم ، ويجعلهم فخرا لك وللدولة البريطانية".

__________________

(١) ب : إبان

٨٢

وبعد أن لبث سعادة السيد يخاطب ولي العهد زمانا نهض واسترخص (١) منه بالانصراف فتوادعا ، وتصافحا.

ثم خرج السيد برغش بحشمه وركبوا مركبتهم ورجعوا إلى منزلهم في كنف الرحمن.

__________________

(١) أ : سعادة السيد تخاطب ... نهضت واسترخصت

٨٣
٨٤

الباب الثالث عشر

في زيارة سعادة السلطان لبستان الحيوانات

بستان الحيوانات بلندن حديقة كبيرة (١) قد جمعوا فيها من كل أقطار الدنيا جميع أجناس الحيوانات البريّة والبحريّة والطيور والهوام والحشرات والدبائب والحيات العظيمة. وليس في باريس ، ولا في العالم كله بستان يحتوي على كل أجناس الحيوانات (٢) مثل هذا البستان.

وليس هذا البستان من مشروعات الدولة البريطانية ، بل تشكلت شركة بلندن سنة ١٨٢٦ بمبلغ وافر من رأسمال ، وباشر أعضاؤها بصرف المال بسخاء جزيل ، واستأجروا رجالا ، وجعلوا لهم رواتب وافرة ، وأرسلوهم إلى جميع أقطار الدنيا حتى يجلبوا منها كل نوع من الحيوان والطير والسمك الغير معهود في أوروبا.

وأنفقوا في بادئ الأمر نحو ٥٠٠٠٠٠ فرنك حتى جمعوا نحو ١٥٠٠ حيوان من أجناس وأنواع مختلفة من أعظم الأفيال والحيات والسباع والنمورة والدببة (٣) إلى أصغر الحشرات. وقد بنوا لكل حيوان مكانا على معزل عن غيره. وأقاموا لها خداما يعتنون في تقديم القوت لها وتنظيفها والمحافظة عليها.

ولمّا كان هذا البستان من الفرج (٤) المشهورة بلندن صمّمت الدولة البريطانية على أن تعرض على سعادة السلطان أن يصرف بضع ساعات في الفرجة على هذه الحيوانات الغريبة

__________________

(١) الشركة التي أنشأت هذه الحديقة كانت لها غاية علمية أساسا ، ولذلك أصدرت صحيفة خاصة بها منذ سنة ١٨٣٠.

فصل : ٣٧٨ / ٤ : ZOO : N.E.B

(٢) الدبائب ساقط في ب

(٣) أ : الدب

(٤) ب : المباهج

٨٥

الأجناس. فحضر رجال الدولة إليه نهار الخميس ١٧ جون (حزيران) أي يونيو ، والتمسوا منه أن يشرّف ذلك البستان بزيارته إيّاه ، فسرّ بطلبهم ، وركب في معيتهم ، وذهبوا إلى البستان.

فلمّا دخلوه أخذوا يفرّجونه على الحيوانات بأنواعها متنقلين من محلّ إلى آخر.

فإنّ أصحاب هذا البستان قد بنوا بيوتا من حجر وقرميد وخشب لكلّ نوع من أنواع الوحوش الضارية : كالسباع والنمورة والضباع والخيل والبغال والحمير والغزلان والأفيال وخنازير بحر النيل وسباع البحر والزرافة (١) والدببة والذئاب والأرانب والثعالب والقنافد والتماسيح ووحيد القرن والقندس (كلب الماء) والثعابين (٢) والحيات والأفاعي والنسور والصقور (٣) والحمام واليمام والطاووس وطيور الفردوس وكل أنواع طيور السماء وأسماك البحار.

وقد سرّ السلطان بمشاهدة هذه الحيوانات وحسن ترتيب مساكنها ونظافتها وحسن الاعتناء في القيام بمعاشها.

وبعد أن فرغ السيد الكريم من الفرجة على هذه الحيوانات شكر أصحاب البستان ، وأعرب لهم عن سروره بما رآه من حسن اعتنائهم.

ثم خرج في حشمه ورجال الدولة البريطانية يريد الذهاب إلى إدارة البوسطة (٤) البريطانية للفرجة على هذه الإدارة التي لا نظير لها في حسن الإتقان بأوروبّا كلها.

__________________

(١) أ ، ب : الظرافة

(٢) أ : السعادين

(٣) أ : الصقر

(٤) نطق حرفي للكلمة الفرنسيةPoste ، وهي تعني البريد ، ولمزيد التعرف إلى إدارة البوسطة البريطانية ينظر فصل :

٦٣٨ / ٩ : Postal system : N.E.B

٨٦

الباب الرابع عشر

في زيارة السلطان لإدارة البوسطة

قصد السيد برغش الفرجة على إدارة البوسطة في ١٨ جون بعد الظهر. وكان الدكتور كيرك قنصل الدّولة البريطانية في خدمته بمنزلة ترجمان.

وكان شعب غفير من الإنكليز علموا من إشاعات الجرائد بقدوم سعادة السلطان إلى إدارة البوسطة ، فاجتمعوا في الشوارع التي كان مارّا بها السلطان ليتشرفوا بمشاهدة سعادته. ولكن خابت آمال كثيرين منهم. فإن عاصفة شديدة قصفت (١) على لندن ، وهطلت أمطار غزيرة أجبرت المتفرجين على الفرار والالتجاء إلى منازلهم.

أمّا السلطان ورجال الدولة فكانوا في عربة مغطاة سترتهم من صبيب الأمطار حتى وصلوا إلى باب إدارة البوسطة.

ولا يخفى أن محل إدارة البوسطة بلندن هو من الأبنية العظيمة. باشر الإنكليز بناءه سنة ١٨١٤ وفرغوا من عماره سنة ١٨٢٩. وهو بناء عظيم يبلغ طوله ١٦٠ ذراعا وعرضه نحو ٤٠ ذراعا وعلوه نحو عشرين ذراعا ونيف. وفي واجهة البناء رواق مبنيّ على ستة عواميد.

وقد شادوا هذا البناء بطريقة غريبة تصونه من الحريق ، ووضعوا في خلال البناء أقنية عظيمة يجلبون بها مياها غزيرة بمعدات بخارية إلى داخل البناء إذا عرض له خطر الحريق. وفيه مخادع عديدة لاستقبال الرسائل وتوزيعها. فكان يدخل إلى هذه الإدارة نحو ٦٠٠٠٠ رسالة كل يوم سنة ١٨٣٦. ثم صار يدخلها ١٦٠٠٠٠ رسالة كل يوم سنة ١٨٤٢. ثم صار يدخلها ٣٧٥٠٠٠ رسالة كل يوم سنة ١٨٦١. وأمّا الآن فيدخلها كل يوم نحو ٥٠٠٠٠٠ رسالة ونيف.

__________________

(١) ب : هبت

٨٧

ويتضاعف عدد هذه الرسائل كل سنة نهار عيد سان فالنتين (١) في ١٤ شباط فبرواري (أي فبراير) وهو نهار يتراسل فيه المحبون برسائل عشقية (٢) وهزلية حتى يبلغ عدد هذه الرسائل ذلك النهار نحو ١٠٠٠٠٠٠ ، وجميعها تمرّ بهذه الإدارة ، وتوزّع إلى أربابها بلندن وفي الخارج في ذلك النهار بعينه ، ماعدا الجرائد التي لا يسعنا استيفاء عددها في هذا الباب.

فلما وصل السيد برغش وحشمه إلى باب إدارة البوسطة خرج إلى ملاقاته اللورد جون مانرس ومستر اسكودامور وأدخلوهم أولا إلى مخدع أوائل الرسائل التلغرافية. فوقف السلطان في صحن هذه الحجرة الكبيرة وهو ينظر بسرور عظيم إلى ١٠٠٠ شاب منصبّين على ارسال الرسائل التلغرافية إلى جميع بلاد الدّنيا بسرعة البرق.

وكان في رفقة سعادة السيد برغش زعيم الدّين حمد بن محمد. وقد تعجب كثيرا لما رأى واحدا من أولئك الشبان قد أرسل رسالة برقية إلى عدن واسترجع جوابها في برهة بضع دقائق يقول فيها مرسلها ما حرفيته : " الطقس في عدن صحو ، والريح خامدة".

ثم بعث شاب آخر من أولئك المستخدمين فى الإدارة برسالة إلى باريس في حضور سعادة السيد برغش ، فأتاه الجواب حالا يقول : " عاصفة شديدة قصفت (٣) على باريس والجوّ معتكر جدا".

ثم طلب اللورد جون مانرس إلى سعادة السلطان أن يخاطب بالتلغراف واحدا من رجال دولته بعدن ، فقال : " استفهموا من وكيلي قواسجي دينشو ليعلمني ما عنده من الأخبار

__________________

(١) هو عيد نشأ في القرن ١٤ م. يتراسل فيه المحبون (عيد الحب) إحياء لذكرى شخصيتين خرافيتين ماتتا شهيدي الحب في روما يوم ١٤ من فبراير في القرن الثالث الميلادي. فصل : ٢٤٢ / ١٢ : Valentine (Saint) : N.E.B

(٢) ب : جدية

(٣) ب : هبت

٨٨

الواردة من زنجبار أخيرا". فامتثل واحد من الشبان المستخدمين بالتلغراف لأمر سعادته ، وأرسل يستفهم من الوكيل بعدن.

فلم تمرّ دقائق قليلة إلا وأتاه الجواب من الوكيل المومأ إليه يقول فيه : " ما جدّ عندنا خبر مهمّ نرفعه إلى سعادتك إلا الخير. واليوم أرسلنا رسائل سعادتك إلى زنجبار صحبة الباخرة كوكوناده". فسرّ السيد غاية السّرور بذلك ، وأثنى على مدير التلغراف ، وشكر له مكارمه.

ثم طلب مستر إسكودامور إلى سعادة السلطان أن يشرّف محلّ الآلة الهوائية. فسار السلطان إلى مكان الآلة. وأخذ مستر اسكودامور يشرح لسعادته أحوال هذه الآلة ومنافعها. وهى آلة بخارية تضغط الهواء ضغطا شديدا ضمن قناة توضع فيها الرّسائل التلغرافية ، فيدفعها الهواء ضمن القناة ، ويوصلها إلى بقية إدارات البوسطة الكائنة في حصص لندن على مسافة اثني عشر ميلا ونيف.

ثم بعد أن تفرّج السيد برغش على كل ما كان من الغرائب والنفيس في إدارة البوسطة طلب إليه اللورد جون مانرس أن يحرر اسمه في سجلّ الإدارة ، وهو سجل يدوّن فيه اسمه (١) كل ملك وسلطان يدخل إدارة البوسطة البريطانيّة للفرجة ، ففتح السيد برغش السجلّ المذكور ليحرّر اسمه فيه ، فرأى في وجه الصحيفة اسم شاه العجم ، واسم امبراطور البرازيل (٢) وغيرهما. فتناول قلما وكتب في السجل ما حرفيته : " أنا السّيد برغش بن سعيد دخلت دار إدارة البوسطة للفرجة في ١٧ جون (حزيران) سنة ١٨٧٥".

__________________

(١) ب : اسم

(٢) المقصود : دوم بيدرو (١٨٢٥ ـ ١٨٩١) : ثاني وآخر إمبراطور حكم البرازيل (١٨٣١ ـ ١٨٨٩). فصل : Pedro II :

٢٣٦ / ٩ : N.E.B

٨٩

ولما فرغ السيد من كتابة ذلك بخطّه الشريف شكره على ذلك اللورد جون مانرس ، فقال له السلطان في جوابه : " قد سررت غاية السرور بوضع اسمي بخطّي في هذا السجلّ على سبيل التذكار".

ثم خرجوا من هناك إلى حجرة السّفرة ، وتناولوا فيها شيئا من الأطعمة الفاخرة.

ثم رجع السلطان وحشمه إلى منزلهم في سرور وحبور.

٩٠

الباب الخامس عشر

في زيارة السلطان لقصر البلور (١)

قصر البلور من المفترجات المشتهرة (٢) في بلاد الإنكليز. وموقعه في ضواحي لندن على مسافة عشرة أميال من قلب المدينة ، ويسافر كل يوم من لندن إلى قصر البلور ٢٥ رتلا من محطة لندن بريدج و ٢١ رتلا من محطة فيكتوريا ومجموع ذلك ٤٦ رتلا من أرتال سكك الحديد تحمل المتفرجين من لندن إلى قصر البلوّر يوميا. وفي أيام الأحد والأعياد يتضاعف عدد الأرتال فيبلغ نحو المائة رتل. وأجرة الدخول إلى القصر شلين واحد. وأجرة سكة الحديد ذهابا وإيابا شلين ونصف.

باشر الإنكليز تشييد هذا القصر سنة ١٨٥٢. ودام بناؤه نحو سنتين ، وهندسته طبق هندسة قصر المعرض الذي جرى بلندن سنة ١٨٥١. وسمّي بقصر البلور لكونه مشيّدا على قوائم ودعائم من حديد مغطاة من أسفل إلى فوق بألواح من البلور السميك وطوله نحو ١٠٥٩ مترا أي نحو ميل ، وفيه من الأعمدة ٣٥٠٠ عامود.

وقد جمع الإنكليز فيه كل ما عندهم من التحف التي تستأهل الفرجة ، وحوله بستان واسع وفيه من جميع أصناف الأشجار التي تنبت في أقاليم الدنيا المختلفة ، وفي قلب القصر مرسح (٣) لقيام الملاعب يسع نحو ٥٠٠٠ نفس.

ويشغل هذا القصر مع ما حوله من الحدائق نحو ٨٠ فدانا من الأرض. ولا يسعنا أن نستوفي وصف ما في هذا القصر من التحف والمفترجات (٤) الغريبة من جميع أصناف النبات

__________________

(١) المقصود المتحف البريطاني الذي تأسس سنة ١٧٥٣. فصل : ٥٣١ / ٢ : British Museum : N.E.B

(٢) ب : من المواقع الفريدة المشهورة

(٣) هذا المصطلح الأول الذي أطلق على مكان إقامة المسرحيات ثم جاءت كلمة مسرح

(٤) ب : والمتفرّجات : ساقطة

٩١

والحيوان والطيور والأسماك والزهور والتصاوير وغرائب الصنائع وتقليد تحف اليونان القدماء والرومانيين والمصريين والآشوريين والأفريقيين والحبشيين وأهالي الجزائر المتوحشة والإيطاليين والفرنساويين وغيرهم.

ففي اليوم الثاني عشر من شهر جون (حزيران) حسن بأعين الدولة البريطانية أن تستدعي سعادة السلطان إلى الفرجة على قصر البلور ، فأصدرت الأوامر اللازمة إلى المأمورين بأن يزينوا القصر بنفس الزينة التي أجروها يوم زار القصر السلطان عبد العزيز (١) وخديو مصر وشاه العجم. فنصبوا رايات جميع الأمم داخل القصر وخارجه.

وكان علم السلطان برغش يخفق في أعلى قبة القصر ، وعلى رأس الأرغن الكبير (٢) ، وكانت طغرة زنجبار منقوشة في وسط العلم وفي قلبها كتابة بالقلم العربي" يا فتاح".

وكان ذلك النهار نهارا صاحيا من نوادر أيام لندن ، والشمس ساطعة بعز أشعتها. فركب السلطان المركبة ورجال الدولة البريطانية في خدمته وحشمه الزنجباريون في معيته ، وساروا إلى القصر.

وكانت جرائد لندن قد سبقت ، وأذاعت زيارة السلطان لقصر البلور ، فدرى الناس بذلك ، وبادروا من كل فج عميق بأمل مشاهدة أمير عربي قد شرّف بلادهم ، فاجتمع إلى القصر نحو مائة ألف نفس ونيف من الرجال والنساء والصّبيان.

ولما وصل السيد برغش إلى القصر استقبله الشعب المتجمّع بغاية الترحيب (٣) والسرور ، وكشفوا قلانسهم عن رؤوسهم ، وحيّوه بأشرف سلام. وكانت الموسيقة العسكريّة تصدح

__________________

(١) هو عبد العزيز أوغلو محمود (١٨٣٠ ـ ١٨٧٦) سلطان عثماني (١٨٦١ ـ ١٨٧٦) واصل الإصلاح إلى سنة ١٨٧١ ثم تحول إلى الاستبداد ، كان معجبا بالتقدّم الأوروبي ، زار أوروبا مرارا. فصل : ٢١ / ١ : Abdelaziz : N.E.B

(٢) وعلى رأس الأرغن الكبير : ساقطة من ب

(٣) أ : الاسترحاب

٩٢

بالأنغام العذبة ، والجنود مصطفين صفوفا في سلام سعادته. فدخل السيد القصر باحتفال عظيم ، وأتى مرسح اللعب واستوى الملهى. وكان فيه من المغنين نحو ٣٠٠ صوت (١). فغنّوا أغاني مطربة عديدة بأشهر الأنغام الأوروبية. من جملتها غناء مشهور من أغاني الأوبرا الإيتليانية الذي مطلعه" موسى بمصر".

ولشدّة سرور سعادة السلطان بهذا الغناء ـ فضلا عمّا سواه ـ أمر بإعادة الغناء ثانية وهو حقيقة غناء مطرب في الغاية ، وقد سمعته مرارا عديدة ، وأنا أفضّله على جميع أغاني الأوبرا.

وبعد نهاية الغناء سار رجال الدولة بسعادة السلطان إلى الرّواق المعروف" برواق الملكة". وكانوا قد أعدّوا فيه سفرة فاخرة متفننة بالأطعمة اللذيذة ، فجلس السيد ومن معه على السفرة ، وتناولوا الطعام.

وفي أثناء ذلك قدّم مدير القصر إلى سعادته كتابا يحتوي على تصاوير القصر منقولة عن الأصل بتصوير الفوتوغراف على قطع كبير بأجمل صناعة.

ثم خرجوا إلى صحن القصر وكانت ينابيع المياه تطفح بألعاب مختلفة تفنّن بها مدير والقصر.

وفي نحو الساعة التاسعة من ذلك النهار صعد السيد إلى مكان عال كانوا قد أعدّوه له ، وزينوه بأفخر الزينات ليشاهد اللعب (٢) الناريّة التي كانوا استحضروا عليها.

وكان من جملة النقوش التي رسموها بالبارود طغرة سعادة السلطان" يا فتاح" بخط عربي جميل. فلما أشركوا النار بالبارود اشتعلت النقوش وظهرت كلمة" يا فتاح" في قلب

__________________

(١) أ ، ب : ٣٠٠٠ صوت. والصحيح ما أثبتنا

(٢) ب : الألعاب

٩٣

الرسم مشتعلة بنور مختلف الألوان والأرناج (١). فضجّ الشعب سرورا برؤية ذلك ، واستحسن السلطان غاية الاستحسان مهارة مستر بروك الذي رسم تلك النقوش بلعب نارية ، وأثنى عليه ثناء جزيلا.

وبعد أن صرف السيّد برغش نهاره بالسرور والطّرب رجع إلى قصره سالما غانما.

__________________

(١) الأرناج : ساقطة في ب

٩٤

الباب السادس عشر

في زيارة سعادة السلطان برايطن (١)

خرج السيد برغش في حشمه يريد الفرجة على مدينة برايطن وما فيها من الأحواض الحاوية جميع أنواع الأسماك. وبرايطن مدينة على ساحل البحر تبعد عن لندن نحو واحد وخمسين ميلا تقطعها سكة الحديد في برهة ساعة و ٢٥ دقيقة. وفي سيرها تمر بقبو تحت الأرض اسمه" اكليتن" طوله ٢٠٢٠ ذراعا. ثم يلحق به قبو آخر تحت الأرض اسمه" ياتجم" طوله ٤٣٢ ذراعا.

وهذه المدينة من منتزهات الإنكليز يقصدها الناس أيام الصّيف للتفسيح (٢) والاستحمام بمياه البحر. وفيها من السكان نحو ٨٠٠٠٠ نفس ويزداد عددهم أيام الصيف إلى نحو ١٠٠٠٠٠ نفس. وقد أضحت هذه المدينة ضاحية من ضواحي لندن. وقد بنوا منازل جميلة على ساحل البحر على مسافة ثلاثة أميال ، وشادوا سورا واطيا لردع أمواج البحر عنها.

وقد أقاموا في ساحة أستين تمثالا من نحاس للملك جورج الرابع بهذا الاسم. وبقربها عين ماء اسمها فيكتوريا. وقد بنوا جسرا من حديد يمتدّ من البرّ إلى قلب البحر فوق المياه على مسافة ٣٥٠ ذراعا ، ويبلغ عرضه نحو ٤ أذرع ، وهو راكز على أعمدة من حديد مغروسة في صخر تحت قاع البحر. وهو معدّ لمنتزهات الشعب.

وفي أيام الصّحو تعزف فوقه آلات الموسيقة لتنزيه الناس. وقد أشادوا على ساحل البحر دارا واسعة مسقوفة بزجاج سميك ، وجعلوا فيها أحواضا واسعة مغطاة بألواح من البلور ،

__________________

(١) مدينة تبعد عن لندن ٨٢ كلم جنوبا ، معروفة بصيدها البحري وبتربيتها للأسماك. فصل :

٥١٨ / ٢ : Brighton : N.E.B

(٢) ب : للراحة

٩٥

وملؤوها بماء البحر ، وجمعوا إليها جميع أنواع الأسماك الصغيرة والكبيرة والأصداف والسلاحف (١) والسرطان والكركدن البحري والتماسيح وسمك الحيات إلى غير ذلك من سكان البحور. فيتوارد الناس إلى هذه الدار ليتفرجوا على هذه الحيوانات الجميلة الألوان.

ولما وصل السيد برغش إلى محطة سكّة الحديد استقبله بعزّ وإكرام حاكم المدينة مستر بريدجن وسار كروي بروز ومستر استيفن ناظر شركة دار الأسماك واللورد ويليم لينوكس والشريف هومبراون ومستر مكميلان وسار ألبرت ساسون وأولاد أخويه مستر أرثور وروبين ساسون.

ثم ركب السّيد برغش في عربية مكشوفة ، وسار إلى دار الأسماك ، وكان الشعب يتقاطر أفواجا ، ويزاحم عربة سعادته من وراء ومن قدام ، ويرفعون قلانسهم عن رؤوسهم ، ويضجون بأصوات الفرح والتهليل ، ويرحبون بقدومه. ولما وصلوا إلى دار الأسماك ، رأوا أبوابها وأسطحتها مزينة برايات الدّول. وكان علم السّلطان الأحمر يخفق فوق جدران تلك الدّار من كل جهاتها. وكانت العساكر الملوكيّة مصطفّة في سلام السّلطان.

ولما دخل السيد إلى دار الأسماك للفرجة رافقه المعلّم هنري لي الطبايعي (٢). وصار يشرح له عن طبائع أنواع الأسماك المختلفة فردا فردا. وكان الفقيه جرجس باجر يترجم إلى السلطان كل ما كان يقوله المعلم هنري لي. وكان ناظر الأسماك أعطى أوامر للخدم (٣) أن يطعموا الأسماك قوتها اليومي عند مرور سعادة السلطان بأحواض السمك. فسرّ السيد برغش غاية السرور ، وانحظ كثيرا من سباع (٤) البحر وسمك كلب البحر الذي هجم على سرطان وعضه.

__________________

(١) ب : الزّلاحف

(٢) هذا المصطلح يعني عالم الطبيعة (Naturalist)

(٣) أ : للخدام

(٤) ب : بسماع

٩٦

وفيما كان سائرا من حوض إلى آخر سمع بعضا من خدمه يتكلمون بصوت جهير ، وهم يتفرجّون على الأسماك. فالتفت إليهم بوقار ورزانة ملوكية ، ووضع أصبعه على شفتيه مشيرا إليهم بذلك أن يلزموا الصمت. فلحظ ذلك على سعادته رجل من الإنكليز الواقفين ، واستحلى ذلك من سعادته ، وقال : " لله درّ هذا السلطان! فإنه قد جمع في شخصه المبجّل (١) جميع الأوصاف الملوكية الحميدة". وسرّ بذلك جميع الحاضرين.

وقد طبعنا صورة مدينة برايطن ومنظر الجسر الحديد الممتد فوق البحر.

وكانت دار الأسماك كلها مزينة بالزهور الجميلة.

وبعد فروغ سعادته من الفرجة على الأسماك استدعاه حاكم المدينة إلى مأدبة الطعام.

وبعد ذلك حضر المصوّر مستر لمباردي وصوّر سعادته بتصوير النور.

ثم بعد ذلك استدعاه سار ألبرت ساسون التاجر المشهور إلى داره الفسيحة ، وأولم له وليمة فاخرة.

ثم حضر حاكم المدينة ، وطلب إلى سعادته أن يحضر إلى قصر الفرجة لاستماع أنغام الموسيقة العذبة ، فأجاب السلطان طلب (٢) الحاكم ، وذهب في رفقته. وكانت تلك الموسيقة من أحسن الموسيقات التي تدقّ في المرسح الملوكي بلندن.

وفي ختام ذلك أهداه ناظر دار الأسماك كتابا يحتوي على تصاوير فوتوغراف فيها رسم دار الأسماك وما ضمّته (٣). وفي أثناء ذلك نهض سار كوردي بروز وألقى خطابا استرحب فيه بتشريف سعادة السلطان ذلك المحفل الجميل (٤). وفي خاتمة الخطاب أو عز [السلطان] إلى صديقه جرجس باجر الفقيه أن يترجم شعائر سعادته إلى ذلك الشعب الحافل ، ويشكر سار كوردي

__________________

(١) أ : المجمل

(٢) أ : طلبة

(٣) أ : وما ضمنها

(٤) ذلك المحفل الجميل : ساقط في ب

٩٧

بروز على ما أجاد به من الاسترحاب (١) والإكرام. فنهض القس جرجس باجر المومأ إليه وقال :

" أيها السادات الكرام ، ويا أيتها السيدات المصونات اللواتي زيّنّ هذا الحفل بجمالهن البديع ، قد كلفني سعادة السلطان أن أترجم لكم بالإنكليزي شعائر امتنانه من حسن مكارمكم وترحابكم بقدومه إلى هذا المحفل النضير : فإنه قد سرّ غاية السرور من رؤياكم ورؤيا هؤلاء الأولاد الذين هم عزّ بريطانيا ومجدها المستقبل. وقد سرّه أيضا منظر (٢) السيدات المخدرات اللواتي ترحبن (٣) بقدومه غاية الترحيب ، ولهذا وجب على سعادته أن يشكر لهن غاية الشكر على ذلك ويثني على جميع الحاضرين الذين خصوه بالعز والإكرام". ثم ختم الدكتور باجر خطابه بقوله : " قد احتشم (٤) السيد برغش عن إطالة الكلام فعليّ أن أتّبع (٥) مثال سعادته في الامتناع عن الإطناب في القول".

فنهض ساركوردي بروز ، وقال في جوابه على خطاب الدكتور باجر : " لا بأس إذا أمسك (٦) السلطان عن إطالة الكلام أما الدكتور باجر فلا يليق به أن يحتشم ويقصّر (٧) في الكلام فإنه من أوّل علماء الإنكليز المتضلعين في اللغة العربية". ثم تمادى بالكلام وأثنى على مآثر سعادة السلطان وشكر همّته السنية لمساعدته تجار الإنكليز على توسيع نطاق التجارة والحضارة في أفريقية الشرقيّة.

__________________

(١) ب : الترحيب

(٢) ب : ترحيب

(٣) المخدرات اللواتي ترحبن : ساقط في ب

(٤) ب : امتنع

(٥) أ ، ب : فعليه أن يتبع ، والصحيح ما اثبتنا

(٦) ب : مسك

(٧) ب : إن يقتصر في الكلام

٩٨

وبعد أن صرف السلطان نهاره بالسرور والابتهاج عاد في رجاله وخدمه إلى قصره بلندن سالما غانما.

٩٩
١٠٠