تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجار

زاهر بن سعيد

تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجار

المؤلف:

زاهر بن سعيد


المحقق: أحمد الشتيوي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: وزارة التراث والثقافة سلطنة عمان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٩٦

" ثم لا يخفى على ذوي الألباب أن نطاق التجارة قد اتسع غاية الاتساع منذ عني السيد ـ أعزه الله ـ بتحرير الرّقيق وإبطال تجارتهم من بلاده. والدليل على ذلك واضح : فان بلد لاغوس (١) لم يكن فيها تجارة أصلا لمّا كان النخّاسون يتردّدون إليها بالرقيق. ومن بعد إبطال تجارة الرقيق صار يدخل إليها ويخرج منها أموال بقيمة مليون ليرة كل سنة".

انتهى ملخصا.

فلمّا اطّلع السيد برغش على فحوى هذا الخطاب كتب في جوابه رقعة بالعربي ثم ترجمها جرجس باجر الفقيه إلى اللغة الإنكليزية ، وعرض على العمدة المذكورة أمر سعادته. ولمّا كان جواب سعادة السلطان غير حاضر لدينا في أصله العربي ، اقتصرنا على ترجمته من الإنكليزى إلى العربي ، وأثبتناه في هذا الباب وهذا ملخصه :

" أيها السادات العمدة الكرام قد سررنا غاية السرور بالعرض الذي قدمتموه لنا وبترحابكم بوصولنا إلى بلادكم السعيدة ، فنسأل الحق ـ سبحانه وتعالى ـ أن يسبغ عليكم وعلى جميع المحسنين إنعامه ويجزل ثوابكم".

" وأمّا نحن فلا يخفى علينا سعيكم الحسن وغيرتكم في إصلاح شأن الرّقيق الذين قد سعينا في تحريرهم ، ومازلنا نسعى جهدنا بعونه تعالى. أما تقديمكم الشكران لنا على مساعدتنا المرسلين في بلادنا فهو حسناتكم الجميلة ، فإنّ ما فعلناه ، إلى الآن ، وما سوف نفعله في المستقبل بعونه تعالى ، فهو لوجه الله الكريم ، وعسى يكون ذلك حسنة عند (٢) الله جل جلاله ، وعمّ نواله ، وهو حسبنا ، ونعم الوكيل.

حرّر في محروسة لندن في ٢٦ جون ١٨٧٥

__________________

(١) مقاطعة مساحتها ٣٥٣٥ كلم مربع حكمتها بريطانيا تحت اسم : مستعمرة لاقوس ، ثم ألحقت بنيجيريا. فصل : ١٠١ / ٧ : Lagos : N.E.B

(٢) أ : في عين الله

١٦١

(الإمضاء)

السيد" برغش بن سعيد"

وفي أثناء ذلك نهض شيشستر وقدّم إلى سعادة السلطان كتابا مموّهة حواشيه بمحلول الذهب يحتوي على خرائط رسم الأرض ، فتناولها السيد منه بشكر جميل ولطف أثيل. ثم قدّم له [رئيس](١) عمدة المرسلين كتابا نفيسا يحتوى على أخصّ لغات الزنوج الخاضعين لملك سعادته ، فحاز أيضا حسن القبول في أعين السيد ، أعزه الله وأبقاه.

وبعد ذلك نهض رجال العمدة وتصافحوا مع سعادته ، وانصرفوا.

__________________

(١) أضفنا هذه الكلمة حتى يستقيم المعنى ، لأن كلمة" عمدة" تعني الأشخاص المعتمدين ، أي لجنة.

١٦٢

الباب السادس والعشرون (١)

في فرجة السلطان على معبد" وستمنسترأباي" (٢)

بعد انصراف عمدة المرسلين خرج السيد وقت الظهر يريد الفرجة على معبد اسمه" وستمنسترأباي". فلما وصل إليه خرج إلى استقباله زعيم الدين ديان استانلي. وهو لابس ثوبه الرسمي في زي تلامذة مدرسة اكسفرد. وكان في رفقة سعادته أخصّاءه : السيد حمود بن حمد والسيد محمد بن حمد والسيد ناصر بن سعيد والشيخ محمد بن سليمان والدكتور كيرك ومستر كليمنت هيل. أما الفقيه جرجس باجر فلم يكن ـ هذه المرّة ـ في رفقة سعادته. وكان الدكتور كيرك يترجم للسلطان ما مسّت إليه الحاجة.

فساروا بسعادته في أروقة المعبد وصحنه ، وصاروا يتفرّجون على ما فيه من النقوش وحجارة القبور وتماثيل ملوك الإنكليز القدماء والرجال الأدباء والعلماء والأفاضل ، وشاهدوا فيما بين هذه التماثيل تمثال الفاضل فوكس وويلبرفرس (٣) وقبر داود ليفينكستون (٤) الذين ضحوا بحياتهم لإبطال تجارة الرّقيق في أفريقية. وفيما كان السيد يجول في صحن المعبد لاحت منه التفاتة إلى مجموع صور كانت معلقة على جدران المعبد فنظر إلى واحدة منها وتعرّف عليها فهي فوتوغراف جبل موسى (طور سينا).

__________________

(١) أ : الباب" الرابع والعشرون" ، وهو خطأ

(٢) كنيسة في ضاحية لندن الكبرى أسستها الملكة اليزابات الأولى سنة ١٥٦٠ ، ووراء تأسيسها أسطورة. فصل :

٦٠٧ / ١٢ : Westminster Abbey : N.E.B

(٣) وليام (١٧٥٩ ـ ١٨٣٣) رجل سياسة قضى حياته في العمل على استصدار قوانين تبطل تجارة الرقيق. وقد صدر فعلا قانون سنة ١٨٣٣ بعد وفاته بشهر. فصل : ٦٥٤ / ١٢ : Wilberforce ,William : N.E.B

(٤) استكلندي (١٨١٣ ـ ١٨٧٣) مستكشف ومنصرّ في البلاد الأفريقية. فصل :

١٧ ـ ٤١٥ : Livingstone ,David : N.E.B

١٦٣

ثم فى ختام الفرجة غنّى المغنّون مقامة الدولة البريطانية على دقات موسيقى الأرغن ، وخرج السيد من المعبد بعد أن لبث برهة من الزمان أمام تمثال شكسبير الشّاعر الإنكليزي (١). هذا ما كان من فرجة سعادة السلطان.

أما ما كان من أمر هذا المعبد ، وأصل تاريخ بنائه ، وما طرأ عليه من الحوادث والتقلبات فقصّته غريبة تستحقّ الذكر في هذا المقام. فنقول : " أنشئ هذا المعبد في القرن السابع للميلاد أي في صدر الاسلام. ثم ردم. ثم جدّد بناءه الملك ادورد الكنفسر الملقب" بالمعترف" (٢) في أواسط القرن الحادي عشر (٣) للميلاد. ثم عني بتوسيعه وزينته باقي الملوك الذين خلفوه. منهم : هنري الثالث (٤) بهذا الاسم ، وادورد الثاني (٥) بهذا الاسم ، وادورد الثالث (٦) بهذا الاسم ، وريشارد الثاني (٧) بهذا الاسم ، وريشارد الثالث (٨) بهذا الاسم ، وهنري السابع (٩) بهذا الاسم ، وهنري الثامن (١٠) بهذا الاسم.

وهندسة بناء المعبد غوتية ، على شكل صليب محرابه نحو الشرق وبابه نحو الغرب. وقد شادوا فوق باب المعبد برجين عاليين بهندسة غوتية غير صادقة ، وهى أقرب إلى هندسة يونانية.

__________________

(١) وليام (١٥٦٤ ـ ١٦١٦) شاعر انكليزي ، ومسرحي وممثل ، يعرف بشاعر الإنكليز القومي ، ويرى بعضهم أنه أعظم شعراء الزمان له آثار عديدة منها : هملت (١٦٠٠) عطيل (١٦٠٥) الملك لير (١٦٠٦). فصل : ٦٩٠ / ١٠ : Shakespeare ,William : N.E.B

(٢) عاش بين (١٠٠٣ ـ ١٠٦٦) وحكم إنكلترابين (١٠٤٢ ـ ١٠٦٦). فصل : ٣٧٤ / ٤ : Edward ,Saint Edward ,The Confessor : N.E.B

(٣) أ ، ب : الثاني عشر ، والصحيح ما أثبتنا.

(٤) عاش بين (١٢٠٧ ـ ١٢٧٢) ملك إنكلترا (١٢١٦ ـ ١٢٧٢). فصل : ٨٣٧ / ٥ : Henry III : N.E.B

(٥) عاش بين (١٢٨٤ ـ ١٣٢٧) ملك إنكلترا (١٣٠٧ ـ ١٣٢٧). فصل : ٣٧٥ / ٤ : Edward II : N.E.B

(٦) عاش بين (١٣١٢ ـ ١٣٧٧) ملك إنكلترا (١٣٢٧ ـ ١٣٧٧). فصل : ٣٧٦ / ٤ : Edward III : N.E.B

(٧) عاش بين (١٣٥٧ ـ ١٤٠٠) ملك إنكلترا (١٣٧٧ ـ ١٣٩٩). فصل : ٤٣ / ١٠ : Richard II : N.E.B

(٨) عاش بين (١٤٥٢ ـ ١٤٨٥) ملك إنكلترا (١٤٦١ ـ ١٤٨٣). فصل : ٤٤ / ١٠ : Richard III : N.E.B

(٩) عاش بين (١٤٥٧ ـ ١٥٠٩) ملك إنكلترا (١٤٨٧ ـ ١٥٠٩). فصل : ٨٣٩ / ٥ : Henry VII : N.E.B

(١٠) عاش بين (١٤٩١ ـ ١٥٤٧) ملك إنكلترا (١٥٠٩ ـ ١٥٤٧). فصل : ٨٤٠ / ٥ : Henry VIII : N.E.B

١٦٤

وهذا خلل جعل هندسة البرجين لا تطابق هندسة بناء المعبد بتمامه. وأجمل جهة من بناء هذ المعبد جهته الشمالية المسماة" باب سليمان" (عم) (١).

أما داخل هذا المعبد فلا اعتبار له عند العلماء والعقلاء وأرباب الفنون ، لأنه ذو تعاريج لم تتقن صناعة الهندسة في بنائها. فمنها ضيّقة ، ومنها واسعة على غير نظام ، ومنها واطية السقف. والحيطان مغطاة بتماثيل وحجارة منقوشة منها بالقلم اللاطيني. ومنها الإنكليزي. وجميعها بلا ترتيب ولا ذوق في فنّ الهندسة والزينة. وليس فيها نوافذ وطاقات كافية لملعب (٢) الهواء وتغييره ، وهذا يجعل مناخ المعبد سقيما رطبا ذا عفونة تسبّب صداعا في الرأس لمن يبقى في ذلك المعبد مدة قصيرة من الزّمان. ويبلغ طول هذا المعبد من الشرق إلى الغرب نحو ١٤٠ ذراعا وعرض رواقه من ٢٥ إلى ٦١ ذراعا وعلو سقفه عن الأرض ٣١ ذراعا.

__________________

(١) (عم) ساقط في ب

(٢) ب : لتجديد

١٦٥
١٦٦

الباب السابع والعشرون

في حضور سعادة السيد مأدبة لجنة فيشمنجر

لا يخفى على من له إلمام بأحوال (١) بلاد الإنكليز أنهم قوم يحافظون على عوائد جدودهم ، ويتمسكون بها غاية التمسك. فكان قدماء الإنكليز قد قسّموا أهل الحرف والصنائع على أصناف ، وكان لكل صنف لجنة ورئيس بمنزلة شيخ يتولى أمرها.

وكان السمّاكون صنفا من هذه الأصناف. وكان شيخ هذا الصنف مفوضا من الحكم أن ينزل كل يوم إلى سوق السمك ، ويتفقد أحوال السمك قبل أن يعرض على البيع. وكان من واجباته أن يختار أحسن السمك ويرخّص ببيعه. وما لا يستحسنه كان يأمر بحرقه وإتلافه. وكان أعضاء صنف السمّاكين يقيمون مأدبة شائقة كل سنة يحضرها جميع باعة السمك وأصحابهم. وكان رئيس اللجنة أو شيخها يعطى لكل من حضر المأدبة علبة مملوءة من الحلوى ليأخذها معه إلى امرأته دلالة على أنه قد صرف ليلته في تلك المأدبة ، وليس في شيء آخر يسوء امرأته.

أما الآن فرؤساء لجنة بيّاعي السمك قد جمعوا أموالا وافرة ، وصاروا من أغنياء بلاد الإنكليز وأكبر تجارها ، واتخذوا لهم أعوانا يرسلونهم إلى السوق ليتفقدوا أحوال السمك المعروض للبيع ، ويسبروا صالحه من فاسده. ومازال هؤلاء السماكون على عوائد جدودهم يتخذون مأدبة شائقة (٢) كل سنة ، يحضرها أكابر المملكة وشرفاؤها وأمراؤها ، وتارة أولاد الملوك وبناتهم أيضا.

ولما كان السيد برغش ـ أعزه الله ـ بلندن اتخذ هؤلاء السمّاكون المأدبة المألوفة. وكلّفوا إلى سعادة السلطان أن يشرّف تلك الوليمة بحضوره إليها. فأجاب السيد طلبتهم (٣). وفيما هم

__________________

(١) أ ، ب : في أحوال

(٢) ب : فاخرة

(٣) ب : دعوتهم

١٦٧

على السّفرة نهض شيخ الأصناف ، ورفع كأسه ، وكلّف المدعوين أن يشربوا كأس الهناء بسرّ سعادة السلطان ، فنهض الجميع ، وحبّذوا السيد ثانيا وثالثا ، وشربوا اقداح الصفاء ، وهم يدعون لسعادته بطول العمر والإقبال. وفي أثناء ذلك أو عز السيد إلى خليله جرجس باجر الفقيه أن يشكر لرئيس اللجنة وللحاضرين على مكارمهم. فنهض الفقيه المومأ إليه وخطب خطبة وجيزة قال فيها ما ملخصه :

" أيها السادات الأماجد قد أو عز إليّ السيد أن أشكر لكم عن لسان سعادته ، وأقول إن تذكار هذه الوليمة لن يبرح من باله عمره بطوله. وقد أحيط علما بأن لجنتكم هذه قديمة عهد ، قد ذكرها أكبر شعرائكم شكسبير الخنذيذ (١) ، وأنكم قد عانيتم كل العناء في توسيع نطاق التجارة البريطانية شرقا وغربا. ولكن يأسف السلطان كل الأسف على أنّ مساعيكم الحميدة لم تصل بعد إلى بلاده السعيدة. ولهذا يطلب إلى عمدة هذه اللجنة القابضين على زمام تجارة واسعة في الممالك البريطانية أن يصرفوا عنان العناية إلى إدخال أسباب التجارة إلى بلاده أيضا ، وهو لا يقصّر عن مدّ يد المساعدة لهم في كل ما تمسّ إليه الحاجة لتوسيع نطاق الحضارة في أفريقية".

فلما قال الفقيه المومأ إليه هذا حبّذه جميع السامعين.

ثم استتلى كلامه (٢) وقال : " لا يخفى على سعادة السيد أن تجّار الإنكليز أصحاب همة عالية. يقتحمون جميع المصاعب. ويخوضون البحار. ويطوفون القفار. ويحملون أسباب الحضارة والتجارة إلى أقاصي الأرض بأسرها. ولهذا له ثقة تامة بهمتكم ـ أيها السادات العمدة الكرام ـ أن تسعوا في نجاح تلك البلاد التي جعلها الحقّ ـ سبحانه وتعالى ـ تحت ولاية سعادته وتبذلوا الهمّة في إصلاح شأن أولئك الناس الخاضعين لصولجان حكمه".

ولما نطق الفقيه بهذا الكلام قاطعه الحاضرون وقالوا : " حبّذا! حبّذا! "

__________________

(١) الخنذيذ : ساقط في ب

(٢) ب : استطرد

١٦٨

ثم بعد ذلك ببرهة ، نهض سار بارتل فرير ، وخطب خطبة وجيزة في مدح سعادة السلطان ، وفيما أجراه من الإصلاح في مملكته وعتق (١) الرقيق والاعتناء (٢) بترقي أحوالهم وتهذيبهم ، وقال من جملة ما قال هذا السار الشريف :

" إذا قابلنا حالة زنجبار مع حالة بلاد الإنكليز رأينا أن سعادة السيد برغش ـ أيده الله ـ قد فاق الإنكليز في مساعيه الحسنة من جهة عتق الرقيق. فإن الدولة البريطانية صرفت سنين عديدة ودراهم وافرة قبل أن تمكنت من عتق الرقيق الذين كانوا في مستعمراتها ولم تنجح مساعيها وتفوز بوطرها إلا منذ بضع سنين فقط. والشيوخ الذين ما زالوا أحياء منذ ذلك العهد إلى يومنا هذا يشهدون لنا بما عانته الدولة البريطانية من التعب والمصاعب في تحرير الرقيق في البلاد التابعة لها. أما السيد برغش ـ أيده الله ـ فقد نجح في إلغاء تجارة الرقيق وعتقهم في بلاده في برهة قصيرة من الزمان ، وإن قاسى مشقات عظيمة. ومع هذا كله لم يكن تحت أمر سعادته أموال وافرة وذهب وضاح مثلما كان تحت أمر الدولة البريطانية. فلا جرم (٣) إذا كان لسعادة السيد برغش فضل عظيم في هذا الأمر أكثر من الدولة البريطانية القوية بالمال والرجال".

" وزد على هذا كله أن سعادة السيد ـ صانه المولى ـ عرف حقّ المعرفة بحذق عقله الراجح أن ما تطلبه منه الدولة البريطانية فيما يختص (٤) بإبطال تجارة الرقيق كان من أصعب الأمور وأشدها خطرا على ملكه. وكان جميع رجال دولته يرون في اقتراحات الدولة البريطانية خراب بلادهم. أما السيد ـ صانه الله ـ فصمم على الانقياد إلى اقتراحات الحكم الإنكليزى عليه ، وفضّل خسارة المال واحتمال المشقات على خسارة صداقة الدولة البريطانية التي كان هو وجدوده الكرام قد عنوا غاية العناية في اكتسابها. بعد كل هذه المصاعب والمشقات ، مازال

__________________

(١) ب : فأعتق

(٢) ب : وجاهد

(٣) ب : عجب

(٤) أ : نيط

١٦٩

هذا البطل الهمام والسيد القمقام (١) محافظا على عهوده ، ومكملا وعوده ، ومنصرفا إلى العناية باصلاح شؤون رعاياه ، وتوسيع نطاق الحضارة في بلاده. وإذا أردتم ـ أيها السادات الحاضرون في هذا المحفل ـ أن تتأكدوا صدق مقالي ، اسألوا الدكتور كيرك قنصل جنرال دولة بريطانيا الحاضر بيننا ، وهو يسرد على أسماعكم كلّ ما أجراه السيد برغش من الإصلاح في ملكه. فرفع الحاضرون أصواتهم جميعا ، وقالوا : " حبّذا! حبّذا! فليحي سعيدا سلطان زنجبار المعظم! ".

ثم استأنف (٢) سار بارتل فرير كلامه ، وقال : " إن السيد برغش لم يقتصر فقط على إجراء شروط المعاهدة التي عقدها مع الدولة البريطانية ، بل قد بذل وسعه تلبيا في إبطال تجارة الرقيق من أصل البرّ أيضا (٣). فمن كان متصفا بصفات السيد برغش الحميدة ، وأتى مدينة لندن أكبر مدن الدنيا ، لا بد من أن يرحّب بقدومه كل انكليزي يحبّ العمران ، ويعرف مقام هذا السلطان ، ويثني على مساعيه الخيرية ما تلألأ الفرقدان وتعاقب الملوان".

ثم أردف سار بارتل فرير في كلامه ، وقال : " أيها السادات الكرام ، انظروا إلى هذا الشيخ المهيب الجالس عن يمين سعادة السلطان ، وهو الشيخ حمد (٤) بن سليمان كبير وزراء السيد برغش وأعظم مشيريه واسألوه : ما ذا كان رأيه في بادئ الأمر لما اقترحت الدولة البريطانية على سعادة السلطان إبطال تجارة الرقيق ؛ فإن هذا الشيخ الجليل لما أحيط علما بهذه الاقتراحات استصعبها وحسبها علة خراب المملكة وسبب خسارة عظمى له ولجميع أغنياء بلاده لأنه صاحب أراض واسعه وعقارات وافرة ، وكان مستوليا على عدد غفير من الرقيق

__________________

(١) ب : الجليل

(٢) أ : استتلى

(٣) عوّض ب : من أصل البرّ أيضا ، بعبارة" في بلاده" وهذ أضر بالمعنى إذ المقصود أن السلطان لم يكتف بجزيرته وإنما تعداها إلى بر افريقيا

(٤) أ : محمد

١٧٠

يحرثون أراضيه ، ويزرعونها ، ويجمعون غلالها. فلما ورى (١) بأنّ الدولة البريطانية تريد إبطال الرقيق وتحريرهم. زعم أن ذلك سيترتب عليه خراب دياره لا سمح الله. ولكن لمّا رأى ما آلت إليه بلاد زنجبار من الصلاح والنجاح عقيب (٢) إبطال تجارة الرقيق قال : ما كنت أظن أن تضحى عاقبة هذا التغيير حميدة ومفيدة كل هذه الإفادة! "

" والآن (٣) ما بقي لنا سوى أن نطمع في همة وعناية تجار الإنكليز من أصحاب الثروة والغنى (٤) أن يقصدوا بلاد زنجبار بأموالهم الوافرة وينشئوا فيها بيوت تجارة واسعة : فإنها أحسن بلاد أفريقية موقعا ، وأغناها محاصيل ، وأخصبها تربة. وفيها مرافئ عديدة أمينة للسفن والمراكب ، ويقصدها أكبر تجار بلاد الهند وغيرها. ولها وال حكيم ذو همّة عالية ، ورأي سديد ، يسهر ليلا ونهارا على نجاح بلاده ، وخير رعاياه. ولا خير في حاكم لا يشابه سعادة السيد برغش في الحزم والعزم. فلله درّه من حاكم عادل ، ووال كامل! خلّد الله ملكه على دعائم المجد والإقبال ما تعاقبت الأيام ، وتوالت الأجيال! "

وفي ختام هذا الخطاب هتف جميع الحاضرين بصوت الحبور وقالوا : " حبّذا! حبّذا السيد برغش سلطان زنجبار! فليحي منصورا بالعز والفخر! آمين".

وفي أثناء ذلك ختمت الوليمة في سرور وحبور وخرج السلطان بحشمه يريد منزله بعد أن ودع عمدة لجنة السماكين وزعماءها. وفي الغد أرسلت (٥) العمدة إلى سعادة السلطان والى كل من كان معه في الوليمة صناديق مملوءة من الحلوى حسب عادة لجنة السماكين القديمة التي أسلفنا ذكرها.

__________________

(١) ب : علم

(٢) ب : عقب

(٣) والآن : ساقط في ب

(٤) أ ، ب : الغنا

(٥) ب : أرسل عمدة

١٧١
١٧٢

الباب الثامن والعشرون (١)

في حضور سعادة السلطان وليمة لورد داربي

أقام لورد داربى الذي كان وقتئذ وزير الخارجية مأدبة شائقة اكراما لسعادة السيد برغش. ثم طلب (٢) إلى سعادته أن يشرّف تلك الوليمة بحضوره. فأجاب السلطان ـ أعزه الله ـ طلب لورد داربي بلطفه المعهود. وشرّف المأدبة بحضوره ، ومعه ثلاثة من رجاله الأخصاء والفقيه جرجس باجر ومستر كليمنت هيل.

ولما بلغ دار الوليمة خرج إلى لقائه لورد داربي ، ورحب بقدومه. ثم أدخله الدار ، فنهضت زوجته لادي داربي ، وسلّمت على سعادة السلطان ، ورحّبت بتشريفه منزلها العامر. وبعد نهاية العشاء قدم كثيرون من الشرفاء وأصحاب المناصب إلى دار لورد داربي ليحظوا بمشاهدة سعادة السلطان ويستأنسوا بلطفه.

وكان من جملة من حضر تلك الليلة جلالة ملكة نذرلند (٣) وحشمها وموسوروس باشا سفير الدولة العثمانية وسفير دولة أوستريا (٤) وسفير دولة جرمانيا (٥) وسفير دولة هندوراس وزوجته السيدة غوتيارز والصبية بريدشارد وسفير دولة دانيمرك وزوجته والسيد دي بوللو وسفير مملكة البلجيك وزوجته البارونيسة دى سولفينس وسفير دولة الاسفنيول والسيد جافرد سفير دولة فرنسا وسفير جمهورية سان سلفادور وزوجته الدوقيسة أف سلدنها. ووكيل دولة ايطاليا وزوجته السيدة مرتينو وسفير دولة يابون والسيد فيس الفيكنت وزوجته الفيكنتيسة دي كاستللوالفو والبارونيسة دي هوجل والبارونيسة باولينا دى هوجل. ثم قدم أيضا إلى

__________________

(١) أ : الباب الخامس والعشرون (كرّر رقم الباب)

(٢) أ : كلف

(٣) ب : نذرلند (هولندة)

(٤) ب : أوستريا (النمسا)

(٥) ب : جرمانية (ألمانيا)

١٧٣

الوليمة دوق أف نونورذ مبرلند والدوقسية أف بيدفرد. ثم السيدة لادي روسل والدوقيسة زوجة دوق أف ويلنكتن والمركيز تافيستوك والمركيز أف لنسدون والسيدة لادي ايملى فيتزموريس وارل كمبردن وارل ستار والسيدتان دالريمبل وغيرهم كثيرون من أعيان الإنكليز وشرفائهم. ويبلغ عددهم نحو ٢٠٠ نفس ونيف وكان من جملتهم أيضا لورد بيكنسفيلد ومستر جلادستون والمركيز صالسبرى وغيرهم وكانت ليلة حافلة شائقة.

وفي ختام الوليمة انصرفت جلالة ملكة نذرلند. ثم خرج بعدها السيد برغش بحشمه وعاد إلى منزله سالما غانما. وخرج في أثره لورد داربي إلى المركبة وشيّعه بلطف ووداد لا مزيد عليها.

١٧٤

الباب التاسع والعشرون

في حضور سعادة السلطان للجمعية الجغرافية الملوكية

عقدت الجمعية الجغرافية الملوكية محفلا حافلا فى ٢٩ جون (حزيران) (٢٤ جمادى الأولى) اكراما لسعادة السيد برغش أعزه الله. وكان الماجيور جنرال سار هنري رولنسن يرأس هذا الاحتفال العظيم ، وحضره عدد غفير من الأعيان والعلماء والأدباء والسيدات المخدرات.

وفي الساعة التاسعة والنصف قدم السلطان وفي معيته الفقيه جرجس باجر والدكتور كيرك. وعند دخوله قاعة الاجتماع حبّذه (١) جميع الحاضرين في ذلك المحفل ، وحيّوه بأصوات الحبور والسرور ، واستقبله رئيس الجمعية ومعاونه بإكرام لائق بسعادته وأجلسوه في أرفع منزلة.

ثم حضر أيضا هذا المحفل سفراء سلطان مراكش السيد عبد الله فنيش والحاج عبد الرحمن قومندار (٢) طنجير (٣) والسيد عبد السلام العريشى من أركان حرب سلطان مراكش. ثم حضر ايضا سفير دولة يابون وفي معيته باقي رجال السفارة. ثم حضر لورد هوطن وسار رثفرد الكوك والأميرال كولينسن والجنرال ريكبي وسار جيورج بوين حاكم فيكتوريا والدكتور كاربنترن وغيرهم كثيرون لم نذكر (٤) أسماءهم جميعا خشية الاطالة والملل.

__________________

(١) ب : رحب به ...

(٢) ترجمة حرفيةCommander بمعنى محافظ المدينة

(٣) يعني طنجة

(٤) أ : اقتصرنا عن ذكر

١٧٥

وبعد أن جرت مفاوضات علمية في الاكتشافات الجغرافية في قطب الأرض الشمالي ، وفي أواسط أوستراليا (١) الغربية نهض الماجيور جنرال سار هنري رولنسن ، وخطب خطبة وجيزة ، قال فيها ما ترجمته ملخصا :

" أيها السادات الكرام يرحب بقدوم سعادة السيد برغش إلى هذه البلاد جميع (٢) سكان لندن العظمى ولكن يحق على أعضاء هذه الجمعية الجغرافية الملوكية أن ترحب بقدومه أفضل ترحاب حال كون سعادته عضوا من أعضاء هذه الجمعية ، وقد شرّفها هذه الليلة بحضوره السعيد وقد صرف عنان العناية (٣) بمساعدة جميع السياح الذين أرسلتهم هذه الجمعية للسياحة في أفريقية ، واكتشاف خبايا تلك القارة الواسعة".

فلما سمع هذا الكلام جميع الحاضرين رفعوا أصواتهم بسرور وقالوا : " حبّذا! حبّذا! فليحي سلطان زنجبار! "

ثم استتلى (٤) سار رولينسن خطابه ، وقال : " لو لا عناية السيد برغش ومساعدته لما تمكنت هذه الجمعية الجغرافية من ارسال مدد ونجدة ومؤونة إلى رجالها السائحين في داخل قارة أفريقية". فهتف الحاضرون ثاني مرة بأعلى أصواتهم ، وقالوا : " حبّذا! حبّذا! فليحي السيد برغش الكريم عمرا مديدا! "

ثم مضى الخطيب في كلامه ، وقال : " لا يخفى عليكم ـ أيها السادات ـ أن صلات الحبّ والوداد بين زنجبار وبريطانيا كانت من عهد أجداد السيد الكرام : ففي بدء القرن التاسع

__________________

(١) أ ، ب : أوستريا ـ والصحيح ما أثبتناه وقد دخل الإنكليز أستراليا سنة ١٧٨٧. فصل :

١٢٤٥ / ٣ : Australie G.E

(٢) ب : جمعية

(٣) أ : وقد أبدى غاية العناية.

(٤) ب : استأنف

١٧٦

عشر عقدت الدولة البريطانية عهدة ودادية (١) مع حكام تلك البلاد ، ومن ذلك العصر إلى الآن مازال أولادهم وأولاد أولادهم إلى عهد هذا السيد الشريف الحاضر بيننا يحافظون على صداقة الدولة البريطانية". فأعاد الحاضرون أصوات التحبيذ ثالثا ورابعا.

ثم استكمل الخطيب كلامه ، وقال : " إن السيد برغش ـ أعزه الله ـ لم يقتصر على تمهيد السبيل إلى مصالح الإنكليز السياسية في بلاده فقط ، بل قد عني غاية العناية (٢) في توسيع نطاق الحضارة والتجارة في مملكته السعيدة ، وراعي ذمام الإنكليز وقبل ، بتمام القبول ، اقتراحات الدولة البريطانية فيمانيط بإبطال تجارة الرقيق من بلاده. ولهذه البواعث كلها حقّ علينا ـ نحن معشر الإنكليز ـ أن نثني على همم هذا السلطان الجليل ، وأنه لفرض واجب على (٣) هذه الجمعية الجغرافية التي قد تشرفت بحضور سعادته أن تشكره على هذه المنة العظيمة".

" وما زاد هذه الجمعية امتنانا هو : لا جمعية سواها قد حصلت على شرف يوازي شرفها الحالي ، فإن سعادة السلطان برغش ـ أعزه الله ـ قد اقتصر على أن يكون عضوا من أعضاء الجمعية الجغرافية وحدها فقط. وقد حصر هذا الشرف كله في جمعيتنا الملوكية". فضجّ السامعون بأصوات الحبور وقالوا : " حبّذا! حبّذا! لله در هذا العضو الشريف! وسعدا لهذه الجمعية فقد حازت ملء العز والشرف! "

ثم طلب سار رولنسن إلى الجنرال ركبي الذي كان سفير الدولة البريطانية سابقا في زنجبار أن يتلو على أسماع الحاضرين ما شاهده في زنجبار من مساعي السيد برغش الحميدة وما في بلاده من الخيرات والخصب والفلاح. فنهض الجنرال ركبي ، وأخذ يشير إلى سعة مملكة زنجبار وحدودها كما كانت مرسومة في خريطة رسم الأرض المعلقة على جدار القاعة. وقال :

__________________

(١) معاهدة ودية

(٢) أ : العناء

(٣) أ : ولا سيما فرض

١٧٧

" إن لزنجبار أهمية عظمى في الحال والاستقبال لنجاح أفريقية كلها ، فإنّ هذا كله منوط بإرادة السيد برغش ، وقاه الله. ومن دون حسن إرادته لا يتيسر لأحد أن يبادر لاصلاح تلك القارة وتهذيب قومها. وزد على ذلك أن أراضي زنجبار لا مثيل لها في خصب التربة على سطح البسيطة بأسرها. وأول من عني في ادخال الاصلاح والتمدن في زنجبار كان والد (١) السيد برغش المغفور له. ولما كان الولد سر أبيه حذا السيد برغش حذو والده وأفرغ همته في إكمال ما كان قد باشره والده المغفور له".

" ومما لا قدرة لنا على إنكاره هو أنّ بلاد الإنكليز في احتياج عظيم إلى بعض محاصيل زنجبار ، فإنها أعظم بندر في الدنيا لتجارة العاج (سن الفيل) ، ولتجارة القرنفل ، والصمغ ، والسكر ، والقطن ، إلى غير ذلك. ولنا أن نقول قولا لا يخشى عليه من منكر أن غلال زنجبار وتجارتها لا حدّ لها ولا نهاية. والأنهر التي تسقي أراضيها قد عني بتعميقها ، وصارت تصلح لسير السفن. وقد صرف السلطان ـ أيده الله ـ همته إلى فتح الطرقات في داخل الجزيرة لتسهيل الأسفار ونقل الأموال. ولنا ثقة تامة في همم سعادته العلية ألا يألو جهدا في (٢) إتمام ما باشر من أجل خير المملكة ، ونفع العالم أجمعين". فهتف حينئذ جميع الحاضرين ، وقالوا : " أيد الله سعادته السيد سلطان زنجبار! وحفظه في عين الدنيا طويلا ليرى بعينيه نجاح بلاده ورسوخ ملكه على دعائم العزّ والإقبال! آمين".

ثم أوعز سعادة السلطان إلى حضرة باجر الفقيه أن يشكر لأولئك السادات لطفهم ومكارمهم. فنهض الفقيه المومأ إليه ، وقال : " قد أوعز إليّ السلطان أن أعرب لكم ـ أيها السادات الكرام ـ عمّا في نفسه من الشكر الجميل لأفضالكم. ولكن قلت له : إن من عادتنا ـ نحن معشر الإنكليز ـ إذا أراد خطيب أن يخطب في قوم ، وكان بينهم من السيدات الكريمات ، وجب عليه أن يوجّه خطابه أوّلا إلى السيدات قبل الرجال ، فما رأيك أيها السلطان في هذا

__________________

(١) أ : أبا

(٢) أ ، ب : من

١٧٨

الأمر؟ هل أستسنّ بسنّة أهل المشرق الذين يفضلون ذكر الرجال على النساء أم أحذو حذو الإنكليز في ذكر السيدات قبل الرجال؟ فقال لي السيد بحذقه وذكائه المعهودين : " أنحن في الشرق أم في بلاد الإنكليز؟ أما يجب علينا أن نستسنّ بسنّة القوم الذين نحن مقيمون في بلادهم؟ فوجّه خطابك إذا ـ أيها الفقيه ـ أولا إلى السيدات. ثم أردفهن بذكر الرجال ، فنكون مثل باقي الناس ولا بأس". فلمّا سمعت ذلك السيدات الحاضرات في المحفل رفعن أصواتهن بسرور ، وقلن : " حبّذا! حبّذا سيّد اللطفاء وسلطان الظرفاء! "

ثم طفق الفقيه المومأ إليه يخطب ، واستهل خطابه بذكر السيدات ، وقال : " أيتها السيدات الكريمات ، وأيها السادات الكرام : قد أثّر مديحكم ـ غاية التأثير ـ في نفس سعادته ولم ينس عمره بطوله ما إسديتموه إليه من الثناء والترحاب بالتحبيذ والتبجيل وقال : لو كانت كل جوارحه لسانا لما قام حقّ (١) القيام بتقديم الشكران على أفضالكم الأثيلة ، ولو لا ضيق الوقت لكان أوعز إليّ أن أطيل الخطاب في الردّ على ما أبديتموه نحو سعادته من التعظيم والتفخيم". قال هذا وطأطأ برأسه إكراما للحاضرين ثم جلس.

ثم نهض رجل من أعضاء الجمعية الجغرافية ، وقال : " قد بلغ مسامع أعضاء هذه الجمعية أن أهالي زنجبار يقتلون الأفيال عند قنصها ليخرجوا أسنانها وباقي عظامها ويتاجروا بها. وكان حقهم أن يستحيوا (٢) الأفيال عند قنصها ويستخدموها في مهمات العيشة بعد قلع أسنانها".

فترجم الفقيه باجر كلام ذلك الخطيب لسعادة السلطان. فقال السيد في جوابه بحذق وذكاء : " قل أيها الفقيه لحضرة الخطيب : أن الله سبحانه وتعالى لا يسأل مخلوقا عن شيء لا يعرفه ، ولا يطالبه يوم الدين بأمر لم يدر طريقة عمله بصواب. ونحن معشر الافريقانيين لا نعرف طريقة قنص الأفيال دون قتلها ، فليأت هذا الخطيب البارع إلى أفريقية ويعلمنا طريقة

__________________

(١) ب : لقصّر في حق

(٢) ب : يستأنسوا

١٧٩

قنص الفيل وقلع أسنانه وإخراج عظمه للتجارة ولعمل الأواني العاجية من دون قتله. وإن اعترض علينا ، وقال : " إن الإبقاء على (١) الأفيال خير من التجارة بأسنانها وعظامها" ، قلنا له : " حرّم أوّلا على أمتك اتخاذ العاج قلما (٢) للتجارة ، فتكسد سوقه ، ويكف الإفريقانيون عن قنص الأفيال وقتلها". فلما ترجم الفقيه باجر كلام سعادة السلطان وأملاه على رؤوس الحاضرين أفرطوا من الضحك والسرور ، وهتفوا بأعلى أصواتهم ، وقالوا : " نعم الجواب ما أجاد به السيد برغش الهمام! فإن وجد الناس طريقة سهلة جديدة لقنص الأفيال ، واستخراج عظامها دون قتلها ، تمكنوا من استخدام الأفيال بمنزلة عجلات ومركبات لنقل الأموال عليها. ولكن هيهات! فإن إخراج عظم حيوان ، والإبقاء على حياته ضرب من المحال". فقهقه الحاضرون ضحكا من ذلك.

ولما فرغوا من الضحك استأنف سار رولنسن كلامه ، وقال : " أيتها السيدات المصونات ، ويا أيها السادات الكرام ، قد حقّ علي أن أطلب اليكم أن ترفعوا أصواتكم ، وتدعوا لسعادة السلطان بطول البقاء والإقبال ، وتشكروا لسعادته تشريفه هذا المحفل الشائق بحضوره الجليل. وبما أنه عازم على الإياب إلى أوطانه السعيدة عن قريب بالسلامة يجب على كل من حضر هذا المحفل ، وعلى كل من افتخر بكونه إنكليزيا أن يشيع سعادته بسلام ، ويصحبه بقلبه وعواطفه وحبه إلى زنجبار ، ويتمنى له ولملكه تمام النجاح والإقبال. آمين".

وفي أثناء ذلك نهض السيد برغش في حشمه وصافح زعيم المحفل سار رولنسن وباقي رجال عمدة الجمعية. وانصرف إلى منزله سالما غانما وذكر ذلك المحفل العلمي مطبوع في صحائف فؤاده اللبيب.

__________________

(١) ب : استحياء

(٢) ب : سبيلا

١٨٠