تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجار

زاهر بن سعيد

تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجار

المؤلف:

زاهر بن سعيد


المحقق: أحمد الشتيوي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: وزارة التراث والثقافة سلطنة عمان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٩٦

ولّما كنت ممّن تشرّف بصحبة جلالة السلطان في هذه الرحلة الزهية ، ورأيت بمرأى العين ما حصل لجلالته من العز والجاه في تلك البلاد السعيدة ، وسرّحت نظري بما فيها من المفترجات والتحف النفيسة التي تتوق إليها العقول ، وترتاح إلى استماع أخبارها النفوس ، عوّلت على جمع ذلك في كتاب برأسه سمّيته :

" تنزيه الأبصار والأفكار ، في رحلة سلطان زنجبار"

فالمأمول ممّن يقف على هذا المؤلّف الصغير المنظر ، الكبير المخبر ، أن يغتفر كثير صوابي في قليل خطئي (١). فإن الله يأبى العصمة لكتاب غير كتابه. هذا ، وإني قد عملت الفكرة في وضعه على طريقة سهلة المناولة ، يتيسّر لكل من يسرّح نظره في رياضه أن ينزّه أفكاره بأخباره ، وقد جاء مصداقا لقول الشاعر : (الكامل)

إن رمت في الدنيا نزاهة سايح

فانظر إلى هذا المصنّف دارسا

من ليس يطمع أن يراها ماشيا

فأنا الضّمين بأن يراها جالسا

فعليّ السّعي به ، وعلى الله النّجاح.

__________________

(١) أ ـ ب : خطائي

٢١

٢٢

٢٣
٢٤

الباب الأول

في التأهب إلى السفر

لما عزم (١) جلالة السلطان على السفر بالسلامة تهيّأت له باخرة إنكليزية اسمها" كوكوناده" واسم قبطانها" أندرسن". فاختار السلطان ـ أعزه الله ـ بضعة أنفار من حشمه يرافقونه في رحلته. وهم السّادات :

حمود بن أحمد

وحمد بن سليمان (٢)

ومحمد بن أحمد

وناصر بن سعيد

والفاصل في الدعاوى الشرعية الشيخ محمد بن سليمان

وتارياتوين كبير تجار أهل الهند المقيمين في جزيرة زنجبار

والقبطان (٣) محمد بن خميس

والكاتب زاهر بن سعيد

وعبيد بن عوض قابض المالية

وغيرهم من الخدمة مجموعهم تسعة عشر رجلا.

__________________

(١) أ : عزمت.

(٢) هو حمد بن سليمان البو سعيدي ، هكذا عرفه المغيري ، واكتفى بذكر أنه من" رجال مشورته". انظر : جهينة ص ٣٣٣ ، ٣٦١

(٣) القبطان (جمعها قباطين) كلمة لاتينية ، وتعني (منذ سنة ١٧٢٣) الربان المكلف بقيادة سفينة عسكرية. والقبطان درجة عسكرية. وهي عند الإنكليز أعلى درجة في سلّم ضباط العسكرية والبحرية. انظر :

Capitain : N. E. B : ٢ / ٧٣٨, P. R : ٩٤٢

٢٥
٢٦

الباب الثاني

في السفر من زنجبار

كان سفر جلالة السلطان من زنجبار نهار السبت في اليوم الأول من ربيع الآخر سنة ١٢٩٢ (٨ مايو ١٨٧٥). وعند ركوبه الباخرة شيّعه كبار مملكته وأرباب دولته وقناصل الدّول بأجمعها. وأطلقت له المدافع من حصون العاصمة ومن بارجة الإنكليز التي كانت في المرفأ.

وفي الساعة الرابعة وعشر دقائق أقلعت السفينة وسافر السلطان ـ أعزه الله ـ على بركات الله ـ تعالى ـ مصحوبا بقنصل (١) جنرال (٢) دولة بريطانية مستر جون كيرك (٣) الذي أمرته جلالة الملكة أن يرافق السلطان ذهابا وإيابا. فساروا ، وطابت لهم الرّيح ، وصفا الجو ، وراق البحر. وما زالوا يقلعون في راحة وسرور حتى أقبلوا على سراج فوق منارة على رأس مدخل بندر (٤) عدن (٥).

__________________

(١) قناصل (مفرده قنصل) : كلمة لاتينية ، لها عدة معان ، والمقصود هنا (منذ سنة ١٦٩٠) الموظف المكلف من حكومة بلاده بحماية مصالحها القومية والمسؤول عن القيام بالأعمال الإدارية في بلد أجنبي. ٣٧٦ : Consul : P.R.

(٢) قنصل جنرال Consul general : قنصل عام : وهو موظف أعلى درجة من القنصل وأقل درجة من السفير.

(٣) السّير (١٨١٢ ـ ١٩٢٢) : فيزيائي اسكتلندي ، عالم طبيعة وإداري بريطاني في زنجبار. كانت له علاقات مودة مع السلطانين سعيد وبرغش ، وكان يدافع عن أفريقيا الشرقية ضد الألمان والمصريين. فصل :

٨٨٣ / ٦ : Kirk ,Sir John : N.E.B

(٤) بندر (ج بنادر) : لفظة فارسية انتقلت إلى التركية ثم إلى العربية وتعني أساسا الميناء البحري. فصل :

Bandar : E. I. ٢ : ١ / ٣١٠١) Huart (

(٥) مدينة بها ميناء تقع في جنوب ساحل الجزيرة العربية ، حكمها الإنكليز سنة ١٨٣٧. الفصلان :

Aden : N. E. B : ١ / ٥٩, Aden : E. I. ٢ : ١ / ٠٨١ ـ ٢) Lofgren (

٢٧

ولمّا اتفق وصولهم إلى المدخل قبل طلوع الفجر خشي القبطان من المرور به ليلا حذرا من تصادف الأخطار. فأمسك عن ذلك لشدة حزمه حتى الصباح. وكان ذلك صباح نهار الأحد فدخل القبطان حينئذ بالباخرة بندر عدن ، وقد نشر علم السلطان في أعلى دقلها (١).

ولما رست الباخرة أتى أعيان البلد وتجّارها ووكيل الباخرات الإنكليزية السيد كاواجي الفارسي الأصل وغيرهم من أكابر عدن ليسلّموا على سعادة السلطان. ثم حضر قبطان العساكر الإنكليزية إلى باخرة سعادة السلطان وسلّم عليه. ثم تصافحا ، وانصرف. وكان بمرسى عدن عدة سفن أجنبية وبوارج حربية إنكليزية ، ومن جملتها بارجة اسمها جلاصجوه (٢) كان فيها أمير البحر (٣) ، فأمر بإطلاق ٢١ مدفعا إجلالا لحضرة السلطان كما يطلق لكل ملك له شأن.

وفي الساعة السادسة من النهار قدم والي عدن وأمير البحر الإنكليزي ومعه قباطين البوارج وكبير العساكر المقدّم ذكره لمواجهة السلطان وتبليغه التهاني بوصوله إلى بلادهم سالما غانما. فترحّب السلطان بهم ، وأكرم مثواهم ، وترفّق بهم غاية الرفق كمألوف عادته. ثم انصرفوا وهم يثنون على رقة جانبه.

وفي الساعة العاشرة من نهار ذلك اليوم حضر قنصل جنرال دولة جرمانيا (٤) لمواجهة السلطان في الباخرة ، فاقتبله السيد برغش بمزيد العز والإكرام وأضافه.

فباتوا ليلتهم في المركب.

__________________

(١) الدقل : السارية الأعلى من سواري الباخرة

(٢) اسم مدينة اسكتلندية كبيرة. فصل : ٢٩ / ٥ : Glasgow : N.E.B

(٣) هو المسؤول على السفن البحرية. وانتقلت الكلمة إلى الفرنسية (Amiral) وإلى الإنكليزية (Admiral) منذ القرن ١٣ م ، وهي تعني في هاتين اللغتين أعلى درجة عسكرية بحرية. فصل : ١٠٣ / ١ : Admiral : N.E.B

(٤) هي دولة ألمانيا التي وحّدها بسمارك سنة ١٨٧١. وكانت لها أطماع في أفريقيا الشرقية. ووجود القنصل العام يوضح الصراع بين الدّول الأوربية. فصل : ٢١٧ / ٥ : Germany : N.E.B

٢٨

الباب الثالث

في خروج حضرة السلطان إلى بندر عدن

نزل جناب السلطان يوم الاثنين من اليوم العاشر (١٨ مايو) من السفر إلى زيارة والي البلد ومعه تسعة أنفار من حشمه ، وعند بلوغه البر أطلق الجنود ٢١ مدفعا إجلالا وترحابا بقدومه إلى بلادهم وعلم السلطان منشورا يخفق فوق رؤوسهم. ثم سار السلطان إلى دار الوالي ، وردّ له الزيارة ، فتلقّاه الوالي بمزيد العز والإكرام. ثم خرجوا جميعا وأرباب الدولة تكتنفهم. وذهبوا إلى مكان يسمى" طواهى". ثم ركبوا على جواري الخيل (عربيات) (١) والعساكر الخيالة تسير من أمامهم ووراءهم ، ودخلوا مدينة عدن يريدون الفرجة.

وعدن مدينة من مدن البلاد العربية على شط بحر الهند ، ولها مرساة أمينة للسفن.

كانت لها تجارة واسعة بين الشرق والغرب ، لكنها الآن في انحطاط. والأراضي التي حولها جديبة يابسة. وهي بيد الإنكليز محطّا لمراكبهم الجارية بين الهند والسويس (٢). وقد أقاموا فيها استحكامات منيعة. وحفروا صهاريج عميقة عظيمة منقورة في الكهوف نقرا محكما تصبّ فيها مياه الأمطار المنحدرة من الجبال وتحفظ طول السنة ، ومنها يستقي الناس الماء القراح.

وبعد أن طاف السلطان ، ومن معه مدينة عدن ، ورأوا منها ما كان أهلا للفرجة ، رجعوا إلى الباخرة في الساعة الخامسة.

__________________

(١) هكذا في أوب. وجواري الخيل : هي العربات يركبها الناس وتجرها الخيول

(٢) ميناء يقع في رأس خليج السويس على البحر الأحمر في جنوبي قناة السويس التي تم حفرها سنة ١٨٦٩ ، وهذا الميناء يتكون من فرعين هما : بور إبراهيم وبور توفيق. وتبعد السويس عن القاهرة ١٣٠ كلم. فصل :

٣٥٣ / ١١ : Suez : N.E.B

٢٩
٣٠

الباب الرابع

في سفر حضرة السلطان من عدن

كانت الدولة البريطانية أعدت لحضرة السلطان برغش في عدن باخرة أخرى من بوارج الدولة ، فانتقل إليها في قارب جميل تخفق في مؤخرته الراية الزنجبارية. وكان قد رافقه كثيرون من أرباب الدولة البريطانية وأعيان البلد وتجارها يشيّعونه بالسلامة. وبعد أن قضوا فروض الوداع عادوا إلى البرّ. وأقلعت الباخرة الحاملة للسلطان ، وسافرت في حراسة الرحمن. فطابت لها الريح. وصفا الجو ، وراق البحر. وما زالوا يقلعون وهم في أرغد عيش. وإذا ببارجة إنكليزية حاملة أمير البحر قادمة فعرف الأمير باخرة السلطان وأمر بإطلاق ٢١ مدفعا على سبيل السلام والتوديع لجلالته. ثم ساروا الليل بطوله حتى انكشف لهم نور فوق منارة قد شادتها الدولة البريطانية هداية للسفن في مرورها ليلا في مضيق مدخل باب المندب (١).

وفي اليوم الثاني عشر (٢) (٢٠ مايو) من السفر صادفت باخرة السلطان مركبا عظيما ذا أربعة دقال (٣) يخاله الناظر إليه قّنّة (٤) جبل عال. وبعد غياب الشمس بثلث ساعة (٥) مرّت السفينة بنور آخر على منارة مشيدة في شعب يدعى أبو الكيزان.

__________________

(١) مجال بحري يفصل بين جزيرة العرب (شمالا) وأفريقيا (جنوبا) ويصل بين البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي ، طوله ٣٢ كلم تقريبا. زاد قيمة منذ حفر قناة السويس ، فصل :

٣٦٥ / ٧ : Bab el Mandeb : N.E.B

(٢) هذه الكلمة لا توجد في أوب ، وإضافتها تصحح التاريخ.

(٣) ب : قلاع

(٤) ب : قمة.

(٥) أ : ساعات.

٣١

وفي ليلة الأحد مرت الباخرة بمنارة الأشرف وهي مشيدة في شاطئ برّ أفريقية (١) تجاه شاطئ برّ الشام حذاء جبل سينا بقرب بركة فرعون وهي التي غرق فيها فرعون بفرسانه ومركباته.

وفي الساعة السابعة من الليلة المذكورة مرت (٢) السفينة بمنارة رأس غارب.

ونهار الأحد مرّت بمنارة الزعفران.

وبعد خمسة أيام (٣) (٢٥ مايو) وصلت الباخرة بندر السويس ، وهي بلدة واقعة شرقي مدينة القاهرة بمصر على مدخل خليج السويس عند منتهى البحر الأحمر. وقد أنشأ الفرنساويون فيها معامل لصالح خليج السويس والسهر على حفظه في أحسن حال. وأهلها من العرب والمصريين والفرنساويين وغيرهم من الأجانب.

وبعد أن رست باخرة حضرة السلطان بنصف ساعة أتى قبطان من مراكب حضرة خديو (٤) مصر وصعد إلى الباخرة وطلب علما من أعلام جلالة السلطان لينشره في مركبه ، فأعطي له ، وهو (٥) أرسله مع واحد من أتباعه ، ونشره في دقل مركب الخديو. ثم أطلق الملاحون المصريون ٢١ مدفعا سلاما لحضرة السلطان.

وفي أثناء ذلك طلب قبطان مركب الخديو مواجهة الإمام (٦) برغش. فخرج السلطان إلى ظهر الباخرة وقابل القبطان بالبشاشة والإكرام. ثم انصرف. ثم أتى بعده قبطانان آخران من

__________________

(١) كتابة اسم القارة بالتاء يذكرنا بالاسم الذي أطلقه العرب على تونس عند ما فتحوها ، فصل : Ifrikiya.E.I.٢ : III / ٧٤٠١ (Talbi) ونلاحظ أن الاسم يجب أن يرسم بالألف (على عكس ما يفعله المشارقة)

(٢) أ : مرة.

(٣) أ ، ب : ساعات ، والصحيح ما أثبتنا. والأدلة على ذلك : * أن ابن سعيد لا يؤرخ بالساعة* ثم ما يقتضيه السفر من احتياط وحذر في البحر الأحمر* وأخيرا ما ذكره الرحّالة صراحة أثناء العودة (انظر : الباب ٥٠).

(٤) الخديو : مصطلح فارسي يعني : أمير ، وال ، لقب منحه السلطان العثماني لوالي مصر إسماعيل باشا فصل :: E.I.٢ Khdiw : V / ٤ (Vatikiotis)

(٥) ب : ثمّ.

(٦) ورد في وصف برغش : الإمام ، السيد ، السلطان ، الملك ، وغير ذلك.

٣٢

قباطين المراكب الخديوية وسلّما على جلالة السلطان. ثم انصرفا (١). ثم أتى بعدهم قنصل دولة بريطانية الفخيمة وجناب السيد دي لاسبس (٢) ناظر شركة خليج السويس (٣) وسلما على سعادة السلطان. ثم انصرفا.

ثم حضر بعدهم حاكم بندر السويس المسمى حسن بك ، ورحب بقدوم السلطان. ثم انصرف وهو يثني على ما ناله من الإكرام من سعادة السيد برغش الذي كان يبش بوجه جميع الذين تشرّفوا بمواجهته حتى سمعت قوما يقولون : " بارك الله في سلطان متصف بهذه السّجايا والخصال الحميدة. فكأنه ملاك وليس ببشر (٤) ".

__________________

(١) أ : انصرفوا.

(٢) فردينان (١٨٠٥ ـ ١٨٩٤) دبلوماسي فرنسي اقترن اسمه بحفر قناة السويس (١٨٥٩ ـ ١٨٦٩) ، وهو رجل سياسة كثير النشاط. فصل : ٨ ـ ٢٩٧ / ٧ : Lesseps (Ferdinand) : N.E.B

(٣) هي : الشركة العالمية لقناة البحر بالسويس

) Compagnie Universelle du Canal MARITIME DE Suez (

انظر : فصل : Lesseps

(٤) فكأنه ملاك. ساقطة في ب

٣٣
٣٤

الباب الخامس

في السفر من السويس

في الساعة العاشرة من نهار يوم الأحد سافرت باخرة سعادة السلطان من مرسى السويس حتى إذا مرت ببارجة سعادة الخديو أمر قبطانها بإطلاق ٢١ مدفعا إكراما لحضرة السلطان. وكان ملاحو البارجة قد صعدوا إلى الدقال (١) ورؤوس السواري وهم يبدون أصوات الابتهاج والتسليم على سعادة السيد برغش. وكان السلطان قائما في صدر باخرته يرد السلام عليهم بلطفه وانسه المعهودين (٢). وفي أثناء ذلك أخذت باخرة السلطان بالدخول إلى خليج السويس ، وفيما كانت السفينة مارة بالخليج صادفت سفينة أخرى كانت مقبلة من بورت سعيد.

ولما كان الخليج ضيّقا لا يسمح لمرور باخرتين بجانب بعضهما اقتضى (٣) لإحدى السفينتين أن تلتجئ إلى المرفأ وترسو في محطات معينة لها حتى تسمح للسفينة الأخرى أن تمر في منتصف الخليج.

وقد رتّب المحافظون على الخليج قوانين وقواعد لمرور المراكب : فقد عيّنوا مراسي تقف فيها المراكب الواردة من جهة بورت (٤) سعيد ومراسي تقف فيها المراكب الواردة من جهة السويس. فلما أقبلت السفينة من جهة بورت سعيد كانت باخرة سعادة السلطان قد وصلت إلى المرسى المعيّن لتوقيف المراكب الواردة من السويس ، فمال بها القبطان إلى المرسى وربطها

__________________

(١) ب : بالسطح

(٢) ب : المعتادين

(٣) ب : وجب على

(٤) نطق انكليزي لكلمة : Port (التي تعني الميناء).

٣٥

الملاحون إلى الشاطئ حتى مرّت الباخرة الآتية من بورت سعيد ، ولبثت باخرة سعادة السلطان في ذلك المرسى نحو ساعة زمانية. (١)

ثم حلّوا حبال الباخرة ، وأطلقوا سبيلها ، وسارت حتى غروب الشمس. ولضيق الخليج لا يسمح للمراكب أن تسافر فيه ليلا. ولا يسمح أيضا للبواخر أن تسافر في الخليج نهارا أكثر من خمسة أميال في الساعة.

ولمّا كانت باخرة السلطان راسية في محطة مبيتها مرّ بها نهار الاثنين صباحا مركب كبير ذو أربعة دقال. ومركب آخر ذو دقل واحد قد أعدّته شركة الخليج لإنقاذ المراكب إذا جرى لها عارض في مرورها بالخليج.

وفي الساعة الأولى من نهار الاثنين أقلعت باخرة السلطان أنجرها (٢) وسافرت. ثم وصلت إلى المرسى الخامس حيث يأخذ الخليج بالانفراج والتنفس عن ضيقه الأول.

__________________

(١) زمانية : ساقطة في ب.

(٢) أنجرها : ساقطة في ب. والأنجر هي المرساة.

٣٦

وكان في هذا المرسى آلة يسمونها كرّاكة (١) تحفر قرار الخليج وتحمل رماله وتقذفها بقوة البخار (٢) إلى سفن أخرى صغيرة تدنو منها وتحمل ذلك الطين إلى الساحل. وهكذا تنقّي باطن الخليج. ولا يسمح المحافظون على الخليج لأحد أن يرمي في مياهه أقذارا من المراكب ولا رمادا ولا فحما ولا غيره.

وبعد برهة وجيزة دخلت باخرة السلطان بحيرة التمساح وهي بحيرة مستديرة في منتصف الخليج كما ترى رسم ذلك في خريطة الخليج وعلى ساحل هذه البحيرة قد اختط المهندسون مدينة جديدة سمّوها" الإسماعيلية" (٣) تيمنا باسم إسماعيل باشا خديو مصر. وفي (٤) البحيرة كراكات كثيرة كالتي سبقنا إلى ذكرها لأجل تنقية (٥) قعر الخليج من الرمال التي تقذفها إلى باطنه الرياح ويأتي بها التيار من البحر المتوسط. ثم أخذت باخرة السلطان تمر بالمرسى السادس وهو على ساحل جزيرة صغيرة في البحيرة المذكورة.

__________________

(١) هي في الأصل سفينة عالية ذات حمولة كبيرة ، وهي هنا سفينة لتنقية المياه العميقة في قناة السويس.

(٢) البخار تحول إلى طاقة صناعية عند ما صار يدير الآلات بالضغط عوض العضلات وما كان يتحقق ذلك لو لا استعمال الفحم الحجري استعمالا صناعيا ومكثفا وقد تم ذلك في أوائل القرن ١٩. فصل : ٤٣٤٨ / ٧ : Energie G.E

(٣) نسبة إلى الخديو إسماعيل ، وتأسست سنة ١٨٦٣ شمال غربي بحيرة التمساح التي تم ربطها بخليج السويس ٤١٥ / ٦ : Ismailiyah : N.E.B والبحر الأحمر. فصل :

(٤) هذه : ساقطة في ب

(٥) ب : كالتي سبق أن ذكرناها وذكرنا أنها اعدت لتنقية ...

٣٧

وفي أثناء ذلك رأى سعادة السلطان دخانا قد ارتفع من البرّ. ثم سار بسرعة البرق. وكان ذلك دخان فابور (١) " سكة الحديد المصرية" (٢). وكانت هذه أول مرة شاهد فيها جناب السيد برغش وحشمه فابور سكة الحديد. ثم قبل وصول الباخرة إلى المرسى السابع مرت بمنارة في شكل عامود من حديد ارتفاعها أربعون قدما (فوتا) (٣). ولما بلغت الباخرة إلى المرسى السابع أخذ الخليج يضيق رويدا رويدا حتى صار كما كان قبل بحيرة التمساح.

ومن المرسى السابع إلى البرّ قنطرة من حديد (جسر) يمرّ فوقها الناس من المرسى إلى البرّ. وهناك أيضا ماء حلو من ترعة النيل وأوائل (٤) بخارية لتطهير الماء من أقذاره وإرساله في أقنية إلى مدينة الإسماعيلية التي مر بنا ذكرها.

وما زالت الباخرة تمرّ من مرسى إلى مرسى حتى وصلت إلى مرسى بهيج المنظر انقطع فيه منظر الرمال القاحلة ، وظهرت (٥) آثار الخضار والأشجار وتدفق المياه بين الرياض والأزهار وبقرب هذه البقعة من الأرض الطريق المؤدية إلى بيت المقدس (أوروشليم). وبجانب هذه المحطة بركة الملاحة التي ذكرها السيد حمود (٦) بن أحمد في كتابه [و] أنّ ضمانها يبلغ ثلاثمائة ألف ريال في السنة.

__________________

(١) نطق عربي للكلمة الفرنسية (Vapeur) وهي اختزال للكلمة : Locomotive a vapeur : وهو القطار الذي يسير بالبخار ، ثم وقع التوسع في معنى هذه الكلمة فصارت تعني الباخرة وهي تسير بالبخار أيضا ، كما تعني المحرّك عموما. فصل ٣١٣٥ / ٥ : Vapeur : G.E ونلاحظ أن فابور أو وابور تنطق في شمال إفريقيا : بابور.

(٢) أول خط سكة حديد يربط القاهرة بالإسكندرية ، تم إنشاؤه سنة ١٨٥٧ وهناك خط القاهرة ـ بور سعيد وخط القاهرة ـ السويس. فصل : ٤١٧١ / ٧ : Egypte : G.E

(٣) هكذا في أوب : والقدم : مقياس طول إنكليزي يساوي : ٤٨ ، ٣٠ سم. فصل : ٥٣٩.Foot : O.R.E : p

(٤) ب : أدوات ، والأوائل جمع من استعمال الكاتب ، مفرده آلة وهي تعني المحرك.

(٥) أ : ظهر

(٦) أ : حموده

٣٨

وما زالت الباخرة تسير حتى قطعت كل مراسي الخليج وهي ١٢ مرسى. ووصلت إلى بورت سعيد (١) بعد غياب الشمس بساعة. وطول الخليج من السويس إلى بورت سعيد ٨٥ ميلا وأعداد الأميال مرقومة على ألواح موضوعة على جسور خشبية تدل المار بها على عدد الأميال التي قطعها في سيره. وقطعت الباخرة الحاملة جلالة السلطان هذه المسافة في مدة ١٢ ساعة ونصف ثم ألقت أنجرها (٢) في مرسى بورت سعيد ، وباتت هنالك.

وفي الساعة الثانية من صباح اليوم الثامن عشر (٢٦ مايو) من سفر سعادة السلطان أتى إبراهيم بك (٣) والي مدينة بورت سعيد ومعه حسن بك قبطان بارجة الخديو (منور) (٤). ثم جناب محمد قبطان وكيل سعادة الخديو (٥) ، وغيرهم من أعيان البلدة ، وصعدوا إلى المركب ، وسلموا على جلالة السلطان وبلّغوه التهاني بوصوله بالسلامة. فتلقّاهم بالترحيب والبشاشة كمألوف عادته الغراء. ثم انصرفوا إلى حال سبيلهم.

__________________

(١) مدينة لها ميناء ، تقع على المتوسط عند اتصاله بقناة السويس ، أسستها شركة قناة السويس سنة ١٨٥٩. فصل :

١٤٥٢ / ٢ : Port Said : P.R

(٢) ب : توقفت

(٣) أ : بيك وهكذا يكتبها دائما ، وبك أوباي : لفظة تركية لها دلالات مختلفة تتفق في معنى السيادة. فصل

١١٥٩ / Bey : E.I.٢ : I

(٤) نوع من أنواع السفن.

(٥) أ ، ب : السلطان

٣٩
٤٠