تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجار

زاهر بن سعيد

تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجار

المؤلف:

زاهر بن سعيد


المحقق: أحمد الشتيوي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: وزارة التراث والثقافة سلطنة عمان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٩٦

وكان بين هذه الأواني ترس مموه بالفضة مصنوع على زي ترس ميلتن (١) الشاعر الإنكليزي الذايع الصيت. وكانوا قد عنوا بعمله ليرسلوه إلى معرض باريس سنة ١٨٦٧. فسرّ السيد بجماله وحسن إتقان صنعته.

ثم فرّجوه على إناء ثمين بديع الشغل كان قد عرض في معرض فيانا سنة ١٨٧٣. وهو إناء لم يصنع مثله إلى الآن في الحسن والجمال وإتقان الصنعة ، ولبثوا يشتغلون في صياغته ست سنين وأنفقوا عليه ٦٠٠٠ ليرة (باوند).

ثم فرّجوه على أواني أخرى من ذهب كانت قد عرضت كذلك في معرض فيانا. ومما يميز هذه الأواني الذهبية عن غيرها من جنسها هو أن الأواني الذهبية التي يصنعها الصياغ في الدنيا كلها إذا تعرضت لرطوبة الهواء مدة من الزمان أكمد (٢) لونها ، أما هذه الأواني التي صاغها مستر ايلينكتن فلا يضعف رونقها ولا يكمد (٣) لونها ولو تعرضت لرطوبة الهواء زمانا طويلا. فإنه قد اخترع طريقة جديدة يطلى بها الذهب تجعله لا يتأثر من رطوبة الهواء.

ثم ساروا به إلى محل طلي الأواني وتمويهها بواسطة الكهربائية ، وفرّجوه على طلي أواني عديدة ، فسرّ السيد غاية السرور بذلك لأن سعادته عنده في زنجبار آلة كهربائية (٤) يتسلى بها في امتحانات كهربائية.

ثم كان والي بيرمنكهام قد استحضر على بعض نقود ، فسلّمها إلى سعادة السلطان ، فأخذها ، وطلاها في نفس الإناء الكهربائي الذي كان ولي عهد بريطانيا طلى فيه بعض النقود

__________________

(١) جون (١٦٠٨ ـ ١٦٧٤) أحد أشهر الشعراء الإنكليز ، معروف بقصيدته" الفردوس المفقود" (١٦٦٧) وهو أيضا مؤرخ وكاتب. فصل : ٣ ـ ١٤٢ : Milton ,John : N.E.B

(٢) ب : تغير

(٣) ب : يتغير

(٤) ب : الكهربائية

٢٠١

لما زار هذا المحل. ثم تناولها السيد مطلية بالذهب ، ودفعها لرجاله ليحافظوا عليها على سبيل التذكار.

ثم فرّجوه على قوة الكهربائية وشدتها بامتحان بسيط : وذلك أنهم تناولوا قطعة من سلك الحديد ، وأدنوها من الآلة الكهربائية ، فاحترق السلك الحديدي في طرفة عين من شدة حرارة الكهرباء كما يحترق خيط كتان من لهيب النار.

فلما رأى السيد كل ما كان في ذلك المحل من الأواني والذهب والفضة وغيرها قال : " حقيق بأن تسمّى هذه المدينة (بيرمنكهام) (١) لأنها بير ـ من ـ هام بالغنى أي هي ينبوع ثروة الإنكليز الذين يهيمون بالذهب فضلا عن غيرهم".

وفي أثناء ذلك طلب مستر ايلينكتن إلى سعادة السلطان أن يتكرم بتدوين اسمه الشريف في سجل المتفرجين فأجاب السيد طلبه ، وتناول قلما وكتب اسمه بالعربي" برغش بن سعيد". ثم شكر لمدير المحل ما تكلفه من العناء وخرج برجاله ، وركب مركبته ، ورجع إلى منزله.

__________________

(١) هذه المدينة من أشهر المدن الإنكليزية في مجالي التجارة والصناعة. فصل :

٢٣٤ / ٢ : Birmingham : N.E.B

٢٠٢

الباب الخامس والثلاثون

في سفر سعادة السيد إلى مدينة ليفربول

سافر السلطان ـ حفظه الله ـ من بيرمنكهام نهار الاثنين ٥ جولاي (تموز) يريد الفرجة على مدينة ليفربول ، وكان في رفقة سعادته السيد حمود بن حمد والسيد حمد بن سليمان والسيد ناصر بن سعيد والشيخ محمد بن سليمان الفاصل للدعاوى الشرعية وتاريا توين التاجر الهندي والدكتور كيرك جنرال الدولة الإنكليزية والفقيه جرجس باجر ومستر هيل. فركبوا في قطار سكة الحديد ، وساروا به على بركات الله.

وكان الناس قد بلغهم من صحف الأخبار وقت سفر السلطان ، فاجتمعوا إلى محطات سكة الحديد ليشاهدوا سعادته ويرحبوا بقدومه. فلما وصل السيد بالسلامة إلى محطة سكة الحديد بليفربول كان المأمورون قد بسطوا أرض المحطة بطنافس إلى باب الدار التي كانوا قد هيأوها لسكنى سعادته. وكانوا قد وضعوا كراسي على الجانبين لجلوس الأعيان والأكابر الذين كانوا قد حضروا إلى المحطة لاستقبال سعادته. وكان قد اجتمع في المحطة أناس كثيرون لا يحصى عددهم ، ولضيق المكان صعد كثيرون إلى ظهر أرتال السكة ليغتنموا مشاهدة سعادة السيد.

وفي غضون ذلك أتى والي البلد لفتنت كرنل ستابل لملاقاة السلطان ، وكان صحبته الوالي ناظر المدينة مستر جون بيرسن ومستر جون والكر والي ليفربول سابقا وغيرهم كثيرون من أعيان البلد.

٢٠٣

ولما وقفت أرتال (١) السكة الحديد في المحطة ، خرج منها مستر هيل أولا ، وكلف والي البلد أن يرافقه ليدخل به إلى سعادة السلطان ، ففعل ، ودخل ، ورحّب بقدومه ، واستأذن إليه أن يخرج ، ويشرّف البلد بحضوره.

فلما خرج السلطان طفقت الموسيقة تعزف بمقامة جديدة كان قد نظمها مستر بيردهول معلم الموسيقة وسماها المقامة الزنجبارية إجلالا لسعادته. فسار السيد مصحوبا بوالي المدينة ورجاله إلى الدار المعدة له ولحشمه ، ولبثوا فيها نحو ساعتين من الزمان ليرتاحوا من تعب الطريق.

وفي غضون ذلك كان قد اجتمع أهل المدينة من الرجال والنساء والأولاد ما لا يحصى عددهم ، وملأوا الأزقة والشوارع ، وهم ينتظرون خروج سعادته من الدار ليشاهدوا وجهه الأنور. وفي أثناء ذلك كان بعض من رجال سعادته واقفين في شرفة (٢) عالية من الدار يتفرجون على الناس المجتمعين ، فرءاهم بعض من السيدات ، ورفعن مناديلهن البيضاء ، وصرن يخفقن إياها في الهواء علامة السلام على رجال السلطان ، وهن يبتسمن في وجوههن بلطف وبشاشة. فرد رجال سعادته السلام عليهن بأيديهم بأنس وحشمة.

ثم حضرت فرقة من الشرطة (٣) واصطفوا في الطريق لمنع الناس من الازدحام. ثم فرشوا طنفسة حمراء من باب دار السلطان إلى آخر الدرج حتى رصيف الزقاق. وفي أثناء ذلك أتت مركبة والي المدينة تجرها أربعة رؤوس خيل مطهمة فيها السيد ، ومركبتان أخريان لرجاله وساروا ، وهم قاصدون دار الولاية ، والشعب بازدحام يحبّذهم ، ويرحّب بقدومهم.

__________________

(١) ب : عربات

(٢) أ : مشرفة

(٣) أ : الشرطة

٢٠٤

فلما وصل السلطان إلى دار الولاية خرج إلى لقائه والي البلد وأعوانه ، وأدخلوا سعادته قاعة الاستقبال ، وكان فيها شعب غفير من الرجال والنساء لابسات ملابس بيضاء فاخرة. ولما مرّ سعادة السلطان بين صفوفهم ، نهضن في سلام سعادته ، وسلّمن عليه بألطف تحية وسلام ، فردّ السيد السلام عليهن بأنس وبشاشة.

ثم أجلسوا سعادة السيد في صدر القاعة على كرسي مجلل بالحرير الأحمر المنقوش بالذهب كما كان يفعل قدماء الإنكليز لملكتهم اليصابات الشائعة الصيت. فلما استوى السيد على ذلك العرش تقدم والي البلد إليه ، واستأذنه بتلاوة خطاب عن لسان الأمة. فأجاب السلطان طلبته بسرور وبشاشة. فنهض حينئذ واحد من العمدة وتلا خطابا فصيحا باللغة الإنكليزية. وهذا ملخص ترجمته :

" أيها السيد الجليل والإمام النبيل ، قد حق علينا ـ نحن والي مدينة ليفربول ووجوه شعبها ـ أن نهنئ سعادتك بوصولكم إلينا بالسلامة ، ونرحب بك وبتشريفك مدينتنا في هذا النهار السعيد. فقد سررنا غاية السرور بمجيئك إلى بلاد الإنكليز لعلمنا علم اليقين أن حبك الخالص لهذه الأمة جعلك تتجشم متاعب الأسفار ، وتحضر إلينا لكي توطد علاقات هذا الحب بين دولتك وبين دولتنا البريطانية ، وتجعل مصالح الأمتين شيئا واحدا.

أما نحن ـ معشر الإنكليز جملة مع جلالة ملكتنا الفخيمة ـ فقد أضحينا ممنونين لمكارم سعادتك لأجل ما صرفته من حسن العناية إلى إبطال تجارة الرقيق وعتقهم والاهتمام بتهذيبهم (١) ، ولنا ثقة تامة في شهامة سعادتك بأن تبطل هذه التجارة الذميمة في سواحل أفريقية الشرقية كلها. ثم نؤمل أن تسرّ سعادتك بالفرجة على ما في هذه المدينة من المنتزهات (٢) والجنائن والتحف والمعامل ، وتدخر ذكرها في خزنة عقلك الراجح وتذكر محبيك المخلصين

__________________

(١) أ ، ب : في تهذيبهم

(٢) ب : المنزهات

٢٠٥

الذين تشرفوا في هذا النهار بمشاهدة سعادتك الجليلة (١). حرر بحاضرة ليفربول في ٥ جولاي (تموز) سنة ١٨٧٥

(الإمضاء)

ريتشرد فيل ستابل"

وفيما كان الخطيب يتلو الخطبة كان الفقيه جرجس باجر يترجم جملة بجملة إلى سعادة السلطان عربيا.

وكان هذا الخطاب مكتوبا على قرطاس أبيض كبير وزيري محفوف بمخمل حرير وردي اللون ومزركش بالذهب ، وكانت حواشي القرطاس منزّلة (٢) بصياغة من الذهب بصنعة جميلة. وكانت طغرة مدينة ليفربول منقوشة في صفحة من ذهب في صدر القرطاس. وعلى دائره برواز من ذهب مجمّل بنقوش جميلة ومعقودة في أطرافه ضمات من خيوط ذهبية (شراريب). وكان الخط جميلا جدا قد عنوا في كتابته بالقلم الإنكليزي القديم الذي كان يستعمله قدماء الإنكليز في الحجج والمكاتبات الملوكية في عهد الملك هنري الثامن. وكانوا قد رسموا على هوامش القرطاس زهورا جميلة ملونة بألوان ناصعة وبمحلول الذهب.

وفي ختام تلاوة الخطاب عرض الخطيب ذلك القرطاس على سعادة السلطان فتناوله السيد بلطف وشكران ، وسرح نظره في حسن خطه ، وفي ما كان فيه من النقوش الزهية. ثم سلّمه إلى واحد من وزرائه للمحافظة عليه.

ثم أوعز إلى الفقيه باجر أن يترجم شعائر الشكران والامتنان لوالي المدينة الأفخم ، ولشعبها ذي اللطف والإكرام. فنهض الفقيه المومأ إليه ، وقال : " قد أملى علي السيد خطابا

__________________

(١) الجليلة : ساقط في ب

(٢) ب : مصنوعة

٢٠٦

بالعربية شكرا لكم على ما أسديتموه إليه من التكريم والتعظيم والتبجيل في مدينتكم المحروسة ، مما لم يسبق أن فعلتم مثله للملوك (١) أو السلاطين الذين حطوا ركابهم في هذا البلد من قبله. وها أنذا أتلو على مسامعكم ترجمة خطاب سعادته بالإنكليزية :

" إلى صاحب السعادة والشرف والي ليفربول ، وأعوانه ، وشعب هذه المدينة قاطبة أدامهم الله بالعز والإقبال".

" أما بعد فقد حقّ علينا أن نشكر لكم غاية الشكران على ترحابكم بقدومنا إلى مدينتكم المحروسة. وقد امتلأ قلبنا سرورا لمشاهدتكم والتمتع بأنسكم".

أجاب الشعب : حبّذا! حبّذا!

ثم استأنف الفقيه خطابه ، وقال : " قد هاجرت الحضارة والمعارف من بلادنا الشرقية إلى بلادكم الغربية منذ عهد قديم. ولما طال اشتياقنا إليها ، وأبت أن تعود إلى أوطاننا أتينا قاصدين حماها ، وطالبين عودها إلينا. وقد صمّمنا على نقل شيء منها ، وإن تعذر لدينا الحصول عليها برمتها. ونؤمل بأن يكون هذا الشيء القليل بمنزلة خميرة ، نضيفها إلى عجين النجاح في بلادنا ، فتخمر العجينة بأسرها ، وتترقّى زنجبار مع تمادي الزمان إلى درجة التمدن والعمران الذي نراه اليوم يزيّن بلاد الإنكليز السعيدة ، ويرفع مقامها بين الأمم".

أجاب الشعب ثانية : حبّذا! حبّذا!

ثم أردف الفقيه ، يقول : " ولا يخفاكم ـ أيها السادات ـ أنّ دولتنا قد حافظت على مودة الدولة البريطانية منذ مائة عام. وليس في قلبنا رغبة أشد من رغبتنا في المحافظة على هذه المودة نحن وأولادنا وخلفاؤنا من بعدنا إلى ما شاء الله".

أجاب الشعب ثالثة : حبّذا! حبّذا!

__________________

(١) أ : المحروسة ما لم تسبقوه إلى مثله وإكراما إلى الملوك

٢٠٧

ثم مضى الخطيب يقول : " أما ما أشرتم إليه من جري إبطال تجارة الرقيق في بلادنا فقد تجشمنا أتعابا عظيمة وخسائر باهظة ، وصرنا عرضة لأخطار مبرحة طمعا في حب البشرية ، وخير الناس ، ورضى الله ، ومؤاخاة الدولة البريطانية التي اقترحت علينا هذه الاقتراحات المهمة".

أجاب الشعب رابعا : حبّذا! حبّذا!

ثم أردف الخطيب مقاله ، وقال : " وقد ألقينا همّنا على الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كل ما فاجأنا من المصاعب ، وتوكلنا على قدرته العظيمة ، ولنا ثقة تامة في عنايته ـ تعالى ـ أن يديم لنا التأييد والقدرة على تكميل إرادته ، وعمل ما فيه الصلاح لعباده".

" ولما كان من دأب الله ـ جلّ جلاله ـ أن لا يرسل الإمداد من السماء كما ينزل المطر على الأرض ، بل يوعز إلى القوي بمساعدة الضعيف ، فلنا ثقة به ـ تعالى ـ أن يوعز إلى دولة بريطانية القوية أن تمدّيد المساعدة إلى دولة زنجبار الضعيفة ، وتأييدها على تعميم أسباب الحضارة والعمران".

أجاب الشعب خامسا : حبّذا! حبّذا!

ثم استكمل الخطيب كلامه ، وقال : " قد شاع صيت مدينتكم ليفربول المحروسة في جميع الأقطار ، واشتهر ذكرها في الأمصار ، وذاع اسمها حتى في زنجبار. واليوم نشاهد بأعيننا عظمة هذه المدينة ، وجمالها ، وحسن مينائها ، وكثرة بوارجها وسفنها ، واتساع تجارتها ، ومجد سكانها ، ولطف أهلها ، فحقّ علينا أن نفتخر بهم ، ونقتفي آثارهم ، إذا كنا نود أن نكون من المفلحين".

" ولكن لا يكفي زنجبار أن تتشرف باستماع ذكر ليفربول فقط ، بل تحتاج إلى رجال ليفربول أن يشرفوها بما عندهم من الوسائط وأسباب العمران ، ويرسلوا إليها عمدة تجارهم ومهندسيهم وأرباب صنائعهم النفيسة فيسعون في فلاحة أراضيها الواسعة ، وإخراج ما فيها

٢٠٨

من المعادن ، وتعميم الصنائع إلى غير ذلك. فيعود ذلك خيرا عليهم وعلى زنجبار وعلى ما حولها من الأراضي في أصل البرّ".

أجاب الشعب سادسة : حبّذا! حبّذا!

ثم ختم الخطيب كلامه ، وقال : " فليكن يقينا عندكم ـ أيها السادات الشرفاء ـ أن تذكار هذا النهار ، وما حزناه منكم من الإكرام لن يمحي من عقلنا ما حيينا ، ونطلب إلى الحق ـ سبحانه وتعالى ـ أن يحرس مدينتكم هذه من الآفات ويصون أهلها بالعز والأمجاد. آمين.

(الإمضاء)

" السيد برغش بن سعيد"

وفي أثناء ذلك نهض الجميع وسلموا على سعادته وصافحوه وتوادعوا معه.

ثم خرج السيد برجاله ، وركبوا مركباتهم ، ورجعوا إلى منزلهم مسرورين غانمين ، والشعب يهتف بأصوات الحبور : " حبّذا! حبّذا سلطان زنجبار! "

٢٠٩
٢١٠

الباب السادس والثلاثون

في فرجة سعادة السلطان على ميناء ليفربول

أرسل والي مدينة ليفربول غدوة (١) نهار الثلاثاء يطلب إلى سعادة السيد أن يشرّف دار الولاية حتى يسير في صحبته إلى مرفأ السفن ، ويفرّجه على ميناء المدينة وعلى ما فيها من البواخر والسفن المصطفة فيها على مسافة ستة أميال ، وهي لا جرم (٢) أعظم ميناء وأكبرها في الدنيا. فأجاب السيد طلبته بسرور ، وركب مركبته ، وخرج في رجاله إلى دار الولاية.

وعند وصوله إليها خرج إلى لقائه والي البلد وأعوانه ، وسلّموا على السلطان وأدخلوه بعز وإكرام. وبعد أن لبث برهة من الزمان للراحة نهض ، ونهض الوالي ورجاله ، وركبوا مركباتهم ، وساروا إلى ساحل البحر ، وكان الشعب قد تقاطر إلى هناك لمشاهدة سعادته وإكرامه.

وكان الوالي قد أمر أن يهيئوا باخرة جميلة لركوب سعادته ليسير فيها بحرا ، ويتفرج على الميناء. فركبها مع رجاله. وفيما هم سائرون جرى حادث مكرب في البحر كدر صفاء كأس سعادته ومن كان معه. وذلك أن باخرة عظيمة كانت خارجة من الميناء تريد الذهاب إلى نيويورك بأمريكا الشمالية ، وكانت سفينة صغيرة مشحونة بالسكر فيها خمسة رجال وامرأتان. فصدمت الباخرة تلك السفينة صدمة مهولة أغرقتها في قعر اللجة (٣) في طرفة عين. فبادر الناس إلى نجاة أولئك السبعة أنفار وأخرجوهم أحياء. وغرقت السفينة برمّتها مع ما كان فيها من

__________________

(١) ب : غداة

(٢) ب : شك

(٣) ب : الماء

٢١١

السكر. وتعطلت الباخرة الكبيرة من شدة الصدمة ، ورجعت إلى الميناء لإصلاح ما ترك عليها من الكسر.

ثم سار السيد إلى معمل السفن ومعه السادات ليردس وبودلر. وشاهد هناك تعويم مراكب جديدة. ثم تفرج على بقية الميناء ، ورجع بالسلامة إلى منزله.

وفي مساء ذلك النهار اتخذ والي المدينة مأدبة شائقة لسعادة السلطان حضرها كثيرون من أعيان البلد وأكابرها. وفيما هم على سفرة الطعام ، نهض والي البلد وطلب (١) إلى المدعوين أن يشربوا كأس الهناء بسرّ (٢) سعادة ضيفهم الجليل سلطان زنجبار. وقال : " قد حقّ على أهل العالم المتمدّن أن يرفعوا مقام هذا السلطان النبيل ويشكروه على ما خوّل البشرية من الحرية والفلاح ، وعلى اتفاقه (٣) مع دولة بريطانيا على إبطال تجارة الرقيق في أفريقية. وأنتم تعرفون حقّ المعرفة ـ أيها السادات ـ الخسائر المالية التي حاقت بدولته من جرّاء ذلك ، والمشقات التي عاناها في الانتصار على المصاعب التي نشأت في ملكه بسبب ذلك. وهذا الفعل الحميد خلّد ذكر سعادته في تاريخ الأمم المتمدنة". (أجاب المدعوّون : حبّذا! حبّذا!)

ثم استتلى الوالي خطابه ، وقال : " لا يخفاكم ـ أيها السادات ـ كم وكم من الملايين من الليرات الذهبية أنفقت دولتنا البريطانية على تحرير الرقيق وإبطال تجارتهم من العالم! وكم وكم من السنين والأعوام صرفنا في ذلك حتى بلغنا المراد! "

" أما سعادة السيد برغش فتحمل هذه الخسائر هو وحده ، ونجح في نوال المرغوب في وقت قصير ، وصار له علينا في هذا الأمر فضل عظيم ، وقد صمم ـ بعونه تعالى ـ على صرف الهمة إلى استئصال هذه التجارة الذميمة تماما من بلاده".

__________________

(١) أ : كلف

(٢) ب : في صحة

(٣) أ : تواطئه

٢١٢

" وقد أحطتم علما ـ أيها السادات ـ بما في مملكة ضيفنا الجليل من الغنى والمحاصيل والمعادن والخضار الدائم وبساتين النارنج (برتقال) وغيرها من الكنوز المدفونة في تربة تلك البلاد السعيدة. وأنتم تعلمون ـ علم اليقين ـ أن إخراج هذه الكنوز الثمينة من قلب الأرض يحتاج إلى مبالغ وافرة من النقود. وقد سمعتم مرارا عديدة من فم سعادته أنه يرغب من صميم قلبه في أن يرى شعب هذه المملكة البريطانية مشمرا عن ساعد الهمّة والجدّ ومقبلا على بلاده ، وساعيا في توسيع نطاق الفلاحة والزراعة والتجارة والمعارف إلى غير ذلك. وأنا لي ثقة أكيدة في أهل ليفربول المشهورين بعلو الهمة والإقدام وفتح أبواب التجارة في الدنيا بأسرها أن يغتنموا هذه الفرصة النادرة ويفتحوا أبوابا واسعة للتجارة في زنجبار".

قال هذا والي ليفربول ، ورفع كأس المدام ، وطلب إلى المدعوين أن يحذوا حذوه ، ويشربوا أقداح الهناء بسرّ صحّة (١) سلطان زنجبار المعظم. فنهض الجميع إجلالا لسعادته ، وقالوا : " حبّذا! حبّذا ضيفنا الجليل سلطان زنجبار! "

وفي أثناء ذلك نهض السيد برغش ، وتلا خطبة فصيحة بالعربية شكر بها لوالي ليفربول مكارمه العميمة وعلى ضيافته المنيفة. ثم أوعز إلى الفقيه باجر أن يترجم خطابه إلى الإنكليزي ويتلوه على أسماع الحاضرين. فامتثل الفقيه المومأ لأمر سعادته ، ونهض ، وقال :

" أيها الوالي الأفخم كرنل ستابل ، وأنتم أيها السادات والسيدات المصونات قد أوعز إلي السيد أن أترجم لكم خطابه ، وذلك فرض علي ، فأصغوا سمعا إلى ما أفصح به ، وأجاد".

فقال : " قد رأيت في مدينتكم المحروسة أمورا ملأت قلبي حبورا ، وأيقنت منها شدة سروركم القلبي بزيارتي بلادكم السعيدة. ولكن لو تمكنتم من فتح قلبي لرأيتموه يفيض سرورا بمشاهدتكم مما يعجز عن وصفه اللسان. فما لي سوى أن أشكر لكم هذا الإكرام العظيم الذي أسديتموه إليّ بلطف لا مزيد عليه. ولا غرو ، فأنتم حقيقون بأن تفتخروا ببلادكم السعيدة ،

__________________

(١) ب : في صحة

٢١٣

وتتباهوا بعوائدكم الحميدة. فياليتني كنت في منزلة تحاكي منزلتكم الرفيعة حتى كنت أباريكم في الافتخار بمملكتي. ولكن شتان ما بين الثريا والثرى! (١) فإن مجد بلادكم خلقه التمدن. وقد نشأ في حضن المعارف ، وبلغ أشده في تقاريع الدهور والأعصار".

" وأما زنجبار فقد ولدت في حضن الخشونة ، وما زالت في مهد الطفولة. وكم من الأيام والأعوام يقتضي لها أن تشبّ وتكبر؟ ولكن كيف تشب وتكبر ، وليس لها من لبان المعارف قطرة؟ وكيف تتقوّى وتعتزّ ، وليس لها من قوت التمدّن شذرة؟ لكن إن احتضنتها بريطانيا احتضان الأم لولدها (٢) وأرضعتها لبان المعارف والتمدن والفلاح شبّت على طبع أمّها (٣) ، وحذت حذوها ، ورقيت (٤) أوج المعالي ، وجلست عن يمين ربيبتها (٥) واستوت على عرش العز والأمجاد".

" وقد سررت بما رأيت في مدينتكم ـ هذه ـ من العمران وتمام الحرية. ولكن ما بلغتم هذه الدرجة الرفيعة من الفلاح حتى تجشمتم عرق العمل قربة (٦) ، وتجرعتم غصص المصاعب شربة بعد شربة".

" أمّا أنا فقد خضت بحر الأخطار وحدي ، وعاركت الدهر بساعدي وزندي ، وأنا أضعف منكم بالمال والرجال ، وإنما اعتصمت بالقدرة العلياء ، وقلت : " فإذا عزمت فتوكّل على الله" (٧). وبعونه ـ تعالى ـ تجرأت على إلغاء تجارة أنشأتها الأمة وأثبتتها السنّة (٨). ومن له

__________________

(١) ولكن ... الثرى : ساقط في ب

(٢) ب : ان بذلت بريطانيا الصديقة جهدها ...

(٣) ب : صديقتها

(٤) أ : رقت ، ب : بلغت

(٥) ب : يمينها.

(٦) أ : عرق القربة (كذا) وفي ب : عرق العمل

(٧) سورة آل عمران ٣ / ١٥٩

(٨) ب : الأجيال

٢١٤

إلمام في كنه ذلك أدرك ـ حقّ الإدراك ـ ما دون استئصالها من المصاعب والأخطار والخسائر. ولكن قد زالت الآن ـ بحوله تعالى ـ أكبر هذه المصاعب وما عدت أشتهي على الله شيئا سوى أن يديم لي وداد الدولة البريطانية ما حييت ، وأن يوطد دعائم هذه الصلات الحبيبة على أسس الخلوص والاستقامة".

" وأمّا ما أسديتموه إليّ ـ هذه الليلة ـ من العزّ والإكرام فقد انطبع في عقلي وقلبي طبعا ، لا يمحيه كرور الزمان ، ولا تدرس آثاره من نفسي آفة النسيان ، فاقبلي أيتها الأمة البريطانية العزيزة عربون ودادي وشكري : (الكامل)

فلأشكرنّك ما حييت وإن أمت

فلتشكرنّك أعظمي من قبرها

فلما ختم السيد خطابه هذا الفصيح هتف الحاضرون بأعلى أصواتهم ، وقالوا : " حبّذا! حبّذا سيد الفصحاء سلطان زنجبار! " ثم رفعوا أقداحهم ، ورشفوا عقارها بسرّ سعادته. أما السيد ـ أعزه الله ـ فلم يلمس الخمر ، ولكن مراعاة لمسايرة الحاضرين صبّ ماء زلالا في كأس ، ورفعها إلى فمه ، وقال : " إني أشرب بسرّكم (١) ـ أيها السادات ـ كأسا من الماء القراح الخالص عنوانا لخلوص ودادي لكم".

فقال الجميع : " حبّذا! حبّذا! "

ثم ختمت الوليمة ونهض السيد وتوادع مع الحاضرين ، وتصافح مع والي البلد ، وركب مركبته ، ورجع في رجاله إلى منزله بالسلامة.

__________________

(١) ب : بشرفكم

٢١٥
٢١٦

الباب السابع والثلاثون

في سفر السلطان إلى منشستر (١)

لبث السيد برغش بليفربول ثلاثة أيام. ثم خرج منها الى منشستر يريد الفرجة على ما فيها من معامل القطن والغزل والخام والجوخ إلى غير ذلك. وكان وصوله إليها بسكة الحديد نهار الجمعة ٩ جولاي (تموز) (٤ جمادى الثانية ١٢٩٢) صباحا.

وخرج أهل المدينة إلى لقائه ، وقابلوه بمزيد الترحاب كما قابلوا شاه العجم يوم زار مدينتهم. فإن الشعب كان قد عرف من صحف الأخبار أن وصول سعادة السلطان إلى مدينتهم يكون نهار الجمعة قبل الظهر بساعة. فتقاطرت الناس أفواجا أفواجا إلى محطة سكة الحديد. وقدم والي المدينة وأعوانه لملاقاة سعادته ، ورحبوا بتشريفه مدينتهم. وكان في صحبة السلطان السيد ناصر بن سعيد كبير (٢) وزرائه وأربعة من مستشاريه السيد حمد بن سليمان والسيد حمود بن أحمد (٣) والسيد محمد بن أحمد (٤) والشيخ محمد بن سليمان وحضرة تارياتوين والدكتور كيرك والفقيه جرجس باجر ومستر كليمنت هيل وباقي خدم سعادته.

وكانت عمدة مدينة منشستر قد هيأت مركبة ملوكية تجرها أربعة رؤوس خيل مطهمة لركوب سعادته ، فركبها في صحبة والي المدينة ، وسار جوزف هيرون ، وكاتم سره مستر بيرش قاصدين الدار المعدة لسكنى سعادته. وكان الناس قد اجتمعوا أفواجا إلى ساحة الدار ليسلموا على سعادته.

__________________

(١) تقع شمال شرقي لندن وتبعد عنها ٢٩٠ كلم ، وتتميز بنشاطها الصناعي وجامعتها. فصل :

٧٥٩ / ٧ : Manshester : N.E.B :

(٢) الصحيح أن كبير الوزراء هو حمد بن سليمان

(٣) أ ، ب : محمد

(٤) أ ، ب : أحمد

٢١٧

ولما وصل السيد صرخ الشعب بأصوات الحبور والترحيب : " أهلا وسهلا بسعادة سلطان زنجبار! ". فدخل السيد الدّار ، واستراح فيها نحو ٢٠ دقيقة من الزمان. ثمّ أحضروا له المركبة ثانية ، وطلبوا إليه أن يخرج إلى المدينة ليتفرّج عليها. فأجاب طلبتهم ، وساروا به أولا إلى معمل القطن كما فعلوا بشاه العجم يوم زار مدينتهم.

وكانت الأزقة مملوءة بالناس ، وهم مسرورون بمشاهدة سعادته ، ويكشفون قلانسهم عن رؤوسهم ، ويسلّمون عليه بألطف سلام أينما سار. وكان السلطان ـ أعزّه الله ـ يردّ عليهم السلام تارة بإحناء رأسه ، وأخرى بحركة يده.

ولما وصلوا إلى معمل القطن خرج إلى ملاقاة سعادته مستر ريشارد هورث صاحب المعمل ، وسلّم عليه ، ورحّب بتشريفه معمله. ثم دخلوا بالسلطان وأتباعه إلى أماكن الشغل ، وفرّجوه على طريقة حلج القطن ، وغسله ، ونسجه ، وكل ما أنيط به حتى يصير خاما. وكان الفقيه باجر يترجم لسعادة السلطان كل ما كان يشرحه صاحب المعمل لسعادته عن طريقة العمل. وفي أثناء ذلك توقفت أوائل البخار عن الشغل مدة ، وصار هدوء عظيم ، وأخذ العملة يغنون بمقامة الدولة البريطانية ترحابا بتشريف سعادته معملهم.

ولما قضى السيد الفرجة ، وأراد الخروج طلب إليه صاحب المعمل أن يشرفه بوضع اسم سعادته في كتاب الزوار تذكارا لزيارته الشريفة ، فأجاب السيد طلبته بلطف ، وكتب اسمه بالعربي : " برغش بن سعيد". فشكر صاحب المعمل لسعادته ذلك. وبعد أن توادعا خرج السلطان من المعمل. والناس من الداخل والخارج يحبذونه.

ثم ساروا بسعادته من هناك إلى دار التحف. وكان والي سالفرد يشرح لسعادة السلطان عمّا كان في تلك الدار من التحف النفيسة ، وما زالوا حتى حانت ساعة الغداء (١) ، فخرجوا من

__________________

(١) لم يرد في النص حديث عن الغداء.

٢١٨

هناك ، وساروا إلى دار التجارة ، وكانت الناس قد ملأت الأزقة والشوارع حتى كاد يتعسر مرور مركبة سعادته في الطريق من شدة ازدحام الناس.

ولما وصل السيد ورجاله إلى دار التجارة وصعد الدرج رأى جمعا غفيرا من الرجال والنساء والأولاد قد اجتمعوا إلى ساحة دار التجارة يريدون مشاهدته ، وهم يصرخون صراخا عاليا استرحابا بسعادته. وكان الشعب يتماوج من شدة الازدحام تماوج بحر عجاج متلاطم بالأمواج. ولما دخل السيد دار التجارة رأى منها ما سرّه غاية السّرور ، وتعجب من سعتها وعلوها وحسن بنائها وإتقان نقوشها ، وقال : " هذه الدار ، نعم الدار! " ولا غرو أن اتساع تجارة منشستر في الدنيا تحتاج إلى دار واسعة مثل هذه. وبعد أن قضى الفرجة على ما كان من التحف في تلك الدار خرج منها وركب مركبته ، ورجع في رجاله إلى منزله ، وشعب المدينة محدق به من وراء ومن قدام ، وهم يحبذونه الطريق بطوله.

٢١٩
٢٢٠