تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجار

زاهر بن سعيد

تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجار

المؤلف:

زاهر بن سعيد


المحقق: أحمد الشتيوي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: وزارة التراث والثقافة سلطنة عمان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٩٦

الباب الثامن والأربعون

في سفر سعادة السلطان من الإسكندرية الى مصر

عزم السيد برغش على السفر من الإسكندرية إلى مصر في اليوم السابع من رجب (١٠ أغسطس) ، فقام منها في رجاله بعد صلاة الظهر ، وركبوا قطار سكة الحديد ، وبعد ٦ ساعات وصلوا مصر القاهرة بعد المغرب بنصف ساعة. ثم نزلوا في دار فسيحة للرّاحة.

ثم حضر (١) أرباب الدولة إلى سعادته وطلبوا إليه أن يخرج معهم ليفرّجوه على زينة البلد تلك الليلة. فإنّ من عادتهم أن يزيّنوا المدينة ليلا بالمصابيح فرحا بفيض النيل (٢) الذي عليه مدار خصب أراضيهم وحسن غلالها. فأجاب السلطان طلبتهم وخرج معهم ، فساروا به إلى النيل في صحبة رجاله.

ثم ركبوا مركبا ، وساروا في النيل يتفرّجون على ما أعده أهل مصر من الزينة. وبعد أن فرغوا من الفرجة باتوا تلك الليلة في السفينة. وبات أهل مصر في أكمل زينة وسرور.

وكانت مصابيح كثيرة معلّقة في سفينة السلطان ومشاعل عديدة موقودة في البرّ حذاء سراية الخديو. وكانوا قد اتخذوا ألعابا من البارود تتطاير في الهواء على هيئات مختلفة.

ولما أشرق ضوء الصّباح ، وتلألأ بنوره الوضّاح ، وافى رجال الخديو إلى سعادة السلطان ، وأخرجوه إلى مكان فيض النيل. فلما نزلوا إلى البرّ رأوا ميدانا واسعا قد اجتمعت إليه العساكر النظامية. وعند وصول السيد إليهم رفعوا أسلحتهم للسّلام على سعادته. ثم

__________________

(١) أ : وافى

(٢) عن فيض النيل وذكر مقاييسه وزيادته يراجع : المقريزي : الخطط ١ / ٥٧ ـ ٦١

٢٦١

ساروا به إلى خيمة كانوا قد ضربوها على شط النيل. وكان قد اجتمع جمع غفير من أهل مصر للفرجة على ذلك الموسم.

ولبث السلطان هناك إلى أن دنت ساعة فيضان النيل ، فارتفع ماؤه إلى القياس المعيّن له. وهذا القياس عامود من رخام منصوب في مكان من النهر ينحصر الماء فيه. وهو مفصّل على اثنين وعشرين ذراعا ، وكل ذراع منقسم على ٢٤ قسمة متساوية تعرف بالأصابع. فإذا استوى الماء ١٩ ذراعا في الفيض كان غاية ما تمنّوه من طيب العام وخصب الأرض وجودة الغلال. وتارة يرتفع الماء أكثر من ١٩ ذراعا ، وربّما هذا أضرّ بالأراضي ، وسبّب فيها الطوفان. وآونة لا يرتفع إلى ١٩ ذراعا. والمتوسّط عندهم ما استوى إلى ١٧ ذراعا ، وهو أحسن مما زاد عليه.

أمّا مخرج هذا النهر فقد عني السيّاح كثيرا بالإطلاع عليه : منهم السايح ليفينكستن الإنكليزي ، واستانلي الأمريكاني وغيرهما. وزعموا أنهم وجدوا أصل مخرجه.

غير أنه من المعلوم أن ينابيع مياهه إلى جنوبي بلاد دارفور ، ويصبّ فيه أنهر ونهيرات من بلاد الحبش. وقبل دخوله إلى مصر تعترض جريانه صخور ، فيحدث نوع من الشلالات ، وتسمى جنادل النيل : الأول منها في بلاد دنكلة من النوبة ، والثاني في بلاد النوبة الداخلة في حكم مصر وهو أقوى الثلاثة ، والثالث عند دخول النيل إلى مصر بقرب أسوان. ومن أسوان إلى القاهرة يجري بين جبلين شرقيهما ممتدّ إلى البحر الأحمر ، وغربيهما ينتهي إلى الصحراء الكبيرة.

والوادي الحادث بين هاتين السلسلتين ينفرج إلى جهة الشمال وأراضيه مروية بماء النيل عند فيضه. وعند ما ينتهي النيل إلى مكان يقال له (بطن البقرة) ينقسم إلى شطرين : أحدهما

٢٦٢

يصبّ في البحر المتوسط بقرب مدينة رشيد (١) ، والآخر يأخذ إلى دمياط (٢) ، والأراضي بينهما يقال لها" الدلتا" عند اليونانيين والإفرنج. وأما عند العرب فاسمها" البحيرة".

ولما يكون نهر النيل على حالته الاعتيادية لا يصلح لركوب سفينة وسقها (٣) أكثر من ١٢٠٠ قنطار من مدخله إلى الجندل الأول. ولكن عند فيضه يصير عمقه نحو ٤٠ قدما ، وتجري فيه السفن الكبيرة حتى القاهرة. وأما علّة (٤) فيضه فهي وقوع الأمطار الغزيرة في الجبال المجاورة لمخرجه. وقد أشار إلى ذلك الأمير تميم بن المعزّ (٥) بقوله : (السريع)

أما ترى الرّعد بكى واشتكى

والبرق قد أومض واستضحكا

فانظر إلى غيم كصبغ الدّجى

أضحك وجه الأرض لّما بكى

وانظر لماء النيل في مدّه

كأنّه الصندل قد مسّكا

ويبتدئ فيض النيل عند الانقلاب الصيفي (٦) ويصل إلى أعلى درجة الارتفاع

عند الاعتدال الخريفي (٧) ، فيستمر إلى ذلك عدّة أيام. ثم يأخذ في التناقص إلى الانقلاب الشتوي (٨).

__________________

(١) مدينة متوسطية تقع على الضفة الغربية لبحيرة النيل (الدلتا) ازدهرت في عهد محمد علي باشا. فصل :

Rashid : E. I. ٢ : VIII / ٨٣٤) Atiya (

(٢) مدينة متوسطية تقع على الضفة الشرقية لبحيرة النيل (الدلتا) عانت من الحروب الصليبية. فصل :

Dimyat : E. I. ٢ : II / ٢٩٢) Holt (

(٣) ب : حمولتها

(٤) ب : أسباب

(٥) أحد الفاطميين (٣٣٧ / ٩٤٨ ـ ٣٧٤ / ٩٨٥) أبوه المعز صاحب الديار المصرية والمغرب ، مال إلى الأدب ، ولم يحكم. له ديوان مطبوع. الزركلي : الأعلام ٢ / ٨٨ ، وفصل : Tamim : E.I.٢ : X / ١٧١ ـ ٢ (Smoor)

(٦) أي يوم ٢١ / ٦ (أطول نهار وأقصر ليل)

(٧) أي يوم ٢١ / ٩ (اعتدال النهار والليل)

(٨) أي أي يوم ٢١ / ١٢ (أطول ليل وأقصر نهار)

٢٦٣

وبعد انحدار الماء من الأراضي تبقى مكتسية (١) بطين أسود علك (٢) ، فيه دسومة كثيرة ، يسمّى" الإبليز" وهو يدمّلها (٣) ، ويقوّيها على تغذية النبات والزروع. وكلما زاد فيض النيل زاد الخصب في بلاد مصر. وفي ذلك قال أبو الحسن المعروف بابن الوزير (٤) : (من الوافر)

أرى أبدا كثيرا من قليل

وبدرا في الحقيقة من هلال

فلا تعجب ، فكل خليج ماء

بمصر مسبّب لخليج مال

زيادة إصبع في كل يوم

زيادة أذرع في حسن حال

وقال المؤرخ عبد اللطيف البغدادي (٥) في كلامه على نيل مصر : " اتفق أن زيادة النيل بلغت في سنة ست وتسعين وخمس مائة للهجرة ١٢ ذراعا و ٢١ أصبعا. وهذا المقدار نادر جدّا فإنه لم يبلغنا ـ منذ الهجرة إلى الآن ـ أنّ النيل وقف على هذا الحد قطّ إلا في سنة ٣٥٦ فإنه وقف دون هذا المقدار بأربعة أصابع. وأما على ثلاثة عشر ذراعا وأصابع فإنه وقع ستّ مرّات في هذه المدة الطويلة. وأما ١٤ ذراعا فإنه وقع (٦) نحو ٢٠ مرّة. وأما ١٥ ذراعا فأكثر من ذلك كثيرا".

" وزعم أقباط الصعيد أنهم يتكهنون على مقدار الزيادة في السّنة من طين معلوم الوزن ، ينجّمونه في ليلة معروفة ، ويزنونه غدوة ، فيجدونه قد زاد ، فيحكمون من مقدار زيادته على مقدار زيادة النيل. وقوم يتكهنون من حمل النخل. وقوم من تعسيل النحل. ورأيت أن بعض (٧)

__________________

(١) ب : مكتسبة

(٢) علك : ساقط في ب

(٣) دمل الأرض : أصلحها بالدمال أي الزبل

(٤) وجدنا عدة أعلام يحملون هذا الاسم دون : ابو الحسن

(٥) يعرف بابن اللباء : (٥٥٧ / ١١٦٢ ـ ٦٢٩ / ١٢٣١) عالم متعدد الاختصاصات ، له عدة تصانيف منها : الدرة المضيئة في فضل مصر والاسكندرية وأخبار مصر. كحالة : معجم : ٦ / ١٥ ـ ١٦ ، وفصل :

Abdellatif : E. I. ٢ : ١ / ٤٧) Stern (

(٦) أ : صلح

(٧) أ ، ب : ورأيت لبعض من شرح ...

٢٦٤

من شرح الثمرة لبطليموس (١) الحكيم ذكر في تفسير الكلمة الأخيرة التي يقول في أولها" النيازك" أنّ : " النّيازك شهب تظهر في الجو ليلا وتتساقط سقوط النجوم. وهي تدل على جفاف الأبخرة ، فإذا كانت في جهة واحدة دلت على رياح تعرض في تلك الجهة ، وإذا كانت شائعة في الجهات كلها دلت على جفاف الأرض ويبوسة الهواء وقلة وقوع الأمطار. ونتج من ذلك نقصان في فيض النيل".

وعندي أن هذا التعليل يقارب الصدق ، فإن أصل المطر بخار يتصاعد من الأراضي الرطبة ومستنقعات المياه ومن الأنهار (٢) والبحار بشدّة حرارة الشمس. ثم يتكاثف في الجوّ ، ويتكوّن منه الندى والمطر. وذلك أن البخار يعلو في الهواء ويتكاثف ويستحيل غيوما. وهذه الغيوم لا تبعد أن تذهب بها الرّيح إلى طبقات الهواء ، فتبرد في الكليّة ، وتستحيل إلى ماء ، وتنصبّ مطرا. وما كان من هذه الغيوم دفع إلى أعلى الجبال الشامخة ، وانحدر إليها ثلجا ، ومنه تتكون كثبان الجليد المخلّدة. ومن هذه الثلوج وهذه الأمطار تتولد العيون ، وتتربى السواقي ، والبرك والأنهر. ثم تسقي الأراضي وينصبّ ما فضل عنها إلى البحار. وهناك تستحيل من جديد إلى بخار ، وترجع إلى سيرتها (٣) الأولى. وهذا الترتيب يدوم بلا انقطاع ما دامت الشمس والأرض على الحالة التي هما فيها الآن.

ولما فرغ السلطان من الفرجة على زيادة النيل سار به رجال الدولة المصرية إلى قصر جميل كانوا قد أعدوه لسكناه : وهي دار كبيرة ذات طبقات عديدة مزخرفة ومفروشة بأثاث فاخر ومزينة بثريات جميلة وقناديل كبيرة ، وفيها من الكراسي والأسرّة المموّهة بالذهب إلى غير ذلك مما يليق بمقام الملوك. وحول الدار جنينة واسعة ذات أشجار عالية وأزهار نضرة.

__________________

(١) قلاوديوس (٩٠ م ـ ١٦٨ م) فلكي ورياضي وجغرافي يوناني. ترجم العرب آثاره ونقدوه وأصلحوا ما فيها من أخطاء.

فصل : Batlamiyus : E.I.٢ : ١ / ٠٠١١ (PLESSNER)

(٢) أ ، ب : النهر

(٣) أ : سفرتها

٢٦٥

ومصمود (١) أمام الباب تمثال إبراهيم باشا (٢) والد الخديو ، وهو راكب على حصان. وكانت العساكر محافظة على تلك الدار من داخل ومن خارج.

ولما استقرّ السلطان فيها ، واستراح مدة من الزمان ، طلب إليه رجال الدولة المصرية أن يخرج معهم ليفرّجوه على ما في المدينة من المنتزهات والتحف. فأجاب طلبتهم ، وخرج. فساروا به أولا إلى بستان الأزبكيّة (٣) : وهو بستان كبير محفوف بالأشجار والأزهار ، وفيه بركة ماء متسعة كان المرحوم محمد علي باشا ـ صاحب مصر ـ يجلس عليها للمؤانسة مع حرمه. وقيل : إنه كان له قارب صغير يجعله في البركة ، وتنزل فيه بعض من جواريه ويقذفن به حول البركة.

وبعد أن فرغوا من الفرجة على تلك الدار ، وما فيها من التحف ساروا به ثاني يوم إلى خزانة الكتب (٤) ومدرسة الطبّ. فرأوا فيها تلاميذ كثيرين من طلبة العلم والمريدين. وفي خزانة الكتب هذه مصاحف كبيرة الحجم وقديمة العهد ، وفيها كتب الفقه والفرائض والطب والتفاسير والنحو والصرف والفلسفة والهندسة والكيمياء والشعر والآداب إلى غير ذلك من كتب العلوم القديمة والمستجدّة ، ومصمود (٥) ـ في بعض غرف الدار ـ ثلاث صور : واحدة صورة لمحمد علي باشا ، والثانية صورة ولده إبراهيم ، والثالثة صورة الخديو إسماعيل باشا. وفي غرفة أخرى آلات علم الطبيعيات : منها آلة كهربائية تتركب من دولاب ولوح من البلور ،

__________________

(١) ب : مقام

(٢) هو ابن محمد علي باشا (١٢٠٤ / ١٧٩٠ ـ ١٢٦٤ / ١٨٤٨) كان قائدا عسكريا تمكن من الاستلاء على بلاد الشام ثم عادت إلى الباب العالي. تولى حكم مصر في حياة ابيه مدة ٧ أشهر. الطعمي : معجم : ص ص ٨ ـ ٩ ، الزركلي : الأعلام : ١ / ٧٠

(٣) حي من أحياء القاهرة. ورد في كتاب" القاهرة في ألف عام" (٩٦٩ ـ ١٩٦٩): " وبعد ما كانت الأزبكية حيا مزدحما بالبيوت ذات المشربيات التقليدية أصبحت تضم مباني مبنية على الطراز الفرنسي" ص ٢٩ ، زكي : موسوعة : ص ١١ ـ ١٢

(٤) المقصود المكتبة الوطنية التي ستحمل اسم : دار الكتب ، اسسها الخديوي اسماعيل سنة ١٨٧٠ بدرب الجماميز ، ثم نقلت إلى أماكن أخرى. زكي : موسوعة : ص ١٠٧ ، وفصل : Ismail Pasha : E.I.٢ : IV / ٢٩١

(٥) ب : ومعلّق

٢٦٦

فإذا دار الدولاب بسرعة ، ودنا الإنسان منها سرت الكهربائية من الآلة إلى جسمه ، وشعر برجّة شديدة.

أما المدرسة ففيها من جميع أصناف العلوم العربية والإفرنجيّة ، وفيها مريدون كثيرون يدرسون العلوم العقلية والصناعية والطبية واللغوية ، وكل ما يحتاج إليه روح العصر من التمدن.

ثم ساروا من هناك إلى مدرسة البنات ، وحضروا فحصهن واختبارهنّ في فنّ الحساب والجغرافية والتاريخ والموسيقة واللغات العربية والتركية والإنكليزية والفرنساوية وغيرها. ثم فرّجوه بعد ذلك على مدرسة الخياطة والتطريز (١) والزركشة بالحرير والقصب (٢) إلى غير ذلك.

ولما فرغوا من الفرجة على ما كان في تلك المدرسة خرجوا ، وساروا بسعادة السلطان إلى منزله.

وفي اليوم الثاني خرجوا بالسيد ورجاله ، وساروا إلى معمل الأسلحة ، وفرّجوه على طريقة عمل الأسلحة بجميع أصنافها.

ثم ساروا إلى دار الطباعة ببولاق (٣) ، وتفرّجوا على طريقة طبع الكتب وجميع آلات المطبعة.

ثم فرّجوا السيد على طريقة عمل القرطاس من الأثواب البالية والخرق وورق الموز وعلى جميع الآلات التي تشتغل [لصناعة](٤) القرطاس حتى يخرج كاملا يصلح للكتابة.

__________________

(١) أ ، ب : النقش ، والصحيح ما أثبتنا

(٢) ثياب مقصّبة : مزينة بالشريط المطروق من الذهب والفضة

(٣) قرية صغيرة قرب القاهرة ، وبها وضع بونابرت مطبعته أثناء حملته على مصر. ثم تأسست بها أول مطبعة مصرية سنة ١٨٢١. وكان يشرف عليها مجموعة من الفنيين الذين تعلموا في ميلانو ، ثم تحولت ملكيتها إلى مؤسسة خاصة سنة ١٨٦٢.

فصل : Bulak : E.I.٢ : ١ / ٩٩٢١ (Jomier)

(٤) إضافة يقتضيها السياق

٢٦٧

ثم ساروا بالسيد ورجاله إلى بستان مجمع الحيوانات ، وفرّجوهم على ما في ذلك البستان من الحيوانات الغريبة. والبستان في مكان يسمّى الجزيرة ، وفيه قصر للخديو جميل البناء مزيّن بالأثاث الفاخر والأسرّة والكراسي والموائد المموّهة بالذهب وقناديل وثريّات ثمينة ومرايا كبيرة (١). وفي البستان حيوانات من كل الأصناف ، وكان بينها جاموس ذكر عجيب الخلقة ذو ستّ قوائم : اثنتان من قدام وأربع من وراء ، بخلقة كاملة. وهذا من فلتات الطبيعة.

ولما كان اليوم الثاني عشر (١٧ أغسطس) ساروا بالسيد إلى دار التّحف (٢) ، وفرّجوه على الأصنام القديمة التي وجدوها تحت الأرض من عهد قدماء المصريين والفراعنة. وهذه الأصنام ـ مع كثرة عددها وعظم صورها ـ أمر يفوق الوصف ويتجاوز التقدير. وكذلك إتقان أشكالها وإحكام هيآتها والمحاكاة بها الأمور الطبيعية فموضع التعجب بالحقيقة. فمن ذلك صنم ارتفاعه سوى (٣) قاعدته نيف وثلاثون ذراعا. ومداه من جهة على تلك النسبة. وهو حجر واحد من الصّوان الأحمر ، وعليه من الدّهان كأنه لم يزده تقادم الأيام إلا جدّة.

والعجب كل العجب كيف حفظ فيه ـ مع عظمه ـ النظام الطبيعي والتناسب الحقيقي الذي عنه يحصل حسن الهيئة وملاحة الصورة. وقد أحكم في هذه الأصنام إحكاما وأي إحكام! فمن ذلك مقادير الأعضاء في نفسها. ثم نسب بعضها إلى بعض. فإنك ترى الصنم قد ابتدأ بانفصال صدره عن عنقه عند الترقوة بتناسب بليغ. ثم يأخذ الصدر بارتفاع الترائب إلى الثندوتين ، فيرتفعان عمّا دونها ويفرزان عن سائر الصدر بنسبة عجيبة ، ثم يعلوان إلى حد الحلمة.

__________________

(١) كان الخديوي اسماعيل مغرى بمحاكاة قصور أوروبا وحدائقها ونمط حياتها مما أدى إلى ديون عريضة. الطعمي : معجم : ص ٧٩ وما بعدها

(٢) أسسها إسماعيل باشا مع جمعية جغرافية (تقليدا للجمعية الجغرافية الملكية في بريطانيا) تحت رئاسة عالم الآثار الفرنسي ماريات (Mariette Pasha). زكي : موسوعة ص ٢٢٦. فصل : Ismail Pacha (أعلاه)

(٣) ب : عند

٢٦٨

ثمّ تصوّر الحلمة مناسبة لتلك الصورة الهائلة. ثم تنحدر إلى الموضع المطمئن عن القصّ وفرجة الزّور وزرّ القلب وإلى تجعيد الأضلاع والتوائها كما هو موجود في الحيوان الحقيقي. ثم تنحدر في مقاط الأضلاع ومراق البطن والتواء العصب وعضل البطن يمينا وشمالا ، وتوترها وارتفاعها وانخفاض ما دون السرّة ممّا يلي الاقراب. ثم تحقيق السرّة وتوتر العضل حولها. ثم الانحدار إلى الثّنّة والحالبين وعروق الحالب والخروج منه إلى عظمي الوركين. وكذلك انفصال الكتف واتصاله بالعضد. ثم بالساعد وانفصال حبل الذراع والكوع والكرسوع وإبرة المرفق ونهري مفصل الساعد من العضد وعضل الساعد ورطوبة اللحم وتوتر العصب ، وغير ذلك مما يطول شرحه.

وقد صوّر كفّ بعضها قابضا على عمود قطره شبر كأنه كتاب. وصورة الغضون والأسارير التي تحدث في جلدة الكف مما يلي الخنصر عند ما يقبض الإنسان كفه. أما حسن أوجهها وتناسبها فعلى أكمل ما في القوى البشرية أن تفعله وأتمّ ما في المواد الحجرية أن تقبله. ولم يبق إلا صورة اللحم والدّم. وكذلك صورة الأذن وحتارها وتعارجها على غاية التمثيل والتخييل. واتخاذ الأصنام قد كان في ذلك الزمان شائعا في الأرض ، عامّا في الأمم.

وما زالت الملوك تراعي بقاء هذه الآثار ، وتمنع من العبث بها وإن كانوا أعداء لأربابها. وهم يفعلون ذلك لمصالح : منها لتبقى تلك الأصنام تاريخا ينتبه به على الأحقاب. ومنها أن تكون شاهدة للكتب المنزّلة. ومنها أنها تدل على شيء من أحوال من سلف وسيرتهم وتوفّر علومهم وصنائعهم وفكرهم ، وغير ذلك. وهذا كله مما تشتاق النفس إلى معرفته وتؤثر الإطلاع عليه.

٢٦٩

ثم ساروا بالسيد ورجاله إلى مكان كانت فيه جثث موتى المصريين القدماء ، وقد لفّت بنسيج من القنّب (١) ، لعلّه يكون على الميّت منها زهاء ألف ذراع. وقد كفّن كل عضو على انفراده كاليد والرجل والأصابع في قمط دقاق. ثم تلفّ جثة الميت حتى يرجع كالحمل العظيم.

ويوجد بعض موتاهم في توابيت من خشب الجمّيز الثخين ، ويوجد بعضهم في نواويس من حجارة ، إمّا رخام وإمّا صوان ، وبعضهم في أزيار مملوءة عسلا.

وهؤلاء الموتى قد يوجد على جباههم وعيونهم وأنوفهم ورق من الذهب كالقشر. وربما وجد قشر من الذهب على جميع الميت كالغشاء. وربما أوجد عنده الالة التي كان يزاول بها العمل في حياته. وقد وجدوا عند ميّت منهم آلة المزيّن (٢) : مسنّ وموسى. وعند آخر آلة الحائك.

ويظهر من حالهم أنه كان من سنتهم أن يدفنوا مع الرجل آلته وماله. ويوجد في أجواف هؤلاء الموتى وأدمغتهم شيء يسمّونه" المومياء" ويشاهد أيضا داخل العظام ، وقد تشرّبته ، وسرى فيها حتى صارت كأنها جزء منه. وهذه المومياء سوداء كالقار (٣) : إذا اشتد عليه حرّ الصيف يجري ، ويلصق بما يدنو منه. وإذا طرح على الجمر غلى ودخّن. وشمّت منه رائحة القار (٤) أو الزّفت ، والغالب أنه زفت. وكان حكماء المصريين يخلطونها ، ويصبّرون (٥) بها جثث موتاهم لتصبر على ممرّ الزمان. وقد صبرت ، وصبر الزمان على ممرّها.

ثم خرجوا بالسيد ورجاله من دار التّحف ، وساروا بهم إلى مدرسة الطبّ (٦) وفرّجوهم على محلّ كانوا قد جمعوا فيه تصاوير الأمراض والأوجاع والآفات في تصاوير من شمع يخالها

__________________

(١) ب : القنب (الكتان)

(٢) ب : المزين (الحلاق)

(٣) أ : أسود كالقفر ، ب : سوداء كالقفر

(٤) أ ، ب : القفر

(٥) ب : يصبرون : (يحنطون)

(٦) أنشئت سنة ١٨٢٧ وفي سنة ١٨٣٩ أضيفت إليها مدرسة القابلات ، ثم مدرسة الصيدلة. زكي : موسوعة ص ٢٢٦

٢٧٠

الناظر إليها كأنها أيد وأرجل وأنوف وقلوب طبيعية مصابة بمرض من الأمراض ، ويفعلون ذلك بقصد أن يسهّلوا على طلبة علم الطب معرفة الأوجاع وطريقة علاجها.

ثم دخلوا بالسيد إلى معمل الكيمياء ، وهو مكان يحلّلّون فيه الطبايع ، ويركّبونها ، ويغيّرون ألوانها. وعلم الكيمياء ـ عند علماء هذا الزمان ـ خلاف علم الكيمياء الذي كان عند القدماء ، فإن ذلك كان ضربا من الخرافات : كان يزعم صاحبه أنه يستطيع أن يقلب الرّصاص إلى فضّة ، والنحاس إلى ذهب. وما أحد منهم قدر (١) أن يفعل هذا الانقلاب حتى انقلب دماغه ، ومات يائسا.

ولما كان اليوم الثالث عشر (١٨ أغسطس) ساروا بسعادة السلطان إلى الإسماعيلية في ظاهر البلد ، وهناك عرضوا على سعادته جنود الجيش المصري ، وهم يمارسون فنون الحرب بإطلاق البنادق والمكاحل والمدافع والهجوم والدفاع ، وكأنهم في معمعة الحرب والقتال. ثم باشر الجنود في ممارسة إطلاق المدافع والمكاحل على الغرض والهدف : فمن أصاب نقطة الغرض أو قرب منه رفعوا له علما دلالة على أنه أصاب ، وإن أخطأ لم يرفعوه. ثم تفرّج السلطان ورجاله على العسكر ، وهم يمارسون فنّ المسايفة (٢) وعلم الطّعان.

ثم رجعوا إلى منزلهم.

وكان الخديو عاد تلك الليلة من الإسكندرية ، فسار السلطان في رجاله ، وسلّموا عليه. وبعد ذلك قدم الخديو ووليّ عهده وابنه حسن باشا إلى منزل السلطان لردّ السلام ، فقابلهم السلطان بلطف وترحاب. ثم خرج الخديو من لدن السيّد ، وانصرف إلى قصره بالسلامة.

__________________

(١) ب : استطاع

(٢) ب : المسايفة (المبارزة)

٢٧١

ولما كان اليوم الرابع عشر (١٩ أغسطس) ساروا بسعادة السلطان ورجاله ، وفرّجوهم على قلعة مصر (١). وهي قلعة كبيرة أمر ببنائها صلاح الدين يوسف بن أيّوب على يدي قراقوش (٢) ، وكان خصيّا روميّا سامي الهمة ، وكان يتولى عمائر مصر ، وهو الذي بنى السور (٣) من الحجارة محيطا بالفسطاط والقاهرة وما بينهما وبالقلعة التي على جبل المقطّم (٤). فلما بنى القلعة أنبط فيها البئرين الموجودين اليوم ، وهما أيضا من العجائب (٥) وينزل إليهما بدرج ، نحو ثلاثمائة درجة ، فنزلوا بسعادة السيد إلى هذه البئر على عمق ربعها ، وفرّجوه على طريقة استقاء الماء منها.

ويزعم قوم من الذين ليس لهم إلمام بعلم التاريخ أن سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ كان قد سجن في هذه البئر. وهذا خطأ : فإن هذه البئر لم تنبط (٦) إلا في عهد صلاح الدين يوسف بن أيوب كما أسلفنا الى ذلك.

وقد شاد (٧) محمد علي باشا صاحب مصر مسجدا عظيما في هذه القلعة. وهو مبنيّ بحجر الرخام الأصفر ومزيّن بثريات جميلة وقناديل عديدة. ولما توفّي أقاموا له ضريحا في قبة إلى جانب باب المسجد (٨) وما زال قبره هناك إلى اليوم ، وحوله مصابيح وقناديل وشموع ، وعلى دائرة القبة اسم محمد وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وفاطمة والحسن والحسين.

__________________

(١) تسمى أيضا : قلعة الجبل وهي القلعة التي أمر ببنائها صلاح الدين على جبل المقطم سنة ٥٧٩ / ١١٧٦ وتم بناؤها سنة ٦٠٤ وصارت دار مملكة مصر. المقريزي : الخطط : ٢ / ٢٠٣

(٢) هو قرقواش الأسدي. المقريزي : ٢ / ٢٠٣

(٣) أمر ببنائه صلاح الدين أيضا سنة ٥٦٦. المقريزي : الخطط : ١ / ٣٧٩

(٤) هذا الجبل يمر على جانبي النيل إلى النوبة. المقريزي : الخطط ١ / ١٨٤ ، زكي : موسوعة ص ٢١٤

(٥) هما في الحقيقة بئران يستقبلان الماء من النيل عبر السواقي. المقريزي : الخطط ٢ / ٢٢٩

(٦) ب : لم تنبط (تنشأ)

(٧) أ ، ب : أشاد

(٨) دفن محمد علي باشا بجامعه بالقلعة. الطعمي : معجم ص ٣٦٤

٢٧٢

ثم خرجوا من القلعة ، وساروا إلى الدار التي كان قد بناها محمد علي باشا لنفسه وهي دار رحبة محفوفة بالجنائن تشرف على مدينة القاهرة.

ولمّا كان وقت العصر سار السيد ورجاله إلى زيارة ضريح الحسين بن علي بن أبي طالب (١). وهو ضريح مزيّن بأفخر الزينات. قيل : إن التابوت المدفونة فيه عظام الحسين (٢) هو من فضة. وقد شادوا عليه قبّة ذات بنيان فاخر ، وجلّلوا الضريح بأصناف الديباج ، وحول التابوت شماعدين كبيرة تتّقد فيها شموع بيضاء من الشمع. والقبة كلها مزيّنة بالنقوش الذهبية ، وأرضها وحيطانها من الرخام المجزّع الغريب الصّنعة والبديع الترصيع. وفي صدر المسجد حجر شديد السّواد والبصيص يلمع كالمرآة ، والزوّار يتزاحمون على القبر ، ويتبركون به ، ويمسحونه بكسوتهم.

ثم ساروا بسعادة السيد ورجاله إلى زيارة الجامع الأزهر (٣) ، والمسجد الذي بناه السلطان حسن (٤) وفيه قبره من تاريخ خمسمائة وثمان وخمسين سنة. ثم فرّجوهم على المسجد (٥)

__________________

(١) الحسين هو ابن فاطمة الزهراء (٩ / ٦٢٤ ـ ٦١ / ٦٨٠) استشهد في معركة مع جيش يزيد بن معاوية وأرسل رأسه ونساؤه وأطفاله إلى دمشق ، ولا يعلم حيث دفن. الزركلي : الأعلام : ٢ / ٢٤٣. الفصلان :

Al ـ Husayn : E. I : III / ٤٧٢) Lammens (, E. I. ٢ : III / ٠٤٢ ـ ٣) Vaglierie (

(٢) هذا الضريح أنشئ عام ٥٤٩ / ١١٥٤ في أيام الخليفة الظافر بأمر الله ، وجدده الخديوي عباس اسماعيل زكي : موسوعة ص ٣٤٢

(٣) تاريخ بنائه (٩٧٠ م ـ ٩٧٢ م) بناه جوهر الصقلي للفاطميين لتدريس الفقه الشيعي. زكي : موسوعة ص ١١ ـ ١٣ وفصل : Al Azhar : E.I.٢ : ١ / ٣١٨ (Jomier)

(٤) هو مسجد ومدرسة للمذاهب الأربعة ، يوجدان بشارع القلعة المقريزي : الخطط ٢ / ٣١٦ ، زكي : موسوعة ص ٣٠٢ ـ ٣٠٦

(٥) يسمى أيضا : تاج الجوامع ، والجامع العتيق : هو أول مسجد أسس بديار مصر بعد الفتح الاسلامي سنة ٢١ / ٦٤١. وكان وقتئذ مشرفا على النيل وكانت مساحته ٥٠ ذراعا* ٢٠ ذراعا وفرشه الحصى ... تم تجديده عدة مرات. المقريزي : الخطط ٢ / ٢٤٦ ـ ٢٥٦ ، زكي : موسوعة : ص ٣٢٢ ـ ٤

٢٧٣

المنسوب إلى عمرو بن العاص (١) ، وقبر الإمام الشافعي (٢) وهو العالم محمد بن إدريس ، وعلى قبره حجر كبير منقوش عليه بالقلم العربي" هذا قبر محمد بن إدريس الشافعي أمين الله". وقد كتبوا حول القبّة آيات من القرآن الشريف بمداد الذهب وباقي أسماء الصحابة إلى الحسن (٣) والحسين.

ولما فرغ السيد من زيارة تلك المساجد رجع بالسلامة إلى منزله.

__________________

(١) عمرو بن العاص (٥٠ ق ه / ٥٧٣ ـ ه / ٦٦٣) أحد عظماء العرب أسلم في هدنة الحديبية تولى امارة الجيش في عدة غزوات وكان من أمراء الفتح في الشام ومصر الزركلي : الاعلام ٥ / ٧٩ ، فصل :

٤٥١ / ١ : Amr b.Al As : E.I.٢

(٢) صاحب أحد المذاهب الأربعة عند أهل السنة (١٥٠ / ٧٥٧ ـ ٢٠٤ / ٨١٩) نشأ بمكة ، أقام بمصر وبها توفي من تصانيفه :

المسند في الحديث ، أحكام القرآن. كحالة : معجم ٩ / ٣٢ ـ ٣٤

(٣) عاش بين ٣ / ٦٢٤ ـ ٥٠ / ٦٧٠) خامس الخلفاء الراشدين وأخرهم وثالث لأئمة الاثني عشر عند الإمامية. تنازل عن الخلافة لمعاوية بعد ستة أشهر. الزركلي : الأعلام ٢ / ١٩٩. الفصلان :

Al Hasan : E. I : III / ٤٧٢) Lammens (, E. I. ٢ : III / ٠٤٢ ـ ٣) Vaglierie (

٢٧٤

الباب التاسع والأربعون

في فرجة سعادة السلطان على أهرام مصر

لما كان اليوم الخامس عشر (٢٠ أغسطس) بعد صلاة الفجر خرج السيد ورجاله يريدون الفرجة على أهرام مصر (١). وهي من بقايا آثار المصريين القدماء ، وقد أكثر الناس من ذكرها ووصفها. وهي كثيرة العدد. وكلها ببرّ الجيزة ، وعلى سمت مصر القديمة ، وتمتدّ في نحو مسافة يومين ، وبعضها كبار ، وبعضها صغار ، وبعضها طين ولبن ، وأكثرها حجر ، وبعضها مدرّج ، وأكثرها مخروط أملس. وقد كان منها بالجيزة عدد كثير ، لكنها صغار ، فهدمت في زمن صلاح الدين يوسف بن أيوب (٢) كما ذكرنا (٣).

وأما الأهرام الموصوفة بالعظمة فثلاثة أهرامات موضوعة على خط مستقيم بالجيزة قبالة الفسطاط ، وبينها مسافة يسيرة ، زواياها متقابلة نحو المشرق ، واثنان منها عظيمان جدّا (٤) ، وفي قدر واحد. وبهما أولع الشعراء ، وشبّهوهما بنهدين قد نهدا في صدر الديار المصرية.

__________________

(١) أغرم الغربيون بآثار الفراعنة وأهرامهم واهتموا بدراستها منذ حملة نابليون. وللاطلاع يراجع مثلا : فيرنوس (باسكال) : موسوعة الفراعنة : الأسماء ، الأماكن ، الموميات. ترجمة د. محمود ماهر طه ، دار الفكر للدّراسات والنشر والتوزيع ، القاهرة ط ١٩٩١ ، بوزنر (جورج) : معجم الحضارة المصرية القديمة ، ترجمة أمين سلامة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ١٩٩٢.

(٢) الملك الناصر (٥٣٢ / ١١٣٨ ـ ٥٨٩ / ١١٩٣) مؤسس الدولة الأيوبية ، وهازم الصليبيين. الزركلي : الأعلام ٨ / ٢٢٠ فصل : Salah al Din : E.I.٢ : VIII / ٠١٩ ـ ٤ (Richards)

(٣) نقل الكاتب هذا الكلام عن المقريزي : الخطط ١ / ١١١

(٤) اثنان عظيمان : أحدهما الأكبر وهو من بناء فرعون من الأسرة الرابعة وهو خوفو (ح. ٢٥٣٨ ق م ـ ٢٥١٦ ق م) يبلغ ارتفاعه ٦ ، ١٤٦ م وطول ضلعه ٩ ، ٢٣٠ م. أما الهرم الثاني فهو من عمل خفرع (ح. ٢٥٠٩ ـ ٢٤٨٤ ق م) ويبلغ ارتفاعه ١٤٣ م ، وضلع قاعدته ٩ ، ٢٠٣ م. فيرنوس : موسوعة ص ٧٧ ، زكي : موسوعة ص ١٧ ، بوزنر : معجم ص ١١٣ ، ٤ ـ ٢٣٣Ancient : pp

٢٧٥

وزعم صاحب القاموس (١) من باب الخطأ ، وقال : " الهرمان بناءان أزليان بمصر بناهما إدريس (نوح) عليه السلام لحفظ العلوم فيهما عن الطوفان ، أو بناء سنان بن المشلشل ، أو بناء الأوائل لما علموا بالطوفان من جهة النجوم. وفيها كل طب وسحر وطلسم (٢) ". ولعمري هذا غلط من جملة أغلاط صاحب القاموس. وهذان الهرمان متقاربان جدا ومبنيان بالحجارة البيض. وأما الثالث فينقص عنهما بنحو الربع ، لكنه مبني بحجارة الصّوان الأحمر المنقّط الشديد الصلابة ، ولا يؤثر فيه الحديد إلا في الزمن الطويل ، وهو صغير بالقياس إلى ذينك.

وقد سلك المصريون في بناية الأهرام طريقا عجيبا من الشكل والإتقان ، ولذلك صبرت على ممرّ الزمان ، بل على ممرّها صبر الزمان. فإن الأذهان الشريفة قد استهلكت فيها ، والعقول الصافية قد أفرغت عليها مجهودها ، والأنفس النّيرة قد أفاضت عليها أشرف ما عندها ، والملكات الهندسية قد أخرجتها إلى الفعل حتى أنها كادت تحدّث عن قومها ، وتخبر بحالهم ، وتنطق عن علومهم وأذهانهم ، وتترجم عن سيرتهم وأخبارهم ، وذلك أن وضعها على شكل مخروط يبتدئ من قاعدة مربّعة وينتهي إلى نقطة ، ومن خواص الشكل المخروط أن مركز ثقله في وسطه ، وهو يتساند على نفسه ، ويتواقع على ذاته ، ويتحامل بعضه على بعض ، فليس له جهة أخرى خارجة عنه يتساقط عليها.

ومن عجيب وضعه أنه شكل مربّع قد قوبل بزواياه مهابّ الرّياح الأربع ، فإنّ الريح تنكسر سورتها عند مصادمتها الزاوية ، وليست كذلك عند ما تلقى السطح.

وهذه الأهرام ترى على بعد ٢٠ ميلا. وعلوّ الأكبر منها نحو ٥٠٠ قدم ، وفيه مدخل يلجه الناس يفضي بهم إلى مسالك ضيّقة ، وسراديب (٣) متنافذة ، وآبار ، ومهالك ، وغير ذلك.

__________________

(١) هو محمد بن يعقوب الفيروزي آبادي (٧٢٩ / ١٣٢٩ ـ ٨١٧ / ١٤١٤) لغوي مشارك في عدة علوم له : القاموس المحيط. كحالة : معجم ١٢ / ١١٨

(٢) تنظر مادة : هرم ، القاموس ٤ / ١٩١ البابي الحلبي ـ مصر ط ٢ / ١٩٥٢

(٣) أ : أسراب

٢٧٦

والمسلوك فيه المطروق كثيرا فزلاقة تفضي إلى أعلاه ، فيوجد فيه بيت مربّع فيه ناووس من حجر. وهذا المدخل ليس هو الباب المتّخذ له في أصل البناء ، وإنما هو منقوب نقبا صودف اتفاقا. وذكر أن المأمون هو الذي فتحه (١).

فولج رجل من رجال السيد برغش هذا الهرم صحبة بعض من أهل مصر. فسارت بهم الطريق إلى مكان مظلم لا يلجه أحد إلّا بمصباح يستصبح به ، ثم صعدوا إلى البيت المربّع الذي أسلفنا ذكره.

وفي هذا الهرم خفافيش كثيرة ، ويعظم فيه الخفاش حتى يكون في قدر الحمام ، وفيه طاقات وروازن نحو أعلاه ، وكأنها جعلت مسالك للرّيح ومنافذ للضوء.

وفي القرى المجاورة للأهرام قوم قد اعتادوا ارتقاء الهرم بلا كلفة. فلما دروا (٢) بقدوم سعادة السيد برغش إلى الأهرام بادروا إليه ، وأرادوا أن يرتقوا بسعادته إلى الهرم ، ويستووا على سطحه ، فأبى السيد ، ولكن بعض من رجاله رقوا الهرم بمشقّة عظيمة. وبعد أن تفرّجوا عليه نزلوا. ودخلوا مغائر (٣) بقرب الأهرام كانت مدافن لملوك المصريين أو للثيران المقدّسة (٤)

__________________

(١) ذكر المقريزي قوله : " لما وصل الخليفة المأمون إلى مصر أمر بثقبها (الأهرام) فنقب أحد الهرمين (...) فلما كشف غطاؤه لم يجدوا فيه غير رمة بالية (...) فعند ذلك امر بالكفّ عن نقب ما سواه" الخطط ١ / ١١٨

(٢) ب : علموا

(٣) ب : مغائر (مقابر)

(٤) أ : القدسيّة

٢٧٧

التي كانوا يعبدونها تحت اسم أفيس (١). ثم شاهدوا بقرب الأهرام تمثالا كبيرا له رأس إنسان على جثة حيوان من ذوات الأربع طوله ١٢٥ قدما ، وهم يدعونه أبا الهول (٢).

ولما فرغ السيد برغش ورجاله من الفرجة على الأهرام ذهبوا (٣) إلى دار كان قد تهيأ لهم فيها شيء من الطعام ، فدخلوها ، وأكلوا ، واستراحوا.

ثم رجعوا إلى مصر بالسلامة.

وفي اليوم السادس عشر (٢١ أغسطس) من الشهر سار السيّد برغش في رجاله إلى مشاهدة قصر النيل (٤) والقناطر الخيرية (٥). ولما وصلوا إلى القلعة السعيدية أطلق الجنود منها ٢١ مدفعا إكراما لسعادة السلطان. ولما تفرج على القلعة أطلقوا له كذلك ٢١ مدفعا وداعا.

وفي عصر ذلك اليوم سار السيد برغش إلى تهنئة الخديو بعيد مولده ، وكان ذلك النهار ختام السنة السابعة والأربعين من عمره. ثم عاد السيد إلى منزله بالسلامة.

__________________

(١) هو أبيس (Apis) الثور المقدس الذي يرمز إلى الخصوبة أساسا ، فعبده الناس في" منف" ، ثم استعار ذلك الثور قرص الشمس من رع وحمله بين قرنيه. وبعد ذلك اندمج أبيس في اوزيريس فتكون منهما إله جنائزي. ومنذ ذلك التاريخ اتخذ موت العجل أبيس أهمية بالغة ، فصار يدفن بجنازة رسمية وسط العباد المؤمنين الذين يحضرون الهدايا. وبمجرد موته يولد من جديد فيبحث الكهنة في الحقول حتى يتعرفوا اليه بعلامات خاصة : بقع سوداء في جلده الخ. فيتوّج في الحظيرة المقدسة :

بونزر : معجم ص ٣ ، ٣٦ ـ ٣٥Ancient : pp

(٢) هو عند المصريين أسد له رأس إنسان ، أضخم تماثيله الموجود بالجيزة ، وهو أقدمها. أمر خفرع بنحته في تل من الحجر الجيري طوله ٧٠ م ليحرس الممرات الغربية التي يختفي فيها الشمس والأموات. بونزر : معجم : ص ٢ ـ ٣ ٨ ـ ٢٧٦Ancient : pp

(٣) أ : اعتزلوا

(٤) كان سعيد باشا (ح. ١٨٥٤ ـ ١٨٦٣) كثير التنقل بعساكره من مصر إلى الاسكندرية ثم إلى مريوط وإلى قصر النيل بالقشلاق الذي أعده هناك لعسكره. الطعمي : معجم ص ١٩٤ (ونلاحظ أن قشلاق لفظة تركية تعني قشلة وهي تعريب للفظة الاسبانية (Castle) التي تعني ثكنة.

(٥) القناطر الخيرية : تعتبر الحجر الأساس في نظام الريّ الحديث في مصر ، شرع في انشائها سنة ١٨٤٧ ، وأكملت سنة ١٨٦١.

زكي : موسوعة ص ٢١٦

٢٧٨

ولا يسعنا هنا أن نذكر ما رآه وشاهده السيد برغش من التحف والفرج في الديار المصريّة : فإنها بلاد قد اشتهرت منذ قديم الزمان ، وملك عليها ملوك كثيرون من أهلها ، وتسلّط عليها أكثر الدول المشتهرة القديمة. وأول من غزاها من الغرباء بختنصر (١) ملك بابل. ثم أضيفت إلى مملكة فارس ومادي (٢) في عصر كمبيز (٣) بن قورش (٤) ، قبل تاريخ الميلاد بخمسمائة و ٢٥ سنة. ثم فتحها (٥) الإسكندر بن فيلبس المقدوني الموصوف بذي القرنين (٦) وبعد وفاته قامت فيها الدولة البطليموسية (٧) وبقيت حتى أخذها الرومانيون قبل تاريخ الميلاد بمدة وجيزة (٨) ، جزءا من المملكة الشرقية ، حتى فتحها (٩) عمرو بن العاص (١٠) في خلافة عمر بن الخطاب (١١).

__________________

(١) المقصود : بختنصر الثاني (٦٣٠ ق م ـ ٥٦٢ ق م) و (ح ٦٠٥ ق م ـ ٥٦٢ ق م) قد تمكن هذا الملك من الانتصار على الفراعنة سنة ٦٠٦ ق م. فصل : ٥٧٥ / ٨ : Nebuchadrezzar II : N.E.B

(٢) هي ميديا : مقاطعة في شمال غربي ايران. فصل : ١٣٨٢ / ٣ : Babylone : G.E

(٣) ب : كمبيز (قمبيز)

(٤) (ح. ٥٢٥ ق م ـ ٥٢٢ ق م) ثاني ملوك فارس وميديا. حكم مصر مدة عامين. وبذلك أسس الأسرة السابعة والعشرين (٢٧) وكان أبوه قورش Cyrus الشهير قد وحّد من قبل كلا من إيران والأناضول وإمبراطورية بابل. وفي عام ٥٢٥ سحق جيشه الملك المصري باسماتيك الثالث. فنصّب الكهنة قمبيزGambyse فرعونا على البلاد فيرنوس : موسوعة ص ٢١١

(٥) أ : استفتحها.

(٦) دخل مصر عام ٣٣١ ق م وأعلن نفسه ابنا مختارا للآله آمون ، شيد الاسكندرية في مصر ثم رحل ليغزو الشرق حيث توفي في بابل. فيرنوس : موسوعة ص ٤٧

(٧) دولة البطالمة أسسها ـ عند انقسام إمبراطورية الاسكندر ـ القائد المقدوني بطليموس بن لاجوس Lagos. لقبه المصريون بالفرعون البطلمي سنة ٣٠٩ ق م ولقد حمل اسم بطليموس هذا أربعة عشر ملكا من خلفائه على عرش الاسكندرية واستمر حكم الاسرة إلى سنة ٣٠ ق م : فيرنوس : موسوعة ص ٨٩ ـ ٩٢

(٨) غزوها سنة ٣٠ ق م وقضوا على البطالمة ، فيرنوس : موسوعة ص ١٥٨

(٩) أ : استفتحها

(١٠) فتحها سنة ١٩ / ٦٤٠ وصار واليا عليها سنة ٣٨ / ٦٥٩. فصل : Amr أعلاه.

(١١) كان خليفة بين ١٣ / ٦٣٤ و ٢٣ / ٦٤٤. الزركلي : الأعلام ٥ / ٤٥

٢٧٩

وكانت تابعة للخلفاء العباسيين إلى سنة ٩٦٨ حتى قامت فيها الدولة الفاطمية التي بقيت إلى سنة ١١٧١ ميلادية.

ثم ملك عليها السلطان صلاح الدين الأيوبي (١).

ثم أضيفت إلى المملكة العثمانيّة سنة ١٥١٧.

ولما كانت سنة ١٧٩٨ تسلطت عليها الدولة الفرنساوية تحت لواء نابوليون بونابرتي وبقيت في يده إلى سنة ١٨٠١.

ثم رجعت إلى المملكة العثمانية حتى استقل فيها محمد علي باشا الذي تسلط على الديار الشاميّة من أثناء سنة ١٨٢٠ إلى سنة ١٨٤٠.

ثم عادت إلى أيدي آل عثمان. وبقى محمد علي باشا مستقلا في مصر. ولم تزل إلى الآن (٢) بيد نسله.

وفي أيام المصريين القدماء كانت العلوم والفنون عند كهنتهم الذين كانوا قد اصطلحوا على نوع من الخط (٣) بالعلامات والرسوم وصور بعض الحيوانات يعرف الآن بالقلم المصري القديم (٤). وما زالت هذه الكتابات منقوشة ومحفورة في صخور الآثار القديمة والأهرام وغيرها.

وكان قد فقد الناس معرفة قراءتها. فقام رجل فرنساوي من مدّة بضع سنين اسمه

__________________

(١) حكمها العباسيون سنة ١٣٢ / ٧٥٦ ثم الفاطميون سنة ٣٥٨ / ٩٦٩ ثم الأيوبيون سنة ٥٥٩ / ١١٧١. فصل :

Misr : E. I. ٢ : VII / ٦٤١

(٢) الآن يعني سنة ١٨٧٨ سنة طبع وصف الرحلة

(٣) ب : الخلط

(٤) المقصود : الخط الهيروغليفي Hieroglyphe وهو كتابة مصرية مقدسة ظهرت قبل أربعة آلاف سنة من عصرنا وتتكون من ثلاث لغات. فصل :

EcritureG. E ٢ / ٨٨٠٤) Ecriture de l\'Egypte Antique (

٢٨٠