تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجار

زاهر بن سعيد

تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجار

المؤلف:

زاهر بن سعيد


المحقق: أحمد الشتيوي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: وزارة التراث والثقافة سلطنة عمان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٩٦

١
٢

٣

مقدّمة التحقيق

فنّ وصف (١) الرحلة فنّ قديم ، عرفه العرب منذ أن دعاهم الإسلام إلى الضرب في الأرض (٢) ، وتبليغ الرسالة إلى الناس كافة (٣). هو فنّ ـ إذا كان بعض الدارسين يلصقه بالجغرافيا ، بل يدمجه فيه (٤) ـ مستقلّ بشخصيته وخصائصه العلمية عن الجغرافيا (٥) هو فنّ ـ وإن كان آخرون (٦) يحشرونه ضمن الأدب (٧) ـ منفصل بأسلوبه ولغته. وهو فنّ ازدهر

__________________

(١) نلاحظ أن الكتاب العرب يستعملون مصطلح" رحلة" استعمالا مشتركا ، فهي تعني" عملية السفر والحركة في المكان" كما تعني" وصف تلك الحركة" وهذا يؤدي إلى اضطراب في الفهم ذلك أنه ليس كل رحالة وصافا ، فعدد الرحالة العرب ـ وخصوصا المغاربة والأندلسيين ـ أكبر بكثير ممن تركوا لنا أوصافا. فالمقري (ت ١٠٤١ / ١٦٣١) يعرّف بعدد ٣٠٧ علما رحلوا إلى المشرق (نفح الطيب ، الجزء ٢) بينما عدد الأوصاف التي ذكرها لهم لا تتجاوز العقد ، والصحيح هو أن نميز ما يكتبه الرحالة ـ متحدثا عن سفره ـ بمصطلح" وصف" لأن وصف الرحلة له دوافع منها : وصف المسالك ، والاعتبار وإثارة الشوق ، والتعريف بالكسب العلمي والاقتداء ، والإعلام ، وتدوين أخبار الملوك ، وغير ذلك ، بينما الرحلة ـ أي السفر نفسه ـ له دوافع أخرى ، فوصف الرحلة إذا هو الكتاب الذي نقرأه. ونجد في اللغة الفرنسية مصطلحا يؤدي هذا المعنى وهو : (Relation de Voyage) وكذا في الإنكليزية وجدنا :(Relation of the events) و (Narrative of visit)

(٢) قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها). الملك ٦٧ / ١٥.

(٣) قال تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ). المائدة ٥ / ٦٧.

(٤) حسين : أدب الرحلة ص ٦ ـ ٨.

(٥) بسطنا القول في هذه المسألة في رسالة الدكتوراه : " مظاهر الحضارة من خلال رحلات المغاربة والأندلسيين وثقافتهم في القرنين ٦ و ١٢ للهجرة" كلية الآداب بمنوبة تونس ١٩٨٨ ، المقدمة (مرقونة).

(٦) انظر مثلا : حسين : أدب الرحلة ص ٨ ـ ٩ ونلاحظ أن مصطلح" أدب الرحلة" هو المتداول في الحديث عن" وصف الرحلة".

انظر أيضا : غريب (جورج) : أدب الرحلة تاريخه وأعلامه ، دار الثقافة ، بيروت ، ط ٣ / ١٩٧٩.

(٧) إن كلمة" أدب" ـ عند العرب ـ ذات مدلول عام ، فهي تعني السيرة" سواء تعلقت هذه بهذا الجانب أو ذاك من الحياة الفردية أو الاجتماعية أو فنّ العيش بصفة عامة ، أو تصرفات القلب ، أو أخيرا مواقف الفكر" ونحن لا نذهب هذا المذهب ، وإنما نعتبر" الأدب" تلك اللغة التي يعبّر بها المبدع عن خوالج النفس واضطراب الفكر في أسلوب فنّي رفيع. لمزيد الإطلاع عن مفهوم الأدب راجع : ميكال : الأدب ص ٦٦ وما بعدها.

٤

ـ خاصة ـ عند المغاربة والأندلسيين لتوفر دواعي الرحلة لديهم (١). فكثرت أوصافهم بين القرنين السادس والثاني عشر للهجرة ، وصار لهم سبق فيها (٢).

وإذا كانت الرحلات منحصرة في هذا العصر ـ عصر المحافظة (٣) ـ في البلاد العربية أساسا (٤) ، فإنّها ستعرف في القرن الثالث عشر (١٩ م) وجهة جديدة ، وهي أوروبا. فقد أخرجت حملة بونابارت الاستعمارية على مصر سنة ١٢١٠ / ١٧٩٨ ـ العرب من قوقعتهم ، وحرّكت فيهم حبّ الاطلاع على ما حقّقته أوروبا من نهضة أدّت بها إلى التقدّم (٥).

لقد أراد العرب الكشف عن سرّ قوتها.

كان وصف الرحلات من أهمّ مظاهر الإحياء والدعوة إلى النهضة. وإذا اعتبرنا الطهطاوي (٦) أبا وصف الرحلة إلى أوروبا ، فلا نجانب الحقيقة.

__________________

(١) دواعي الرحلة تختلف ـ كما ذكرنا ـ عن دواعي وصف الرحلة ، فالمغاربة ـ مثلا ـ كانوا يرحلون لأسباب منها : الحج ، الدراسة ، السياحة ، السفارة. انظر نصّار : أدب الرحلة ص ١٧ ـ ٤٩ ، ورسالتنا : المقدمة

(٢) قمنا بجرد للأوصاف التي تركها الرحالة المغاربة والأندلسيون ، المخطوط منها والمطبوع ، إلى نهاية القرن الثاني عشر الهجري ، راجع رسالتنا : المدونة.

(٣) من نتائج بحثنا التي توصلنا إليها أن مصطلح" الانحطاط" الذي يطلق على تاريخ العرب بين القرنين ٦ ـ ١٢ للهجرة ليس دقيقا. والأدق هو مصطلح" الحفاظ" أو" عصر المحافظة". وهذا المصطلح أكثر حيادية وموضوعية. وهو يقابل ما عند الأوروبيين" القرون الوسطى" راجع رسالتنا : مظاهر الحضارة ، الخاتمة.

(٤) هذا لا يعني أنه لم تتم رحلات إلى خارج البلاد العربية : فقد سافر التمكروتي إلى تركيا سنة ٩٩٧ / ١٥٨٩ ووصف رحلته تحت عنوان" النفحة المسكية في السفارة التركية" ، والغزّال سافر إلى اسبانيا سنة ١١٧٩ / ١٧٦٦ ووصف رحلته تحت عنوان" نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد" (دار الغرب الإسلامي ١٩٨١) وغير ذلك.

(٥) اهتمت نازك سابايارد بدراسة أوصاف الرحالة العرب إلى أوروبا تحت عنوان" الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة" مؤسسة نوفل ، بيروت ط ١ / ١٩٧٩

(٦) رفاعة (١٢١٦ / ١٨٠١ ـ ١٢٩٠ / ١٨٧٣) : تعلم بالأزهر ، وصار واعظا بالجيش المصري ثم صحب بعثة الطلبة إلى فرنسا سنة ١٨٢٦ فتعلم الفرنسية وترجم عدة مؤلفات ووصف مشاهداته في كتابه" تخليص الابريز في تلخيص باريز". سعى إلى إصلاح التعليم وتولى رئاسة الترجمة في المدرسة الطبية ، له عدة مؤلفات. انظر : كحالة : معجم : ٤ / ١٦٨ ـ ٩ ، ١٣ / ٣٨٧ ، وفصل :

Rifaa Bey al TAHTAWI : E. I. ٢ : VIII / ٣٢٥ ـ ٤) Ohrenberg (

٥

ذلك أن وصف رحلته المعنون" تخليص الإبريز في تلخيص باريز" الذي طبع أول مرة ببولاق سنة ١٨٣٤ يعدّ فتحا جديدا ، ونموذجا متّبعا.

ولم يبق وقت طويل حتى ظهر وصف آخر للشدياق (١) تحت عنوان" كشف المخبأ في فنون أروبا" طبع بتونس سنة ١٨٦٦ (٢).

ولم تمرّ سنة واحدة حتى نشر خير الدين (٣) " أقوام المسالك في معرفة أحوال الممالك" سنة ١٨٦٧ في تونس أيضا (٤).

وظهر في السنة نفسها وصف آخر لمرّاش (٥) يحمل عنوان" رحلة إلى باريس" طبع في بيروت.

لقد حازت هذه الأوصاف ، وغيرها كثير ، على حظ واسع من التعريف والدراسة ، ولاقت رواجا عند القرّاء ، وعناية عند الباحثين ، ومازال يعاد طبعها.

__________________

(١) هو فارس (١٢١٩ / ١٨٠٤ ـ ١٣٠٤ / ١٨٨٧) : سمى نفسه أحمد عند ما أسلم. كاتب ، معجمي ، صحافي ، شاعر ، لبناني.

انتقل إلى مصر ومالطة وتونس وأوربا والقسطنطينية. شارك في إصدار الرائد التونسي. وأصدر صحيفة الجوائب في تركيا. له : الواسطة في أخبار مالطة ، الجاسوس على القاموس ، الساق على الساق. انظر : كحالة : معجم : ٢ / ٤١ ، ١٣ / ٣٦٥ ، وفصل : Faris al ـ SHIDYAK : E.I.٢ : II / ٠٠٨ (Karam).

(٢) وظهرت له طبعة ثانية في القسطنطينية سنة ١٢٩٩ / ١٨٨١.

(٣) بعضهم يعرّفه بخير الدين التونسي ، وبعضهم بخير الدين باشا (١٢٣٨ / ١٨٢٣ ـ ١٣٠٨ / ١٨٩٠) : شركسي الأصل ، صار مملوكا في اسطنبول ثم نقل إلى بلاط باي تونس. وصار له شأن سياسي. سافر إلى أوربا وأقام فيها عدة سنوات. ألف إثرها كتابه المشهور. تولى الوزارة الأولى في تونس ، والصدارة العظمى في اسطنبول. انظر : كحالة : معجم ٤ / ١٣٣ ، وفصل :

Khayr al ـ Din PASHA : E. I. ٢ : IV / ٣٥١١ ـ ٥) Van Kricken (

(٤) أعاد منصف الشنوفي تحقيق الكتاب ، ووضع له مقدمة تحليلية ، مع جداول ، وملحقات ، وفهارس. وقال في شأنه : " من أبرز الكتب التي حررت في القرن التاسع عشر. وهو في باب التحرير السياسي أدخل ، وإن حشره مؤرخو الآداب في باب (وصف) الرحلة اغترارا بعنوانه ، وتهاونا بمقدمته التي حوت من الآراء الجوهرية الخطيرة ما يجعل منها مرحلة حاسمة في مراحل التفكير السياسي في العالم العربي الإسلامي الحديث". أقوم المسالك : ص ٢٣ (المقدمة)

(٥) (١٢٥٢ / ١٨٣٦؟ ـ ١٢٩٠ / ١٨٧٣) من رجال النهضة في سوريا شارك في تجديد الحركة الأدبية وكان من دعاة الإصلاح السياسي والاجتماعي ، له عدة مؤلفات : انظر : كحالة : معجم ٨ / ٦١ ، وفصل : Marrash : E. I. ٢ : IV / ٨٩٥ ـ ٩) Tomiche (

٦

وإذا كانت هذه الأوصاف قد نالت ما نالت من الرعاية ، فإنّ وصفا آخر ظهر سنة ١٨٧٨ ، صاحبه زاهر بن سعيد (١) ، وعنوانه" تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجبار" بقي نكرة رغم أنه طبع مرتين. فلقد أصابه غبن لأسباب مجهولة (٢).

تعريف بوصف" تنزيه الأبصار" :

هذا الوصف مرّ بمرحلتين في تأليفه :

المرحلة الأولى : وهو عمل ابن سعيد مذكّرات دوّن فيها مشاهداته أثناء صحبته للسلطان برغش (٣). هذه" الرّقع التي دبّجها السيد زاهر بن سعيد كاتب السلطان" هي الأساس في تأليف هذا الوصف (٤).

المرحلة الثانية : وهي تدخّل لويس صابنجي (٥) بعدّة أعمال حوّلت تلك" الرّقع" وصفا متماسكا ، وهو المنشور الآن.

__________________

(١) لقبه النخلي ، تولى الكتابة الخاصة للسيد ماجد ، ثم لابنه السيد برغش في زنجبار (المغيري : جهينة ص ٣٢٨) ونلاحظ أنه صاحب السلطان برغش في رحلته إلى أروبا سنة ١٨٧٥ ، ودوّن أهم أخبار تلك الرحلة.

(٢) وضعت سابايارد ثبتا" بأسماء الرحالين في القرنين التاسع عشر والعشرين وكتبهم في الرحلة" (الرحالون : ص ٤٨١ ـ ٥٠) ولم تورد" تنزيه الأبصار" وكذلك فعل الشنوفي رغم أنه أورد" الرحلة النحلية" للويس صابونجي (كذا) ومكان طبعها الآستانة (أقوم : المقدمة) " وهو وصف رحلته حول العالم سنة ١٨٧١ ودامت ٣ سنوات"

(٣) هو برغش بن سعيد البوسعيدي (ح ١٢٨٧ / ١٨٧٠ ـ ١٣٠٥ / ١٨٨٨) قال فيه المغيري : " هو آخر سلاطين زنجبار اسما ومعنى" وقال فيه أيضا : " نادرة سلاطين زنجبار" له أعمال جليلة إلا أنه قام ببناء القصور وغرس البساتين وكثرة الحاشية والبذخ والإسراف في المصاريف" كل ذلك اقتداء ببعض زعماء الهند التي نفي إليها قبل تولي السلطنة وتقليدا للتمدن الأوروبي بعد رحلته إليها. (انظر : جهينة : ص ٣٢٧ ـ ٣٦٠). أما أخته سالمة فوصفته" بالقسوة وشدة العقاب" وأنه خاضع للقنصل البريطاني. (انظر مذكرات : ص ٣٠٦ ـ ٣١٦). وقد لخص السالمي القول فيه : " ولبرغش بن سعيد مآثر حسنة [إلا] أنه خلط عملا صالحا وآخر سيئا". انظر : تحفة : ١ / ٢٢٩ ، وأيضا الفصلين : Barghash : E.I.٢ : I / ٣٤٠١ (Becker) ,N.E.B : I / ٥٩٨

(٤) انظر خاتمة النص المحقق : ص ١٦٩

(٥) أورده الشنوفي : صابونجي وكذا ورد في طبعة" تنزيه الأبصار" سنة ١٩٨٥ (على الغلاف الخارجي ونظيره في الداخل) وورد في الطبعة نفسها صابنجي (خاتمة الكتاب) وتحت صورته ورد" رسم القس يحيى لويس صابنجي" مؤلف هذا الكتاب : وهو لويس بن يعقوب بن ابراهيم صابنجي (١٢٥٤ / ١٨٣٨ ـ ١٣٥٠ / ١٩٣١) باحث أتقن عدة لغات من ديار بكر أصدر مجلة"

٧

وهذه الأعمال من أهمّها (١) :

أ ـ تأليف الكتاب ، وترتيبه ممّا سمعه صابنجي ، ووعاه ، وممّا اقتطفه" من الرّقع التي دبّجها السيد زاهر".

ب ـ الرجوع إلى" صحف الأخبار الانقليزية والنشرات الفرنساوية" فيما قالت عن السلطان ، وممّا نقلته" من الخطب الفصيحة في المحافل ، والمجالس ، والولائم ، وقاعات السّرور والحبور." وقد قام صابنجي بترجمة تلك الخطب ، وتلخيصها.

ج ـ إضافة" فوائد علمية وتاريخية مما نيط بالبلاد التي خطرها (السلطان) والأمم التي عاشرها والأماكن التي طاف فيها والتّحف التي رآها" (٢).

د ـ إلحاق" تصاوير بهية تشخّص مناظر البلاد وصور الرجال ذوي المناصب والأمجاد".

ه ـ توزيع مادة الوصف وتقسيمها إلى خمسين بابا (٣) ، ووضع لها مقدّمة وخاتمة.

هذه أهم الأعمال التي قام بها صابنجي في إعداد هذا الوصف قبل أن يتولى

ـ هو نفسه ـ الإشراف على طبعه في مطبعة النحلة ـ التي كان يملكها ـ سنة ١٨٧٨.

ويجب التنويه بالجهد الذي بذله هذا المصلح في نشر هذا الوصف نشرة تعتبر في وقتها ممتازة لما اتصفت به من ترتيب ، ودقّة ، وتحقيق ، وإيضاح (٤).

__________________

النحلة" في بيروت ثم انتقل إلى لندن وأصدر جريدتين وهما : " الاتحاد العربي" و" الخلافة" ثم انتقل إلى الآستانة ، له عدة مصنفات. انظر عنه : الزركلي : الأعلام : ٢٤٧ ـ ٨

(١) انظر" خاتمة الكتاب" : ص ١٦٩

(٢) وجدنا أن صابنجي يعود إلى المصادر أحيانا ، ومن ضمنها : الخطط للمقريزي (لم يصرح بذلك) والصحيح للفيروز آبادي (صرّح بذلك)

(٣) سها الكاتب فكرر رقم البابين ٢٤ ، ٢٥ وأسقط رقم ٤٣ ، فجاء عدد الأبواب عنده من حيث الأرقام ٤٧ بابا بينما هي ٥٠ (خمسون).

(٤) لمزيد الاطلاع راجع بحثنا : " رحلات سلطانين عمانيين زنجباريين إلى أوروبا" مجلة مركز الوثائق والدراسات الإنسانية ، جامعة قطر.

٨

أهمية هذا الوصف :

إن" تنزيه الأبصار" وصف يسد فراغا في أوصاف الرحلة في القرن ١٩. ذلك أن رحالة هذا القرن تميّزوا بآراءهم الاصلاحية وبتنبيه العرب إلى ضرورة النهضة ، " وإيقاظ الغافلين من رجال السياسة وسائر الخواص والعوام ببيان ما ينبغي أن تكون عليه التصرفات الداخلية والخارجية وذكر ما تأكّد معرفته من أحوال الأمم الإفرنجية" (١). كان هؤلاء الرحالة" مثاليين" لم ينتبهوا إلى" فارق" جوهري يفصل بين عقلية العربي وعقلية الغربي ، ألا وهو" حبّ العمل". لقد توهّم الرحّالة مثل هذه المقولة : " أساس جميع ذلك (التمدّن) حسن الإمارة المتولّد منه الأمن ، المتولّد منه الأمل ، المتولّد منه إتقان العمل المشاهد في الممالك الأروباوية بالعيان" (٢).

هذه المقولة تمثّل ـ في نظر السلطان برغش ـ الهرم مقلوبا : فقد كشف ـ على عكس المصلحين الآخرين ـ عن أخطر ما يؤدّي إلى ضعف الأمّة. إنّ" حسن الإمارة" لا يعني شيئا إذا كان المجتمع يكرّس الكسل ، ويأنف من العمل. وقد عبّر السلطان عن موقفه ـ هذا ـ في مناسبات عدّة. منها قوله ، وهو يخاطب الإنكليز : " أودّ لو أن أقدر [على أن] أرسل قوما من شعبي (...) ليتعلّموا من عملة معاملكم منافع الشغل والجهد" (٣).

لقد أدرك السلطان برغش ـ وهو يمارس دوره السياسي ـ أنّ" الحريّة" لا تصنع وحدها" النهضة" ، ثم" التقدم" ، ما لم يكن المجتمع متحفزّا للبذل والجهد ، طموحا لتحقيق المعالي ، ساعيا إلى العزّ والسؤدد.

هذا الطرح الواقعي تميّز به" تنزيه الأبصار". وهذا يشفع للعناية به. وليس هذا فحسب ، وإنّما هو وصف يتوفر على مظاهر أخرى من الأهمية ، مثل التعرّف على أسباب تقدّم

__________________

(١) خير الدين : أقوم : ص ٨٤. وهذا القول يلخص مفهوم النهضة عند عامة الإصلاحيّين الذين يقولون بالأخذ عن أوروبا أسباب النهضة.

(٢) خير الدين : أقوم : ص ٨٩.

(٣) تنزيه : ص ١٢٩ ، وقد توسعنا في بحث مفهوم النهضة عند السلطان في : " النهضة في نظر السلطان برغش من خلال وصف (تنزيه الأبصار) " مجلة : كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية ، جامعة قطر ، سنة ٢٠٠٢.

٩

بريطانيا ، والوقوف على وسائل النقل ومسالكه المتنوّعة ، واكتشاف بعض دهاليز السياسة الاستعمارية ، وغير ذلك.

التحقيق :

ذكرنا أن" تنزيه الأبصار" ظهر سنة ١٨٧٨ ، ثم تكلفت وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان. بإعادة طبعه سنة ١٩٨٥ ، وأوكلت أمر مراجعته إلى دكتور. فجاءت هذه الطبعة في مظهر قشيب ، إلا أنّ التدقيق فيها ومقارنتها بالأصل كشف لنا أن المراجع لم يحترم حرمة النص وتصرف فيه كما يظهر من الملاحظات التالية :

أ ـ تغيير كلمة بكلمة للتّسهيل ـ على ما يبدو ـ مثل : (دقال : قلاع ، قنة : قمة ، أوائل : أدوات)

ب ـ تغيير جمل كاملة ، مثل قوله : " فباشروا يبدون أصوات الصفير بأوائل البخار" التي عوضها بقوله : " فأخذوا في إطلاق أصوات الصفير" (ص ١٤) ، وقوله" أعدموني ثمرة بأسي وحطوا مقامي عند أعدائي" التي عوضها بقوله : " إطلاق أصوات ثمرة انتصاري" (ص ٢٩)

ج ـ إسقاط بعض الجمل : مثل قوله : " فكان قد أنشأها الملك غليوم الرابع بهذه الرسم" (ص ٥٩)

د ـ إضافة كلمات بين قوسين بعد الكلمات الأصلية بنيّة الإيضاح : مثل قوله : " الجرمانية (الألمانية) " ص ٧٦ ، وقوله : " باراكويا (بورما) " ص ٧٧

ه ـ تحريف كلمات ، مثل" البارونسية" إلى" البارونة" ص ٧٧ ، و" الدوقيسة" إلى" الدوقة" ص ٧٤

وفضلا عن ذلك فإنّ المراجع لم يقم بتحقيق النص تحقيقا علميا مما حدا بنا القيام بهذه المهمة ، وقد تمثّل جهدنا في الأعمال التالية :

١٠

١ ـ تصحيح النصّ : تمّ ذلك بالمقابلة بين نسختي الطبعتين :

أ) الطبعة الأولى : (وهي طبعة سنة ١٨٧٨) تتكوّن من ٩٢ صفحة ، كل صفحة فيها عمودان ، ومقاسها ٢٩* ٢٢ ، وهي في عداد المخطوط بما أنها مفقودة في المكتبات التجارية ومراكز البحث العلمي. أما الصورة التي تمكنا من الحصول عليها فهي من نسخة ملك لوزارة التراث القومي بسلطنة عمان ، وهي محفوظة ضمن المخطوطات تحت رقم ٣٥٠٦. وقد تحصلت عليها الوزارة بدورها من مالكها الأصلي : سيف بن عبد العزيز بن محمد سالم بن سيف الرواحي العبسي (١).

وقد جعلنا هذه النسخة أصلا رمزنا اليه بالحرف (أ)

ب) الطبعة الثانية : (وهي طبعة ١٩٨٥) تتكوّن من ٢٤٠ صفحة ، ومقاسها ٥ ، ٢٤* ١٦ ، مجلّدة. إلا أنّ أوراقها سريعة الانفكاك.

وقد اعتبرنا هذه النسخة فرعا ، رمزنا اليه بالحرب (ب)

سعينا إلى إعداد نصّ أصلي كما أراده صاحبه دون التدخّل في تصحيح لغته الإملائية ، أو تقويم تراكيبه ، أو تدقيق مصطلحاته ، لأن القيام بمثل هذا العمل يخلّ بالنصّ ، ويناقض الأمانة العلمية. فهذا الوصف هو ابن عصره. فقد كان صابنجي يبذل جهدا كبيرا في محاولة وصف المخترعات بلغة عربية نام أهلها قرونا ، فضلا عن كونها لم تتوفّر بعد على رصيد من مصطلحات الصناعة الحديثة.

٢ ـ توفير جهاز علميّ يساعد على فهم النصّ ، يتمثّل في الجوانب التالية :

* التعريف بالأعلام والأماكن تعريفا علميا دقيقا. ويجب الاعتراف ـ في هذا الجانب ـ أنّ التعريف بالأعلام ـ خاصة ـ لم يكن متيسّرا ، في جميع الأحوال ، لكثرتهم ، ولأنّهم ليست لهم الشهرة حتى يدخلوا ضمن كتب التراجم. وواضح أنّ صابنجي قد أفرط في إيراد

__________________

(١) ورد في الصفحة الأخيرة بقلم الحبر هذا التملك : " للعبد (كذا) لله تعالى أفقر الورى لربه في يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا ما (كذا) أتى الله بقلب سليم عبده الضعيف سيف ... بيده"

١١

أسماء من حضروا المآدب دون تمييز. وقد انتبه إلى ذلك ، فاعتذر أحيانا كثيرة ، كقوله : " ومن جملة نساء الأعيان حضر الوليمة نحو ٥٢ سيدة أغفلنا ذكر اسماءهن خشية الملل" (ص ٨٠).

* شرح الغريب من الألفاظ والمصطلحات المختلفة مع ضبط أصولها في لغتها الأصلية.

* تخريج ما تيسّر من النصوص الشعرية والنثرية التي أوردها الكاتب ، ويجب الاعتراف بأنّ المصادر والمراجع لم تكن متيسّرة في الظروف التي تمّ فيها التحقيق.

٣ ـ وضع كشّافات للأعلام والمصطلحات :

هذا ما أمكن القيام به في تحقيق هذا النصّ القيّم. وهو جهد المقلّ الذي يسعى ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (الصفّ ٢ ـ ٣)

تونس في : ١٨ / جمادى ٢ / ١٤٢٦ ـ ٢٥ / ٧ / ٢٠٠٥

د. أحمد الشتيوي

١٢

١٣

١٤

١٥

١٦

لك الفخر يا من قد تفرّد بالسّخا

وأسّس ملكا بالسّعادة والبها

جلست على كرسي الأمان مظفّرا

سبحان من أعطاك ملكا قد زها

١٧

بسم الله الرحمن الرحيم

الفاتحة

الحمد لله رب العالمين. مالك يوم الدين. الذي بسط الأرض مهادا. ووضع الجبال لها أوتادا. وأرسل في حزونها الأنهار جلابا. ومدّ على سطحها من الغمر بحورا عبابا. وجعل الأسفار نزهة لذوي الأبصار. وباعثا على اكتساب المعارف وكشف خبايا الأسرار. وأوحى إلى نوح عليه السّلام صنعة إنشاء السفن وسيّرها في البحار. وعلّم بنيه مدّ سكك الحديد لدرج القطار. وأرشدهم إلى رصد النجوم هداية لهم في الليل المدلهم. وكشف لهم خبايا المغنطيس عناية منه لما فيها من النفع المهم. وقال لعباده أن اسلكوا في الأرض بالطول والعرض. وجولوا البلاد. وعاشروا العباد. وأفرجوا ما في قلبكم من الغمّ. بالجوب في البرّ والقلع في اليمّ. وداووا (١) من العقل الكلوم. بشرب كوثر العلوم. وفي ذلك قال الإمام علي (٢) رضي الله عنه : (الطويل)

تغرّب عن الأوطان في طلب العلا

وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

تفرّج همّ واكتساب منافع

وعلم وآداب وصحبة ماجد

ولا جرم أن في الأسفار فوائد جمة غير هذه : منها ما قاله موسى عليه السلام : " لا تلوموا السفر فإني أدركت فيه ما لم يدركه أحد" ، يريد أن الله كلّمه وهو مسافر عن الأوطان. وقال المأمون (٣) : " لا شيء ألذّ من السفر ، فإنه يشدّ الأبدان ، وينشّط الكسلان ، ويشهّي الطعام" ، إلى غير ذلك. ولهذا كان الناس في الأسفار مذاهب : فمنهم من سافر في طلب العلم والمعارف واكتساب الفوائد. ومنهم من أراد منها الزهد والعبادة. ومنهم من قصدها في طلب

__________________

(١) ب : داوا

(٢) هو علي بن أبي طالب (٢٣ ق. ه / ٦٠٠ ـ ٤٠ ه‍ / ٦٦١) ، أبو الحسن رابع الخلفاء الراشدين ، ابن عمّ الرسول صلى الله عليه وسلم وصهره ، نسب إليه : نهج البلاغة ، وديوان شعر. الزركلي : الأعلام ٤ / ٢٩٥ وفصل : ALI : E. I. ٢ : I / ١٨٣ ـ ٦) Vaglieri (

(٣) هو عبد الله بن هارون الرشيد (١٧٠ / ٧٨٦ ـ ٢١٨ / ٨٣٣) سابع الخلفاء العباسيين. الزركلي : الأعلام ٤ / ١٤٢.

١٨

الرزق واكتساب المعاش وحشد الأموال. ومنهم من طمع منها بنوال الفخر والأمجاد ، كقول حسن بن علي الطائي (١) : (البسيط)

إنّ العلى حدّثتني (٢) وهي صادقة

فيما تحدّث أنّ العزّ في النّقل

لو أنّ في شرف المأوى بلوغ منى

لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل

ومنهم من عمل الرّكاب ، وطاف ما أمكنه الوصول إليه من بقاع الأرض بالسياحة حتى يشاهد حال البلدان والدّول في الحال ، ويثبّته في مؤلفات جديدة يوضّح فيها ما شاهد من رحلاته ، ولا يبالي بمشقات السفر وعوارض الاغتراب والبعد عن الأهل والوطن. كل ذلك له نفاسة (٣) ما هو فيه من خدمة أبناء عصره بتحقيق أخبار البلاد الشاسعة حتى يصير هذا الاغتراب عن الأهل والأتراب ديدنا له لا يتناءى (٤) عنه ويقضي فيه حياته ، ويقول مصعب العقلى : (الطويل)

إذا كان أصلي من تراب فكلها

بلادي وكل العالمين (٥) أقاربي

ولهذا قد تصدّى كثير من متبصّري المسلمين والفرنجة (٦) من أهالي أوروبا وغيرها للسياحة (٧) لإفادة أبناء جنسهم عن (٨) أحوال الأمم التي لم تكن على نحو مألوفاتهم ، وبذلك يتحققون معنى سعة أرض الله وكثرة جنود ربك واختلاف ألوان الناس وألسنتهم ، ويخلّدونها في بطون الأوراق لإفادة أمم جميع الآفاق.

__________________

(١) أ ، ب : الحسين وهو : الحسن بن علي الطائي (٤١٢ / ١٠٢١ ـ ٤٩٨ / ١١٠٥) فقيه شاعر لغوي ، من تصانيفه : المقنع في شرح كتاب ابن جنّي. كحّالة : معجم ٣ / ٢٦٢.

(٢) أ ، ب : حدّثني ، والصحيح ما أثبتنا

(٣) أ ، ب : بنفاسة

(٤) أ : يتناء ، ب : يبتعد.

(٥) أ ، ب : العلمين

(٦) أ : الفرنجيين.

(٧) المقصود : الاستكشاف

(٨) أ : ساقطة ، ب : من

١٩

أمّا الملوك والسلاطين ففيهم من سافر طمعا في الاكتشاف على بلاد الله الواسعة الفلا ، الكثيرة الكلا ، والنظر إلى ما فيها من الخيرات وأسباب التّمدن والحضارة والمعارف والصّنائع ، إلى غير ذلك من بواعث الخيرات والنجاح ليزداد خبرة ، ويستعين بها على نقل ما فيها من المحاسن إلى ممالكه كما فعل بطرس الأكبر (١) ملك الروسية ، وغيره من الملوك والسلاطين.

فبناء على ما ذكرنا ، صمّم السيد الهمام ، والقرم القمقام ، السلطان بن السلطان بن السلطان بن الإمام : برغش بن سعيد بن سلطان بن الإمام أحمد سعيد ، على مبارحة ملكه الرّغيد ، وتجشّم مشقة الأسفار ، والخروج إلى بلاد أوروبا الغنيّة بكنوز المعارف ، والصنائع ، وأسباب الحضارة والعمران ، ليرى ما فيها مما يستحقّ نقله إلى بلاده ، وإن كان ملكه على جانب عظيم من الخصب والعمران ، فإنه قد شاد فيه حصون الحضارة على أركان العدالة ، وصارت رعاياه ترتع على مروج الخصب والسّلام ، وتضحك عن ثغر بسّام.

غير أن السلطان برغش ـ أعزّ الله شأنه ـ قد جبل على طبع جليل يشتاق إلى طلب المعالي والفلاح. ومن حسن دأبه الأثيل إذا سمع بمفخرة لم يأل جهدا عن امتطاء سنامها والفوز بنوالها. ولهذا عزم على الأسفار ، والجولان في الأمصار ، وكتب يقول إلى جلالة فيكتوريا (٢) " ملكة بريطانية" و" سلطانة الهند الفخيمة" أنه يريد زيارة البلاد الأوروبيّة. فهشّت ، وبشّت جلالة الملكة إلى رؤياه ، وأرسلت تستقدمه برسالة ودادية. فلبّاها السيد برغش بحسن القبول ، وإتمام المأمول.

__________________

(١) ويعرف أيضا : بطرس الأول (١٦٧٢ ـ ١٧٢٥) : كانت له علاقات مع الغربيين الذين شجعوه على محاربة الإسلام (تركيا) وحاكى أوروبا في تحديث بلاده. ١٤٢١ / ٢ : Pierre ١ er : P.R.

(٢) هي فيكتوريا الأولى ، ملكة بريطانيا العظمى وإرلندة من ١٨٣٧ إلى ١٩٠١ ، وإمبراطورة الهند من ١٨٧٦ إلى ١٩٠١ ، أدركت الدولة في عهدها الاتساع والقوة. انظر الفصلين :

Victoria : N. E. B : ٢١ / ٩٤٣ ـ ٠٥, G. E : ٠٢ / ١٨٥٢١

٢٠