تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجار

زاهر بن سعيد

تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجار

المؤلف:

زاهر بن سعيد


المحقق: أحمد الشتيوي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: وزارة التراث والثقافة سلطنة عمان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٩٦

ولما أصبحوا ثاني يوم أتى رجال الدولة إلى سعادته ، وطلبوا أن يخرج في صحبتهم ليفرّجوه على ما في بلدهم من التّحف والفرجات ، فأجاب طلبتهم ، وخرج في مركبته ، ومعه وزراؤه ورجاله.

فساروا إلى المدرسة الكلية الكبيرة (١) وهي دار وسيعة ، فيها محلات كثيرة للكتب وللمعلمين ، وفيها قبة كبيرة. وقيل إن فيها من الكتب نحو ٢٩٠٠٠٠ كتاب ، منها ٩٠٠٠٠ مجلد بخط قلم ، والبقية من المطبوعات. وفيها كتب قديمة بالقلم الكوفي وغيره.

ثم ساروا بهم من هناك إلى دار التصاوير (٢) ، وفرّجوهم على ما فيها من أعمال المصورين المشهورين.

ثم دخلوا بهم مخدع المسكوكات القديمة. ثم دار الأسلحة القديمة والدروع التي كانت الجنود تلبسها في العهد القديم.

ثم فرّجوه على دار التماثيل الحجرية ، فرأوا فيها تماثيل كبيرة الحجم قديمة العهد من زمن الجاهلية ، كانوا قد وجدوها في قلب الأرض ويبلغ ارتفاع بعض منها نحو ١٧ ذراعا.

ثم ساروا بهم إلى دار الطبّاعة وفرّجوهم على طريقة طبع الكتب ، وطبع النشرات ، وعلى طريقة قطع الورق بالآلات. فشاهدوا آلة تقطع في ساعة من الزمان ثمانية عشر ألف طبق من الورق.

__________________

(١) المقصود جامعة الصربون ، وهي في الأصل مؤسسة خيرية لصاحبها صربون ، قصد ايواء الطلبة والمعلمين الفقراء ، وكان ذلك سنة ١٢٥٧ ، ثم تحولت إلى كلية دينية سنة ١٥٥٤ وقد أعيد بناؤها سنة ١٨٨٥. فصل :: Sorbonne (la) G.E. : ٥ / ٠٦٨٢

(٢) المقصود متحف : اللوفر ، وهو المتحف الوطني الفرنسي بباريس كان في الأصل قصرا من قصور العائلة المالكة ، ولم يتخذ هذه الصفة إلا سنة ١٧٩١. فصل : ٧٣٤٦ / ١٢ : Louvre (MUSEE Du) : G.E.

٢٤١

ثم فرّجوه على طريقة جمع الأحرف إلى قوالب ، ووضعها على المطابع ، ومسحها بالحبر ، وكبس الورق عليها بآلات عجيبة تدوّرها قوة البخار.

ثم فرّجوه على طريقة تجليد الكتب. وكان في دار الشغل نحو ١٠٠٠ نفس ونيف.

وبعد أن تفرجوا على كل ما كان يستحق الفرجة رجعوا بالسلامة إلى منزلهم.

٢٤٢

الباب الرابع والأربعون

في زيارة سعادة السلطان للمرشال مكمهون ببلد فرسايل

خرج السيد برغش في وزرائه نهار الأحد ١٤ جمادى الثانية (١٩ جولاي) يريد ردّ السلام على المرشال مكمهون. وكان المرشال مقيما في قصر ملوك فرنسة القدماء الكائن في بلدة اسمها فرسايل تبعد عن باريس نحو ١٥ ميلا. فركب السيد مركبته وسار إلى القصر ، ووصل إليه بالسلامة ، فخرج رجال الدولة إلى لقاء سعادته ، ورحبوا بقدومه ، وسلموا عليه ، ودخلوا به إلى القصر ، فلاقاه المرشال مكمهون بالعز والإكرام ، ورحّب بقدومه.

وبعد أن فرغوا من السلام والخطاب نهضوا ، وأخذوا يفرجون السلطان ورجاله على ما كان في ذلك القصر الجميل من الأبنية والمنازل والمخادع والصور والتماثيل والأثاث والأواني الثمينة الباقية هناك من عهد الملوك القدماء. وحيطان القاعة وسقفها مصورة أحسن تصوير ومن يراها كأنه يرى الحرب قائمة على الساق أمام عينيه.

وتجاه هذا القصر جنينة عظيمة ذات أشجار وأزهار متنوعة وأحواض فيها تماثيل من حجر منها في صورة بنى آدم ، ومنها في صورة سمك ، ومنها في صورة غير حيوانات البحر ينفجر الماء من أفواهها وصدورها على علوقامات كثيرة ، وينزل إلى الأحواض كالمطر أو يتساقط على الدرج ، ويظهر للناظر كأنه شلالات بحر النيل.

ويوجد في هذه الجنينة محل على دائرته عقود وفي وسطه براحة (١) وفي داخل العقود طريق يمشون فيها دائرة على تلك البراحة ، وعلى دائرة العقود من الخارج أشجار وأزهار. وفي وسط كل عقد ثوارة من الماء. ومتى سار المتفرجون بتلك الطريق إلى تحت العقود يقوم الماء عليهم

__________________

(١) ب : استراحة

٢٤٣

مثل السور. ومن جملة ذلك حوض عظيم عليه أنواع مختلفة من الصور ، وتحتها نحو ٩٠ ثوارة. وعلى جانب الحوض مغارات داخلها تصاوير قديمة من خيل البحر وغيرها. وينصب الماء هناك من فوق جبل ويتشعّب شعبا كثيرة تنحدر من شط (١) مدينة باريس على مسافة خمسة أميال. وقد أتقنوا صنعة اللعب بهذه المياه إتقانا محكما : فإنهم متى أرادوا أوقفوا جريانها في طرفة عين ، ومتى أرادوا أجروها بلمحة نظر. وإذا أجروا المياه على ما ذكرنا مدة نهار واحد كلفتهم ثمانية آلاف فرنك على ما قيل.

ولما رجعوا من فرسايل إلى باريس فرّجوهم على دار الولاية أو قصر الدولة (٢) : وهو قصر عظيم من أعظم القصور التي رأوها في سفرهم. وكان فيها نقوش وزخاريف كثيرة وصور جميلة من جملتها صورة كاثرينا دى ميديشى (٣) التي أمرت ببناء ذلك القصر. وجانب من ذلك القصر يشرف على شط ماء عذب اسمه السين يمر في شط مدينة باريس ، وعليه جسور كثيرة يمر عليها الناس من جهة إلى جهة أخرى. والجانب الثاني من القصر يشرف على جنينة التوليري (٤) العظيمة الجميلة الأشجار والأزهار وثوّارات المياه والتماثيل الحجرية إلى غير ذلك.

ثم فرّجوهم على خزنة السلاح ، وكان فيها من الأسلحة أصناف كثيرة ، لا يسعنا ذكرها في هذا الباب قد جمعوها من عهد قديم ، وهم يعتنون بها كثيرا ، ويعتبرون الأسلحة القديمة ، ويفتخرون بها. وقد أضافوا إليها جميع أصناف الأسلحة الجديدة أيضا.

__________________

(١) المقصود النهر الذي يشق باريس ، نهر السين (Seine) نهر فرنسا الشهير وهو الثاني طولا (٧٧٦ كلم) والأهم اقتصاديا.

فصل : ١٦٤٥.Seine (LA) : P.R : p

(٢) المقصود قصر التويلري الذي أمرت ببنائه دي ميديسيس سنة ١٥٦٤ وهو يقع على السين بين متحف اللوفر وقصر الشان اليزي. واستمر بناؤه عدة سنوات وعلى مراحل. هدم هذا القصر سنة ١٨٨٢ عدا جناحين منه. فصل : Tuileries ١٨٠٦. (palais des) : P.R : p

(٣) هذا هو الاسم الايطالي لكاترين دي مديسيس ، وهي من أسرة ايطالية شهيرة (١٥١٩ ـ ١٥٨٩) تولت ملك فرنسا بعد موت زوجها ، وكانت راعية للفنون ، فواصلت بناء قصر اللوفر وشرعت في بناء قصر التويلري. فصل : Catherine de ٣٤٩ / ٢ : Medecis : P.R

(٤) أي التويلري Les Tuileries

٢٤٤

وبعد أن تفرّجوا على ما كان في ذلك القصر من التحف المستحقة الفرجة خرجوا بالسيد ورجاله ، وساروا بهم إلى قبر نبوليون بونابرتي الكبير.

٢٤٥
٢٤٦

الباب الخامس والأربعون

في فرجة سعادة السلطان على قبر نبوليون الأول

سار رجال الدولة الفرنساوية بسعادة السيد برغش إلى المزار الموجود فيه قبر نبوليون الأول بهذا الاسم. وهو بناء شامخ عليه قبة عالية مصفّحة بالذهب يراها الناظر من كل جهة. فلما دخلوا المزار انكشف لهم اتساعه وحسن بنائه. وأرضه مبلطة بالرّخام. وفي صدر القاعة غرقة في هيئة محراب كبير فيه بركة ، وفي وسطها تابوت من حجر الرخام المنحوت ضمنه عظام (١) سلطانهم الكبير (٢) نبوليون المذكور. وحوله تصاوير موضوعة على دائرة القبر.

وكان هذا السلطان شديد البأس من عهد شبابه. فإنّه قهر أعظم ملوك الإفرنج وله من العمر ٢١ سنة ، وكان ينزل معامع الحروب في مقدّمة الجيش ، ويقتحم نار المدافع ، ويهجم على صفوف الأعداء ، ويفتك بهم. وما قام قائد جيوش بعد الإسكندر ذي القرنين مثل نبوليون الأول. وكان ذا عقل ثاقب ، وقلب سليم ، وعلم واسع. فرض فرائض (٣) عادلة استسنّ (٤) بها اليوم دولة الإنكليز وباقي دول أوروبا. وكان شجاعا لا يهاب الموت.

__________________

(١) نلاحظ أن نابليون قد أحرقت جثثه ودفن رمادها في مقبرة الأنفليد (Les Invalides)

(٢) يعني الإمبراطور

(٣) المقصود القانون المدني للفرنسيين (Code Civil des Francais) وهو مجموع ٣٦ قانونا تتعلق بالحقّ المدني شرّعه نابليون في ٢١ مارس ١٨٠٤ ، وهو يتكون من ٢٢٨١ فصل تتحدث عن : ١) الأفراد ٢) الممتلكات وانتقالها ٣) الممتلكات وطرق الحصول عليها. وقد عرف هذا القانون بقانون نابليون (Code Napolean) وأثر على القوانين في أوروبا. الفصل : ٤٢٣ / ٢ : Code civil : P.R ، والفصل : ٢٠٠٨ / ٥ : Codification : G.E ونلاحظ أن هذا القانون حظي بعناية رفاعة الطهطاوي فعرّبه. ويكون بذلك قد فتح الباب على معرفة القوانين الوضعية في البلاد العربية.

(٤) ب : تقتدي

٢٤٧

وما ذكره الأصمعي عن بسالة عنتر (١) وحماسته وجرأته في معامع الحروب ما هو سوى نقطة في بحر بسالة نابوليون المومأ إليه. ولو لا خيانة قواد جيشه وامرأته لما كان تمكن الإنكليز من قهره. وما زالت إلى اليوم رايات الدول التي قهرها منصوبة حول قبره ، وهي تسع رايات.

ثم فتح رجال الدولة الفرنساوية بابا صغيرا كان إلى جانب قبر نبوليون إجلالا لسعادة السيد برغش ، وأدخلوه إلى مخدع لا يدخله أحد سوى الملوك والسلاطين ، وفرّجوهم هناك على سيف السلطان نبوليون وكمّته (٢) ونيشانه (٣) وهي ما زالت محفوظة على حال حسنة بلا تغيير إلى الآن.

ثم خرجوا بالسيد ورجاله من هناك ، وساروا بهم إلى محل عمل الزوالي (٤) وعمل الأواني الصينية والفناجين ، وغير ذلك من أعمال الصناع الغريبة التي يحتار العقل من سرعة عملها وحسن نقشها.

وبينما كان سعادة السلطان في معمل الفناجين فرّجوه على فنجان صغير من الفخار الصيني ، فاستحسن شغله ، وسألهم عن قيمته ، فقالوا : ثلاثون ريالا.

__________________

(١) انظر : الأصمعيات

(٢) الكمة : هي القبعة

(٣) ب : عوّض (وكمته ونيشانه) بقوله (وسائر مخلفاته الرسمية والشخصية)

(٤) في العامية العمانية : السجاجيد

٢٤٨

الباب السادس والأربعون

في فرجة سعادة السلطان على بستان مجموع الحيوانات

وغيره من أماكن بمدينة باريس

ولما كان اليوم الثالث من وصولهم إلى باريس أتى رجال الدولة إلى سعادة السلطان ، وطلبوا إليه أن يخرج في معيتهم ليفرّجوه على بستان مجمع الحيوانات. فأجاب طلبتهم ، وخرج في رجاله معهم ، فساروا به إلى البستان المذكور. وهو بستان عظيم متسع طولا وعرضا ، وفيه محلات مخصوصة لأنواع الحيوانات المختلفة.

ومن جملة الحيوانات الموجودة هناك جمال بيض ذات سنامين ، وأفيال. وكان هناك فيل صغير وضع سائسه مزمارا في خرطومه ، فصار ينفخ فيه ويزمر. وكان كذلك بقر أبيض له أذيال طويلة كأذيال الخيل. وطير النعام يجرّ مركبة كالخيل. ثم حمير من نوع حمار الوحش. وكلاب وغنم وكلها قد طوّعوها لتجرّ مركبات صغيرة. وفي هذا البستان جميع أنواع الحيوانات والطيور ، لا يسعنا ذكر أجناسها وأنواعها في هذا الباب.

ولما كان نهار الجمعة فرجوا سعادة السلطان على سرداب في بطن الأرض تجتمع إليه مياه المدينة التي تصعد إلى البيوت والمنازل ، وسرداب آخر تجتمع إليه فضلات المياه المستعملة في البيوت بعد الغسل وغيرها ، ومن السيول وغيرها ، وهو سرداب طويل متشعّب في طرقات باريس من أسفلها ، وعلوه نحو قامتين ، وعرضه نحو عشرة أذرع ، ويسير فيه الماء حتى يصبّ في نهر باريس.

٢٤٩

وكان نزولهم إلى هذا السرداب من كوة صغيرة. ثم هبطوا منها إلى درجه (١) حتى وصلوا إلى السرداب ، فركبوا مركبات من حديد تجرّها أوادم ، وتمشي على وجه العامد (٢) والماء يجري من تحتها.

وبعد أن ساروا بها مدة طويلة نزلوا منها وركبوا قوارب صغارا تجري على الماء في ذلك العامد (٣) ، وكان في القوارب مصابيح يستضيئون بها في ظلام السرداب. وفي هذا المكان علامات يستدلون بها على حصص (٤) المدينة المبنية فوق السرداب. فإذا وصلوا إلى علامة قالوا لهم : نحن الآن تحت المحلة الفلانية من مدينة باريس. ولبثوا يسيرون بالسيد ورجاله في ذلك السرداب حتى خرجوا منه من طريق آخر.

ثم ساروا بالسيد ورجاله إلى محل اسمه" شيركوس" (٥) ، وهو مكان ملهى تلعب فيه الخيل والرجال والنساء والأولاد. وهو على شكل دائرة حولها كراسي يجلس عليها المتفرجون ، وفي قلب الدائرة ميدان ممهّد. فأتوا بحصان ، وأدخلوه تلك الدائرة ، وخرج إليه رجل في يده سوط ، وصار يحرّك السّوط ، ويفرقعه في الهواء والحصان يدور يمينا وشمالا ، ويقدم ، ويدبر على هواء (٦) قرع السوط كأنه في معركة من معارك أهل الفروسية (٧).

ثم أبرزوا أربعة جياد ، وصاروا يديرونها في ذلك الميدان على هوى الحصان الأول. ثم بعد حين أضافوا إليها حصانين آخرين ، ولاعبوا الجميع على قرع السياط إقبالا وإدبارا وهجوما. ثم أضافوا إليها حصانين آخرين حتى صارت ثمانية حصن ، وصاروا يلعبون الجميع

__________________

(١) أ ، ب : درجة

(٢) على وجه العامد : ساقط في ب

(٣) في ذلك العامد : ساقط في ب

(٤) ب : أمكنة

(٥) هو مكان السرك (Circus)

(٦) أ ، ب : هوى

(٧) أ ، ب : الفراسة

٢٥٠

سوية. ومن حسن إتقان تطبيع تلك الحصن كانت تجول في ذلك الميدان الضيّق المجال من دون أن تصادم بعضها [بعضا] عند الإقبال والإدبار يمينا وشمالا.

ثم أوقفوا حصانين في صفّ واحد ، وخرج رجلان ، وصارا يركضان في دائرة الميدان حتى وصلا إلى قرب الحصانين ، فقفزا إلى الهواء فوق الحصانين ، واندفعا يقلبان على أم رأسهما في الهواء قلبات متتابعة حتى انتهيا إلى قرب الأرض ووقعا على رجليهما.

ثم أضافا إلى الحصانين حصانا ثالثا ، وقفزا عليه كما قفزا على الحصانين الأولين ، وما زالا يزيدان الحصن ، ويقفزان عليها حتى اصطف الثمانية حصن ، الواحد إلى جانب الآخر.

وصارا يقفزان عليها ، وهما يقلبان قلبات متواترة في الهواء على أمّ رأسهما.

ثم خرج رجلان ، وانتصب كل منهما على فرس ، وقبضا على ثوب. وجاء الرجلان اللذان يقحمان ، وقحما (١) من فوق الثوب المقبوض. ثم ركب رجل على أكتاف رجل آخر ، وصار الرجلان يقحمان (٢) فوق الرّاكب على أكتاف الآخر.

ثم دخل الميدان رجلان آخران وامرأتان ، وصاروا يخيّلون (٣) بسرعة عظيمة ، وهم يلعبون على ظهر الخيول ، والحصن ترقص في طرب ، والناس يزمرون لها بالمزمار ، ويضربون بالطبل ، وهي ترقص على كسر (٤) الألحان كأنها من بني آدم.

ثم برزت امرأة إلى الميدان ، وقدّامها حصان مسروج ، ولما انتهت إلى وسط الميدان قحمت (٥) على الحصان ، وهو يجري بسرعة ، واستوت على ظهره ، ودارت في الميدان ، وهي

__________________

(١) ب : وجاء رجلان وقفزا

(٢) ب : يقفزان

(٣) يقصد يحركون الخيل (لم نعثر على هذا الاستعمال في القواميس)

(٤) ب : تلك

(٥) ب : قفزت

٢٥١

تارة تجلس ، وأخرى تميل بجسمها : تارة إلى اليمين وأخرى إلى الشمال ، وآونة تقف على رجل واحدة ورجلها الأخرى في الهواء ، وتارة على كفل الحصان وهو في أكمل شوط.

ثم وقف ثلاثة رجال في أيديهم ثلاث حجلات (طارات من خشب) مثل الدوائر ، فدارت المرأة بالحصان في الميدان حتى إذا حاذت الحجلة الأولى قحمت فوقها على ظهر الحصان ، ثم نزلت من الجهة الثانية على ظهره ، وهو يجري جريا سريعا ، واستقلت برجليها على ظهره ، ثم قحمت الحجلة الثانية والثالثة ، والحصان في أتمّ الشوط ، وهي لا تتغير عن مركز ظهر الحصان.

ثم أتوا بثلاث (١) حجلات أخرى ملصوق عليها قرطاس رقيق ، ففعلت المرأة مثل فعلها الأول ، وقحمت على الحجلة ، وخزقت القرطاس حيث دخلت منه ، ونفذت ، وهبطت على ظهر الحصان ، وهو يجري ، وهي ملتفة على نفسها مثل كرة. فصفّق الحاضرون لها طربا لحسن فروسيتها (٢).

ثم أخرجوا ستّ دوابّ ، وعليها ستة قرود (سبلان) راكبة ، وصارت تبدو في الميدان وكأنها من بني آدم ، ولم يكن أحد يسوس الحصن سوى القرود ، وكانت ماسكة على عنان الخيل كفرسان ماهرين في فنّ الفروسية (٣) ، فتعجّب الحاضرون من نباهة تلك الحيوانات.

ثم جاء رجل ، وصعد إلى خشبة معلقة في الهواء بحبال ، وصار يلعب عليها ويتلوّى ، وكان تارة يتعلق بأطرافها برجليه ، وتارة بيده الواحدة ، وأخرى برجله الواحدة ، ورأسه منكّس إلى أسفل ، وآونة يدور على محور الخشبة كالدولاب ، ثم يقبض عليها تارة بكوعيه

__________________

(١) أ ، ب : بثلث

(٢) أ ، ب : فراستها

(٣) أ ، ب : الفراسة

٢٥٢

وأخرى بعساقيل رجليه ، وهو غير متمسك بشيء. فطرب الحاضرون من حسن براعته ، وصفقوا له بأيديهم.

وما زالوا يلعبون ألعابا كثيرة مثل هذه حتى فرغوا من اللعب.

وانصرف الناس مسرورين. وخرج السيد في رجاله ورجع إلى منزله بالسلامة.

٢٥٣
٢٥٤

الباب السابع والأربعون

في سفر سعادة السلطان من باريس

طلب رجال دولة فرنسة من سعادة السلطان أن يطيل مدة إقامته بباريس ليفرّجوه على جميع ما في هذه المدينة الجميلة من التحف العجيبة. أما سعادة السيد فكان عازما على الرجوع إلى أوطانه السعيدة وقال لهم : " بارك الله فيكم أيها السادات الكرام ، وحرس مدينتكم هذه من جميع الآفات. وإنها لعمري نعم المدينة! وقد صدق من قال : إن باريس عروس الدنيا ، تفوق جميع مدن العالم جمالا وحسنا وبهجة ، تقرّ عين الناظر برؤيتها ، وتسرّ النفوس بحدائقها ومنتزهاتها. وهي نزهة الدنيا ، ذات أنهار جارية ، وثوارات ماء نافرة ، وأشجار مثمرة ، قطوفها دانية ، وأزهارها نضرة ، وقصورها شامخة عالية ، وطرقاتها معتدلة ساوية. فإذا لبث الإنسان فيها ـ عمره بطوله ـ لا يسلوها. ولكن مهمّات المملكة تدعوني إلى الرجوع ، وإني أشكر لكم مكارمكم العميمة وأسأل الحقّ ـ سبحانه وتعالى ـ أن يؤيّد ملككم على دعائم العزّ والإقبال آمين".

ولما كان اليوم ٢٢ جمادى الثانية (٢٧ جولاي) خرج السيد بعد صلاة العصر فشيّعته أرباب الدولة وأكابر البلد إلى محطة سكة الحديد. ورافقته العساكر الخيالة أيضا.

وقبل غياب الشمس بنصف ساعة قام قطار سكة الحديد من باريس ، وسار السيد ورجاله في كنف الرحمن الليلة بطولها.

ولما أصبح الصباح وأضاء بنوره الوضاح ، دخلوا مدينة ليون (١) ، وصلّوا الفجر فيها.

__________________

(١) مدينة تقع في وسط فرنسا على نهري الرون Rhone والسون Saone وهي ثالث مدينة فرنسية. فصل : Lyon : ١١٠٩ / ٢ : P.R

٢٥٥

ثم سافروا بعد نصف ساعة ووصلوا إلى مدينة مرسيليا (١) بعد ست ساعات.

وكان رجال الدولة هناك قد بلغهم خبر قدوم سعادته فخرجوا إلى لقائه بفرقة من العساكر الخيالة ، وأحاطوا بسعادته إحاطة الهالة بالقمر ، والأكمام بالزهر والثمر. ثم ركبوا المركبات المعدّة لهم ، وساروا قاصدين المنزل المهيأ لهم ، والعساكر الخيالة مكتنفة (٢) بهم من خلف ومن قدام. وكانت الدولة الفرنساوية قد أقامت موسيو (٣) سفريه ترجمانا لسعادة السلطان ، فرافقه إلى مرسيليا.

ولما وصلوا إلى الدار ، وارتاحوا من تعب السفر تواردت أرباب الدولة وأعيان المدينة ، وسلّموا على سعادته ، ورحّبوا بقدومه الشريف.

ولما كان نهار الأربعاء ٢٤ جمادى الثانية (٢٩ جولاي) حضر أرباب الدولة إلى سعادته ، وطلبوا إليه أن يخرج في صحبتهم ليفرّجوه على ما في مدينتهم من التحف ، فأجاب السيد طلبتهم ، وخرج ، فساروا به إلى معمل السكر ، وفرّجوه على طريقة تحليل السكر ، واستقطاره ، وتصفيته ، وسبكه قوالب ، وتقطيعه قطعا صغارا. وكل ذلك بواسطة الآلات البخارية.

ثم ساروا به من هناك إلى محل المراكب ، وفرّجوه عليها.

ثم رجعوا بسعادته إلى المنزل.

__________________

(١) مدينة تقع على البحر المتوسط جنوبي فرنسا ، ثاني أكبر مدينة ، وأول مدينة تجارية. فصل :

١١٦١ / ٢ : Marseille : P.R

(٢) ب : محيطة

(٣) رسم عربي للكلمة الفرنسية : Monsieur وهي تعني السيد

٢٥٦

وفي اليوم ٢٥ من جمادى الثانية (٣٠ جولاي) ركب السلطان في مركب بخاري فرنساوي ، وشيّعه جميع أرباب الدولة وأكابر البلد وسافر بالسلامة من مرسليا.

ووصل إلى نابل (نابولي) (١) في ٢٧ من الشهر (١ أغسطس) ، وهي بلدة من بلاد ايطاليا.

ثم سافر السيد ورجاله منها بعد الظهر. وتوجهوا قاصدين مدينة الإسكندرية.

فلما وصلوا بالسلامة إلى ثغرها نشر القبطان بيرق سعادة السلطان في دقل سفينته ، وكانت بالمرسى خمس سفن حربية من سفن سعادة الخديو إسماعيل باشا ، فنشرت البيارق في دقالها ، وصعدت عساكرها البحرية إلى سطح المراكب ، وأطلقوا ٢١ مدفعا سلاما على سعادة السلطان. وكذلك أطلقت العساكر البرية من البرّ ٢١ مدفعا إكراما لسعادته وترحابا بقدومه.

ولما رست سفينة السلطان وافى إليها صاحب الدولة محمد توفيق باشا (٢) وليّ العهد ، وصاحب السعادة حسين باشا أخوه ولدا حضرة الخديو المعظم ، وكان في صحبتهما صاحب السعادة شريف باشا ، وحسن باشا محافظ الإسكندرية ، وغيرهم من المأمورين ، وسلّموا على سعادة السلطان بالنيابة عن سعادة الخديو.

ثم طلبوا إليه أن ينزل معهم إلى البرّ. فنزل ، ونزل معه من رجاله الأخصاء عشرة أنفار.

فلما وصلوا إلى البرّ ، وخرجوا من الزورق أطلق الجنود ٢١ مدفعا إجلالا لسعادته.

ولما قربوا من سراية (٣) رأس التين اصطف ـ لاستقبال السلطان ـ صفّان من العساكر ، ورفعوا السلاح ، ونشروا العلم ، وآلة الموسيقة العسكرية تترنم ترحيبا بقدوم سعادته.

__________________

(١) مدينة ايطالية بحرية (Napoli). فصل : ١٢٧٢ / ٢ : Naples : P.R

(٢) حكم (١٢٩٦ ـ ١٨٧٩ ـ ١٣٠٨ / ١٨٩٢) أتقن عدة لغات وأنشأ نظام الشوري والمحاكم الأهلية وتعاون مع الإنكليز في تنظيم الدولة والمالية والإدارة. فصل : Tawfik Pasha : E.I.٢ : X / ٨٨٣ (Hopwood)

(٣) لفظة فارسية تعني المسكن ، القصر. فصل : Saray : E.I.٢ : IX / ٤٤ (Blair)

٢٥٧

ثم خرج الخديو المعظم إلى لقاء السلطان ، فقابله في أسفل درج السراية ورحّب بقدومه ترحيبا يسفر عن خلوص المودّة. ثم صعد معه إلى ديوان رحيب ، وجلسا يتحدثان نحو نصف ساعة. ثم توادعا.

وخرج السلطان في رجاله ورجال سعادة الخديو ، وساروا إلى القصر الذي كانوا قد هيأوه لسكنى سعادته : وهو قصر فاخر لائق بمقامه. وأقاموا واحدا من المأمورين ملازما لسعادته يقوم بكل ما يلزم من الخدمات. وعيّنوا له فرقة من العساكر الخيالة والمشاة تلازم القصر الذي كان مجمّلا بأفخر الأثاث ومزيّنا بأحسن الفرش.

فلما استقر السلطان في المنزل وافى الخديو المعظم ووليّ عهده مصحوبين بأرباب الدولة ، وردوا السلام على سعادته ، ولبثوا يتوانسون بحضرة السلطان مدّة من الزمان. ثم توادعوا معه ، وانصرفوا إلى دار الولاية.

ثم وافى أكابر البلد وأعيانها وقناصل الدول الأجنبية ، وسلّموا على سعادته. وكان من جملة المأمورين الذين عينتهم دولة الخديو لخدمة سعادة السلطان والي الإسكندرية وقتئذ المسمى حسن باشا ، والعالم الفاضل المسمّى علي الليث (١) ، ونفران من القرّاء يقرآن القرآن بعشر قراءات ، وغيرهم.

ولما كان نهار الخميس ٣ رجب الأصبّ (٢) (٦ أغسطس) خرج السلطان يريد زيارة صاحبة العصمة أمّ الخديو المصونة في قصرها بالرملة.

وبعد أن قضى واجبات السلام على سعادتها رجع ، وسار إلى زيارة شريف باشا وإسماعيل صديق باشا. ثم عاد إلى منزله بالسلامة.

__________________

(١) هو علي بن الحسن الليثي (١٢٣٧ / ١٨٢٢ ـ ١٣١٣ / ١٨٩٦) شاعر مصري من الندماء صاحب الخديو اسماعيل له ديوان شعر. الزركلي : الأعلام : ٦ / ٢٩٨ ، كحالة : معجم : ٧ / ٦٦ ـ ٧٦ ، ١٣ / ٤٠٦

(٢) الأصبّ ، سقط في ب

٢٥٨

ثم خرج بعد العصر ثانية ، وسار إلى زيارة سعادة محمد توفيق باشا وليّ عهد الخديو وأخيه حسن باشا. وفي أثناء رجوعهم من الزيارة ساروا إلى ساحة المنشيّة : وهي ساحة جميلة أنشأها الخديو المعظّم في قلب مدينة الإسكندرية ، ونصب في وسطها تمثال محمد علي باشا صاحب مصر ، وهو راكب على حصان ، ونصب فيها أشجارا يجتمع الناس إلى ظلّها ليسمعوا أنغام الموسيقة التي تعزف في أوقات معلومة.

ثم رجعوا بعد الغروب إلى منزلهم بالسلامة.

ولما كان اليوم السادس من رجب (٩ أغسطس) أقام الخديو المعظم وليمة شائقة لسعادة السلطان وأصحابه الأخصّاء. ولكن عرض للخديو مرض أعاقه عن حضور الوليمة بنفسه ، فأقام ابنه وليّ العهد نائبا عنه.

فحضر السلطان ورجاله تلك الوليمة ، وحضرها عدد وافر من رجال الدولة ورؤساء البلد من جملتهم حسن باشا ناظر الجهادية. وكان رجال الخديو يكرمون السلطان ورجاله إكراما لا مزيد عليه.

وكانوا قد أقاموا لكل رجل من رجال سعادته أنيسا يؤنسه ويتولاه (١) في الطعام ، وكانوا قد أخذوا مأخذ الإفرنج في ترتيب سفرة الطعام ، وكتبوا اسم كل واحد في قرطاس ووضعوه في إناء ليعرف الرجل المكان المعدّ له على السفرة.

وكانت الموسيقة تعزف بالأنغام خارج الدار في جنينة مزينة بالأشجار والأزهار حتى فرغوا من الطعام.

وعقب (٢) ذلك نهضوا وشربوا القهوة.

ثم انصرف كل منهم إلى منزله بسرور وحبور.

__________________

(١) أ : أن يؤنسه ويكلفه إلى

(٢) أ : غب

٢٥٩
٢٦٠