تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجار

زاهر بن سعيد

تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجار

المؤلف:

زاهر بن سعيد


المحقق: أحمد الشتيوي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: وزارة التراث والثقافة سلطنة عمان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٩٦

الباب الثلاثون

في زيارة سعادة السلطان لمعمل الأسلحة في ويليج (١)

من دخل معمل الأسلحة في ويليج كأنه دخل معامع الحروب بعينها. فانه يشاهد في عرصة المعمل مدافع ضخمة منها مشققة ومنها مكسورة ومنها معطلة من كثرة الاستعمال.

وهذا المشهد المكرب يذكّره بانكسار الجيوش ، وهزيمة عددهم وأوائل (٢) دفاعهم ودمار ديارهم. ولكن متى توغل المرء في مخادع المعمل رأى هناك أوائل ضخمة تعجز عن تحريكها جبابرة نمرود (٣) فتحركها قوة البخار العظيمة ، وتصهر المعادن في بوتقة ضخمة تحاكي حوضا من نار. ثم ترفعها من الأتون بكلاليب عظيمة ثم تسبكها في قوالب معدة لها (٤) في قلب الأرض. ثم تخرج من بطونها مدافع عظيمة الحجم لا تتفرقع ، ودواليب متينة لا تتكسر ، وأسلحة جهنمية لا تقهر. وكل هذا الشغل العظيم يتولى أمر إدارته الكولونل كمبل والكولونل فيلد والماجيور متلند وأعوانهم.

وكلما ازدادت الأمة البريطانية اقتدارا ازداد معمل أسلحتها كبرا واتساعا. وكان هذا كله غير خاف على إدراك سعادة السيد برغش. وكان يود أن يرى بعينيه ما قد أدركه بعقله الراجح. فأظهر رغبته في الذهاب إلى ويليج لمشاهدة عجائب معمل الأسلحة المقدم ذكره.

__________________

(١) هي قرية صغيرة تقع شرقي ثمبتن ، يوجد بها عدة مصانع. فصل : ٥٧٢ / ١٢Welling Borough : N.E.B

(٢) ب : وتحطيم أدوات

(٣) هو ملك من ملوك الجبابرة ، ويبدو أنه هو الذي جادله إبراهيم عليه السلام في مسألة احياء البشر وإماتتهم والإتيان بالشمس من الغرب. فصل : Namrud : E.L.٢ : VII / ٢٥٢ ـ ٣ (Heller)

(٤) ب : آليا

١٨١

ولما درى (١) قوم من الأعيان أن سعادته السلطان عازم على الذهاب إلى ويليج سبقوه إلى هناك طمعا في أن يشاهدوا سعادته. وانتخبوا لأنفسهم محلات تمكنهم من مشاهدة سعادة السلطان بسهولة. ولما كانت الساعة الثانية بعد الظهر وصل السلطان في حشمه إلى معمل الأسلحة وكانت فرقة من الجنود مصطفة على باب مسبك المدافع في سلام سعادته. ثم خرج لورد يوستاس سيسيل والماجيور جنرال سار ادى مدير المعمل والكولونيل كمبل والماجيور متلند ومستر كينك ولاقوا سعادة السلطان بالترحاب والسرور ، وكان في معيته وزراؤه وحضرة باجر الفقيه والدكتور كيرك ومستر كليمنت هيل وأدخلوهم إلى قاعة الاستقبال.

وبعد أن استراح السيد وحشمه برهة من الزمان ، ساروا به إلى أماكن الشغل فدخلوا أولا مخدعا واسعا كان فيه حديد مخروط معدّ لعمل المدافع وأخذ المدير يشرح لسعادة السيد عن طريقة استحضاره. ولما كان السيد ـ أعزه الله ـ ممن يحب الصنائع والفنون سرّ غاية السرور بكل ما كان يسمعه من المدير. ثم خرجوا من هناك ودخلوا الحجرة التي فيها المطرقة العظيمة التي يحركها البخار بقوة خمسين طن (طولوناطة) (٢). وكانت هذه المطرقة المهولة ترتفع ، وتنحط بقوة ترتج من تحتها الأرض ، وتطرق أنبوبا محمّى (٣) بالنار ، معدّا لعمل مدفع ثقله واحد وثمانون طنا. وكان ذلك أعظم مدفع عمل في الدنيا. وكانت المطرقة تنقضّ عن علو ١٢ قدما بخفة وسرعة على ذلك الجبل المعدني الخارج من أتون النار المتأججة انقضاض الصاعقة على جبل من مغناطيس ، مع أن ثقلها كان نحو أربعين طنا. وكانت كمّاشة (كلّبتان) من حديد معلقة في الهواء بأوائل (٤) تديرها قوة البخار ، يبلغ كبرها ٥٠ ضعف كماشات القدماء. وكانت هذه الكماشة تقبض على أنبوب المدفع من تلقاء ذاتها ، وتقلبه تحت ضربات المطرقة لإتقان هندامه.

__________________

(١) ب : علم

(٢) طن : تعريب فصيح لكلمةTonne أما طولوناطة وطرناطة فهي تعريب عامي

(٣) ب : محميا

(٤) ب : بآلات

١٨٢

ثم صعدوا (١) بسعادة السيد ورجاله إلى مكان عال كانوا قد أشادوه من الخشب المدهون بألوان ونقوش شرقية لما زار ذلك المعمل قيصر الروسية. ومن علو هذا المكان كان السيد ورجاله يتفرجون على طريقة صهر المعادن وسبكها وتطريقها وهندامها. وفيما كان الناس واقفين ينتظرون بدء الشغل ـ ولم يشاهدوا شيئا سوى مطرقة مهولة ، وكماشة عظيمة ، وسندان ضخم ـ إذا بباب الأتون فتح ، وانبعث منه لهيب جهر العيون كأنه برق أومض من كبد السحاب. واندفعت حرارة شديدة من قلب الأتون خالها المتفرجون جبلا من نار قد انفجر وهاج في وجوههم حتى اضطروا إلى ستر أعينهم ووجوههم من شدة سعيرها مع أنّهم كانوا على بعد مسافة ثلاثين ياردة من الأتون. ولكن ما الحاجة بالحضور إلى هذا المعمل الجهنمي إذا كان الناظر يغمض عينيه ويستر وجهه ولا يرى ما قد أتى لمشاهدته؟. فلا بد إذا من كشف الوجوه وفتح العيون ، وإن تلظت بالحرارة ، وشاطت أهداب العيون بتشعع اللهيب المنبثق ، وتجعد الرأس واللحى (٢) من أجيج النار.

وبعد هنيهة رأوا الكماشة المعلقة في الهواء قد دفعتها قوة البخار إلى قلب الأتون. ثم قبضت على جبل من الحديد المحمر احمرار الجمر المتقد وأخرجته من الأتون ، ووضعته على السندان الضخم ، وكان الهواء المحيط بهذه الكتلة العظيمة من الحديد يتأجج ملتهبا. وإذا بالمطرقة العظيمة هبطت على ذلك الجبل الناري من علو ١٢ قدما (فوت) وصارت تطرقه طرقا متواترا بقوة تتزعزع لها الجبال. ومضى الطرق مستديما عليه حتى تندمج مسام ذلك الحديد ، ويتهندم شكله ، ويستحيل مدفعا متقونا ومعدا لهلاك الأبرياء من عباد الله.

فلما رأى السيد ـ أجاره الله ـ ذلك المشهد المهول ، قال لحشمه : " هلمّوا بنا إلى الصلاة : فقد انفتحت في وجوهنا أبواب جهنم ونارها ، والعياذ بالله منها".

__________________

(١) أ : فأصعدوا

(٢) أ ، ب : اللحاء

١٨٣

ثم ساروا بسعادة السيد من هناك إلى مكان خرط الحديد ، فأخرج العملة (١) قضيبا من حديد محمّى (٢) ، طوله نحو ثلاثة أقدام ، وسمكه نحو أربعة أقدام مربّعة ، وركّبوه على المخرطة حالا ، وصارت الآلة تدور بقوة البخار ، وتخرط القضيب بسرعة تكاد تخطف البصر ، وبسهولة غريبة كأنها تخرط قضيبا من الحطب ، وكانت الشرارات تتطاير منها تطاير البرق من قلب الغمام ، وتملأ الهواء المحيط بها كأنجم تتناثر في ليلة دهماء.

ثم ساروا بسعادة السلطان إلى مخزن المدافع. فشاهد فيها أصنافا كثيرة كبيرة : منها عيار كلته (٣) تسعة طولونات ، مركّب على دواليب عالية. ومنها ما كان عياره ٢٥ طنا. ومنها ما كان عياره (٤) ستة عشر طنا. فتعحب السيد ومن كان معه من تلك الأسلحة المهلكة لبنى آدم التي قد أفرغت فيها العقول الذكية ما عندها من البراعة بحجة التمدن وما ذاك لعمري إلا أقصى درجة من التوحش قد جمّله الطمع البشري برداء التمدن والتقدّم! وكان خيرا لو يفرغ المرء قوى عقله في اختراع أوائل (٥) للعمران ، ويزهد فيما يهلك الإنسان والحيوان. ولكن طبع المرء أقرب إلى الشر من الخير.

فلما نظر السيد ـ أعزه الله ـ إلى تلك المدافع والكلل والقنابر والتوربيد وغيرها من الأسلحة المهلكة (٦) قال متبرءا : " العياذ بالله من شرها وشر الشيطان الرجيم! ولي ثقة بكم ـ يا معشر الإنكليز ـ أن لا تستخدموا هذه الأوائل المهلكة بحجة الغزو والطمع في إهلاك الأبرياء ، وإنما تتخذونها لصيانة الملك وحماية الضعيف ونجاة المظلوم". فلما ترجم كلام سعادة السلطان إلى الحاضرين بالإنكليزي صفقوا بأيديهم علامة السرور وقالوا : " حبّذا! حبّذا! نعم المقال! ".

__________________

(١) ب : العمال

(٢) ب : محميا

(٣) كلته : ساقط في ب ، والكلة (بالضم) هي قذيفة المدفع البعلبكي : المورد ، ص ٨٩٨

(٤) ب : عياره

(٥) ب : آلات

(٦) ب : المرهقة

١٨٤

ثم خرجوا من هناك ، ودخلوا بسعادته إلى معمل البواريد (١) والمكاحل. وكانت رايات جميع الدول منصوبة على سطحه ، وراية الدولة الزنجبارية تخفق بينها. وكانت درج المدخل مفروشة برايات الدولة البريطانية ، فسار السيد وحشمه ، ومشوا فوقها.

ولما دخلوا المخدع رأوه مزينا بالأسلحة والمكاحل ، فقال واحد من حشم السيد : " إني أرى هذا المكان كأنه بارجة حربية! " فقال السيد : " وقد طرقني هذا الفكر بعينه". ثم خرجوا من هناك وساروا إلى مخزن عدد الخيل وسروجها وما نيط بها. وكانت كلها موضوعة بترتيب حسن ونظام جميل يرتاح إليه الناظر. وفيما كان السيد سائرا في صحن ذلك المخدع كان نحو مائة نفس من الرجال والنساء والأولاد مصطفين عن يمينه وشماله (٢) فلاحت منه التفاتة إلى بعض من البنات الصغار وكن لابسات ملابس بيضاء زادتهن حسنا وجمالا فوقف السيد ـ أعزه الله ـ والتفت إلى من كان إلى جانبه ، وأشار بيده إلى الفتيات ، وقال : " يا للعجب كل العجب اني أرى ملائكة السلام تجول في عرصات الحرب ، وهي آمنة ، لا خوف عليها". ثم طلب السيد بلطفه المعهود أن يحضروا إليه أولئك الفتيات ، فأحضروهن إليه. وكنّ على جانب عظيم من الحشمة والأدب والتهذيب ، وأخذت كل منهن تصافح يد سعادته بيدها اللطيفة (٣) ، وتسلّم عليه بلغتها الإنكليزية ، وماء الملاحة يقطر من شفتيها العذبتين (٤) ، فتبسّم السيد في وجههن بأنس وسرور ، ودعا لهنّ بطول العمر والإقبال. فشكرن سعادته لطفه وعلى ما حزن من الشرف العظيم (٥) من لدن مكارمه. ثم انصرفن إلى أبويهنّ وهنّ يطربن فرحا (٦).

__________________

(١) مفرده بارود

(٢) ب : يساره

(٣) بيدها اللطيفة : ساقط في ب

(٤) وماء الملاحة ... العذبتين : ساقط في ب

(٥) أ : الوسيم

(٦) ب : إلى آبائهن وهن طربات فرحات

١٨٥

ثم خرجوا بالسيد من هناك ، وأدخلوه مخدعا كانت فيه مدافع الميتراليوز (١) وهي مدافع مركبة من أنابيب عديدة ، فأحضروا إلى سعادته واحدا من هذه المدافع ليراه. فلما نظر إليه تعجب ، وقال لحضرة باجر الفقيه : " من كم أنبوب مؤلف هذا المدفع؟ " قال الفقيه في جوابه : " مؤلف من أثنتي عشر أنبوبا. ومن الغرائب أن واحدا من أهالي أشانتي (٢) لما رأى هذا المدفع وقت حرب الإنكليز مع الأشانتيين يئس من القتال وذبح نفسه مخافة أن يقع قتيلا بإطلاق ذلك المدفع". قال السيد : " لا عجب في ذلك : فإنّ الموت البارد خير من الموت المحرق".

ثم ساروا بالسيد من هناك ، وأخذوا يفرّجونه على بقية حوانيت الصنائع والنجارة والحدادين والسرّاجين والخراطين وبقية الأوائل (٣) اللازمة لعمل العدد والمهمات الحربية. فسرّ السلطان من مشاهدتها لشدة حبّه الصنائع وعمل الأوائل ، وقد أنشأ لنفسه معملا لها في زنجبار. ثم بينما كانوا مارين بحانوت خراطة سلك الحديد عرض واحد من الحاضرين جانبا من خراطة الشريط المبروم على سعادة السلطان فنظر اليه ، وقال ، وهو يتبسم : " هذا يصلح أن يكون ضربا من الأسوار". ثم أوعز إلى واحد من حشمه أن يحافظ على تلك الخراطة تذكارا لزيارته معمل الأسلحة.

ودامت تلك الزيارة نحو ساعتين من الزمان ولما فرغوا من الفرجة شكر السيد برغش ـ زاده المولى لطفا ـ لمدير معمل الأسلحة مكارمه. واستعذر (٤) له المدير عما عاناه من المشقة في تلك المدّة. ثم صافحه وركب مركبته وسار في حشمه يريد منزله العامر. فخرجت الموسيقة

__________________

(١) هو سلاح آلي يسمح بإطلاق الرصاص بصفة مستمرة أو متقطعة على الإنسان والمدرعات الخفيفة. وقد ظهر في القرن ١٥ م في شكل أنابيب متعددة تطلق النار في وقت واحد ، وفي القرن ١٨ تم صنعه من أنبوب واحد عند ما تم اكتشاف الخرطوشية الدوارة. فصل : ٨٠٥٢ / ١٣ : Mitrailleuse : G.E.

(٢) هم شعب جنوب غانا بمحاذاة بلاد الطوغو وساحل العاج ، كانت له إمبراطورية ، دخل في حروب مع بريطانيا سنة ١٨٢٤ انتهت بالاستعمار. فصل : ٢٠ ـ ٦١٩ / ١ : Aschanti : N.E.B

(٣) ب : الأدوات

(٤) ب : اعتذر

١٨٦

العسكرية في إثره ، وهي تعزف بمقامة الدولة البريطانية ، وأطلقت له الجنود ٢١ مدفعا علامة الوداع. ثم رافقته كتيبة من الجنود الشرفية إلى ظاهر مدينة ويليج. ثم رجعت.

وعاد السيد ـ أيده الله ـ مسرورا إلى منزله وتذكار ما شاهده في نهاره مطبوع في عقله.

١٨٧
١٨٨

الباب الحادي والثلاثون

في حضور سعادة السلطان وليمة المركيز صالسبري

أولم المركيز صالسبري وليمة شائقة لسعادة السيد برغش في ٣٠ حزيران (جون). ودعا السيد (١) ورجال سعادته أن يحضروها فأحاب السيد دعوته بلطفه المعهود. وكان من جملة الذين حضروا الوليمة برفقة سعادته السيد حمود بن أحمد والسيد حمد بن سليمان والسيد ناصر بن سعيد وحضرة باجر الفقيه وحضرة الدكتور كيرك ومستر كليمنت هيل.

وكان المركيز صالسبري دعا أيضا إلى تلك الوليمة صاحب الدولة موسوروس باشا سفير الدولة العثمانية ولورد شانسلر وزوجته لادي كرنس ودوق أف بوكينكهام والسيدة المركيزة ريبون ولورد داربي والكونتيسة زوجته ولورد سلبرن وزوجته لادي سلبرن والسيدة لادي مرغريت بومنت والشريف جلادستون وزوجته ومستر ديزرايلي وسار بارتل فرير وزوجته وسار سيمور فيتزجرلد وديان وسمنستر ومستر برسفرد هوب ومستر الدرسن وكان على سفرة الطعام ٢٨ نفسا.

وكانت المركيزة صالسبري تفرغ جهدها في إكرام سعادة السلطان ورضاه وكانت ليلة حظ وصفاء سر بها سعادته غاية السرور. وفي أثناء العشاء شكر السلطان ـ أعزه الله ـ المركيز صالسبري على مكارمه العميمة وانصرف بسلام.

__________________

(١) أ : وكلف اليه وإلى رجال

١٨٩
١٩٠

الباب الثاني والثلاثون

في شعائر سعادة السلطان بلندن

قد أضحت زيارات سعادة السيد برغش بلندن مما تتداوله الرواة وتسجله (١) صحف التاريخ لنفع الخلفاء. أما سعادته فقد اطلع حق الإطلاع مدة إقامته بلندن على أحوال هذه العاصمة التي لا مثيل لها في الكبر على وجه الأرض ، وعرف عوائد الإنكليز واصطلاحات هيئاتهم الاجتماعية وما هم عليه من التمدن والاستقامة. وقد انطبع في ذهنه جميع ما رآه وسمعه مدة إقامته في بلاد الإنكليز لأنه كان يراقب باهتمام عظيم كل ما كان يقع تحت نظره ، ويسأل عنه ، ويستقصي في أصوله.

وكان من عادته أن يقول : " قد أتيت بلاد الإنكليز رغبة في الإطلاع على ما فيها من أسباب الحضارة والعمران حتى أتقنها وأجعلها دستورا لي في سياسة ملكي وعمرانه". ولا جرم (٢) فإنه قد أصاب عين الصواب ، ونال الأجر والثواب ، وصار مصداقا لما قاله الحسن البصري (٣) رضي الله عنه : " من خرج من بيته في طلب باب من العلم حفته الملائكة بأجنحتها وصلت عليه الملائكة في جو السماء والسباع في البر والحيتان في البحر وأتاه الله أجر اثنين وسبعين صديقا".

ولا غرو أن سعادة السيد يود نجاح بلاده وخير رعاياه ، ويحب نشر العلوم والمعارف فيهم ، لأنه قد أدرك ما قاله محمد (عم) " إن الله ـ عز وجل ـ وملائكته وأهل السماوات

__________________

(١) أتستودعه

(٢) ب : غرو

(٣) أبو سعيد (٢١ / ٦٤٢ ـ ١١٠ / ٧٢٥) الواعظ المشهور وهم من التابعين. فصل :

Hasan al Basri : E. I. ٢ : III / ٧٤٢) Ritter (

١٩١

والأرض (١) ، حتى النملة في جحرها ، وحتى الحوت ، ليصلّون على معلّم الناس الخير" (٢). ودرى كذلك بأن العلوم والمعارف ركن الحضارة ودعائم العمران ، ولهذا صرف همته العلية إلى نشر المعارف في ملكه ورفع مقام العلماء والأدباء وأحب مجالستهم كما قال عمر رضي الله عنه : " لا تفارقوا مجالس العلماء فإن الله لم يخلق على وجه الأرض أكرم من مجالسهم". وقد سند هذا القول محمد (عم) فقال" من زار عالما فكأنما زارني. ومن جالس عالما فكأنما جالسني. ومن جالسني في الدنيا أجلسه الله تعالى معي يوم القيامة في الجنة". وروى الحسن قال : " مثل العلماء كمثل النجوم إذا بدت اهتدوا بها ، وإذا أظلمت تحيروا. وموت العالم غصة في الأنام لا يسدها شيء ما اختلفت الليالي والأيام".

وقد ولع السيد برغش ـ أعزه الله ـ بالعلم والدرس والمطالعة ، وجمع في خزانة كتبه جميع المؤلفات العربية المطبوعة في مصر وغيرها من البلاد. وقد باشر بدرس اللغة الإنكليزية. وأنجد أصحاب النشرات العربية : وهو يطالع الجوائب (٣) والنحلة (٤) ونشرة مصر (٥) والرائد التونسي (٦) وغيرها. ويحب الاطلاع على ما في النشرات الإنكليزية من المواد المهمة. ويجل الغني والفقير على حد سواء. فإن الجميع خلقه الله. ولا فرق عند الله ـ عز وجل ـ بين الفقير والغني سوى بحسن الأعمال.

__________________

(١) أ ، ب : الأرضين

(٢) الترمذي السنن ٤ / ١٥٤ (رقم ٢٨٢٦) (ودار الفكر ، بيروت ط ٨ / ١٩٨٣)

(٣) جريدة أصدرها في الآستانة أحمد فارس الشدياق سنة ١٨٦٠ باللغة العربية ثم انتقلت إلى مصر عام ١٨٨٣ ثم حلت محلها جريدة" القاهرة". نعمان : دليل : ص ١١١

(٤) مجلة أصدرها الدكتور لويس صابنجي في بيروت سنة ١٨٧٠ وهي أسبوعية علمية صناعية تاريخية لغوية. ثم نقلها إلى لندن ثم القاهرة. أول مجلة في البلاد العربية تفهرس موادها في كل عدد يصدر منها نعمان : دليل : ص ٣٦٢.

(٥) لعلها الوقائع المصرية التي أصدرها محمد علي باشا سنة ١٨٢٨ في القاهرة باللغتين العربية والتركية لم تكن منتظمة الظهور.

نعمان : دليل : ص ٣٩٧

(٦) جريدة أصدرها محمد الصادق باي تونس عام ١٨٦٠ ، وهي رسمية باللغة العربية وأسبوعية ، مازالت تصدر إلى الآن باسم الرائد التونسي للجمهورية التونسية. نعمان : دليل : ص ١٥٢

١٩٢

وللسيد أيضا رغبة شديدة في إيجاد الوسائط التي تساعده على تقدم (١) بلاده وتعميم الفلاحة والزراعة في ملكه واستخراج ما فيها من المعادن والكنوز. ولما كان بلندن رأى يوما كومة من الفحم المعدني في معمل الأسلحة ، فالتفت إلى من كان معه ، وأشار بيده إلى كومة الفحم ، وقال : " هذا ألماسكم الحقيقي ، يا معشر الإنكليز ، وهذا أصل غناكم ومصدر ثروة بلادكم ، وقد أدركتم ذلك حق الإدراك ، وتخللتم أحشاء الأرض وقاع البحار ، وأخرجتم كنوزها ، فاغتنيتم بها ، وأغنيتم شعوب الأرض ، وصرتم أغنى أمة على وجه البسيطة. فكم وكم من معادن الفحم في بلادي! ولكن يا للأسف لم تزل هذه الكنوز موصودة (٢) في وجوه شعبي ، ومطمورة في قلب الأرض إلى الآن ، فلوساقتكم المقادير إلى بلادي ، وعنيتم بإخراج ما فيها من المعادن لازددتم غنى (٣) ، وأغنيتم أمتي ، وعمرتم مملكتي".

ثم من دأب (٤) هذا السيد الجليل أنه يحب الحرية والمساواة بين البشر. وقد حمله حب الحرية على عتق الرقيق وإبطال تجارتهم من بلاده. وما يدلنا على حبه للحرية والعدالة هو ما قاله يوم كان بلندن وهو يتمشى في إحدى جنائنها : فإنه رأى الإنكليز يترددون على الحدائق والجنائن وهم في حبور وسرور ، فالتفت إلى وزرائه الذين كانوا في معيته ، وقال : " انظروا إلى هذا الشعب السعيد ، وإلى ما هم عليه من الحرية والغبطة! انظروا إلى أولادهم وبناتهم كيف يمرحون طربا وهم آمنون لا خوف عليهم ، ولا هم يجزعون! وما هذا إلا نتيجة العمران وإجراء العدالة والإنصاف فيهم. فقد سبقونا إلى هذه الغبطة. فعلينا أن نقتفي آثارهم ، ونجدّ في تحصيل ما أدركوه منذ أجيال عديدة عسانا ندرك ما أدركوه ، ونكون نعم المفلحين!

__________________

(١) أ ، ب : تقديم

(٢) ب : مغلقة

(٣) ب : ثراء

(٤) ب : أكد

١٩٣
١٩٤

الباب الثالث والثلاثون

في زيارة سعادة السلطان لمدينة بيرمنكهام (١)

عرف أهل بيرمنكهام من صحائف الأخبار أن من نية سعادة سلطان زنجبار القدوم إلى مدينتهم بقصد الفرجة على ما فيها من المعامل والصنائع. فاستعدوا لملاقاته خير استعداد ، وخرج منهم جمع غفير إلى محطة سكة الحديد ينتظرون قدومه بالسلامة.

فلما كانت الساعة الواحدة بعد الظهر وصل السلطان إلى محطة بيرمنكهام. وكانوا قد فرشوا أرض المحطة بالجوخ الحمر ، وفرشوا الدرج بطنافس جميلة. وقبل أن ينزل السيد من أرتال (٢) السكة الحديد ، تقدم والي البلد ألدرمن بيكس ، ودخل إلى السيد وسلّم عليه ، ورحب بقدومه. ثم استأذنه (٣) أن ينزل ، ويشرّف المدينة ، فأجاب السيد طلبه. ونزل مع من كان في معيته. وكان حضرة باجر الفقيه يترجم بين سعادة السلطان وبين والي البلد. ثم نزل بعده وزراؤه السيد حمود بن حمد والسيد حمد بن سليمان وحضرة تاريا توين (٤) وحضرة الدكتور كيرك ومستر كليمنت هيل. ثم صعدوا درج المحطة المفروش بالطنافس.

وكان الشعب قد تقاطر بازدحام ليرى سعادة السيد ، ويسلّم عليه. فلما رأوه مارّا كشفوا عن رؤوسهم حسب عوائد الإنكليز ، وسلّموا عليه ، ورحّبوا بقدومه إلى بلدتهم بالسلامة. وكان السلطان ـ زاده الله لطفا ـ يرد السلام عليهم بأنس وبشاشة ويشكر لهم على مكارمهم.

__________________

(١) ثاني أعظم مدينة في المملكة المتحدة. وأول مدينة عرفت الثورة الصناعية. فصل :

٢٣ / ٢ : Birmingham : N.E.B

(٢) ب : قطار (والمحقق يستعمل دائما هذه الكلمة)

(٣) أ : كلف إليه

(٤) أ ، ب : طارياتوبان

١٩٥

ولما دخل السيد دار المحطة كان الخدم قد هيأوا سفرة متفننة بالمآكل ، فجلس السلطان ورجاله وتناولوا الطعام. وكان الشعب لا زال واقفا خارج الدار يريد مشاهدة سعادته ثانية. وكانوا أيضا قد هيأوا مركبة ملوكية تجرها أربعة رؤوس خيل. فخرج السيد بعد الطعام ، وركب فيها مع السيد حمود بن حمد والدكتور كيرك ووالي بيرمنكهام. وركب باقي رجال سعادته في ثلاث مركبات مفتوحة. وكان الشعب مصطفا في الشوارع التي مر بها السلطان رغبة في مشاهدته. وكان إذا مرت مركبته كشف الناس قلانسهم عن رؤوسهم وحيوه بألطف سلام وحبذوه (١) بأعلى أصواتهم ، وكان السلطان يرد السلام عليهم بأنس وبشاشة ، وكان حراس المدينة يحافظون على الترتيب والهدوء ومنع القلاقل من جراء ازدحام الشعب.

ولما وصل السيد إلى محل مسترهنري اوسلر ، خرج مدير المحل وأتباعه إلى ملاقاته ، وسلموا عليه ، وأدخلوه قاعة فسيحة حوت من كل فن خبرا ، واحتوت على أصناف البلور المنقوش والملوّن بأرناج (٢) مختلفة ، فرآها السيد ، وتفرّج عليها ، وسرّ من مشاهدة أواني من البلور الأحمر وثريات جميلة الصنعة كانت معلقة في سقف المحل برسم البيع ، وكان بينها ثريّتان تفوقان البقية حسنا وجمالا ، وكانت الواحدة منهما مصنوعة في زي الثريات الشرقية ، فيها ٣٢ مصباحا من الزيت أو الشمع. وكان لثانيتها ٢٤ مصباحا من الغاز الهيدروجيني.

ثم ساروا بالسيد إلى محل شغل البلور وعمل الثريات ، فرأى هناك ثريات بيضا وحمرا وخضرا. وتفرج على طريقة عمل الثريات من بدء خشونة البلور إلى آخر درجة من صقله وهندامه ونقشه وحفره وتركيبه وعمله ثريات.

__________________

(١) ب : هتفوا له

(٢) ب : بأشكال

١٩٦

وبعد أن أدخلوه إلى جميع محلات شغل البلور وعمل الثريات والأواني والأقداح وغيرها التفت إلى رجاله مسرورا وقال وهو يمزح : " الآن صرت أعرف كل أسرار البلور وطريقة عمله".

وفيما كان خارجا من محل الشغل كانت صبية من اللاتي يشتغلن في المحل تشتهي أن ترى سعادته وتتملى بمشاهدته ، فخطر لبالها أن تخفي نفسها وراء مصراع باب القاعة التي كان السيد سيخرج منها ، فلما دنا من الباب لاحت منه التفاتة إلى مصراع الباب ، فرأى وراءه شخصا يبص (١) بعينيه ويسترق النظر إليه ، فدرى (٢) بأن الصبية تطمع في مشاهدة سعادته. وإنما الحياء ألجأها إلى التخفي ، فدنا من مصراع الباب ، ورده قليلا حتى جعل الصبية (٣) تنظر إلى سعادته مليّا وتشفي غليلها ، وتفتخر على رفيقاتها بأنها شاهدت سلطان زنجبار أحسن من جميعهن.

ثم خرجوا بالسيد من هناك ، وساروا إلى معمل البواريد والمكاحل شغل مرتيني هنري ، وبعد أن تفرّج على طريقة عملها بأوائل (٤) البخار ، طلب مدير المعمل إلى سعادة السلطان أن يشرّفه بكتابة اسم سعادته في كتاب الزوار ، ففعل.

ثم سافروا ـ من هناك ـ إلى محل آخر اسمه أستن للفرجة على معرض أموال (٥) وبضائع مختلفة الأصناف ، وكانت الموسيقة تعزف بالألحان الرخيمة ، ولما مرّ السلطان بقربها عزفت بمقامة الدولة البريطانية.

__________________

(١) ب : ينظر

(٢) ب : علم

(٣) أ : الابنة

(٤) ب : بآلات

(٥) أموال ساقط في ب

١٩٧

وبعد أن تملّى السيد من الفرجة على ما كان في ذلك المعرض ، وأراد الخروج هطل مطر غزير كاد يبلّ ملابسه الرقيقة. فإنه كان وقتئذ لابسا رداء في زي جبة من الشال الأسود ، وعلى زيقها وأكمامها نقش بالقصب والحرير الملون ، وعليه ثوب أبيض من الكتان الخالص ، وفي يده خاتم ثمين من الذهب الإبريز بحجر زمرد كريم جدا ، وكان حاملا سيفا نفيسا وخنجرا قبضته من الفضة النقية. وكان غطاء رأسه عمامة مزركشة ومتمنطقا (١) بشال كشميري غال مزركش بالذهب ، ومعلقة فيه ساعة من ذهب في سلسلة من الذهب الإبريز الخالص. فلما اشتد المطر استعجل السيد إلى مركبته فركبها وعاد برجاله إلى منزله بالسلامة.

__________________

(١) أ : نطاق حقويه

١٩٨

الباب الرابع والثلاثون

في زيارة سعادة السلطان لمعمل الأواني الفضية والذهبية في بيرمنكهام

خرج السيد برغش ـ أعزه الله ـ نهار السبت ٥ جولاي (تموز) (٣٠ جمادى الأولى) يريد الفرجة على معمل الأواني الذهبية والفضية. وخرج في معيته وزراؤه ووالي بيرمنكهام والفقيه جرجس باجر والدكتور كيرك وباقي أتباعه.

وكان شعب المدينة قد عرف ساعة خروج السيد من منزله فاجتمع الناس أفواجا إلى باب الدار ، وشحنوا الأزقة والشوارع يريدون النظر إلى سعادته.

فلما خرج السيد وركب مركبته رفعوا أصواتهم وحبذوه (١) طويلا وما انقطعت أصواتهم كل تلك المدة حتى وصلت المركبة إلى معمل الأواني الذهبية.

ولما نزل السيد ورجاله من مركباتهم استقبله (٢) مستر ايلينكتن ومستر رولاسن مدير المعمل ، وسلم على سعادة السلطان بألطف سلام ، ورحب بقدومه.

ثم دخلوا به إلى أماكن الشغل ليفرّجوه على ما في ذلك المعمل العظيم من الأواني الذهبية والفضية وغيرها. وفي مرورهم بدهليز المحل رأوا تماثيل ملوك الإنكليز القدماء معروضة (٣) عن يمين الدرج وشماله بترتيب حسن. فلما وصلوا إلى قاعة الفرجة رأوا فيها ما يدهش العقل ويشد البصر. فإن طول هذه القاعة يبلغ مائة قدم (فوت). وعرضها مناسب لطولها. وفي وسطها وعلى مدار أطرافها موائد عليها صناديق من بلور ضمنها أواني ذهبية

__________________

(١) ب : هتفوا

(٢) أ : لاقاه

(٣) أ : مصمودة

١٩٩

وفضية ذات نقوش جميلة شغل أساتذة ماهرين. فصار مدير المعمل يسير بسعادة السلطان بين صناديق تلك الأواني ويفرجه على أجمل ما كان بينها. وكان من جملة ذلك إناء جميل الصنعة كان مستر بيتردني قد أوصى بعمله ليقدمه هدية لمن يحوز قصب السبق من الجنود المتطوعة في بلدته دمبرتن (١).

ثم فرّجوه على أغصان من الصنوبر الطبيعي مموّهة بالذهب والفضة بصنعة غريبة مثل التي كان أهداها صاحب ذلك المعمل إلى الأميرة زوجة وليّ عهد بريطانيا.

ثم فرّجوه على كأس من فضة ناصعة كان قد أوصى بعمله أصحاب سباق الخيل ليهدوه من يحوز قصب (٢) السبق في بلدة برايطن ، ويبلغ ثمنه نحو ٤٠٠ ليرة (باوند) ونيف. وكان منقوشا على ظاهره رسم نقوش وتصاوير جميلة وبينها صورة الملك جورج الرابع بهذا الاسم ورسم سباق الخيل. وكان على حرف الكأس تمثال امرأة جميلة المنظر جالسة في إناء من فضة في شكل صدف البحر.

ثم فرّجوه على أواني سفرة مذهبة جميلة كانوا عملوها ليهدوها ملك بورما (٣) بالهند.

ثم ساروا به إلى مخدع المصاغ والحلي الذهبية. فشاهد هناك من أصناف الزينة النسائية ما يحير العقول بجمال صنعته. ثم فرّجوه على أواني مموهة بالفضة مصنوعة على زيّ (٤) أواني المصريين القدماء واليونانيين والرومانيين والإيتليانيين واليابونيين وغيرها مما يرتاح إليه الناظر.

__________________

(١) مدينة ملكية منذ سنة ١٢٢٢ ومركز ولاية في استكلندا تقع قريبا من غلاسكو. فصل :

٢٦٨ / ٤ : Dumbarton : N.E.B

(٢) أ : قصبات

(٣) دولة تقع في خليج البنغال عاصمتها نوغون مساحتها (٥٧٧ ، ٦٧٦ كلم مربع) وقعت تحت الاحتلال البريطاني (١٨٨٥ ـ ١٩٤٨). فصل : ٦٥٧ / ٢ : Burma : N.E.B

(٤) ب : نمط

٢٠٠