إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١٠

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١٠

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٩

فإنها في هذا الموضع أبلغ من كم في التكثير فلما أوردت ربما في التكثير على عكس معناه الأصلي في التقليل فكذلك إيراد «قد» هاهنا لتكثير علمهم أي تحقيق تأكيده على عكس معناها الأصلي في التقليل.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣))

الإعراب :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) الواو استئنافية ومن اسم استفهام معناه النفي أي لا أحد في محل رفع

٨١

مبتدأ وأظلم خبر وممّن متعلقان بأظلم وجملة افترى صلة لا محل لها وعلى الله متعلقان بافترى والكذب مفعول به ، وهو : الواو للحال وهو مبتدأ وجملة يدعى خبر هو والجملة في محل نصب على الحال أي يدعوه ربه على لسان نبيّه إلى الإسلام الذي فيه سعادة الدارين فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله ويدعى فعل مضارع مبني للمجهول وإلى الله متعلقان بيدعى (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الله مبتدأ وجملة لا يهدي خبر والقوم مفعول به والظالمين نعت للقوم (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) يريدون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل ، وليطفئوا : ذكر المعربون في هذه اللام أوجها أقواها ثلاثة :

١ ـ أنها مزيدة في مفعول الإرادة قال الزمخشري : «أصله يريدون أن يطفئو كما جاء في سورة براءة وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة توكيدا له لما فيها من معنى الإرادة في قولك جئتك لإكرامك كما زيدت اللام في لا أبا لك تأكيدا لمعنى الإضافة في لا أباك» وقال ابن عطية مؤيدا هذا الرأي : «واللام في ليطفئوا لام مؤكدة دخلت على المفعول لأن التقدير يريدون أن يطفئوا».

٢ ـ أنها لام التعليل والمفعول محذوف أي يريدون إبطال القرآن أو رفع الإسلام أو هلاك الرسول ليطفئوا.

٣ ـ أنها بمعنى أن الناصبة وأنها ناصبة للفعل بنفسها ، قال الفرّاء : العرب تجعل لام كي في موضع أن في أراد وأمر وإليه ذهب الكسائي أيضا.

وعبارة أبي حيان بعد أن أورد قول الزمخشري وابن عطية الآنفي الذكر قال : وما ذكره ابن عطية من أن هذه اللام أكثر ما تلزم المفعول إذا تقدم ليس بأكثر بل الأكثر زيدا ضربت من لزيد ضربت وأما قولهما

٨٢

إن اللام للتأكيد وأن التقدير أن يطفئوا فالإطفاء مفعول يريدون فليس بمذهب سيبويه والجمهور».

(وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) الواو للحال والله مبتدأ ومتمّ خبر ونوره مضاف إليه والجملة حالية من فاعل يريدون أو يطفئوا والواو للحال أيضا ولو شرطية وكره الكافرون فعل وفاعل والجملة حالية من الحالية المتقدمة فهي متداخلة وجواب لو محذوف والتقدير : أتمّه وأظهره (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة أرسل صلة ورسوله مفعول به وبالهدى متعلقان بأرسل أو بمحذوف حال ودين الحق عطف على الهدى واللام للتعليل ويظهره فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والهاء مفعول به والجار والمجرور متعلقان بأرسل وعلى الدين متعلقان بيظهره وكله تأكيد وجملة ولو كره المشركون حال ومفعول كره محذوف أي إظهاره وجواب لو محذوف أيضا والتقدير أظهره (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) هل حرف استفهام معناه الإخبار والإيجاب أي سأدلّكم وإنما أورده في صيغة الاستفهام تشويقا وإلهابا للرغبة ، وأدلكم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وعلى تجارة متعلقان بأدلكم وجملة تنجيكم صفة لتجارة ومن عذاب متعلقان بتنجيكم وأليم صفة لعذاب ، وسيأتي حديث نزولها الممتنع في باب الفوائد (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) الجملة خبر لمبتدأ محذوف أي هي تؤمنون أو مستأنفة في جواب سؤال مقدّر كأنه قيل ما هي التجارة؟ وتؤمنون فعل مضارع مرفوع ولكنه بمعنى الأمر ويدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا ، وفائدة العدول عن الأمر إلى الإخبار الإشعار بوجوب الامتثال وكأنهم امتثلوا فهو يخبر عن

٨٣

إيمان وجهاد موجودين ، وبالله متعلقان بتؤمنون ورسوله عطف على بالله وتجاهدون عطف على تؤمنون وفي سبيل الله متعلقان بتجاهدون أو بمحذوف حال وبأموالكم متعلقان بتجاهدون وأنفسكم عطف على أموالكم (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ذلكم مبتدأ وخير خبر ولكم متعلقان بخير وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط وجملة تعلمون خبر كنتم وجواب الشرطية محذوف تقديره فافعلوه وحذف مفعول تعلمون اختصارا للعلم به أي أنه خير لكم (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) يغفر فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب المفهوم من قوله تؤمنون كما تقدم وقيل جواب شرط مقدّر أي إن تفعلوه يغفر وعبارة أبي البقاء : «يغفر لكم في جزمه وجهان أحدهما هو جواب شرط محذوف دلّ عليه الكلام تقديره إن تؤمنوا يغفر لكم وتؤمنون بمعنى آمنوا والثاني هو جواب لما دلّ عليه الاستفهام والمعنى هل تقبلون إن دللتكم ، وقال الفرّاء هو جواب الاستفهام على اللفظ وفيه بعد لأن دلالته إياهم لا توجب المغفرة». وعبارة الزمخشري «فإن قلت هل لقول الفرّاء أنه جواب هل أدلكم وجه؟ قلت وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة والتجارة مفسّرة بالإيمان والجهاد فكأنه قيل : هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم» وتعقبه ابن المنير فقال : «إنما وجه إعراب الفرّاء بما ذكر لأنه لو جعله جوابا لقوله هل أدلكم فإنكم إن أدلكم على كذا وكذا أغفر لكم فتكون المغفرة حينئذ مترتبة على مجرد دلالته إياهم على الخير وليس كذلك إنما تترتب المغفرة على فعلهم لما دلّهم عليه لا على نفس الدلالة فليس أوّل هل أدلكم على تجارة بتأويل هل تتجرون بالإيمان والجهاد حتى تكون المغفرة مترتبة على فعل الإيمان والجهاد لا على الدلالة وهذا التأويل غير محتاج إليه فإن حاصل الكلام إذا صار إلى هل أدلكم أغفر لكم التحق ذلك بأمثال قوله تعالى : «قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة» فإنه رتب فعل الصلاة على الأمر بها

٨٤

حتى كأنه قال فإنك إن تقل لهم أقيموا يقيموها» (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ويدخلكم عطف على يغفر والكاف مفعول به وجنات مفعول به ثان على السعة وجملة تجري نعت لجنات ومن تحتها متعلقان بتجري والأنهار فاعل (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) ومساكن عطف على جنات وطيبة نعت لمساكن وفي جنات عدن نعت ثان (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى المغفرة وإدخال الجنات والفوز خبر والعظيم نعت للفوز (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) الواو حرف عطف وأخرى مبتدأ مؤخر وخبره المقدم محذوف أي لكم نعمة أو مثوبة أخرى ويجوز أن يكون منصوبا على إضمار فعل تقديره ويمنحكم أخرى وجملة تحبونها صفة لأخرى أو منصوبا بفعل مضمر يفسره تحبونها فيكون من باب الاشتغال وحينئذ لا تكون جملة تحبونها صفة لأنها مفسّرة للعامل قبل أخرى ونصر خبر لمبتدأ محذوف أي تلك النعمة الأخرى نصر من الله أو بدل من أخرى إذا أعربته مبتدأ ومن الله نعت لنصر وفتح عطف على نصر وقريب نعت ، وبشّر الواو عاطفة وبشّر فعل أمر وهو معطوف على تؤمنون لأنه في معنى الأمر كما تقدم.

البلاغة :

وفي قوله «يريدون ليطفئوا نور الله» استعارة تمثيلية تمثيلا لحالتهم في اجتهادهم في إبطال الحق بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئها تهكما وسخرية بهم ، وقيل الاستعارة تصريحية والإطفاء ترشيح.

الفوائد :

قال مقاتل نزلت هذه الآية وهي «يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم

٨٥

على تجارة تنجيكم من عذاب أليم» إلى قوله «وبشّر المؤمنين» في عثمان بن مظعون وذلك أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لو أذنت لي فطلّقت خولة وترهبت واختصيت وحرمت اللحم ولا أنام الليل أبدا ولا أفطر نهارا أبدا فقال صلّى الله عليه وسلم : إن من سنّتي النكاح ولا رهبانية في الإسلام إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله وخصاء أمتي الصوم ولا تحرموا طيّبات ما أحلّ لكم ومن سنّتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم فمن رغب عن سنّتي فليس منّي فقال عثمان وددت يا نبي الله أن أعلم أيّ التجارات أحبّ إلى الله فأتجر فيها فنزلت.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

الإعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) كونوا فعل أمر ناقص والواو اسمها وأنصار الله خبرها ولفظ الجلالة مضاف لأنصار وقرىء أنصارا لله فيكون لله نعتا لأنصارا (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) اختلف المعربون في هذه الكاف اختلافا كثيرا وحاصل ما ذكروه أنها تحتمل ثلاثة أوجه : ١ ـ في موضع نصب على إضمار القول أي قلنا لهم ذلك كما قال عيسى. ٢ ـ أنها نعت لمصدر محذوف قيل وفيه نظر إذ لا يؤمرون بأن يكونوا كونا. ٣ ـ أنه كلام محمول على معناه

٨٦

دون لفظه وإليه نحا الزمخشري فإنه قال : «فإن قلت ما وجه صحة التشبيه وظاهره تشبيه كونهم أنصارا بقول عيسى من أنصاري إلى الله؟قلت : التشبيه محمول على المعنى وعليه يصحّ والمراد كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم من أنصاري إلى الله».

وقد تقدم في آل عمران معنى أنصاري إلى الله وتعدّي هذا اللفظ بإلى. ومن اسم استفهام مبتدأ وأنصاري خبر وإلى الله متعلقان بمحذوف حال أي متوجها إلى نصر الله وفيما يلي نص عبارة الزمخشري : «فإن قلت : ما معنى قوله من أنصاري إلى الله قلت : يجب أن يكون معناه مطابقا لجواب الحواريين بقولهم نحن أنصار الله والذي يطابقه أن يكون المعنى من جندي متوجها إلى نصرة الله وإضافة أنصاري خلاف إضافة أنصار الله فإن معنى نحن أنصار الله نحن الذين ينصرون الله ومعنى من أنصاري من الأنصار الذين يختصّون بي ويكونون معي في نصرة الله ولا يصحّ أن يكون معناه من ينصرني مع الله لأنه لا يطابق الجواب والدليل عليه قراءة من قرأ : من أنصار الله» (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) قال الحواريون فعل وفاعل والحواريون أصفياؤه وهم أول من آمن وتقدم القول في هذا اللفظ مفصلا ، ونحن مبتدأ وأنصار الله خبر والجملة مقول القول وهو من إضافة الوصف إلى مفعوله أي نحن الذين ننصر الله أي دنيه (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) الفاء عاطفة على جمل محذوفة لا بدّ من تقديرها أي فلما رفع عيسى إلى السماء افترق الناس فيه فرقتين فآمنت طائفة ، وطائفة فاعل آمنت ومن بني إسرائيل نعت لطائفة وكفرت طائفة عطف على فآمنت طائفة (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) الفاء عاطفة على محذوف أيضا أي فاقتتلت الطائفتان ، وأيدنا فعل وفاعل والذين مفعول به وجملة آمنوا صلة وعلى عدوهم متعلقان بأيدنا فأصبحوا عطف على فأيدنا والواو اسمها وظاهرين خبرها أي غالبين قاهرين.

٨٧

سورة الجمعة

مدنيّة وآياتها إحدى عشرة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥))

اللغة :

(الْقُدُّوسِ) بضم القاف وتشديد الدال من أسماء الله تعالى ويفتح أي الطاهر أو المبارك وكل فعول مفتوح غير قدوس وسبوح وذرّوح وفرّوج فبالضم ويفتحن.

٨٨

(أَسْفاراً) جمع سفر بكسر السين وهو الكتاب الكبير لأنه يسفر ويكشف إذا قرىء عمّا فيه من المعاني.

الإعراب :

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) يسبّح فعل مضارع مرفوع ولله متعلقان به أو اللام زائدة في المفعول وما فاعل وغلب الأكثر على الأقل وفي السموات متعلقان بمحذوف هو الصلة للموصول وما في الأرض عطف على ما في السموات وما بعده صفات أو بدل من الله (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة بعث صلة الذي وفي الأميّين متعلقان ببعث وقد تقدم القول مسهبا في معنى الأميين في آل عمران ورسولا مفعول بعث ومنهم نعت رسولا (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) جملة يتلو نعت ثان أو حال وعليهم متعلقان بيتلو وآياته مفعول به ويزكيهم عطف على يتلو وهو فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ويعلمهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول والكتاب مفعول به ثان والحكمة عطف على الكتاب (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الواو حالية وإن مخففة من الثقيلة مهملة وكانوا فعل ماض ناقص والواو اسمها ومن قبل حال واللام الفارقة المختصّة بإن المخفّفة وفي ضلال خبر كانوا ومبين نعت لضلال (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الواو عاطفة وآخرين مجرور عطفا على الأميّين أي وبعثه في آخرين من الأميّين أو منصوب عطفا على الضمير المنصوب في يعلمهم أي ويعلم آخرين لم يلحقوا بهم ومنهم حال من آخرين أي حال كون الآخرين من مطلق الأميين ولما حرف نفي وجزم ويلحقوا فعل مضارع مجزوم بلما وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل

٨٩

والجملة نعت لآخرين ، والواو استئنافية وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى الأمر العظيم وهو كون الرسول وقومه مفضلين على غيرهم وفضل الله خبر ويؤتيه فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو والهاء مفعول به والجملة في محل رفع خبر ثان لذلك ومن مفعول به ثان وجملة يشاء صلة من والله مبتدأ وذو الفضل خبر والعظيم نعت للفضل (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) كلام مستأنف مسوق لضرب المثل لليهود عند ما تركوا العمل بالتوراة ولم يؤمنوا بمحمد ومثل مبتدأ والذين مضاف إليه وجملة حملوا صلة للذين وحملوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل والتوراة مفعول به ثان ، ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ولم حرف نفي وقلب وجزم ويحملوها فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به ومعنى الحمل هنا ليس من الحمل على الظهر وإنما هو من الحمالة ، والحميل هو الكفيل قال في المختار : «حمل بدين ودية من باب ضرب حمالة بفتح الحاء أي كفل وحمل الرسالة تحميلا كلفه حملها وتحمل الحمالة حملها» وكمثل الحمار خبر مثل وجملة يحمل أسفارا في محل نصب على الحال من الجار وأجازوا أن تكون في محل جر نعتا للحمار لجريانه مجرى النكرة إذ المراد به الحبس فهو من وادي قوله :

ولقد أمر على اللئيم يسبني

فمضيت ثمت قلت لا يعنيني

وسيأتي المزيد من بحث هذا التشبيه في باب البلاغة وأسفارا مفعول به (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) بئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم ومثل القوم فاعل بئس والذين صفة وجملة كذبوا صلة وبآيات الله متعلقان بكذبوا والمخصوص بالذم محذوف أي هذا المثل

٩٠

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الله مبتدأ وجملة لا يهدي خبر والقوم مفعول به والظالمين نعت للقوم.

البلاغة :

في قوله «مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا» تشبيه تمثيلي فقد شبّه اليهود حيث لم ينتفعوا بما في التوراة من الدلالة على الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم والإلماع إلى بعثته بالحمار الذي يحمل الكتب ولا يدري ما فيها ووجه الشبه عدم الانتفاع بما هو حاصل وكائن فالحمار يمشي في طريقه وهو لا يحسّ بشيء مما يحمله على ظهره إلا بالكد والتعب وكذلك اليهود قرءوا التوراة وحفظوها ثم أشاحوا عمّا انطوت عليه من دلائل وإرهاصات على نبوّة محمد بن عبد الله.

(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ

٩١

فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

الإعراب :

(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يا أيها الذين تقدم إعرابها كثيرا وجملة هادوا صلة وهو فعل ماض مبني على الضم والواو فاعل أي اتخذوا اليهودية دينا وإن شرطية وزعمتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وأن وفي حيّزها سدّت مسدّ مفعولي زعمتم وأن واسمها وأولياء الله خبرها ولله متعلقان بمحذوف نعت لأولياء أو بنفس أولياء ومن دون الناس نعت ثان أو حال والفاء رابطة للجواب لأنه جملة طلبية وتمنّوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والموت مفعول به وإن شرطية وكان واسمها وخبرها والجواب محذوف أي فتمنّوه (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الواو حرف عطف ولا نافية ويتمنّونه فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والهاء مفعول به وأبدا ظرف متعلق بيتمنّونه وبما متعلقان بما في معنى النفي لأنها سبب لنفي التمنّي وجملة قدّمت صلة وأيديهم فاعل والله مبتدأ وعليم خبر وبالظالمين متعلقان بعليم (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) قل فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت وإن واسمها والذي نعت للموت وجملة تفرّون صلة ومنه متعلقان بتفرّون والفاء رابطة لما تضمنه الموصول من معنى الشرط ، وإن واسمها وملاقيكم خبرها وجملة فإنه ملاقيكم خبر إن

٩٢

الأولى وقد منع هذا قوم منهم الفرّاء وجعلوا الفاء زائدة وقيل الخبر هو نفس الذي وما بعده استئناف كأنه قيل إن الموت هو الشيء الذي تفرّون منه وإلى هذا نحا الزمخشري وتؤيده قراءة زيد بن علي بدون فاء (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وتردّون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وإلى عالم الغيب متعلقان بتردّون ، فينبئكم عطف على تردّون وبما في موضع نصب مفعول ينبئكم الثاني وجملة كنتم صلة لا محل لها وجملة تعملون خبر كنتم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة نودي في محل جر بإضافة الظرف إليها وللصلاة متعلقان بنودي ومن يوم الجمعة متعلقان بمحذوف حال لأنها بمثابة البيان لإذا والتفسير لها قال الزمخشري : «فإن قلت «من» في قوله من يوم الجمعة ما هي قلت هي بيان لإذا وتفسير له» وسيأتي القول في الجمعة في باب الفوائد مسهبا ، وقال أبو البقاء : «أن «من» بمعنى في» أي في يوم الجمعة فتتعلق بنودي ، والنداء يراد به هنا الأذان والفاء رابطة لجواب إذا ، واسعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإلى ذكر الله متعلقان باسعوا وذروا فعل أمر والواو فاعل والبيع مفعول به (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ذلكم مبتدأ والإشارة إلى ما ذكر من السعي وترك الاشتغال بأمور الدنيا وخير خبر ولكم متعلقان بخير وإن شرطية وكنتم فعل الشرط وجملة تعلمون خبر كنتم وجواب إن محذوف دلّ عليه ما قبله (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قضيت في محل جر بإضافة الظرف إليها والصلاة نائب فاعل والفاء رابطة وانتشروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة لا محل لها وفي الأرض

٩٣

متعلقان بانتشروا وابتغوا عطف على فانتشروا ومن فضل الله متعلقان بابتغوا (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) واذكروا عطف على فانتشروا ولفظ الجلالة مفعول به وكثيرا نعت لمصدر محذوف أو ظرف زمان ولعلّ واسمها وجملة تفلحون خبرها (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) عطف على ما تقدم وجملة انفضّوا إليها لا محل لها وقال الزمخشري : «فإن قلت كيف قال إليها وقد ذكر شيئين قلت :تقديره إذا رأوا تجارة انفضّوا إليها أو لهوا انفضوا إليه فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه» وتركوك فعل ماض وفاعل ومفعول به وقائما مفعول به ثان ويجوز إعرابه حالا وجملة تركوك قائما حالية من فاعل انفضّوا وقد مقدّرة ولك أن تجعلها معطوفة منسوقة على سوابقها (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ما اسم موصول في محل رفع مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف هو الصلة وخير خبر ومن اللهو متعلقان بخير ومن التجارة عطف على من اللهو والله مبتدأ وخير الرازقين خبر.

الفوائد :

قرأ العامة الجمعة بضمتين وقرأ ابن الزبير وزيد بن علي وأبو حيان وأبو عمرو في رواية بسكون الميم فقيل هي لغة في الأولى وسكنت تخفيفا وهي لغة تميم وقيل هو مصدر بمعنى الاجتماع وقل لما كان بمعنى الفعل صار كرجل هزأة أي يهزأ به فلما كان في الجمعة معنى التجمع سكن لأنه مفعول به في المعنى أو يشبهه وكانت العرب تسمّيه العروبة وقيل سمّاه كعب بن لؤي لاجتماع الناس فيه وإليه وفي الكشاف : «وقيل إن الأنصار قالوا لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك فهلمّوا نجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله فيه

٩٤

ونصلي فقالوا يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة فصلّى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسمّوه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه فأنزل الله آية الجمعة فهي أول جمعة كانت في الإسلام وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهي أنه لما قدم المدينة مهاجرا نزل قباء على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسّس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلّى الجمعة ، وعن بعضهم : أبطل الله قول اليهود في ثلاث : افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم في قوله : «فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين» وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبّههم بالحمار يحمل أسفارا وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة.

هذا ومن يرد الإطالة والإفاضة فليراجع كتب السنّة والفقه ومطولات التفاسير.

٩٥

سورة المنافقون

مدنيّة وآياتها إحدى عشرة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣))

الإعراب :

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة جاءك في محل جر بإضافة الظرف إليها والمنافقون فاعل جاءك وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب الشرط وهي عاملة في الظرف وجملة نشهد مقول القول وإن واسمها وكسرت همزة إن لدخول اللام المزحلقة على خبرها ورسول الله خبر إن. ومعنى نشهد نحلف فهو يجري مجرى القسم (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) الواو للاعتراض والله مبتدأ وجملة يعلم خبر والجملة معترضة بين قولهم

٩٦

نشهد إنك لرسول الله وبين قوله والله يشهد ، وإن واسمها واللام المزحلقة ورسوله خبر وإن وما بعدها سدّت مسدّ مفعولي يعلم وإنما كسرت همزتها لوقوع اللام داخلة على الخبر والله مبتدأ وجملة يشهد خبر وإن واسمها واللام المزحلقة وكاذبون خبرها (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) اتخذوا فعل وفاعل وأيمانهم مفعول به أول وهو جمع يمين وجنة مفعول به ثان أي وقاية وترسا والجملة مستأنفة مسوقة لبيان كذبهم وحلفهم عليه وعبّر عن الحلف بالشهادة لأن كل واحد منهما إثبات لأمر معين والفاء عاطفة وصدّوا فعل وفاعل وعن سبيل الله متعلقان بصدّوا (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) إن واسمها وجملة ساء خبر وما فاعل ساء وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يعملون خبر كان (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) ذلك مبتدأ والباء حرف جر وأن ومدخولها في محل جر بالباء والجار والمجرور خبر ذلك أي بسبب إيمانهم ثم كفرهم والفاء حرف عطف وطبع فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وعلى قلوبهم متعلقان بطبع والفاء حرف عطف وهم مبتدأ وجملة لا يفقهون خبر.

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ

٩٧

اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦))

الإعراب :

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة رأيتهم في محل جر بإضافة الظرف إليها والظرف متعلق بالجواب وهو تعجبك وجملة تعجبك أجسامهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والواو عاطفة وإن شرطية ويقولوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وتسمع جواب الشرط ولقولهم متعلقان بتسمع ولا بدّ من تضمين تسمع معنى تصغي وتميل تبريرا لتعديته باللام (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) الجملة مستأنفة أو خبر لمبتدأ محذوف أو حالية من الضمير في قولهم ، وكأن واسمها وخبرها ومسندة نعت لخشب وفي المصباح» الخشب معروف الواحدة خشبة والخشب بضمتين وإسكان الثاني» (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) الجملة مستأنفة أيضا ويحسبون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وكل صيحة مفعول به أول وعليهم متعلقان بمحذوف مفعول به ثان ليحسبون أي كائنة عليهم وهم مبتدأ والعدو خبر والجملة مستأنفة والفاء الفصيحة أي إن عرفت صفتهم وماهية أحوالهم فاحذرهم ، ويجوز أن يكون المفعول الثاني ليحسبون قوله هم العدو ويكون قوله عليهم متعلقان بصيحة أو صفة لها (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) قاتلهم فعل ومفعول به والله فاعل وأنّى بمعنى كيف فهو اسم استفهام في موضع نصب على الحال ويؤفكون فعل مضارع مبني للمجهول. ومعنى قاتلهم الله لعنهم (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل وجملة قيل في محل جر بالإضافة إليها ونائب الفاعل مستتر ولهم متعلقان بقيل وتعالوا

٩٨

فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول القول ويستغفر جواب الأمر مجزوم بالسكون ، ولكم متعلقان بيستغفر ورسول الله فاعل والواو فعل ماض والواو فاعل وقرىء بالتخفيف أي عطفوا رؤوسهم وأمالوها ورءوسهم مفعول به والجملة لا محل لها لأنها جواب إذا. وعبارة السمين «وهذه المسألة عدّها النحاة من الأعمال وذلك أن تعالوا يطلب رسول الله مجرورا بإلى أي تعالوا إلى رسول الله ويستغفر يطلبه فاعلا فأعمل الثاني ولذلك رفعه وحذف الأول إذ التقدير تعالوا إليه ولو أعمل الأول لقيل إلى رسول الله فيضمر في يستغفر فاعل ويمكن أن يقال ليست هذه من الأعمال في شيء لأن قوله تعالوا أمر بالإقبال من حيث هو لا بالنظر إلى مقبل عليه» (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) الواو عاطفة ورأيتهم فعل ماض وفاعل ومفعول به والرؤية بصرية وجملة يصدّون حال من الهاء في رأيتهم وجملة وهم مستكبرون حال من الواو في يصدّون (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) سواء خبر مقدّم وعليهم متعلقان بسواء والهمزة للتسوية وقد تقدم بحثها وهي مؤولة مع ما بعدها بمصدر مبتدأ مؤخر وقد استغنى بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل أي سواء استغفارك وعدمه ، ولهم متعلقان باستغفرت وأم هي المعادلة لهمزة التسوية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتستغفر فعل مضارع مجزوم بلم ولهم متعلقان بتستغفر (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) لن حرف نفي ونصب واستقبال ويغفر فعل مضارع منصوب بلن والله فاعل ولهم متعلقان بتغفر وإن واسمها وجملة لا يهدي خبرها والقوم مفعول به والفاسقين نعت.

البلاغة :

في قوله : كأنهم خشب مسنّدة تشبيه مرسل تمثيلي ؛ فالمشبه هم أي رؤساء المنافقين من المدينة وكانوا يحضرون مجلس النبي صلّى الله

٩٩

عليه وسلم ويستندون فيه إلى الجدر وكان النبي ومن حضر يتعجبون من هياكلهم المنصوبة ، والمشبه به هو الخشب المنصوبة المسندة إلى الحائط ، ووجه الشبه كون الجانبين أشباحا خالية عن العلم والنظر على حدّ قول حسان :

لا بأس بالقوم من طول ومن عظم

جسم البغال وأحلام العصافير

وفي قوله : «يحسبون كل صيحة عليهم» تشبيه تمثيلي أيضا أي أنهم لجبنهم وهلع نفوسهم واضطراب قلوبهم إذا نادى مناد في المعسكر أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة وجفت قلوبهم ، وزايلهم رشدهم وحسبوا أن هناك شرّا يتربص بهم وكيدا ينتظر الإيقاع بأرواحهم ، وقد رمق الأخطل سماء هذا المعنى فقال :

ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم

خيلا تكرّ عليهم ورجالا

يقول الأخطل : لا زلت يا جرير تظن كل شيء بعد خذلان قومك خيلا تكرّ أي ترجع بسرعة عليهم لكثرة ما يساورك من الخوف ، وغلا المتنبي في هذا المعنى فقال :

وضاقت الأرض حتى صار هاربهم

إذا رأى غير شيء ظنه رجلا

ويمكن أن يقال أن وجه الشبه هو عزوب أحلامهم وفراغ قلوبهم من الإيمان ولم يكتف بالتشبيه بالخشب بل جعلها مسندة إلى الحائط للانتفاع بها لأنها إذا كانت في سقف أو مكان ينتفع بها.

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ

١٠٠