إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١٠

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١٠

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٩

اللغة :

(الْبَلَدِ) في القاموس : «البلد والبلدة مكة شرّفها الله تعالى وكل قطعة من الأرض مستحيزة عامرة أو غامرة والتراب ، والبلد القبر والمقبرة والدار والأثر وأدحي النعام» إلى أن يقول : وبلد بالمكان بلودا أقام ولزمه أو اتخذه بلدا».

(حِلٌّ) يقال : حلّ وحلال وحرم وحرام بمعنى واحد ، وحلّ في المكان إذا نزل فيه يحل بضم الحاء حلولا فهو حال والمكان محلول فيه ، وسيأتي المزيد من معناه في باب الإعراب.

(كَبَدٍ) نصب ومشقة يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة وفي المصباح : «والكبد بفتحتين المشقة من المكابدة للشيء وهو تحمّل المشاق في فعله» وعبارة الزمخشري : «وأصله من كبد الرجل كبد من باب طرب فهو أكبد إذا وجعته كبده وانتفخت فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقّة ومنه اشتقت المكابدة كما قيل كبته الله بمعنى أهلكه وأصله كبده أي أصاب كبده قال لبيد يرثي أخاه رابد :

يا عين هلّا بكيت اربد إذ

قمنا وقام الخصوم في كبد

أي في شدّة الأمر وصعوبة الخطب» هذا ومن غريب أمر الكاف والباء أنهما إذا وقعتا فاء وعينا للكلمة دلّتا على الشدّة والمعاناة والقهر ، يقال كببته في الهوّة وكبكبته وكببته وكذلك إذا رمى به من رأس جبل أو حائط والفارس يكبّ الوحوش وهم يكبون العشار قال :

يكبّون العشار لمن أتاهم

إذا لم تسكت المائة الوليدا

ومن المجاز أكبّ على عمله وهو مكب عليه لازم له لا يفارقه قال لبيد :

٤٨١

جنوح الهالكيّ على يديه

مكبّا يجتلي نقب النصال

وكبت الله عدوّك كبه وأهلكه وتقول : لا زال خصمك مكبوتا وعدوّك مكبوتا. وكبح فرسه جذب عنانه حتى يصير منتصب الرأس ولهذا قيل أيضا : «في كبد أي منتصبا ولم يجعله يمشي على أربع فيتناول الشيء بفيه ولا على بطنه لأن الله تبارك وتعالى كرّم بني آدم بأشياء هذه إحداها» وقال أعرابي آخر : ما للصقر يحبّ الأرنب ما لا يحب الخرب؟ قال لأنه يكبح سبلته ويردّه أي يصيب سبلته بذرقه فيلثقه. وكبر الأمر وخطب كبير وكبر علي ذلك إذا شق عليك «كبر على المشركين ما تدعوهم إليه» وكبر الرجل في قدر وكبر في سنّه وشيخ كبير وذو كبر وكبر ، وعلة الكبرة والمكبرة : علو السن وما تقتضيه من معاناة وجهد قال :

عجوز عليها كبرة في ملاحة

أقاتلتي يا للرجال عجوز

وكبس الحفرة طمها وكبس رأسه في جيب قميصه أدخله فيه وهو عابس كابس ووقع عليه الكابوس. وانتطحت الكباش وهو كبش كتيبة وهم كباش الكتائب قال :

وإنّا لمما نضرب الكبش ضربة

على رأسه تلقي اللسان من الفم

وفلان مكلّب مكبل مأسور بالكلب وهو القدّ مقيّد بالكبل وهو القيد وكبلت الأسير وكبّلته واكتبلته وفي ساقيه كبل وكبول قال جرير :

ومكتبلا في القدّ ليس بنازع

له من مراس القدّ رجلا ولا يدا

وكبا لوجهه وتقول : الحدّ ينبو والجدّ يكبو ، إلى آخر هذه المادة العجيبة في لغتنا الحبيبة.

(لُبَداً) كثيرا تكدس بعضه على بعض ولا يخاف فناؤه من كثرته

٤٨٢

وما له سبد ولا لبد وهو المراد هنا ولبد أيضا آخر نسور لقمان قيل : بعثته عاد إلى الحرم يستسقي لها فلما أهلكوا خيّر لقمان بين بقاء سبع بعرات من أظب عفر في جبل وعر لا يمسّها القطر أو بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر خلف بعده نسر فاختار النسور وكان آخرها لبدا فلما مات مات لقمان وذلك في عصر الحارث الرائش أحد ملوك اليمن ، وقد ذكره الشعراء فقال النابغة :

أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا

أخنى عليها الذي أخنى على لبد

(النَّجْدَيْنِ) الطريقين يعني طريق الخير وطريق الشر والنجد الطريق في ارتفاع وقيل الثديين ، روي عن ابن عباس وعلي : لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه فالنجد العلو وجمعه نجود ومنه سمّيت نجد لارتفاعها عن انخفاض تهامة وفي القاموس «النجد : ما أشرف من الأرض وجمعه أنجد وأنجاد ونجاد ونجود ونجد وجمع النجود أنجدة والطريق الواضح المرتفع وما خالف الغور أي تهامة وتضم جيمه مذكر أعلاه تهامة واليمن وأسفله العراق والشام وأوله من جهة الحجاز ذات عرق ، وما ينجّد به البيت من بسط وفرش ووسائد والجمع نجود ونجاد والدليل الماهر والمكان لا شجر فيه» إلى أن يقول «والثدي».

(الْعَقَبَةَ) الطريق الصعب في الجبل ، واقتحامها مجاوزتها ، وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب البلاغة.

(مَسْغَبَةٍ) مصدر ميمي من سغب يسغب سغبا من باب فرح : جاع وفي القاموس «سغب كفرح ونصر سغبا وسغبا وسغابة وسغوبة ومسغبة جاع فهو ساغب وسغبان وسغب وهي سغبى وجمعها سغاب والسغب العطش وليس بمستعمل».

(مَتْرَبَةٍ) في المختار : «وترب الشيء أصابه التراب وبابه طرب

٤٨٣

ومنه ترب الرجل أي افتقر كأنه لصق بالتراب وتربت يداه دعاء عليه أي لا أصاب خيرا وتربه تتريبا فتترّب أي لطخه بالتراب فتلطخ وأتربه :جعل عليه التراب وفي الحديث «أتربوا الكتاب فإنه أنجح للحاجة» وأترب الرجل : استغنى كأنه صار له من المال بقدر التراب والمتربة المسكنة والفاقة ومسكين ذو متربة أي لاصق بالتراب» وقال ابن خالويه : «أخبرنا أبو عبد الله نفطويه عن ثعلب قال : يقال : ترب الرجل إذا افتقر وأترب إذا استغنى ومعناه صار ماله كالتراب كثرة فإن سأله سائل فقال :إذا كان الأمر كما زعمت فما وجه قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم للرجل الذي استشاره في التزويج فقال له : «عليك بذات الدين تربت يداك» والنبي لا يدعو على أحد من المؤمنين؟ ففي ذلك أجوبة والمختار منها جوابان : أحدهما أن يكون أراد عليه السلام الدعاء الذي لا يراد به الوقوع كقولهم للرجل إذا مدحوه : قاتله الله ما أشعره وأخزاه الله ما أعلمه قال الشاعر في امرأة يهواها وهو جميل بثينة :

رمى الله في عيني بثينة بالقذى

وفي الغر من أنيابها بالقوادح

وفي وجهها الصافي المليح بقتمة

وفي قلبها القاسي بودّ مماتح

والجواب الثاني أن هذا الكلام مخرجه من الرسول صلّى الله عليه وسلم مخرج الشرط كأنه قال : عليك بذات البين تربت يداك إن لم تفعل ما أمرتك به وهذا حسن وهو اختيار ثعلب والمبرد».

(مُؤْصَدَةٌ) مطبقة بالهمز وهي قراءة حفص وأبي عمرو وحمزة وبالواو الساكنة وهي قراءة الباقين وهما لغتان يقال : أصدت الباب وآصدته وأوصدته إذا أغلقته وأطبقته وقيل معنى المهموز المطبقة ومعنى غير المهموز المغلقة ولم يفرق بينهما في القاموس.

٤٨٤

الإعراب :

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) تقدم إعراب لا أقسم والقول بزيادتها كثيرا فجدد به عهدا وبهذا متعلقان بأقسم والبلد بدل من هذا والواو حالية أو اعتراضية وأنت مبتدأ وحلّ خبر وبهذا متعلقان بحل والبلد بدل واختار الزمخشري أن تكون الواو اعتراضية والجملة معترضة وردّه أبو حيان وفيما يلي عبارة الزمخشري وردّ أبي حيان : قال الزمخشري : «أقسم سبحانه بالبلد الحرام وما بعده على أن الإنسان خلق مغمورا في مكابدة المشاق والشدائد واعتراض بين القسم والمقسم عليه بقوله : وأنت حلّ بهذا البلد يعني ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحلّ بهذا البلد الحرام كما يستحلّ الصيد في غير الحرم» إلى أن يقول : «أو سلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد واعترض بأن وعده بفتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عنه فقال : وأنت حل بهذا البلد يعني وأنت حلّ به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر» إلى أن يقول : «فإن قلت : أين نظير قوله وأنت حلّ في معنى الاستقبال؟ قلت قوله عزّ وجلّ : إنك ميت وإنهم ميّتون ومثله واسع في كلام العباد تقول لمن تعده بالإكرام والحباء : أنت مكرم محبو وهو في كلام العرب أوسع لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال وأن تفسيره بالحال محال أن السورة بالاتفاق مكيّة وأين الهجرة من وقت نزولها فما بال الفتح؟». وقال أبو حيان : «وحمله على أن الجملة اعتراضية لا يتعين وقد ذكرنا أولا أنها جملة حالية وبينّا حسن موقعها وهو إفادة تعظيم المقسم به وهي حال مقارنة لا مقدرة ولا محكية فليست من الإخبار بالمستقبل وأما سؤاله والجواب فهذا لا يسأله من له أدنى تعلق بعلم النحو لأن الإخبار قد يكون بالمستقبلات وأن

٤٨٥

اسم الفاعل وما جرى مجراه حالة إسناده أو الوصف به لا يتعين حمله على الحال بل يكون للماضي تارة وللحال أخرى وللمستقبل أخرى وهذا من مبادئ علم النحو وأما قوله وكفاك دليلا قاطعا إلخ فليس بشيء لأنّا لم نحمل وأنت حل على أنه يحلّ لك ما تصنع في مكة من الأسر والقتل وقت نزولها بمكة فتنافيا بل حملناه على أنه مقيم بها خاصة وهو وقت النزول كان مقيما بها ضرورة وأيضا فما حكاه من الاتفاق على أنها نزلت بمكة ليس بصحيح وقد يحكى الخلاف فيها عن قوم» وإنما أوردنا هذا النقاش وقوة الحجة لدى المتناقشين مما حدا بالمفسرين جميعا على وجه التقريب التزام الحياء في هذا النزاع ولهذا لم نشأ نحن الترجيح أيضا ، على أن الكرخي أيّد وجهة نظر الزمخشري إذ قال : «أقسم الله بالبلد الحرام على أنه خلق الإنسان في كبد واعترض بينهما بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية لقوله وأنت حلّ أي به في المستقبل تصنع ما تريد من القتل والأسر» وكذلك أيّد الجلال في تفسيره الزمخشري فقال «فالجملة اعتراض بين المقسم والمقسم عليه» وتعقبه السمين فأورد كلامه وقال : «وقيل إنها حالية ولا نافية أي لا أقسم بهذا البلد وأنت حال مقيم به لعظيم قدرك أي لا أقسم بشيء وأنت أحقّ بالإقسام بك منه» وأيّد ابن خالويه أبا حيان (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) عطف على القسم السابق والمراد بالوالد آدم وما عطف على والد وجملة ولد صلة أي ذريته ، وأحسن من ذلك ما قاله أبو حيان : «والظاهر أن قوله ووالد وما ولد لا يراد به معين بل ينطلق على كل والد» أما الزمخشري فقد جنح إلى رأي آخر فقال : «فإن قلت : ما المراد بوالد وما ولد؟ قلت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن ولده أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرم أبيه إبراهيم ومنشأ أبيه إسماعيل عليهما السلام وبمن ولده وبه فإن قلت لم نكر؟ قلت للإبهام المستقل بالمدح والتعجب فإن قلت فهلّا قيل ومن ولد؟ قلت فيه ما في قوله : والله أعلم بما وضعت يعني

٤٨٦

موضوعا عجيب الشأن» وقال الفراء وما للناس كقوله : ما طاب لكم «وما خلق الذكر والأنثى وهو الخالق للذكر والأنثى» (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) الجملة جواب القسم واللام واقعة في الجواب وقد حرف تحقيق وخلقنا فعل وفاعل والإنسان مفعول به وأل فيه للجنس لأنه أراد جنس الإنسان وفي كبد متعلقان بمحذوف على أنها حال من الإنسان أي مكابدا للمشاق منتصبا على قدميه يؤدي دوره في بناء مجتمعه لا كالحيوان الذي يتناول طعامه بفمه (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) الهمزة للإنكار والتوبيخ ويحسب فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر يعود على الإنسان أو على بعض صناديد قريش الذين كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد ، وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويقدر فعل مضارع منصوب بلن وعليه متعلقان بيقدر وأحد فاعل يقدر ، ومن العجيب أن يقول ابن خالويه ما نصّه : «أن حرف ناصب ولن حرف نصب ويقدر منصوب بلن والعرب إذا جمعت بين حرفين عاملين ألغت أحدهما» فهذا هو الهراء الذي ما بعده هراء وهذا هو الخرق الفاضح لإجماع النحاة على استشهادهم بالآية المذكورة لأنه يشترط في أن المفتوحة إذا خفّفت أن يكون اسمها ضميرا للشأن ولم يسمع ذكره إلا في ضرورة الشعر كقول جنوب أخت عمرو ذي الكلب :

وقد علم الضيف والمرملون

إذا اغبرّ أفق وهبت شمالا

بأنك ربيع وغيث مريع

وأنك هناك تكون الثمالا

فقد أتى اسمها ضميرا مذكورا وليس للشأن وأما خبرها فيجب أن يكون جملة ، ثم إن كانت الجملة اسمية أو فعلية فعلها جامد أو دعاء لم تحتج إلى فاصل فالاسمية نحو وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين والفعلية التي فعلها جامد نحو وأن ليس للإنسان إلا ما سعى والفعلية

٤٨٧

التي فعلها دعاء نحو والخامسة أن غضب الله عليها ، ويحب الفصل في غيرهنّ ليكون عوضا مما حذفوا من أنه وهو أحد النونين والاسم أو لئلا يلتبس بأن المصدرية والفصل إما بقد لأنها تقرّب الماضي من الحال نحو ونعلم أن قد صدقتنا ، أو تنفيس نحو علم أن سيكون ، أو نفي بلا أو لن أو لم ، فمثال لن أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ، فإن قيل قد أوجبوا أن تكون مخفّفة بعد فعل العلم أما بعد فعل الظن فقد أجازوا أن تكون مخففة ومصدرية قلت : ما كان أرفع أسلوب القرآن عن إقحام عاملين بمعنى واحد واضطرارنا إلى إلغاء أحدهما وهذا ما يترفع عنه أسلوب القرآن العظيم (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) الجملة حالية أو استئنافية والقول على سبيل الفخر والمباهاة وجملة أهلكت مقول القول ومالا مفعول به ولبدا نعت (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) الاستفهام للإنكار والتوبيخ أيضا وإعرابها كإعراب سابقتها (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ونجعل فعل مضارع مجزوم بلم وله متعلقان بنجعل لأنها بمعنى نخلق وعينين مفعول به ولسانا وشفتين عطف على عينين والشفة محذوفة اللام والأصل شفهة بدليل تصغيرها على شفيهه وجمعها على شفاه ونظيره سنة ولا تجمع بالألف والتاء استغناء بتكسيرها على شفاه ، وهديناه فعل ماض وفاعل ومفعول به والنجدين مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض كما تقدم (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) الفاء عاطفة ولا نافية وهو قول أبي عبيدة والفراء والزجّاج كأنه قال :ووهبنا له الجوارح ودللناه على السبيل فما فعل خيرا أي فلم يقتحم ، وقال الفراء والزجّاج : ذكر لا مرة واحدة والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي حتى تعيدها كقوله تعالى فلا صدق ولا صلّى وإنما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه فيجوز أن يكون قوله الآتي ثم كان إلخ قائما مقام التكرير كأنه قال اقتحم العقبة ولا آمن وقيل هو جار مجرى

٤٨٨

الدعاء كقوله لا نجا ولا سلم دعاء عليه أن لا يفعل خيرا ، وقال الزمخشري بعد أن تنحل مقالة الفراء والزجّاج وأبي عبيدة «هي بمعنى لا متكررة في المعنى لأن معنى فلا اقتحم العقبة فلا فكّ رقبة ولا أطعم مسكينا ، ألا ترى أنه فسّر اقتحام العقبة بذلك» ولا يتمّ له هذا إلا على قراءة من قرأ فكّ فعلا ماضيا ، على أن أغرب ما قرأناه هو قول الشيخ الجلال أن لا بمعنى هلّا أي حرف تحضيض وقد ارتكن الجلال على رواية لأبي زيد ولكننا لم نسمع أن لا وحدها تكون للتحضيض وليس معها الهمزة ، وعبارة ابن هشام في المغني : «وأما قوله سبحانه وتعالى :فلا اقتحم العقبة فإن لا فيه مكررة في المعنى لأن المعنى فلا فكّ رقبة ولا أطعم مسكينا لأن ذلك تفسير للعقبة قاله الزمخشري ، وقال الزجّاج : إنما جاز لأن ثم كان من الذين آمنوا معطوف عليه وداخل في النفي فكأنه قيل : فلا اقتحم ولا آمن. ولو صحّ لجاز لا أكل زيد وشرب ، وقال بعضهم لا دعائية دعا عليه أن لا يفعل خيرا ، وقال آخر : تحضيض والأصل فألّا اقتحم ثم حذفت الهمزة وهو ضعيف». ومن مراجعة هذه الأقوال يتبين أن جعلها دعائية هو الأرجح والأمثل بأسلوب القرآن الكريم ، قال الدماميني : «هذا وجه ظاهر الحسن لا غبار عليه فكان الأولى تقديمه على غيره من الأقوال». واقتحم العقبة فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هو أي القائل ومفعول به وسيأتي المزيد من معنى اقتحام العقبة في باب البلاغة والواو اعتراضية وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة أدراك خبر ما وما اسم استفهام مبتدأ والعقبة خبر والجملة الاسمية المعلقة بالاستفهام في محل نصب سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني والجملة

معترضة مقحمة لبيان العقبة مقررة لمعنى الإبهام ، والتفسير : فإن قوله وما أدراك ما العقبة عين تلك العقبة لأن المعرّف بالألف واللام إذا أعيد كان الثاني عين الأول (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) فكّ رقبة خبر لمبتدأ مضمر

٤٨٩

أي هو فكّ والتقدير وما هو اقتحام العقبة هو فك رقبة أو إطعام إلخ وإنما احتيج إلى تقدير هذا المضاف ليتطابق المفسّر والمفسّر ، ألا ترى أن المفسر بكسر السين مصدر والمفسر بفتح السين وهو العقبة غير مصدر فلو لم يقدّر المضاف لكان المصدر وهو فكّ مفسّرا للعين وهي العقبة وقرىء فكّ رقبة على أنه فعل ماض وفاعله هو ورقبة مفعول والجملة الفعلية عندئذ بدل من قوله اقتحم العقبة المنفي بلا فكأنه قيل فلا فكّ رقبة ولا أطعم وهذا يؤيد ما ذهب إليه الزمخشري. أو إطعام عطف على فكّ رقبة على القراءة الأولى وفي يوم متعلقان بإطعام وذي مسغبة نعت يوم ويتيما مفعول لإطعام على أنه مصدر استوفى شروط النصب أو مفعول أطعم على القراءة وذا مقربة نعت ليتيما وأو حرف عطف ومسكينا عطف على يتيما وذا متربة نعت لمسكينا (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) ثم حرف عطف يفيد التراخي في الرتبة لأن الإيمان هو الأصل والأسبق ولا يتم عمل إلا به ، وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر يعود عليه ومن الذين خبرها وجملة آمنوا صلة وتواصوا عطف على الصلة داخل في حيّزها وبالصبر متعلقان بتواصوا وتواصوا بالمرحمة عطف أيضا (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أولئك مبتدأ وأصحاب الميمنة خبر والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وبآياتنا متعلقان بكفروا وهم مبتدأ وأصحاب المشأمة خبره والجملة خبر الذين ، وسيأتي بحث قيّم عن اختلاف صيغ التعبير في باب البلاغة وعليهم خبر مقدّم ونار مبتدأ مؤخر ومؤصدة صفة لنار والجملة خبر ثان ولك أن تجعلها استئنافية.

البلاغة :

١ ـ في قوله «وهديناه النجدين» استعارة تصريحية فقد استعار

٤٩٠

النجدين للخير والشر وحذف المشبه وهو الخير والشر وأبقى المشبه به فإن قلت أما تشبيه الخير بالنجد وهو المرتفع من الطريق فلا غبار عليه لأنه ظاهر بخلاف الشر فإنه هبوط وارتكاس من ذروة الفطرة إلى حضيض الابتذال قلنا : إنه جمع بينهما إما على سبيل التغليب وإما على توهم المخيلة أن فيه صعودا وارتكاسا وإسفافا وهذا من أبلغ الكلام وأروعه.

٢ ـ وفي قوله «فلا اقتحم العقبة» ترشيح للاستعارة بذكر ما يلائم المشبه وقد مرّت أمثلتها ونضيف هنا أن مبنى الترشيح تناسي التشبيه وتقوّله الادّعاء والمبالغة ولهذا كان الترشيح أبلغ من التجريد وهو ذكر ما يلائم المشبه دون المشبّه به لأن فيه اعترافا بالتشبيه حتى يبنى على علو القدر المشبه بالعلو المكاني ما يبنى على العلو المكاني كما قال أبو تمام :

ويصعد حتى يظن الجهول

بأن له حاجة في السماء

استعار الصعود لعلو القدر ثم بنى عليه ما يبنى على علو المكان فلولا أن قصده أن يتناسى التشبيه ويصرّ على إنكاره فيجعله صاعدا في السماء لما كان لهذا الكلام وجه ثم إنهم يفعلون ذلك التناسي مع التصريح بالتشبيه والاعتراف بالأصل فمع جحد الأصل والإصرار عليه كما في الاستعارة أولى فأولى كقول العباس بن الأحنف :

هي الشمس مسكنها في السماء

فعزّ الفؤاد عزاء طويلا

فلن تستطيع إليها الطلوع

ولن تستطيع إليك النزولا

ولا يخفى أن هذا التناسي وقع مع الاعتراف بالأصل وهو : هي في قوله هي الشمس لأنها راجعة إلى الحبيبة وهذا واضح وجعله ضمير القصة كما توهمه بعضهم تكلف.

٤٩١

ومن أمثلة الاستعارة المجردة أيضا قول الشاعر :

فإن يهلك فكل عمود قوم

من الدنيا إلى هلك يصير

ففي قوله عمود استعارة تصريحية أصلية شبّه رئيس القوم بالعمود بجامع أن كلاهما يحمل والقرينة يهلك وفي إلى هلك يصير تجريد وقد يجتمع الترشيح مع التجريد لجواز أن يتناسى التشبيه في بعض الصفات دون بعض ، ومن أمثلته قول أبي الطيب :

سقاك وحيّانا بك الله إنما

على العيس نور والخدور كمائمه

فالنور الزهر أو الأبيض منه والمراد به هنا النساء والجامع الحسن فالاستعارة تصريحية أصلية وفي ذكر الخدور تجريد وفي ذكر الكمائم ترشيح وتسمى الاستعارة عندئذ مطلقة.

٣ ـ وفي قوله «أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا هم أصحاب المشأمة» خولف في التعبير ، فقد أشار إلى المؤمنين تكريما لهم وأنهم حاضرون عنده تعالى في مقام كرامته وبمثابة الجالسين أمامه لا يعدو الأمر أكثر من الإشارة إليهم بالبنان ثم استعمل لفظ الإشارة الدّال على البعد فلم يقل هؤلاء إيذانا ببعد منزلتهم عنده ونيلهم شرف الحظوة والقرب منه أما الكافرون فقد ذكرهم بضمير الغيبة إشارة إلى أنهم غائبون عن مقام تجلياته وسبحات فيوضاته وأنهم لا يستأهلون أن يمتّوا إليه ولو بأوهن الأسباب ، وهذا من العجب العجاب فتدبره.

٤٩٢

سورة الشّمس

مكيّة وآياتها خمس عشرة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

اللغة :

(وَضُحاها) قال القرطبي : «الضحى مؤنثة يقال ارتفعت الضحى فوق الضحو وقد تذكر فمن أنّث ذهب إلى أنها جمع ضحوة ومن ذكر

٤٩٣

ذهب إلى أنها اسم على فعل نحو صرد» وقال ابن خالويه : «الضحى مقصور مثل هدى والضحى مؤنثة تصغيرها ضحية والأجود أن تقول في تصغيرها ضحيّ بغير هاء لئلا يشبه تصغيرها تصغير ضحوة والضحى وجه النهار ويقال ليلة اضحيان إذا كان القمر فيها مضيئا من أولها إلى آخرها وقد أضحى النهار إذا ارتفع ويقال : ضحي فلان للشمس يضحى إذا برز لها وظهر قال الله تعالى : وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ، ورأى ابن عمر رجلا يلبي وقد أخفى صوته فقال له أضح لمن لبّيت له أي اظهر وقال عمر بن أبي ربيعة :

رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت

فيضحى وأيما بالعشيّ فيخصر»

وفي القاموس : «الضّحو والضحوة والضّحية كعشيّة ارتفاع النهار والضحى فويقة ويذكر ويصغر ضحيّا بلا هاء والضحاء بالمدّ إذا قرب انتصاف النهار وبالضم والقصر وأتيتك ضحوة وضحى وأضحى صار فيها والشيء أظهره وضاحاه أتاه فيها».

(جَلَّاها) أظهرها وكشفها.

(طَحاها) بسطها لأن ما يظهر للرائي فيها يكون كالبساط فلا ينافي كرويتها وفي المختار «طحاه : بسطه مثل دحاه وبابه عدا» وفي القاموس «وطحا يطحو بعد وهلك وألقى إنسانا على وجهه والطحا المنبسط من الأرض وطحى كسعى وبسط وانبسط واضطجع وذهب في الأرض وطحا به قلبه ذهب به في كل شيء».

(دَسَّاها) التدسية : النقص والإخفاء بالفجور وأصل دسى دسس كما قيل في تقضض تقضى وكما قيل قصيت أظفاري وأصله قصصت أظفاري.

(فَدَمْدَمَ) أطبق عليهم العذاب بذنبهم فأهلكهم قال الفراء :

٤٩٤

«وحقيقة الدمدمة تضعيف العذاب وترديده ويقال دمدمت على الشيء أطبقت عليه» وفي الصحاح «ودمدمت الشيء إذا ألزقته بالأرض ودمدم الله عليهم أي أهلكهم ويقال : دمدمت على الميت التراب أي سوّيته عليه» وقال ابن الأنباري : «دمدم أي غضب والدمدمة الكلام الذي يزعج الرجل» وفي القاموس : «ودمم الأرض سواها وفلانا عذبه عذابا تاما والقوم أهلكهم كدهدم ودمدم عليهم».

(عُقْباها) تبعتها وعاقبتها ، وفي القاموس : «وأعقبه الله بطاعته جازاه والعقبى جزاء الأمر».

الإعراب :

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) الواو حرف قسم وجر والشمس مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف وضحاها عطف على الشمس والقمر عطف أيضا وإذا لمجرد الظرفية متعلقة بفعل القسم المحذوف وقد استشكل بأن فعل القسم إنشاء وزمانه الحال فلا يعمل في إذا لأنها للاستقبال والإلزام اختلاف العامل والمعمول في الزمان وهو محال وأجيب بأنه يجوز أن يقسم الآن بطلوع النجم في المستقبل فالقسم في الحال والطلوع في المستقبل ويجوز أن يقسم بالشيء المستقبل كما تقول : أقسم بالله إذا طلعت الشمس فالقسم متحتّم عند طلوع الشمس وإنما يكون فعل القسم للحال إذا لم يكن معتمدا على شرط ، هذا وقد بسطنا القول بسطا مفيدا ووافيا عند الكلام على سورة التكوير وجملة تلاها في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) الجملتان منسوقتان على ما تقدم مماثلتان له في الإعراب (وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) عطف أيضا و «ما» في الجمل الثلاث مصدرية أو بمعنى من

٤٩٥

وعلى كل حال فهي معطوفة على الاسم قبلها أو المصدر المنسبك منها ومن الفعل معطوف عليه ، وشجب الزمخشري كونها مصدرية. (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) منسوق أيضا على ما تقدم والتنكير في نفس لإرادة الجنس كأنه قال وواحدة من النفوس (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) الفاء عاطفة وألهمها فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وفجورها مفعول به ثان وتقواها عطف على فجورها ، وقد اختلفوا في معنى الإلهام ؛ قال ابن جبير ألزمها ، وقال ابن عباس عرفها ، وقال ابن زيد : بين لها ، وقال الزجّاج وفّقها للتقوى وألهمها فجورها أي خذلها وقيل عرفها وجعل لها قوة يصحّ معها اكتساب الفجور واكتساب التقوى ، وقال الزمخشري : «ومعنى إلهام الفجور والتقوى إفهامها وإعقالها وأن أحدهما حسن والآخر قبيح وتمكينه من اختيار ما شاء منهما» وفيه تلميح إلى مذهب المعتزلة القائل بالتحسين والتقبيح العقليين أي إن الحسن والقبح مدركان بالعقل ، أما أهل السنّة فيقولون بالتحسين والتقبيح الشرعيين أي إن الحسن والقبح لا يدركان إلا بالسمع لأنهما راجعان إلى الأحكام الشرعية مع عدم إلغاء خط العقل من إدراك الأحكام الشرعية وعندهم أنه لا بدّ في علم كل حكم شرعي من مقدمتين عقلية وهي الموصلة إلى العقيدة وسمعية مفرغة عليها وهي الدالّة على خصوص الحكم.

هذا والإلهام في اللغة إلقاء الشيء في الروع ، قال الراغب : ويختص بما يكون من جهته تعالى وجهة الملأ الأعلى ، قال تعالى : فألهمها فجورها وتقواها ، فعلم أنه غير مختص بالخير بل يعمّه والشر ، وفي الاصطلاح إلقاء معنى في القلب بطريق الفيض من غير كسب فيختصّ بالخير لعدم إطلاق الفيض في الشرّ بل يطلق فيه الوسوسة (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) الجملة جواب القسم وحذفت اللام لطول الكلام وقيل الجواب محذوف تقديره لتبعثنّ وقال الزمخشري : «تقديره ليدمدمنّ الله عليهم أي على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلّى الله

٤٩٦

عليه وسلم كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحا وأما قد أفلح فكلام تابع لقوله فألهمها فجورها وتقواها على سبيل الاستطراد وليس من جواب القسم في شيء» وقد حرف تحقيق وأفلح فعل ماض ومن موصول فاعل وجملة زكّاها صلة وفاعل زكاها ضمير يعود على من وقيل ضمير الله تعالى أي قد أفلح من زكّاها الله تعالى بالطاعة وقد خاب من دسّاها عطف على الجملة السابقة مماثلة لها (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما ذكر من فلاح من زكى نفسه أو زكّاها الله ومن دسى نفسه أو دساها الله. وكذبت ثمود فعل ماض وفاعل وبطغواها متعلقان بكذبت ومعنى الباء السببية أي بسبب طغيانهم وجعلها في الكشاف للاستعانة مجازا كقولك كتبت بالقلم يعني فعلت التكذيب بطغيانها ، وكل من الطغوى والطغيان مصدر لكن اختير التعبير بالطغوى لأنه أشبه برءوس الآي ، قال في المختار : «طغى يطغى بفتح الغين فيهما ويطغو طغيانا وطغوانا أي جاوز الحدّ وطغي بالكسر مثله والطغوى بالفتح مثل الطغيان» أما الزمخشري فقال «والطغوى من الطغيان فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء بأن قلبوا الياء واوا في الاسم وتركوا القلب في الصفة فقالوا : امرأة خزيا وصديا» وإذا ظرف لما مضى من الزمن متعلق بكذبت أو بالطغوى وجملة انبعث في محل جر بإضافة الظرف إليها ، وأشقاها فاعل انبعث والمراد به قدار بن سالف بضم القاف ويضرب به المثل في الشؤم فيقال أشأم من قدار ويلقب بأحمر ثمود ويجوز أن يكونوا جماعة والإفراد لتسويتك في التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، وعبارة ابن خالويه وقد خلط بها خلطا عجيبا : «فإذا كان المذكر أشقى فالمرأة شقواء لأنه من ذوات الواو كقوله : «ربنا غلبت علينا شقوتنا» وشقاوتنا و «ها» جرّ بالإضافة وجمع أشقى شقو مثل حمر وصفر فإن جمعت جمع سلامة قلت في المذكر أشقون وفي المؤنث شقواوات مثل حمراوات»

٤٩٧

قال ابن هشام معقّبا : «قوله : إذا كان المذكر أشقى فالمؤنث شقواء والجمع شقو ليس بجيد إذ لم يفرّق بين أفعل الذي يكون نعتا للنكرة وبين أفعل الذي يجري مجرى الأسماء ولا يكون نعتا للنكرة إلا بمن وإنما يكون مضافا أو مقرونا بأل وإنما الأنثى في هذا الشقيا وجمع المذكر الأشقون والأشاقي في القياس جائز وكما تقول الأكبر والأكبرون والأكابر وجمع الأنثى الشّقى والشقييات كما تقول الكبرى والكبر والكبريات» (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) الفاء عاطفة وقال فعل ماض مبني على الفتح ولهم متعلقان بقال ورسول الله فاعل وناقة الله منصوب على التحذير على حذف مضاف أي ذروا عقرها واحذروا سقياها ، وسيأتي بحث عن التحذير في باب الفوائد ، وسقياها عطف على ناقة الله أي وشربها (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها) الفاء عاطفة وكذبوه فعل وفاعل ومفعول به ، فعقروها عطف على فكذبوه أي عقرها قدار في رجليها فأوقعها فذبحوها وتقاسموا لحمها ، فدمدم عطف أيضا وعليهم متعلقان بدمدم وربهم فاعل وبذنبهم متعلقان بدمدم أيضا والباء للسببية أي بسبب ذنبهم ، فسوّاها عطف على دمدم والواو حرف عطف ولا نافية ويخاف عقباها فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإنما جعلنا الواو عاطفة لتلائم قراءة الفاء وهي سبعية أيضا ، على أن المعربين والمفسرين يقولون إن الواو حالية أو استئنافية وممّن قال بأنها عاطفة ابن خالويه.

البلاغة :

في قوله «ولا يخاف عقباها» استعارة تمثيلية على اعتبار أن الضمير في يخاف لله عزّ وجلّ وهو الظاهر أي أنه سبحانه لا يخاف عاقبتها كما تخاف الملوك عاقبة أفعالها ، والمقصود من الاستعارة

٤٩٨

إهانتهم وإذلالهم ، ويجوز أن يعود الضمير على الرسول أي أنه لا يخاف عاقبة إنذاره لهم وتبقى الاستعارة ، وقال السدّي ومقاتل والزجّاج وأبو علي : الواو واو الحال والضمير في يخاف عائد على أشقاها أي انبعث لعقرها وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه والعقبى خاتمة الشيء وما يجيء من الأمور بعقبه ، وهذا فيه يعد لطول الفصل بين الحال وصاحبها.

الفوائد :

التحذير : هو نصب الاسم بفعل محذوف يفيد التنبيه والتحذير ويقدّر بحسب ما يناسب المقام كاحذر وباعد وتجنب وق وتوق ونحوها ، ويكون التحذير :

١ ـ تارة بلفظ إياك وفروعه ، نحو إياك والكذب ؛ فإياك ضمير بارز منفصل في محل نصب مفعول لفعل محذوف تقديره باعد أو ق أو احذر والكذب معطوف على إياك أو مفعول به لفعل محذوف أيضا كما تقدم ، ولك أن تجعل الواو للمعية والكذب مفعولا معه.

٢ ـ وتارة بدون إياك وفروعه نحو نفسك والشر والأسد الأسد وإعرابها كما تقدم.

٣ ـ وتارة بلفظ إياه وإياي وفروعهما إذا عطف على المحذّر كقوله :

فلا تصحب أخا الجهل

وإياك وإياه

والعامل في التحذير يضمر وجوبا في ثلاثة مواضع :

١ ـ أن يكون المحذّر به نفس إياك وفروعه.

٤٩٩

٢ ـ أن يكون هناك عطف.

٣ ـ أن يكون هناك تكرار كقولك : الأسد الأسد.

ومن العجيب أن النسفي ذكر في تفسيره أن قوله تعالى : ناقة الله وسقياها ، إغراء ، ولا شك في إشكاله بحسب الظاهر لأن الإغراء لا يصدق عليه بحسب الظاهر بل الصادق عليه إنما هو التحذير.

٥٠٠