إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١٠

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١٠

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٩

سببا لفتنة الذين أوتوا الكتاب ، وقيل ليستيقن متعلق بفعل مضمر أي فعلنا ذلك ليستيقن ، والذين فاعل وجملة أوتوا الكتاب صلة والكتاب مفعول أوتوا الثاني لأن الواو نائب فاعل أوتوا ويزداد عطف على ليستيقن والذين فاعل وجملة آمنوا صلة وإيمانا مفعول به ثان. (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة ولا نافية ويرتاب الذين فعل مضارع وفاعل وجملة أوتوا الكتاب صلة والمؤمنون عطف على الذين.

(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) عطف على ما تقدم واللام لام التعليل والذين فاعل وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر والجملة صلة الذين وماذا اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم لأراد وبهذا متعلقان بأراد ومثلا حال من هذا أي حال كونه مشابها للمثل ، ولك أن تجعل ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبره وأراد الله صلة للموصول وجملة ماذا أراد إلخ مقول القول. (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) كذلك نعت لمصدر محذوف يضل إضلالا مثل ذلك والله فاعل يضل ومن مفعوله وجملة يشاء صلة والعائد محذوف ويهدي من يشاء عطف على الجملة السابقة. (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) الجملة مستأنفة. (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) الواو عاطفة وما نافية وهي ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ والضمير يعود إلى سقر وإلا أداة حصر وذكرى خبر وللبشر متعلقان بذكرى.

البلاغة :

١ ـ في قوله تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) فن الإبهام وقد تقدم الإلماع إليه في هذا الكتاب ونعيده هنا بمزيد من التفصيل لأهمية هذه الآية ولكثرة ما خاض علماء البلاغة والمفسرون فيها ، فنقول : الإبهام

٢٨١

فن من فنون البلاغة ، وهو أن يقول المتكلم كلاما يحتمل معنيين متغايرين لا يتميز أحدهما عن الآخر والفرق بينه وبين الاشتراك المعيب أن الاشتراك لا يصح إلا في لفظة مفردة لها مفهومان لا يعلم أيهما أراد المتكلم ، والإبهام لا يكون إلا في الجمل المؤتلفة المفيدة ويختص بالفنون كالمدح والهجاء والعتاب والاعتذار والفخر والرثاء والنسيب وغير ذلك ، ومنه نوع آخر يقع لأحد أمرين : إما لامتحان جودة الخاطر وإما لامتحان قوة الإيمان وضعفه ، وهذه الآية التي نحن بصددها من هذا النوع أي امتحان قوة الإيمان وضعفه فإنه معنى (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) مبهم أشدّ الإبهام ، فإن لقائل أن يقول : ما النكتة في ذكر هذا العدد؟ولا يقال إن هذا السؤال ساقط فإنه يرد على أي عدد فرض بحيث لو قيل عليها خمسة عشر أو أحد عشر أو عشرون أو غير ذلك ورد السؤال عليه وما كان بهذه المثابة فهو ساقط لأنّا نقول : هذا فيما يرد من المخلوق الذي يدخل خبره الخلف وليس بمعصوم من الكذب أما البارئ سبحانه الذي لا يدخل خبره الخلف وإذا أخبر بشيء كان خبره على ما أخبر به فإنه إذا أخبر بعدد لا يجوز أن يقال فيه لو قال غيره ورد عليه السؤال لأنه الحق الواقع الذي لا مرية فيه وإذا كان ذلك كذلك يمكن لقائل أن يقول : ما الحكمة في جعل ملائكة العذاب على هذه العدة؟فيكون السؤال واردا مستحقا للجواب ليزول هذا الإبهام الذي على ظاهر الكلام ، هذا ونورد خلاصة لما قاله كبار الأعلام في تفسير هذا الإبهام ثم نورد بعد ذلك رأيا آثرناه على غيره ليكون في ذلك إيراد للذهن وحفز للقرائح ، على أننا لم نورد ما رأيناه غير جدير بالعناية.

أما الإمام فخر الدين بن الخطيب فقد رأى رأيا فيه كثير من السداد والحصافة قال : «لما كان المكلف عبارة عن حواس ظاهرة وحواس باطنة وهي عشر وطبائع وقوى خمس وهي الهاضمة والغازية

٢٨٢

والماسكة والدافقة. وكانت هذه الأشياء هي التي تدعو إلى الاشتغال بالملاذ الدنيوية والشهوات البهيمية ودفع المضارّ البدنية عن الاشتغال بما يدني من الجنان ويباعد من النيران وكانت عدة هذه الأشياء تسعة عشر جعلت الملائكة الموكلة بتعذيب الإنسان وفق هذه العدة ليكون بإزاء كل شيء من هذه الأشياء ملك موكل باستيفاء ما يجب على ذلك الشيء الذي هو أحد الأسباب المانعة من الخير».

هذا ما ذكره الرازي وهو على وجاهته ونفاسته لا يخلو من التكلف. أما الكرخي فقد اختصر ما ذكره الرازي وزاد عليه من جهة ثانية فقال : «وخص هذا العدد بالذكر لأنه موافق لعدد أسباب فساد النفس الإنسانية وهي القوى الإنسانية والطبيعية إذ القوى الإنسانية اثنتا عشرة الخمسة الظاهرة والخمسة الباطنة والشهوة والغضب ، والقوى الطبيعية سبعة الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والعادية والنامية والمولدة والمجموع تسعة عشر».

أما الأقدمون وعلى رأسهم الزمخشري فقد استنبطوا استنباطا بيانيا جميلا ، قال الزمخشري : «إن حال هذه العدة الناقصة واحدا من عقد العشرين أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزىء ولا يذعن إذعان المؤمن وإن خفي عليه وجه الحكمة كأنه قيل ولقد جعلنا عدتهم عدة من شأنها أن يفتتن بها لأجل استيقان المؤمن وحيرة الكافر واستيقان أهل الكتاب لأن عدتهم تسعة عشر في الكتابين فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنه منزل من الله وازدياد المؤمنين إيمانا لتصديقهم بذلك كما صدقوا سائر ما أنزل ولما رأوا من يسلم أهل الكتاب» وهذا على وجاهته لا يخلو من اعتراض.

أما القرطبي فلم يخرج عن الحدود السمعية ولم يلجأ إلى الاجتهاد فقال بعد كلام طويل : «قلت والصحيح إن شاء الله أن هؤلاء

٢٨٣

التسعة عشر هم الرؤساء والنقباء وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها كما قال تعالى : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ).

أما أبو حيان فقد أطال ودندن ووثب حينا وأسف حينا ومما نختاره من عبارته : «عليها تسعة عشر التمييز محذوف والمتبادر إلى الذهن أنه ملك ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه أن المراد ملك حين سمعوا ذلك» ، ونقل الرواية التي أوردناها ثم قال : «وقيل التمييز المحذوف صنفا من الملائكة وقيل نقيبا ومعنى عليها يتولون أمرها وإليهم جماع زبانيتها فالذي يظهر من العدد ومن الآية بعد ذلك ومن الحديث أن هؤلاء هم النقباء» ويكاد هذا يكون نفس ما قاله القرطبي.

أما رأي الرازي والكرخي فلا يخلو من دخل عليه لما فيه من التعسف والتكلف كما ترى ووجه الدخل عليه أنه يلزم أن يكون لكل إنسان مثل هذه العدة من الملائكة ولم تكن هي جملة عدة الملائكة لجهنم ولجميع من حوت من المعذبين.

أما الجواب الفني الذي يحل الإبهام حلا أدنى إلى المنطق وأقرب إلى الإقناع وأشبه ببلاغة القرآن الكريم فهو أن يقال : إنه لا مرية في أن أهل النار يزيدون على أهل الجنة بأضعاف مضاعفة ولأن المؤمنين من كل أمة عشر معشار كفارها ، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن الجنة أن عرضها السموات والأرض فما ظنك بطولها والطول من كل شيء في معترف العادة أكثر من العرض فأهلها على هذا لا يحصيهم العد ولا يحصرهم الحد ، وقد تبين أن أهل النار أضعافهم فهم إلى تجاوز الحدّ في العد أقرب وأقلّ ما يظنّ بالملائكة الموكلين بعذابهم أن تكون عدتهم وفق عدتهم ليكون بإزاء كل معذّب معذّب وهذا عدد لا نهاية له ولا لكميته ، فلما أراد الحق الإخبار بعدة هذه الملائكة عدل عن ذكر عددهم الذي هو معلوم عنده ، وإن تجاوز النهاية

٢٨٤

بالنسبة إلينا لئلا يخرج الكلام بكثرة الألفاظ وطول الفصول عن حد البلاغة إلى إشارة يفهم منها أن عدة هذه الملائكة عدد لا يتناهى مرتبة ، فاقتصر سبحانه على ذكر آخر مرتبة الآحاد من العدد وأول مرتبة العشرات منه فإن مراتب العدد أربع آحاد وعشرات ومئون وألوف ، الأصول منها الآحاد وأول مرتبته فإن نهاية مرتبة الآحاد التسعة وهي عبارة عن تكرار الواحد تسع مرات ثم ينتقل إلى ذكر العشرة التي هي أول مرتبة العشرات ثم يكررها كما كرر الواحد من العشرين إلى التسعين كما فعل في المرتبة الأولى ثم ينتقل إلى مرتبة الألوف فيكررها تكرير الواحد بلفظ الآحاد وهكذا إلى غير النهاية وإذا انتهت مرتبة الألوف عاد إلى مرتبة العشرات فقال : عشرة آلاف إلى ما لا نهاية له لا يزيد على أن يضيف إلى الألف لفظ الآحاد والعشرات فيعود إلى أصول الأعداد فدلّ ذلك على أن أصول جميع الأعداد التي لا تتناهى الآحاد وهي تسعة وأول العشرات هي العشرة فالاقتصار على ذكرهما للعرب الواضعين لهذه الأسماء يشير إلى أعداد لا نهاية لها ، واستغنى عن ذكر لفظتي المائة والألف لما جاء في الكلام من المثال الذي يحتذى على مثاله والأصل الذي يقاس الفرع عليه واللفظتان يعني المائة والألف عند المخاطب معروفتان والطريق في التكرير قد وضحت.

٢ ـ في قوله : «وربك فكبر» فن طريف ابتدعه المتأخرون وأساءوا فيه ، لأنه لا يأتي جيدا إلا في الندرة ، أما تكلفه فيؤدي إلى إسفافه ، وقد وضع له علماء البديع اسم «ما لا يستحيل بالانعكاس» وسماه بعضهم «القلب» وبعضهم الآخر سماه «المقلوب المستوي» وهو أن يكون الكلام بحيث إذا قلبته وابتدأت من حرفه الأخير إلى الحرف الأول كان الحاصل هو هذا الكلام عينه وهو قد يكون في النظم وقد يكون في النثر أما في النظم فمنه قول القاضي الأرجاني :

٢٨٥

مودته تدوم لكل هول

وهل كلّ مودته تدوم

وقد يكون ذلك في شطر بيت كقول القائل :

ولما تبدى لنا وجهه

أرانا الإله هلالا أنارا

والشاهد في المصراع الثاني أما في النثر فقال الله تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) *) ، (رَبَّكَ فَكَبِّرْ) ويحكى عن العماد الكاتب أنه لقي القاضي الفاضل يوما وهو راكب فرسا فقال له : سر فلا ركبا بك الفرس ، فقال له القاضي : دام علا العماد ، وهذا كله مستاغ لا تكلف فيه فلذلك أتى مستملحا جاريا في حدود الطبع ، أما ما تكلفوه فقد ضربنا عنه صفحا لأنه لا يمت إلى البلاغة بأي نسب.

٣ ـ في قوله تعالى : «وثيابك فطهر» إن أريد الثياب الحقيقة الظاهرة على البدن فالكلام جار على الحقيقة وليس فيه شيء من فنون البلاغة لأن طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة ويقبح أن تكون ثياب المؤمن نجسة وإن أريد القلب كان الكلام كناية على حد قول امرئ القيس :

وإن تك قد ساءتك مني خليقة

فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي

أي قلبي من قلبك وقيل كنى عن النفس بالثياب ، قال عنترة :

فشككت بالرمح الطويل ثيابه

ليس الكريم عن القنا بمحرم

وقيل كنى بها عن الجسم ، قالت ليلى وقد ذكرت إبلا :

رموها بأثواب خفاف فلا نرى

لها شبها إلا النعام المنضرا

أي ركبوها فرموها بأنفسهم.

(كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى

٢٨٦

الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))

اللغة :

(قَسْوَرَةٍ) القسورة : جماعة الرماة الذين يتصيدونها وقيل : الأسد يقال : ليوث قساور وهي فعولة من القسر وهو القهر والغلبة وفي وزنه الحيدرة من أسماء الأسد ، وفي المختار : «القسور والقسورة : الأسد» وفي القاموس : «والقسورة : العزيز والأسد كالقسور ونصف الليل أو أوله أو معظمه ونبات سهلي والجمع قسور والرماة من الصيادين الواحد قسور» وتعقبه شارحه التاج بقوله : «قوله الواحد قسور هكذا قاله الليث وهو خطأ لا يجمع قسور على قسورة إنما القسورة اسم جامع للرماة ولا

٢٨٧

واحد لها من لفظها» وعبارة أبي حيان : «القسورة الرماة والصيادون قاله ابن كيسان أو الأسد قاله جماعة من اللغويين قال :

مضمر تحدره الأبطال

كأنه القسورة الريبال

أو الرجال الشداد ، قال لبيد :

إذا ما هتفنا هتفة في ندينا

أتانا الرجال الصائدون القساور

أو ظلمة أول الليل لا ظلمة آخره ، قاله ابن الأعرابي وثعلب.

الإعراب :

(كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) كلا حرف ردع وزجر لمن ينكر أن تكون إحدى الكبر نذيرا للبشر والواو حرف قسم وجرّ والقمر مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم ولا معنى لما قاله الجلال : «كلا استفتاح بمعنى ألا» ولا لما قاله القرطبي نقلا عن الفراء «إنها صلة للقسم والتقدير إي والقمر» والليل جار ومجرور والواو للقسم وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بفعل القسم وجملة أدبر في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) الواو حرف قسم وجر والصبح مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وإذا ظرف زمان متعلق بفعل القسم المحذوف وجملة أسفر في محل جر بإضافة الظرف إليها (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وإن واسمها واللام المزحلقة وإحدى الكبر خبر إنها (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) حال من إحدى الكبر وأعربها الزمخشري تمييز من إحدى الكبر على معنى أنها إحدى الدواهي إنذارا كما تقول هي إحدى النساء عفافا وننقل فيما يلي عبارتي السمين وأبي البقاء ونترك لك الخيار. «وقوله تعالى : «نذيرا للبشر» فيه أوجه : أحدها أنه تمييز من إحدى لما تضمنته من معنى التعظيم كأنه قيل : أعظم الكبر إنذارا فنذير بمعنى الإنذار ، والثاني أنه مصدر بمعنى

٢٨٨

الإنذار أيضا ولكنه نصب بفعل مقدّر قاله الفرّاء ، الثالث أنه فعيل بمعنى مفعل وهو حال من الضمير في إنها قاله الزجّاج ، الرابع أنه حال من الضمير في إحدى لما تضمنت من معنى التعظيم كأنه قيل أعظم الكبر منذرة ، الخامس أنه حال من فاعل قم فأنذر أول السورة ، السادس أنه مصدر منصوب بأنذر أول السورة ، السابع أنه حال من الكبر ، الثامن أنه حال من ضمير الكبر ، التاسع هو حال من إحدى الكبر قاله ابن عطية ، العاشر أنه منصوب بإضمار أعني وقيل غير ذلك». أما عبارة أبي البقاء فهي : «قوله تعالى : نذيرا في نصبه أوجه أحدها هو حال من الفاعل في قوله : قم في أول السورة ، والثاني من الضمير في فأنذر حال مؤكدة ، والثالث هو حال من الضمير في إحدى ، والرابع هو حال من نفس إحدى ، والخامس حال من الكبر أو من الضمير فيها ، والسادس حال من اسم إن ، والسابع أن نذيرا في معنى إنذارا أي فأنذر إنذارا أو أنها لإحدى الكبر لإنذار البشر ، وفي هذه الأقوال ما لا نرتضيه ولكن حكيناها والمختار أن يكون حالا مما دلّت عليه الجملة تقديره عظمت عليه نذيرا». أما أبو حيان فبعد أن أورد هذه الأوجه قال : «قال أبو البقاء والمختار أن يكون حالا مما دلّت عليه الجملة تقديره عظمت نذيرا وهو قول لا بأس به». وقرىء نذير بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي نذير (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) لمن بدل من قوله للبشر بإعادة الجار وجملة شاء لا محل لها لأنها صلة من ومنكم حال وأن وما في حيّزها في موضع نصب بشاء وفاعل شاء يعود على من وقيل الفاعل ضمير يعود على الله تعالى أي لمن شاء هو أي الله تعالى. وقال الزمخشري : أن يتقدم في موضع الرفع بالابتداء ولمن شاء خبر مقدّم عليه كقولك : لمن توضأ أن يصلي ومعناه مطلق لمن شاء التقدم والتأخر أن يتقدم أو يتأخر والمراد بالتقدم السبق إلى الخير والتخلّف عنه وهو كقوله : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر انتهى ، وهو معنى لا يتبادر

٢٨٩

إلى الذهن وفيه حذف (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) كلام مستأنف لبيان أن كل نفس رهن بما كسبت وكل نفس مبتدأ وبما متعلقان برهينة وجملة كسبت لا محل لها لأنها صلة ما ورهينة خبر وهي مصدر بمعنى رهن كالشتيمة بمعنى الشتم وليست بمعنى مفعول لأنها بغير تاء ولو قصدت الصفة لقيل رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ومنه بيت الحماسة :

أبعد الذي بالنعف نعف كويكب

رهينة رمس ذي تراب وجندل

أأذكر بالبقيا على من أصابني

وبقياي أني جاهد غير مؤتل

والبيتان لزياد بن مسور الحارثي وقيل لعبد الرحمن بن زيد قتل أبوه زياد فعرض عليه فيه سبع ديّات فأبى إلا الثأر ، والاستفهام إنكاري والنعف بالفتح الجبل والمكان المرتفع وقيل ما يستقبلك من الجبل وكويكب جبل بعينه وفي هذا الإبدال من التفصيل بعد الإجمال ما ينبئ عن تفخيم المحل والحال أي أبعد قتل أبي المدفون في ذلك الموضع حال كونه محتبسا في رمس وقيل رهينة بالجر بدل من الذي فهو اسم ملحق بالجواحد بمعنى الرهن ويقال رمست الشيء رمسا إذا دفنته في التراب فأطلق المصدر وأريد مكانه وهو القبر والجندل الحجارة وكررت همزة الاستفهام في قوله أأذكر توكيدا للأولى لأنها داخلة على هذا الفعل تقديرا أيضا ويحتمل أنها داخلة على مقدّر أي أبعد أبي أفرح بالديّة والبقيا الإبقاء على الشيء أي لا أذكر بين الناس بأني أبقيت على قاتل أبي والحال إن إبقائي عليه كوني جاهدا أو مصمّم العزم على الفتك به غير حالف على ذلك لأني غير محتاج إلى الحلف في تنفيذ أموري أو غير مقصر في الاجتهاد لأن الائتلاء يجيء بمعنى الحلف وبمعنى التقصير (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) إلا أداة استثناء وأصحاب اليمين مستثنى قيل هو متصل لأن الله تعالى جعل تكليف عباده كالدين عليهم ونفوسهم تحت استيلائه وقهره فهي رهينة فمن وفى دينه الذي كلّف به

٢٩٠

خلّص نفسه من عذاب الله تعالى الذي نزل منزلة علامة الرهن وهو أخذه في الدين ومن لم يوف عذّب وقيل هو منقطع إذ المراد بهم الأطفال لأنهم لا أعمال لهم يرتهنون بها وقيل الملائكة (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ) في جنات خبر لمبتدأ محذوف أي هم في جنات والجملة مستأنفة كأنها نشأت جوابا لسؤال نشأ من الاستثناء والتقدير فما شأنهم وحالهم وجملة يتساءلون خبر ثان واختار أبو البقاء أن يكون في جنات حالا من أصحاب اليمين وأن يكون حالا من الضمير في يتساءلون وأن يتعلق بيتساءلون فيكون ظرفا للفعل ومعنى يتساءلون يسأل بعضهم بعضا وعن المجرمين متعلقان بيتساءلون ولا بدّ من تقدير مضاف أي عن حال المجرمين (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) الجملة مقول قول محذوف أي قائلين فجملة القول في محل نصب حال وما اسم استفهام مبتدأ والاستفهام للتوبيخ والتعجب من حالهم وجملة سلككم خبر وفي سقر متعلقان به (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) قالوا فعل وفاعل ولم حرف نفي وقلب وجزم ونك فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون المقدّرة على النون المحذوفة للتخفيف لأنها تحذف من مضارع كان المجزوم إذا لم يله ساكن وقد تقدم نظيره واسم نك ضمير مستتر تقديره نحن ومن المصلّين خبرها (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في إعرابها (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) عطف على ما تقدم وكان واسمها وجملة نخوض خبرها ومع ظرف مكان متعلق بنخوض والخائضين مضاف إليه أي نشرع في الباطل مع الخائضين وهذا تحذير لكل من تسوّل له نفسه أن يسرع في الإجابة عمّا لا يعلمه (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) عطف على ما تقدم أيضا (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) حتى حرف غاية وجر وأتانا اليقين فعل ماض ومفعول به مقدّم وفاعل مؤخر والغاية للأمور الأربعة الآنفة (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) الفاء عاطفة وما نافية وتنفعهم فعل مضارع ومفعول به وشفاعة

٢٩١

الشافعين فاعل والمعنى لا شفاعة لهم وسيأتي المزيد من معناها في باب البلاغة (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) الفاء استئنافية وما اسم استفهام إنكاري في محل رفع مبتدأ ولهم خبر وعن التذكرة متعلقان بمعرضين ومعرضين حال من الضمير المجرور باللام ووهم من جعله حالا من الضمير المستكن في الخبر لأنه عائد على ما وهي عبارة عن شيء وسبب ومعرضين وصف للأشخاص أنفسهم فلا يصحّ كونه وصفا لأسباب الإعراض على القاعدة في أن الحال وصف لصاحبها (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) الجملة حالية من الضمير المستكن في معرضين فهي حال متداخلة وكأن واسمها وحمر خبرها ومستنفرة نعت وقرئ في السبع بكسر الفاء وفتحها فالأول بمعنى نافرة والثاني بمعنى نفرها الأسد أو الصياد (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) الجملة نعت ثان لحمر وفرت فعل ماض والفاعل مستتر يعود على الحمر والتاء تاء التأنيث الساكنة ومن قسورة متعلقان بفرت (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) بل إضراب انتقالي عن محذوف هو جواب الاستفهام السابق كأنه قيل : فلا جواب لهم عن هذا السؤال أي لا سبب لهم في الإعراض بل يريد ، ويريد فعل مضارع مرفوع وكل امرئ فاعل ومنهم نعت وأن وما في حيّزها في موضع نصب مفعول به ويؤتى فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وصحفا مفعول به ثان ومنشرة نعت لصحفا أي منشورة غير مطويّة يقرؤها كلّ من رآها (كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) كلا ردع عن الإرادة وبل إضراب انتقالي لبيان سبب هذا التعنت ولا نافية ويخافون الآخرة فعل مضارع وفاعل ومفعول به (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) كلا ردع عن الإعراض وإن واسمها أي القرآن وتذكرة خبرها (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) الفاء عاطفة ومن شرطية مبتدأ وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ومفعول شاء محذوف تقديره أن يذكره وذكره فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به والجملة جواب الشرط والشرط وجوابه

٢٩٢

خبر المبتدأ (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) الواو عاطفة وما نافية ويذكرون فعل مضارع وفاعل وإلا أداة استثناء وأن يشاء الله المصدر استثناء من أعمّ الأحوال أطلق نفي الذكر ثم استثنى منه حال المشيئة المطلقة وهو مبتدأ وأهل التقوى خبره وأهل المغفرة عطف على أهل التقوى.

البلاغة :

١ ـ في قوله تعالى «فما تنفعهم شفاعة الشافعين» فن تقدم الإلماع إليه وهو «نفي الشيء بإيجابه» وهو أن يثبت المتكلم شيئا في ظاهر كلامه بشرط أن يكون المثبت مستعارا ثم ينفي ما هو من سببه مجازا والمنفي حقيقة في باطن الكلام وقد تحدثنا عنه طويلا في البقرة عند قوله لا يسألون الناس إلحافا وفي غافر عند قوله «ولا شفيع يطاع» وهنا تعريف أكثر إيضاحا وهو أن تذكر كلاما يدل ظاهره أنه نفي لصفة موصوف وهي نفي للموصوف أصلا واعتاد البلاغيون أن يمثلوا له بقول امرئ القيس :

على لاحب لا يهتدى بمناره

إذا سافه العود الديافي جرجرا

فقوله لا يهتدى لمناره أي إن له منارا إلا أنه لا يهتدى به وليس المراد ذلك بل المراد أنه لا منار له يهتدى به وهنا ليس المعنى أنهم يشفع لهم فلا تنفعهم شفاعة من يشفع لهم وإنما المعنى نفي الشفاعة فانتفى النفع أي لا شفاعة شافعين لهم فتنفعهم من باب «على لاحب لا يهتدي بمناره» أي لا منار له فيهتدي به وتخصيصهم بانتفاء شفاعة الشافعين يدل على أنه قد تكون شفاعات ينتفع بها.

٢ ـ في قوله «كأنهم حمر مستنفرة ، فرّت من قسورة» تشبيه مرسل ، شبّههم بالحمر المستنفرة وفي ذلك مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل ولا ترى مثل نفار حمر الوحش واطّرادها في العدو إذا رابها رائب.

٢٩٣

سورة القيامة

مكيّة وآياتها أربعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩))

٢٩٤

اللغة :

(بَنانَهُ) البنان أطراف الأصابع جمع أو اسم جمع لبنانة قولان وفي المختار : «البنانة واحد البنان وهي أطراف الأصابع ويقال بنان مخضّب لأن كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء فإنه يؤنّث ويذكّر».

(بَرِقَ) يبرق من باب دخل برقا وبروقا وبرقانا وبريقا البرق : ظهر والشيء : لمع وتلألأ والسماء : بدا منها البرق والرجل : توعّد وبرق يبرق من باب تعب برقا تحيّر ودهش فلم يبصر وقد قرئ بهما معا.

(خَسَفَ) أظلم وذهب ضوءه.

(وَزَرَ) ملجأ يتحصن به وكل ما التجأت إليه من جبل أو غيره وتخلصت به فهو وزرك.

الإعراب :

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) قال الزمخشري : إدخال لا على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم قال امرؤ القيس :

ولا وأبيك ابنة العامريّ

لا يدّعي القوم أني أفرّ

وإنما كان دخول لا النافية قبل القسم شائعا في لسان العرب لأنه غالبا يكون لردّ دعوى الخصم ونفيها فالتقدير : ولا يحصل ذلك وحق أبيك ، وقال غوية بن سلمى :

ألا نادت أمامة باحتمال

لتحزنني فلا بك ما أبالي

وقال الزمخشري : «وفائدتها توكيد القسم وقالوا إنها صلة مثلها في «لئلا يعلم أهل الكتاب» واعترضوا عليه بأنها إنما تزاد في وسط

٢٩٥

الكلام لا في أوله ، وأجابوا بأن القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض والاعتراض صحيح لأنها لم تقع مزيدة إلا في وسط الكلام ولكن الجواب غير سديد ، ألا ترى إلى امرئ القيس كيف زادها في مستهل قصيدته والوجه أن يقال هي للنفي والمعنى أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له يدلك على ذلك قوله تعالى : «فلا أقسم بمواقع النجوم ، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم» فكأنه بإدخال حرف النفي يقول :إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام يعني أنه يستأهل فوق ذلك وقيل إن لا نفي لكلام وردّ له قبل القسم كأنهم أنكروا البعث فقيل : لا أي ليس الأمر على ما ذكرتم ثم قيل أقسم بيوم القيامة» وقيل هي ردّ لكلامهم حيث أنكروا البعث كأنه قال : ليس الأمر كما ذكرتم أقسم بيوم القيامة ، وهذا قول الفراء وكثير من النحويين. وقد تقدم الكلام عليها في الواقعة فجدّد به عهدا. وأقسم فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره أنا وبيوم القيامة متعلقان بأقسم (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) عطف على الجملة السابقة واللوّامة نعت للنفس أي التي تلوم نفسها في يوم القيامة على ما فرط منها من قصور أو التي لا تزال تلوم نفسها في الدنيا ، وقد روي أنه عليه السّلام قال : «ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلا وتلوم نفسها يوم القيامة إن عملت خيرا قالت : كيف لم أزدد وإن عملت شرّا قالت : ليتني كنت أقصرت عن الشر» وجواب القسم محذوف أي لتبعثنّ دلّ عليه ما بعده وهو : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي ويحسب فعل مضارع مرفوع والإنسان فاعل وأن مخفّفة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولن وما في حيّزها في موضع الخبر والفاصل هنا حرف النفي وأن المخففة وما في حيّزها سادّة مسدّ مفعولي يحسب وعظامه مفعول نجمع للبعث والإحياء. قال النحّاس : وإنما خصّ العظام لأنها قالب الخلق.

(بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) بلى حرف جواب وهو إيجاب لما بعد

٢٩٦

النفي المنسحب عليه الاستفهام وقادرين حال من فاعل الفعل المقدّر المدلول عليه بحرف الجواب أي بلى نجمعها قادرين وهذا هو الوجه ، وقال بعضهم هو منصوب على أنه خبر كان مضمرة أي بلى كنّا قادرين في الابتداء وليس بذاك. وقرئ قادرون رفعا على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي بلى نحن قادرون ، وعلى حرف جر وأن المصدرية وما في حيّزها في تأويل مصدر مجرور بعلى والجار والمجرور متعلقان بقادرين وفاعل نسوّي ضمير مستتر تقديره نحن وبنانه مفعول به. وعند سيبويه تنتصب قادرين بفعل مقدّر تقديره نجمعها قادرين. (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) بل حرف عطف للإضراب الانتقالي ويريد معطوف على أيحسب فيجوز أن يكون مثله استفهاما وأن يكون إيجابا ويجوز أن تكون بل لمجرد الإضراب الانتقالي من غير عطف كأنه أضرب عن الكلام الأول وأخذ في آخر ، ويريد الإنسان فعل مضارع وفاعل ومفعول يريد محذوف والمعنى بل يريد الإنسان الثبات والديمومة على ما هو عليه من عدم التقيد بقيد الإيمان ليسترسل على فجوره ويدوم على غيّه واللام للتعليل ويفجر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الإنسان وأمامه ظرف مكان استعير للزمان أي ليستمر في فجوره ويدوم عليه فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه ولا يتنصّل منه ولام التعليل متعلقة بيريد ، وأعربه الجلال وغيره على وجه آخر خلاصته أن اللام زائدة ويفجر منصوب بأن مقدرة والمصدر المنسبك منه ومن أن مفعول يريد ولا داعي لزيادة اللام فالوجه الأول هو الصحيح (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) الجملة في موضع نصب على الحال أي يريد أن يستمر في فجوره في حال كونه سائلا على سبيل الاستهزاء أيان يوم القيامة وقيل مستأنفة وقال أبو البقاء تفسير ليفجر فتكون مفسّرة مستأنفة أو بدلا من الجملة قبلها لأن التفسير يكون بالاستئناف وبالبدل وأيان اسم استفهام في محل نصب على الظرفية

٢٩٧

الزمانية وهو متعلق بمحذوف في محل رفع خبر مقدّم ويوم القيامة مبتدأ مؤخر (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) الفاء استئنافية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بالجواب وهو يقول وجملة برق البصر جملة فعلية في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) عطف على برق البصر وهو فعل ماض وفاعل (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) عطف أيضا داخل في حيز فعل الشرط وجمعهما من آيات الله الكبرى (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) جملة يقول الإنسان لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ويوم ظرف أضيف إلى مثله وهو متعلق بيقول والتنوين عوض عن جملة أي يوم إذ برق البصر إلخ وأين اسم استفهام في محل نصب ظرف مكان والظرف متعلق بمحذوف في محل رفع خبر مقدم والمفر مبتدأ مؤخر والمفر مصدر ميمي بمعنى الفرار او اسم مكان للفرار والأول مفتوح الفاء والثاني مكسورها وقد قرئ بهما (كَلَّا لا وَزَرَ) كلا حرف ردع وزجر عن طلب الفرار ولا نافية للجنس ووزر اسمها المبني على الفتح وخبرها محذوف أي موجود متاح لهم (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) إلى ربك خبر مقدم ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله وهو متعلق بفعل مقدّر دلّ عليه المستقر أي يستقر الأمر إلى ربك يوم إذ كانت هذه الأمور المذكورة ولا يجوز أن يتعلق بالمستقر لأنه إن كان مصدرا فلتقدمه وإن كان مكانا فلا عمل له البتّة ، والمستقر مبتدأ مؤخر (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) الجملة تفسيرية مستأنفة كما تقدم وينبأ فعل مضارع مبني للمجهول والإنسان نائب فاعل ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بينبأ وبما في موضع المفعول الثاني وجملة قدّم وأخّر المعطوفة عليها لا محل لها لأنها صلة ما أي يخبر الإنسان يوم إذ كانت هذه الأمور الثلاثة وهي برق البصر وخسف القمر والجمع بين الشمس والقمر بما قدّم من عمل عمله وبما أخّر منه لم يعمله (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) بل حرف عطف وإضراب انتقالي والإنسان مبتدأ وعلى نفسه متعلقان ببصيرة وبصيره

٢٩٨

يجوز فيها أن تكون خبرا للإنسان وهو الأرجح والمعنى بل الإنسان بصيرة على نفسه وعلى هذا يرد السؤال الآتي : لما ذا أنّث الخبر؟ وقد اختلف النحاة في الإجابة فقال بعضهم الهاء فيه ليست للتأنيث بل للمبالغة وقال الأخفش : هو كقولك فلان عبرة وحجّة وقيل : المراد بالإنسان الجوارح فكأنه قال : بل جوارحه بصيرة أي شاهدة ويجوز أن تكون بصيرة مبتدأ مؤخرا وعلى نفسه خبرا مقدما والجملة خبر عن الإنسان وعلى هذا تكون بصيرة صفة لمحذوف أي عين بصيرة أو جوارح والتاء على هذا الوجه للتأنيث وإلى هذا ذهب الزمخشري فقال : «بصيرة : حجة بيّنة وصفت بالبصارة على المجاز كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله : فلما جاءتهم آياتنا مبصرة ، أو لأعين بصيرة» ويجوز أن يكون على نفسه خبرا وبصيرة فاعل به والأصل في الإخبار الإفراد والأوجه الثلاثة متساوية في القوة والأرجحية. (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) الواو حالية من الفاعل المستكن في بصيرة ولو شرطية وألقى فعل ماض وهو فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره هو ومعاذيره مفعول به وجواب الشرط محذوف أي ما ساغت وما قبلت والمعاذير جمع معذرة على غير قياس كملاقيح ومذاكير جمع لقحة وذكر ، وللنحويين في هذا ونحوه قولان : أحدهما أنه جمع للملفوظ به وهو لقحة والثاني أنه جمع لغير بملفوظ به بل مقدّر أي ملقحة ومذكار قال الزمخشري : «فإن قلت أليس قياس المعذرة أن يجمع على معاذر معاذير؟ قلت المعاذير ليست جمع معذرة بل اسم جمع لها ونحوه المناكير في المنكر» وقال أبو حيان معقبا : «وليس هذا البناء من أبنية اسم الجموع وإنما هو من أبنية جمع التكسير فهو كمذاكير وملاميح والمفرد منهما لمحة وذكر ولم يذهب أحد إلى أنهما من أسماء الجموع وقيل هما جمع للمحة وذكر على غير قياس أو هما جمع لمفرد لم ينطق به وهو مذكار وملمحة» (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ

٢٩٩

بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) الجملة مقول قول محذوف مستأنف ولا ناهية وتحرك فعل مضارع مجزوم بلا وبه متعلقان بتحرك ولسانك مفعول به واللام لام التعليل وتعجل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل واللام وما في حيّزها متعلقة بتحرك وبه متعلقان بتعجل والضمير للقرآن أي بقراءته وحفظه على عجلة لئلا يفلت منك ، ثم علّل النهي عن العجلة بقوله : إن علينا جمعه. وإن وخبرها المقدّم واسمها المؤخر وقرآنه عطف على جمعه (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) الفاء عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملته قرأناه في محل جر بإضافة الظرف إليها والفاء رابطة لجواب إذا واتبع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وقرآنه مفعول به أي فكن مقفيا فيه ولا تراسله وطامن نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وإن حرف مشبه بالفعل وعلينا خبر إن المقدّم وبيانه اسم إن المؤخر.

البلاغة :

في قوله : «لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوّامة» فن «صحة الأقسام» وسمّاه صاحب المثل السائر «التناسب بين المعاني» وقد مرّت أمثلة كثيرة منه في هذا الكتاب كما تحدّثنا عنه بإسهاب والآية التي نحن بصددها تعدّ من محاسن التقسيم لتناسب الأمرين المقسم بهما ، فقد أقسم بيوم البعث أولا ثم أقسم بالنفوس المجزية فيه على حقيقة البعث والجزاء ، فسبحان المتكلم بهذا الكلام.

(كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))

٣٠٠