إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١٠

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١٠

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٩

وسلافة الخمر أول ما يعصر من العنب وقال آخرون : الزنجبيل : نبات له عروق تسري في الأرض ويتولد فيها عقد حريفة الطعم وتتفرع هذه العروق من نبت كالقصب.

(سَلْسَبِيلاً) السلسبيل : ما سهل انحداره في الحلق وقال الزجّاج :«هو في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة» وقال الزمخشري : «يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية ودلّت على غاية السلاسة» وقال ابن الأعرابي :«لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن» وقال مكّي : «هو اسم أعجمي نكرة فلذلك صرف» ووزن سلسبيل مثل دردبيس وقيل فعفليل لأن الفاء مكررة وقرأ طلحة سلسبيل دون تنوين ومنعت من الصرف للعلمية والتأنيث لأنها اسم لعين بعينها وعلى هذا فكيف صرفت في قراءة العامة ويجاب بأنها سمّيت بذلك لا على جهة العلمية بل على جهة الإطلاق المجرد أو يكون من باب تنوين سلاسل وقوارير كما تقدم وكما سيأتي.

(سُندُسٍ) السندس ما رقّ من الحرير ويكون أخضر وغير أخضر.

(إِسْتَبْرَقٌ) الإستبرق : ما غلظ من الديباج فهو البطائن والسندس الظهائر.

الإعراب :

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) متكئين حال من مفعول جزاهم ووهم أبو البقاء فأجاز أن تكون صفة لجنة ولا أدري كيف سبق هذا إلى وهمه وازداد عجبي عند ما رأيت الزمخشري يجيز ذلك قال : «ويجوز أن تجعل متكئين ولا يرون ودانية كلها صفات لجنة» وذلك مردود لعدم بروز الضمير ليكون نعتا سببيا فلم

٣٢١

يقل متكئين هم فيها وفيها حال أي في الجنة وعلى الأرائك متعلقان بمتكئين وجملة لا يرون حال ثانية من مفعول جزاهم ولك أن تجعلها حالا من الضمير في متكئين فتكون حالا متداخلة كما يجوز لك أن تجعلها صفة لجنة كما قرر أبو البقاء والزمخشري وفيها متعلقان بيرون وشمسا مفعول ولا زمهريرا عطف على شمسا (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) عطف على متكئين فيكون فيها ما فيها ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين يجتمعان لهم كأنه قيل وجزاهم جنة جامعين فيها بين السلامة من الحرّ والقرّ وبين دنو الظلال عليهم ولك أن تجعلها منصوبة عطفا على محل لا يرون وقال الزجّاج صفة لجنة الملفوظ بها أما أبو البقاء فأغرب إذ أعربها صفة لجنة محذوفة أي وجنة دانية وهو تكلّف وتحكم لا مبرر لهما. وعليهم متعلقان بدانية ، ولا بدّ من تضمين على معنى من لأن الدنو لا يتعدى بعلى وإنما لم يقل منهم لأن الظلال عالية عليهم ، والواو عاطفة وذللت فعل ماض مبني للمجهول وعطف على دانية وإنما خولف بعطف الفعلية على الاسمية للإشارة إلى أن التظليل أمر دائم لا يزول لأنها لا شمس فيها بخلاف التذليل فإنه أمر متجدد طارئ ، وقطوفها نائب فاعل وتذليلا مفعول مطلق (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا) الواو عاطفة ويطاف فعل مضارع مبني للمجهول وعليهم متعلقان بيطاف وبآنية نائب مفعول لأنه هو المفعول به في المعنى ويجوز أن تكون عليهم هي النائبة وبآنية متعلقان بيطاف والآنية جمع إناء والأصل أأنية بهمزتين الأولى مزيدة للجمع والثانية فاء الكلمة فقلبت الثانية ألفا وجوبا وهذا نظير كساء وأكسية وغطاء وأغطية ، ونظيره في الصحيح اللام حمار وأحمرة.

ومن فضة نعت لآنية وأكواب عطف على آنية من عطف الخاص على العام وجملة كانت نعت لأكواب واسم كانت مستتر يعود على الأكواب وقواريرا خبر كانت ويجوز أن تكون كانت تامة فيكون قواريرا حالا أي

٣٢٢

كونت ، وعبارة أبي البقاء : «ويقرأان بالتنوين وبغير التنوين والأكثرون يقفون على الأول بالألف لأنه رأس آية (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً) قوارير بدل من قواريرا الأولى وقد منعت من الصرف ومن فضة نعت لقوارير وجملة قدّرت نعت ثان وتقديرا مفعول مطلق وقرئ قوارير بالرفع على إضمار مبتدأ أي هي قوارير ومعنى التقدير أنها هيئت على قدر ريّ الشاربين أي شهوتهم لأنه لا ظمأ في الجنة من غير زيادة ولا نقص وذلك ألذ الشراب (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) الواو عاطفة ويسقون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وفيها متعلقان بيسقون وكأسا مفعول به ثان وجملة كان صفة لكأسا ومزاجها اسم كان وزنجبيلا خبرها (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) عينا بدل من زنجبيلا وقيل تمزج كأسهم بالزنجبيل بعينه أو يخلق الله طعمه فيها وعينا على هذا القول مبدلة من كأسا أو منصوبة على الاختصاص ولعلّ هذا هو الأرجح وعلى كل حال تطبق عليها الأوجه المطبقة على عينا الأولى وفيها نعت لعينا وجملة تسمى نعت ثان ونائب الفاعل مستتر تقديره هي وسلسبيلا مفعول به ثان (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) الواو عاطفة ويطوف فعل مضارع وعليهم متعلقان بيطوف وولدان فاعل ومخلدون نعت لولدان وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة رأيتهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة حسبتهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وحسبتهم فعل ماض وفاعل ومفعول به ولؤلؤا مفعول به ثان ومنثورا نعت أي متفرقا ، وفي المصباح «نثرته نثرا من بابي قتل وضرب رميت به متفرقا فانتثر» (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط وجملة رأيت في محل جر بإضافة الظرف إليه ورأيت فعل وفاعل وليس له مفعول ظاهر ولا مقدّر لإشاعة الرؤية وتعميمها كأنه قيل : وإذا أوجدت الرؤية ثم ، وثم ظرف مكان مختص

٣٢٣

بالعبد متعلق بثم والمعنى وإذا صدرت منك الرؤية في ذلك المكان رأيت وجملة رأيت لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ونعيما مفعول رأيت الثانية وملكا كبيرا عطف على نعيما وقال الفراء ثم مفعول به لرأيت والتقدير وإذا رأيت ما ثم فحذفت ما وقامت ثم مقامها ولا داعي لهذا التكلّف (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) عاليهم : في إعرابه وجهان أحدهما أنه ظرف مكان لأنه بمعنى فوقهم وقد اعترض أبو حيان على هذا الإعراب فقال : «وعال وعالية اسم فاعل فيحتاج في كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولا من كلام العرب عاليك أو عاليتك ثوب» وهذا اعتراض مردود لأنه وردت ألفاظ من صيغ أسماء الفاعلين ظروفا نحو خارج الدار وداخلها وباطنها وظاهرها تقول جلست خارج الدار وكذا البواقي فكذلك هذا وإذا تقرر هذا فإن الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدّم وثياب سندس مبتدأ مؤخر وخضر نعت لثياب وإستبرق عطف على ثياب على حذف مضاف أي ثياب إستبرق وقرئ بجر إستبرق بالعطف على سندس لأن المعنى ثياب من سندس وثياب من إستبرق. والوجه الثاني وهو الذي جرى عليه الأكثرون أنه حال من الضمير في يطوف عليهم أو من مفعول حسبتهم أو من مضاف مقدّر أي رأيت أهل نعيم وملك كبير عاليهم ، فعاليهم حال من أهل المقدّر ، وقد ذكر الزمخشري هذا القول وعبارته : «وعاليهم بالنصب على أنه حال من الضمير في يطوف عليهم أو في حسبتهم أي يطوف عليهم ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب أو حسبتهم لؤلؤا عاليا لهم ثياب ويجوز أن يراد أهل نعيم» وقرئ عاليهم بسكون الياء وكسر الهاء على أنها خبر مقدّم وثياب مبتدأ مؤخر كأنه قيل فوقهم ثياب. أما نص إعراب أبي البقاء فهو «قوله تعالى : عاليهم فيه قولان أحدهما هو فاعل وانتصب على الحال من المجرور في عليهم وثياب سندس مرفوع به أي يطوف عليهم في حال علو السندس ولم يؤنث عاليهم لأن تأنيث الثياب غير حقيقي

٣٢٤

والقول الثاني هو ظرف لأن عاليهم جلودهم وفي هذا القول ضعف ويقرأ بسكون الياء إما على تخفيف المفتوح المنقوص أو على الابتداء والخبر ويقرأ عاليتهم بالتاء وهو ظاهر وخضر بالجر صفة لسندس وبالرفع لثياب وإستبرق بالجر عطف على سندس وبالرفع على ثياب». ولا أدري كيف استساغ أبو البقاء أن يستضعف وجه الظرف والخطب فيه أهون من الحال لوروده معرفة مهما قيل في تأويله (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) عطف على ويطوف عليهم وساغ عطف الماضي على المضارع لأنه مستقبل المعنى وللإيذان بتحقيقه وحلّوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل وأساور مفعول به ثان وقيل نصب بنزع الخافض لأنهم يعدّونه إلى واحد ومن فضة نعت لأساور وسقاهم عطف على حلّوا وربهم فاعل وشرابا مفعول به ثان وطهورا نعت لشرابا (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) الجملة مقول قول محذوف أي يقال لأهل الجنة وإن واسمها وجملة كان خبرها ولكم متعلقان بجزاء واسم كان مستتر تقديره هو وجزاء خبرها وكان عطف على كان الأولى وسعيكم اسمها ومشكورا خبرها.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً

٣٢٥

(٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))

الإعراب :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) إن واسمها ونحن ضمير فصل أو تأكيد لاسم إن وجملة نزلنا خبر إنّا وعليك متعلقان بنزلنا والقرآن مفعول به وتنزيلا مفعول مطلق ولك أن تجعل نحن مبتدأ فتكون جملة نزلنا خبر نحن والجملة خبر إن (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذا فاصبر ، واصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولحكم ربك متعلقان باصبر والواو حرف عطف ولا ناهية وتطع فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت ومنهم حال وآثما مفعول به وأو حرف عطف وكفورا عطف على آثما وإنما جنح إلى «أو» دون الواو لإفهام النهي عن طاعتهما معا ولو عطف بالواو لأفهم جواز طاعة أحدهما وليس مرادا وعبارة الزجّاج : «أو هنا أوكد من الواو لأنك لو قلت لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص فإذا أبدلتها بأو فقد دللت على أن كل واحد منهما أهل أن يعصى» وعبارة أبي حيان : «والنهي عن طاعة كل واحد منهما أبلغ من النهي عن طاعتهما لأنه يستلزم النهي عن أحدهما لأن في طاعتهما طاعة أحدهما ولو قال لا تضرب زيدا وعمرا لجاز أن يكون نهيا عن ضربهما جميعا لا عن ضرب أحدهما ، وقال أبو عبيدة «أو» بمعنى الواو والكفور وإن كان آثما فإن فيه مبالغة في الكفر ولما كان وصف الكفور مباينا للموصوف لمجرد الإثم صلح التغاير فحسن العطف» (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) عطف على ما تقدم واذكر فعل أمر واسم ربك

٣٢٦

مفعول به وبكرة وأصيلا ظرفان متعلقان باذكر والمراد الدوام على الصلاة في أوقاتها (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) ومن الليل متعلقان باسجد ومعنى من التبعيض أي اسجد وصل له بعض الليل ، واسجد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وله متعلقان باسجد أيضا وسبّحه فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وليلا ظرف متعلق بسبّحه وطويلا نعت (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) الجملة تعليل لما قبلها من النهي والأمر وعبارة الشهاب الخفاجي : «هذا التعليل لما قبله من النهي والأمر في قوله ولا تطع إلى هنا فكأنه قال : لا تطعهم واشتغل بالأهمّ من العبادة لأن هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا فاترك أنت الدنيا وأهلها للآخرة فالأول علّة للنهي عن طاعة الآثم والكفور والثاني علّة للأمر بالطاعة ، وإن حرف مشبّه بالفعل وهؤلاء اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب اسمها وجملة يحبون خبرها والعاجلة مفعول به ويذرون عطف على يحبون ووراءهم ظرف مكان بمعنى قدّام متعلق بمحذوف حال من المفعول مقدم عليه ويوما مفعول به وثقيلا ظرف ، وسيأتي معنى الثقل في باب البلاغة (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) نحن مبتدأ وجملة خلقناهم خبر وشددنا عطف على خلقناهم وأسرهم مفعول به أي قوينا أسرهم والأسر كما في القاموس «الشدة والغضب وشدة الخلق والخلق وشددنا أسرهم أي مفاصلهم» وفي المختار : «أسره من باب ضرب أي شدّه بالإسار بوزن الإزار وهو القدّ بالكسر وهو سير يقدّ من جلد غير مدبوغ ومنه سمي الأسير لأنهم كانوا يشدّونه بالقدّ فسمي كل مأخوذ أسيرا وإن لم يشدّ به وأسره الله خلقه وبابه ضرب ومنه : وشددنا أسرهم أي خلقهم والأسر بالضم احتباس البول كالحصر في الغائط وأسرة الرجل أهله لأنه يتقوى بهم» (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة شئنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة بدّلنا لا محل لها لأنها جواب شرط غير

٣٢٧

جازم وأمثالهم مفعول به وتبديلا مفعول مطلق ، ومفعول بدّلنا الثاني لأنها بمعنى جعلنا محذوف تقديره بدلا منهم. هذا وقد تورط الزمخشري ورطة كان له مندوحة عنها ذلك أنه قال «وحقه أن يؤتى بإن لا بإذا كقوله : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ، إن يشأ يذهبكم» ولم يعقب على ذلك بشيء فأوهم أنه يعني ورود القرآن في تعبيره بإذا على خلاف الحق والواقع أن إذا وإن تتعاوران فقد قالوا : إن إذا للمحقق وإن للممكن وهو تعالى لم يشأ فالظاهر أن تستعمل إن لكنه قد توضع إذا موضع إن وإن موضع إذا كقوله : أفإن متّ فهم الخالدون (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) إن واسمها والإشارة إلى السورة وتذكرة خبرها والفاء عاطفة ومن شرطية مبتدأ وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ومفعول شاء محذوف أي الخير لنفسه وحسن العاقبة واتخذ فعل ماض في محل جزم جواب الشرط وإلى ربه في موضع المفعول الثاني وسبيلا مفعول اتخذ الأول (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) الواو عاطفة وما نافية وتشاءون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والمفعول به محذوف أي الطاعة وإلا أداة حصر وأن يشاء الله المصدر المؤول في موضع نصب على الظرفية لأنه استثناء من أعمّ الظروف وأصله إلا وقت مشيئة الله وأجاز أبو البقاء أن يكون الاستثناء من أعمّ الأحوال فيكون المصدر حالا وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر وعليما خبرها الأول وحكيما خبرها الثاني (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) الجملة حالية من الله ويدخل فعل مضارع مرفوع وفاعله هو ومن مفعول به وجملة يشاء صلة من وفي رحمته متعلقان بيدخل ، والظالمين : الواو عاطفة والظالمين منصوب بفعل مقدّر يفسّره ما بعده وقدّره أبو البقاء :ويعذب الظالمين ، وجملة أعدّ مفسّرة ولهم متعلقان بأعدّ وعذابا مفعول به وأليما نعت.

٣٢٨

البلاغة :

في قوله «يوما ثقيلا» استعارة تصريحية ، فقد استعير الثقل لشدة ذلك اليوم وهوله من الشيء الثقيل الباهظ لحامله ونحوه ثقلت في السموات والأرض.

خطأ وقياس في غير محله :

هذا ومن المضحك أن بعضهم علّق على قوله «وسبّحه ليلا طويلا» فقال هذه الآية رد على عدم ما قاله أهل علم المعاني والبيان إن الجمع بين الحاء والهاء مثلا يخرج الكلمة من فصاحتها وجعلوا من ذلك قول أبي تمام :

كريم متى أمدحه أمدحه والورى

معي وإذا ما لمته لمته وحدي

وهذا خطأ من الناقد الذي ظن أنه يبرئ القرآن الكريم من العيوب المخلّة بالفصاحة بشجبه لما قرره علماء البلاغة وقياس في غير محله فالفرق واضح بين الآية والشعر وهو أن تكرار أمدحه هو الذي أخرجه عن مهيع الفصاحة لا مجرد اجتماع الحاء والهاء ، وإذن فالآية سليمة من تنافر الحروف قال الشيخ مخلوف الميناوي في حاشيته على شرح الشيخ أحمد الدمنهوري لمتن الإمام الأخضري : «فإن منشأ الثقل هو تكرار أمدحه دون مجرد الجمع لوقوعه بين الحاء والهاء في التنزيل نحو فسبّحه».

الفوائد :

«إن» و «إذا» يشتركان في إفادة تعليق حصول الجزاء في المستقبل

٣٢٩

بحصول الشرط فيه ، لكن أصل إن ، أي موضع استعمالها الحقيقي ، الشك في وقوع الشرط ، قيل والتوهم وقيل وكذا المظنون. وأصل إذا الجزم بوقوعه ، ولا تستعمل إن في غير الشك وإذا في غير الجزم إلا لنكتة ، كما أنهما لا يدخلان على ماض من شرط أو جزاء إلا لنكتة ولو لتعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشرط.

٣٣٠

سورة المرسلات

مكيّة وآياتها خمسون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩))

الإعراب :

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) قال أبو حيان في النهر : «هذه السورة مكية

٣٣١

ومناسبتها لما قبلها ظاهرة جدا وهي أنه ذكر أنه تعالى يرحم من يشاء ويعذب الظالمين وهذا وعد منه صادق فأقسم على وقوعه فقال إن ما توعدون لواقع ولما كان للمقسم به موصوفات قد حذفت وأقيمت صفاتها مقامها وقع الخلاف في تلك الموصوفات والذي يظهر أن المقسم به شيئان ولذلك جاء العطف بالواو في والناشرات والعطف بالواو يشعر بالتغاير وأما العطف بالفاء إذا كان في الصفات فيدل على أنها راجعة لموصوف واحد وإذا تقرر هذا فالظاهر أنه أقسم أولا بالرياح ويدل عليه عطف الصفة بالفاء والقسم الثاني فيه ترق إلى أشرف من المقسم به الأول وهم الملائكة ويكون قوله فالفارقات فالملقيات من صفاتهم وإلقاؤهم للذكر وهو ما أنزل الله تعالى صحيح إسناده إليهم وما ذكر من اختلاف المفسرين في المراد بهذه الأوصاف ينبغي أن يحمل على التمثيل لا على التعيين وجواب القسم وما عطف عليه إن ما توعدون وما موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه وهي اسم إن وقوله لواقع خبرها» وقد وطأنا بهذه اللمحة المفيدة جلاء للحقيقة ودفعا للالتباس الذي قد ينشأ عن اختلاف المفسرين ونعود بعدها إلى الإعراب. الواو للقسم والمرسلات مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم ، وعرفا إما أن يكون من عرف الفرس وهو بضم العين أي شعر العنق للفرس فيعرب حالا من الضمير المستكن في المرسلات والمعنى على التشبيه أي حال كونها عرفا أي شبيهة بعرف الفرس من حيث تلاحقها وتتابعها كما أنه كذلك أو على أنه مصدر كأنه قال والمرسلات إرسالا أي متتابعة ، وإما أن يكون من العرف وهو المعروف على حدّ قول الحطيئة :

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه

لا يذهب العرف بين الله والناس

وانتصابه على أنه مفعول من أجله أي أرسلت للإحسان والمعروف

٣٣٢

أو منصوب بنزع الخافض (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) الفاء عاطفة للتعقيب والعاصفات عطف على المرسلات وهي اسم فاعل من العصف بمعنى الشدّة وفي المصباح : «عصفت الريح عصفا من باب ضرب وعصوفا أيضا اشتدت» وعصفا مصدر مؤكد فهو مفعول مطلق (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) والناشرات عطف أيضا ونشرا مفعول مطلق ، فالفارقات عطف أيضا وفرقا مفعول مطلق فالملقيات عطف أيضا وذكرا مفعول به للملقيات أي للملائكة تنزل بالوحي إلى الأنبياء (عُذْراً أَوْ نُذْراً) هما مصدران من عذر إذا محا الإساءة ومن أنذر إذا خوف على الكفر كالكفر والشكر ، وهما منصوبان على أنهما مفعول من أجله ، وأجاز الزمخشري أن ينتصبا على البدل من ذكرا ، وعبارة أبي البقاء :«وفي عذرا أو نذرا وجهان أحدهما : هما مصدران يسكن أوسطهما ويضم والثاني هما جمع عذير ونذير فعلى الأول ينتصبان على المفعول له أو على البدل من ذكرا وعلى الثاني هما حالان من الضمير في الملقيات أي معذرين ومنذرين» (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وإن حرف مشبّه بالفعل وما اسم موصول اسم إن وجملة توعدون صلة واللام المزحلقة وواقع خبر إن والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) الفاء استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط والنجوم نائب فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده وجملة طمست مفسّرة لا محل لها وفي جواب إذا قولان : أحدهما أنه محذوف تقديره فإذا طمست النجوم وقع ما توعدون لدلالة قوله إنما توعدون لواقع والثاني أنه لأي يوم أجلت على إضمار القول أي يقال لأي يوم أجلت فالفعل في الحقيقة هو الجواب ، ومعنى طمست محيت ومحقت وذهب نورها (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) جمل معطوفة على جملة فإذا النجوم طمست ومعنى فرجت فتحت فكانت أبوابا ومعنى نسفت تفتتت كالرمل السائل ثم

٣٣٣

يطيرها الريح ، وفي المصباح «نسفت الريح التراب نسفا من باب ضرب اقتلعته وفرقته» ومعنى أقتت وقتت وقد قرئ بهما أي جمعت لوقت معلوم قال الزجاج المراد بهذا التأقيت أو التوقيت تبيين الوقت الذي فيه يحضرون للشهادة على أممهم والواو إذا انضمت جاز جعلها همزة ، وقال المبرد في كامله «قال الله عزّ وجلّ : وإذا الرسل أقتت والأصل وقتت ولو كان في غير القرآن لجاز إظهار الواو إن شئت» (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ) لأي يوم متعلق بأجلت أي أجلت لأي يوم والجملة مقول قول محذوف في محل نصب على الحال من مرفوع أقتت أي يقال لأي يوم أجلت أو لا محل لها لأنها جواب إذا كما تقدم وليوم الفصل بدل من لأي يوم بإعادة العامل ولك أن تعلقه بفعل محذوف أي أجلت ليوم الفصل (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) الواو عاطفة وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة أدراك خبرها والكاف مفعول به أول وقوله ما يوم الفصل جملة من مبتدأ وهو ما الاستفهامية وخبر وهو يوم الفصل سادّة مسدّ المفعول الثاني لإدراك المعلقة بالاستفهام والاستفهام الأول معناه الاستبعاد والإنكار والثاني للتعظيم والتهويل (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ويل مبتدأ سوّغ الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء ، وعبارة الزمخشري : «فإن قلت كيف وقع النكرة مبتدأ في قوله ويل يومئذ للمكذبين؟ قلت هو في أصله مصدر منصوب سادّ مسدّ فعله ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على ثبات معنى الهلاك ودوامه للمدعوّ عليهم ، ونحوه سلام عليكم ويجوز ويلا بالنصب ولكنه لم يقرأ به» ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله وهو متعلق بويل أو صفة له والتنوين عوض عن جمل محذوفة تقتبس من السياق والتقدير يوم إذ طمست نجوم وكان ما بعدها ، وللمكذبين خبر ويل (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) الهمزة للاستفهام التقريري لأن الاستفهام في الأصل إنكاري وقد دخل على نفي ونفي النفي إثبات ويعبّر عنه بالاستفهام التقريري

٣٣٤

ولم حرف نفي وقلب وجزم ونهلك فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره نحن والأولين مفعول به وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ونتبعهم فعل مضارع مرفوع استئنافا أي ثم نحن نتبعهم والآخرين مفعول به ثان (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الفعل الفظيع نفعل وبالمجرمين متعلقان بنفعل وويل يومئذ للمكذبين تقدم إعرابها وسيأتي سر تكرارها في باب البلاغة.

البلاغة :

تكررت آية «ويل يومئذ للمكذبين» في هذه السورة عشر مرات والسر فيها زيادة الترهيب ، والتكرار في مقام الترغيب والترهيب مستساغ حسن لا سيما إذا تغايرت الآيات السابقات على المرات المكررة كما هنا.

الفوائد :

لا يجوز عطف «نتبعهم» على «نهلك» لأن العطف يوجب أن يكون أهلكنا الأولين لأن لم حرف نفي وقلب وجزم فيكون المعنى ثم أتبعناهم الآخرين في الهلاك وليس الأمر كذلك لأن هلاك الآخرين لم يقع بعد.

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ

٣٣٥

الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤))

اللغة :

(فَقَدَرْنا) بالتخفيف من القدرة وقرئ بالتشديد من التقدير ويدل على الأول فنعم القادرون وفي القرطبي : «قرأ نافع والكسائي فقدرنا بالتشديد وخفّف الباقون وهما لغتان بمعنى فقدرنا بالتخفيف» وفي المصباح «قدرت الشيء قدرا من بابي ضرب وقتل وقدّرته تقديرا بمعنى والاسم القدر بفتحتين» وقوله فاقدروا له أي قدروا عدد الشهر فكملوا شعبان ثلاثين يوما.

(كِفاتاً) قال الجلال «مصدر كفت بمعنى ضم» قال في القاموس :«كفته يكفته صرفه عن وجهه فانكفت والشيء إليه ضمّه وقبضه ككفّته والطائر وغيره كفتا وكفاتا وكفيتا وكفتانا أسرع في الطيران والعدو» فهل كانت كفاتا مصدر كفت بمعنى ضم المتعدية أم مصدر كفت الطائر اللازمة؟! إن كلام صاحب القاموس موهم ، وقال في القاموس بعد ذلك : «والكفات بالكسر الموضع يكفت فيه الشيء أي يضم ويجمع والأرض كفات لنا» وعلى هذا جرى الزمخشري وأبو حيان ، وقد ردّ

٣٣٦

المفسرون على الجلال لأن كفت من باب ضرب فالحق أنه اسم مكان وفي المختار : «كفته ضمّه إليه وبابه ضرب والكفات بالكسر الموضع الذي يكفت فيه شيء أي يضم ويجمع والأرض كفات لنا» وعبارة السمين «الكفات اسم للوعاء الذي يكفت فيه الشيء أي يجمع يقال كفته يكفته أي جمعه وضمه» إلى أن قال : «وقيل كفاتا جمع كافت كصيام وقيام في جمع صائم وقائم وقيل بل هو مصدر كالكتاب والحساب» وسيأتي مزيد من هذا التقرير في باب الإعراب.

(كَالْقَصْرِ) من البناء في عظمه وارتفاعه.

(جِمالَتٌ) بكسر الجيم جمع جمل والتاء لتأنيث الجمع يقال جمل وجمال وجمالة نحو ذكر وذكار وذكارة وحجر وحجار وحجارة وقيل هو اسم جمع كالذكارة والحجارة وقرئ جمالات ويجوز أن يكون جمعا لجمالة وأن يكون جمعا لجمال فيكون جمع الجمع ويجوز أن يكون جمعا لجمل كقوله : رجالات قريش ، وسيأتي مزيد من هذا التقرير في باب البلاغة.

الإعراب :

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ونخلقكم فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به ومن ماء متعلقان بنخلقكم ومهين نعت لماء ومن الابتدائية إشارة إلى أنه تعالى قادر على الابتداء والقادر على الابتداء قادر على الإعادة (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) الفاء عاطفة وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به وفي قرار في موضع المفعول الثاني ومكين نعت لقرار أي مكان يحفظ فيه المني من الآفات المفسدة له

٣٣٧

كالهواء ، والقرار هو الرحم (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) إلى قدر الجار والمجرور في موضع الحال أي مؤخرا إلى قدر معلوم ، ومعلوم نعت لقدر (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) الفاء عاطفة وقدرنا فعل وفاعل والفاء عاطفة ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح والقادرون فاعل والمخصوص بالمدح محذوف أي نحن (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ونجعل فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره نحن والأرض مفعول به أول وكفاتا مفعول به ثان لنجعل لأنها للتصيير وأحياء وأمواتا منصوبان على أنهما مفعولان به لكفاتا إن تقرر أن كفاتا مصدر ، أو جمع كافت لأنه اسم فاعل ، وإن لم يكن مصدرا بل اسم موضع فيكون نصبهما بفعل مضمر يدل عليه كفاتا تقديره تكفت والمعنى تكفت أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها وعبارة أبي حيان :«وانتصب أحياء وأمواتا بفعل يدل عليه ما قبله أي يكفت أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها» وقال الزمخشري «ويجوز أن يكون المعنى تكفتكم أحياء وأمواتا فينتصبا على الحال من الضمير لأنه قد علم أنها كفات الإنس» (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) الواو حرف عطف وجعلنا فعل وفاعل وفيها متعلقان بجعلنا إن كانت بمعنى خلقنا وفي موضع المفعول الثاني إن كانت جعلنا بمعنى صيّرنا ورواسي مفعول جعلنا وشامخات صفة لرواسي وأسقيناكم عطف على جعلنا وماء مفعول به ثان وفراتا نعت لماء ، والفرات العذب (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) الجملة مقول قول محذوف مستأنف وانطلقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإلى ما متعلقان بانطلقوا وجملة كنتم لا محل لها لأنها صلة ما وكان واسمها وبه متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم والعائد الضمير في به (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) انطلقوا توكيد لانطلقوا الأول

٣٣٨

وإلى ظل متعلقان بانطلقوا وذي ثلاث شعب نعت لظل ، وسيأتي مزيد من هذا المعنى في باب البلاغة (لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) لا نافية وظليل نعت منفي لأن الظل لا يكون إلا ظليلا فنفيه عنه للدلالة على أنه جعله ظلا تهكما بهم وسخرية منهم ، ولا يغني من اللهب عطف على المنفي ، ويغني فعل مضارع وفاعله هو الظل ومن اللهب متعلقان بيغني والجملة في محل جر أي غير مغن عنهم من حرّ اللهب شيئا (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) الجملة بمثابة التعليل لعدم غناء الظل غير الظليل وإن واسمها والضمير يعود إلى جهنم لأن الحديث عنها وجملة ترمي خبر إن وبشرر متعلقان بترمي والشرر ما تطاير منها تقول : نار ذات شرار وشرر وطارت منها شرارة وشررة ، وكالقصر نعت لشرر أي كل شررة كالقصر من القصور في عظمها ، وسيأتي المزيد من هذا التشبيه في باب البلاغة (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) الجملة نعت ثان لشرر وكأن واسمها وجمالة خبرها وصفر نعت لجمالة (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها.

البلاغة :

١ ـ في قوله «أحياء وأمواتا» التنكير ، فقد نكرهما مع أنها تكفت الأحياء والأموات جميعا للتفخيم كأنه قيل أحياء لا يعدّون وأمواتا لا يحصون على أن أحياء الإنس وأمواتهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات.

٢ ـ ونكر رواسي شامخات وماء فراتا لإفادة التبعيض لأن في السماء جبالا قال الله تعالى : «وينزل من السماء من جبال فيها من برد» وفيها ماء فرات كثير بل هي منبعه ومصبّه.

٣ ـ وفي قوله : «انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ، لا ظليل ولا يغني من اللهب» فن طريف من فنون البلاغة أطلق عليه الأقدمون اسم

٣٣٩

«العنوان» وقد تقدمت الإشارة إليه في هذا الكتاب وأنه عبارة عن أن يأخذ المتكلم في غرض له من وصف أو فخر أو مدح أو عتاب أو هجاء أو غير ذلك من الفنون ثم يأتي بقصد تكميله بأمثلة من ألفاظ تكون عنوانا لأخبار متقدمة وقصص سالفة ، ومن نوع عظيم جدا وهو ما يكون عنوانا للعلوم وذلك أن تذكر في الكلام ألفاظ تكون بمثابة مفاتيح لعلوم ومداخل لها ، وهذه الآية التي نحن بصددها من أصدق الدلائل على ذلك فإن قوله : «ظل ذي ثلاث شعب» عنوان للعلم المنسوب إلى إقليدس وهو فيلسوف يوناني وضع كتابا في علم الهيئة والهندسة والحساب ونقله إلى العربية الحجاج بن يوسف الكوفي وعلم الهندسة في الإسكندرية على أيام بطليموس ووضع مبادئ علم الهندسة السطحية وله كتاب الأصول أيضا شرحه ناصر الدين الطوسي وتوفي سنة ٢٨٣ فإن الشكل المثلث أول الأشكال وهو أصلها ومنه تتركب بقية الأشكال وهو شكل إذا نصب في الشمس كيفما نصب على أي ضلع كان من أضلاعه لا يكون له ظل لتحديد رؤوس زواياه ، فأمر الله سبحانه هؤلاء الجهنميين بالانطلاق إلى ظل هذا الشكل تهكما بهم وسخرية منهم.

٤ ـ التشبيه ، فقد شبّه سبحانه الشرر بالقصر في عظمه وكبره وشبّهه ثانيا بالجمالة الصفر في الهيئة واللون والكثرة والتتابع وسرعة الحركة ، وننقل هنا فصلا طريفا للزمخشري ثم نعقب عليه بإيجاز ، قال في الكشاف : «شبّهت بالقصور ثم بالجمال لبيان التشبيه ، ألا تراهم يشبّهون الإبل بالأفدان والمجادل» أي القصور جمع فدن ومجدل وكلاهما بمعنى القصر كما في الصحاح ثم قال : «وقرئ جمالات بالضم وهي قلوس الجسور وقيل قلوس سفن البحر الواحدة جمالة» والقلوس جمع قلس وهو حبل ضخم من قلوس السفن ثم قال :

٣٤٠