إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١٠

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١٠

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٩

نشزا من الأرض ونشزا وأنشازا ، ونشز الشيء ارتفع ونشز عن مكانه ارتفع ونهض وإذا قيل انشزوا فانشزوا وأنشزه رفعه من مكانه» وللنون مع الشين فاء وعينا خاصة عجيبة وهي الدلالة على السرعة والارتفاع يقال :أنشأ الله الخلق فنشئوا وأنشأ قصيدة وشعرا وعمارة وأنشأ يفعل كذا ومن أين نشأت وأنشأت أي نهضت ، ونشب العظم في الحلق والصيد في الحبالة ومخالب الجارح في الأخيذة وتنشب وأنشب فيه مخالبه ورماه بنشابة وتراموا بالنّشّاب والنشاشيب وفي جميع ذلك يبدو معنى السرعة واضحا ونشب الشر والحرب بينهم نشوبا ولم ينشب أن قال بمعنى ما لبث ، ونشج الباكي نشيجا وهو الغصص بالبكاء وارتفاعه وتردده في الصدر ، وأنشدني شعرا إنشادا حسنا لأن المنشد يرفع بالمنشد صوته ، ونشر الثواب والكتاب ونشّر الثياب والكتب وصحف منشّرة وملاء منشّر ونشر الله الموتى نشرا وله نشر طيب وهو ما انتشر وارتفع من رائحته قال المرقش يصف نساء :

النشر مسك والوجوه دنا

نير وأطراف الأكفّ عنم

ونشّ اللحم في المقلاة نشيئا والخمر تنش إذا أخذت تغلي ، ورجل نشيط طيب النفس للعمل مسرع فيه ، ونشع الصبي الدواء وأنشعه أوجره فانتشعه والإسراع ملحوظ فيه وإنه لمنشوع بأكل اللحم إذا كان مشغوفا به ، ونشف الماء بنفسه أسرع في النضوب ، ونشق الظبي في الحبالة نشب فيها وقد مرّ معنى ذلك واستنشقت الريح وتنشقتها قال المتلمس :

فلو أن محموما بخيبر مدنفا

تنشّق رياها لأقلع صالبه

ونشل اللحم من القدر بالمنشل والمنشال وهو حديدة في رأسها

٢١

عقّافة ، ونشّم اللحم أسرع إليه الفساد وأروح قال علقمة :

وقد أصاحب فتيانا طعامهم

خضر المزاد ولحم فيه تنشيم

أي يطعمون الماء المطحلب واللحم المروح ، غلّب فقال طعامهم ، ونشّموا في الشر ودقوا بينهم عطر منشم قال زهير :

تداركتما عبسا وذبيان بعد ما

تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم

ورجل نشوان أسرعت النشوة إليه وامرأة نشوى وقوم نشاوى ونشيت منه رائحة طيبة واستنشيت وهذا من عجائب ما تتميز به اللغات.

الإعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط وجملة قيل في محل جر بإضافة الظرف إليها ولكم متعلقان بقيل وتفسحوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وجملة تفسحوا مقول القول وفي المجالس متعلقان بتفسحوا والفاء رابطة لجواب الشرط غير الجازم والجملة لا محل لها وافسحوا فعل أمر والواو فاعل ويفسح فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر الواقع جوابا للشرط والله فاعل ولكم متعلقان بيفسح والمراد بالمجالس مجالس رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقرىء بالإفراد أي في المجلس وقيل هو المجلس من مجالس القتال ومراكز الغزاة وقيل هو مطلق في كل ما يبتغيه الناس للمنفعة وفي كل مجلس أو ناد وهو الأولى والأقرب لأسلوب القرآن الكريم في تعليم الأدب الرفيع (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) الواو عاطفة ، وإذا قيل انشزوا فانشزوا : تقدم إعراب نظيرها ، ويرفع فعل مضارع مجزوم لأنه جواب

٢٢

الطلب والله فاعل والذين مفعول به وجملة آمنوا صلة والذين معطوف على الذين الأولى أو هو منصوب بفعل مضمر تقديره ويخصّ الذين أوتوا العلم وجملة أوتوا صلة وأوتوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل والعلم مفعول به ثان ومنكم حال ودرجات ظرف أو منصوب بنزع الخافض (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وبما تعملون متعلقان بخبير وخبير خبر إن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ناجيتم في محل جر بإضافة الظرف إليها وناجيتم فعل وفاعل والرسول مفعول به والفاء رابطة وقدّموا فعل أمر والواو فاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وبين ظرف متعلق بقدّموا ويدي مضاف إليه وعلامة جرّه الياء ونجواكم مضاف ليدي وصدقة مفعول به لقدموا وسيأتي مزيد بحث في باب البلاغة حول هذه الآية (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى تقديم الصدقة على المناجاة وخير خبر ولكم متعلقان بخير وأطهر عطف على خير (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الفاء عاطفة وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتجدوا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون وهو فعل الشرط والفاء رابطة لجواب محذوف أي فلا تثريب عليكم وجملة إن الله غفور رحيم تعليل لرفع الحرج والتثريب (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) الهمزة للاستفهام التقريري وأشفقتم فعل وفاعل أي أخفتم وأن وما في حيّزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي من أن تقدموا والجار والمجرور متعلقان بأشفقتم وقيل مفعول من أجله ومفعول تقدموا هو صدقات ومفعول أشفقتم محذوف (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) الفاء استئنافية وإذ فيها أقوال : ١ ـ أنها ظرف لما مضى من الزمن والمعنى أنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بإقامة الصلاة وإيتاء

٢٣

الزكاء. ٢ ـ أنها ظرف بمعنى إذا كقوله تعالى : «إذ الأغلال في أعناقهم» وقد تقدم القول فيها مبسوطا فارجع إليها إن شئت. ٣ ـ أنها بمعنى إن الشرطية.

ولم حرف نفي وقلب وجزم وتفعلوا فعل مضارع مجزوم بلم ، وتاب الواو حالية أو استئنافية أو اعتراضية والجملة معترضة بين الشرط وجوابه وتاب الله فعل وفاعل وعليكم متعلقان بتاب والفاء رابطة وأقيموا الصلاة فعل أمر وفاعل ومفعول به وآتوا الزكاة عطف على فأقيموا الصلاة وكذلك قوله وأطيعوا الله ورسوله (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ابتداء وخبر وجملة تعملون صلة ما والجار والمجرور متعلقان بخبير.

البلاغة :

١ ـ في قوله تعالى «يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات» تعميم ثم تخصيص ؛ وتفصيل ذلك أن الجزاء برفع الدرجات هنا مناسبة للعمل لأن المأمور به تفسيح المجالس كيلا يتنافسوا في القرب من المكان الرفيع حوله صلّى الله عليه وسلم فيتضايقوا وذلك لا يليق بآداب المجلس التي من أولها تفادي إزعاج المجالسين وترنيق صفوهم ، واجتناب ما يكدّر صفاءهم وينغص بالهم ، ولما كان المتمثّل لذلك الأمر يخفض نفسه عمّا يتنافس فيه من الرفعة امتثالا وتواضعا جوزي على تواضعه برفع الدرجات ، ثم لما علم أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم خصّهم بالذكر عند الجزاء ليسهّل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعا لله تعالى ، وفي هذا التخصيص إلماع إلى فضل العلم ، وحسبنا أن نورد حديث ابن مسعود رضي الله عنه وهو أنه كان إذا تلا هذه الآية قال :يا أيّها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم ، وعنه صلّى الله عليه

٢٤

وسلم : «بين العالم والعابد مائة درجة ما بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة» وعنه عليه الصلاة والسلام «يشفع يوم القيامة ثلاثة :الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» فأعظم بمرتبة بين النبوّة والشهادة ، وعن الأحنف : كاد العلماء يكونون أربابا وكل عزّ لم يوطد بعلم فإلى ذلك ما يصير.

وما دمنا بصدد العلم ودرجته السامية فلا بدّ من الإشارة إلى نكتة بليغة وهي أنه قرن حين خصّ العلماء برفع الدرجات لما جمعوا بين العلم والعمل فإن العلم مع سموّ درجته وأنافة مرتبته يقتضي العمل المقرون به.

٢ ـ وفي قوله «بين يدي نجواكم» استعارة ممّن له يدان وقد تقدم تحقيق هذه الاستعارة في آية الحجرات فجدّد بها عهدا.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧))

الإعراب :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) كلام مستأنف

٢٥

مسوق للتعجب من حال المنافقين الذين كانوا يتخذون اليهود أولياء يناصحونهم ويفشون إليهم بأسرار المؤمنين وقال السدي : بلغنا أنها نزلت في عبد الله بن نفيل من المنافقين ، والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت وإلى الذين متعلقان بتر وجملة تولوا صلة لا محل لها والواو فاعل وقوما مفعول به وجملة غضب الله عليهم نعت لقوما (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) الجملة مستأنفة أو صفة ثانية لقوما أو حال من فاعل تولوا وما نافية حجازية وهم اسمها ومنكم خبرها ، ولا الواو حرف عطف ولا نافية ومنهم عطف على منكم (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الواو عاطفة ويحلفون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والجملة معطوفة على تولوا فهي داخلة في حيّز الصلة وعلى الكذب حال والواو حالية وهم مبتدأ وجملة يعلمون خبرهم والجملة حال (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فعل وفاعل ومفعول به وإن واسمها وخبرها (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الجملة مستأنفة أو صفة ثالثة لقوما أو حال واتخذوا فعل ماض والواو فاعل وأيمانهم مفعول به أول وجنة مفعول به ثان لاتخذوا أي سترا ووقاية لأنفسهم وأموالهم ، فصدّوا الفاء عاطفة وصدّوا فعل ماض وفاعل وعن سبيل الله متعلقان بصدّوا (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) الفاء عاطفة ولهم خبر مقدّم وعذاب مبتدأ مؤخر ومهين نعت لعذاب أي ذو إهانة (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) لن حرف نفي ونصب واستقبال وتغني فعل مضارع منصوب بلن وعنهم متعلقان بتغني وأموالهم فاعل ولا أولادهم عطف على أموالهم ومن الله متعلقان بتغني على حذف مضاف أي من عذاب الله ، وشيئا مفعول مطلق أي قليلا من الإغناء (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

٢٦

أولئك مبتدأ وأصحاب النار خبره وهم مبتدأ وفيها متعلقان بخالدون وخالدون خبرهم.

البلاغة :

ذكر علماء البلاغة في حدّ الصدق والكذب أقوالا أربعة :

١ ـ أن الصدق مطابقة حكم الخبر للواقع والكذب عدم مطابقته له ولو كان الاعتقاد بخلاف ذلك في الحالين.

٢ ـ وهو للنظام من كبار المعتزلة : أن الصدق المطابقة لاعتقاد المخبر ولو خطأ والكذب عدم مطابقته للاعتقاد ولو صوابا وما الاعتقاد معه على هذا القول داخل في الكذب لا واسطة.

٣ ـ وهو للجاحظ أحد شيوخ المعتزلة أيضا : أن الصدق المطابقة للخارج مع اعتقاد المخبر المطابقة والكذب عدم المطابقة للواقع مع اعتقاد عدمها وما عدا ذلك ليس بصدق ولا كذب أي واسطة بينهما ، وهو أربع صور : المطابق ولا اعتقاد لشيء والمطابق مع اعتقاد عدم المطابقة وغير المطابق مع اعتقاد المطابقة وغيره ولا اعتقاد.

٤ ـ وهو للراغب ، وهو مثل قول الجاحظ غير أنه وصف الصور الأربع بالصدق والكذب باعتبارين فالصدق باعتبار المطابقة للخارج أو للاعتقاد والكذب من حيث انتفاء المطابقة للخارج أو للاعتقاد.

هذا واستدل النظام بقوله تعالى : «إن المنافقين لكاذبون» أي في قولهم : «إنك لرسول الله» لعدم مطابقته لاعتقادهم وردّ استدلاله بأن المراد لكاذبون في الشهادة أي في ادّعائهم مواطأة القلب للسان لتضمن قولهم : إنك إلخ ... شهادتنا من صميم القلب وهذا كذب.

٢٧

واستدلّ الجاحظ بقوله تعالى : «افترى على الله كذبا أم به جنة» لأن الإخبار حال الجنة غير الكذب لأنه قسيمه وغير الصدق لأنهم يعتقدون عدم صدقه فثبتت الواسطة ورد بأن المعنى أم لم يغتر فعبّر عن عدم الافتراء بالجنة من جهة أن المجنون لا افتراء له لأن الافتراء الكذب عن عمد فهذا حصر للخبر الكاذب بزعمهم في نوعيه أي الكذب عن عمد ولا عن عمد.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

٢٨

اللغة :

(اسْتَحْوَذَ) استولى وغلب من حاذ الحمار العانة أي جمعها وساقها غالبا لها ومنه كان أحوذيا نسيج وحده ، وهو أحد ما جاء على الأصل نحو استصوب واستنوق يعني على خلاف القياس فإن القياس استحاذ بقلب الواو ألفا كاستعاذ واستقام ولكن استحوذها هنا أجود.

(يُحَادُّونَ) يخالفون.

الإعراب :

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) يوم منصوب بفعل محذوف تقديره اذكر والجملة مستأنفة وجملة يبعثهم في محل جر بإضافة الظرف إليها والله فاعل يبعثهم وجميعا حال والفاء عاطفة ويحلفون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وله متعلقان بيحلفون وكما نعت لمصدر محذوف وجملة يحلفون لا محل لها لأنها صلة الموصول الحرفي ولكم متعلقان بيحلفون (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) الواو حالية وجملة يحسبون حال من الواو في يحلفون له أي والحال أنهم يحسبون في الآخرة أن حلفهم فيها يجديهم من عذابها ، وأن وما بعدها في تأويل مصدر سدّت مسدّ مفعولي يحسبون وعلى شيء خبر أنهم وألا أداة استفتاح وتنبيه وإن واسمها وهم ضمير متصل أو مبتدأ والكاذبون خبر إنهم على الأول وخبرهم على الثاني والجملة خبر إنهم (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان استيلاء الشيطان عليهم حتى جعلهم أتباعه ورعيته ، وعليهم متعلقان باستحوذ والشيطان فاعله ، فأنساهم عطف على استحوذ والهاء مفعول به أول وذكر الله مفعول به ثان (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أولئك

٢٩

مبتدأ وحزب الشيطان خبر وألا أداة استفتاح وتنبيه وإن واسمها وهم ضمير فصل أو مبتدأ والخاسرون خبر على الحالين كما تقدم (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) إن واسمها وجملة يحادون صلة والله مفعول به ورسوله عطف على الله وأولئك مبتدأ وفي الأذلين خبر أولئك والجملة خبر إن (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) كتب الله فعل وفاعل وقد تضمن فعل كتب معنى القسم واللام جواب له وأغلبنّ فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وأنا تأكيد لفاعل أغلبنّ المستتر ورسلي عطف على الضمير وإن واسمها وخبراها والجمل لا محل لها (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) قال الزمخشري : «من باب التخييل خيّل أن من الممتنع المحال أن تجد قوما مؤمنين يوالون المشركين والغرض به أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم» ولا نافية وتجد فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره أنت وقوما مفعول به أول وجملة يؤمنون بالله واليوم الآخر نعت لقوما وجملة يوادّون مفعول ثان لتجد إن كان بمعنى تعلم وإن كان بمعنى تصادف فالجملة حال أو صفة ثانية لقوما ويوادّون فعل وفاعل ومن مفعول به وجملة حاد الله صلة لا محل لها وحاد الله فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ورسوله عطف على الله (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) الواو حالية ولو شرطية وكان واسمها وآباءهم خبرها وما بعده عطف عليه وسيأتي سر الترتيب في باب البلاغة (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أولئك مبتدأ وجملة كتب خبر وفي قلوبهم متعلقان بكتب والإيمان مفعول به وأيدهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وبروح متعلقان بأيدهم ومنه صفة لروح (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها)

٣٠

الواو عاطفة ويدخلهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وجنات مفعول به ثان على السعة وجملة تجري من تحتها الأنهار نعت لجنات وخالدين حال وفيها متعلقان بخالدين (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) رضي فعل ماض والله فاعل وعنهم متعلقان برضي ورضوا عنه عطف على ما تقدم. وأولئك مبتدأ وحزب الله خبر وألا أداة استفتاح وتنبيه وإن واسمها وهم ضمير فصل أو مبتدأ والمفلحون خبر وقد تقدم أمثال هذا كثيرا.

البلاغة :

في قوله «ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم» روعي ترتيب عجيب فقد بدأ أولا بالآباء لأنهم أدعى إلى الاهتمام بهم لوجوب إخلاص الطاعة لهم ومع ذلك نهاهم عن موادّتهم قال تعالى : «وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا» وثنى بالأبناء لأنهم أعلق بحبات القلوب ، ثم ثلث بالإخوان لأنهم هم المثابة عند الحاجة والناصر عند نشوب الأزمات كما قيل :

أخاك أخاك إن من لا أخا له

كساع إلى الهيجا بغير سلاح

ثم ربع بالعشيرة لأنها المستغاث في الشدائد وهي الموئل والمفزع في النوائب وهم المسرعون إلى النجدة قال :

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النائبات على ما قال برهانا

والمقصود في الآية أبا عبيدة لأنه قتل أباه يوم أحد ، وأبا بكر لأنه دعا ابنه للبراز يوم بدر فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالقعود ، ومصعب بن عمير لأنه قتل أخاه أبا عزيز يوم أحد ، وعليّا وغيره ممّن قتلوا عشائرهم.

٣١

سورة الحشر

مدنيّة وآياتها اربع وعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤))

اللغة :

(يَحْتَسِبُوا) يخطر ببالهم ويظنوا.

(الْجَلاءَ) الخروج من الوطن ، قال الرازي : «الجلاء أخصّ من

٣٢

الخروج لأنه لا يقال إلا للجماعة والإخراج يكون للجماعة والواحد» وفي المختار «الجلاء بالفتح والمد : الأمر الجلي تقول منه جلا الخبر يجلو جلاء وضح والجلاء أيضا الخروج من البلد والإخراج أيضا وقد جلوا عن أوطانهم

وجلاهم غيرهم يتعدى ويلزم» وعبارة المصباح :«والفاعل من الثلاثي حال مثل قاض والجماعة جالية ومنه قيل لأهل الذمّة الذين أجلاهم عمر رضي الله عنه من جزيرة العرب جالية ثم نقلت الجالية إلى الجزية التي أخذت منهم ثم استعملت في كل جزية تؤخذ وإن لم يكن صاحبها جلا عن وطنه فيقال استعمل فلان على الجالية والجمع الجوالي» وفي الأساس : «وجلوا عن بلادهم جلاء وقع عليهم الجلاء وأجليناهم عنها وجلوناهم ويقال للقوم إذا كانوا مقبلين على شيء محدقين به ثم انكشفوا عنه قد أخرجوا عنه وأجلوا عنه».

الإعراب :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) سبّح فعل ماض ولله متعلقان بسبّح وقيل اللام زائدة وما فاعل وفي السموات متعلقان بمحذوف هو صلة الموصول وما في الأرض عطف على ما في السموات وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) الجملة مستأنفة أو حالية وهو مبتدأ والذي خبره وجملة أخرج صلة والذين مفعول به وجملة كفروا صلة الذين ومن أهل الكتاب حال من الذين كفروا وهم بنو النضير ، ومن ديارهم متعلقان بأخرج ولأول الحشر هذه اللام تتعلق بأخرج وهي لام التوقيت كقوله تعالى لدلوك الشمس أي عند أول الحشر وعبارة الزمخشري : «ولأول الحشر تتعلق بأخرج وهي اللام في قوله تعالى يا ليتني قدّمت لحياتي وقولك جئته لوقت كذا»

٣٣

(ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) ما نافية وظننتم فعل وفاعل وأن حرف مصدري ونصب ويخرجوا فعل مضارع منصوب بأن وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي ظننتم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) الواو عاطفة وظنوا فعل ماض من أفعال القلوب والواو فاعل وأن واسمها وقد سدّت مسدّ مفعولي ظنوا ومانعتهم خبر أنهم وحصونهم فاعل مانعتهم ويجوز أن يكون مانعتهم خبرا مقدما وحصونهم مبتدأ مؤخرا والجملة خبر أنهم ومن الله متعلقان بمانعتهم (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) الفاء للعطف مع التعقيب وأتاهم الله فعل ماض ومفعول به مقدّم وفاعل مؤخر أي أتاهم أمره أو عذابه ومن حرف جر وحيث ظرف مكان مبني على الضم في محل جر بمن والجار والمجرور متعلقان بأتاهم ولم حرف نفي وقلب وجزم ويحتسبوا فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه حذف النون والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها وقذف عطف على فأتاهم وفي قلوبهم متعلقان بقذف والرعب مفعول به والرعب يقرأ بضم العين وسكونها (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة كأنها تفسير للرعب ، وأن تكون حالية من الضمير في قلوبهم. ويخربون فعل مضارع وفاعل وبيوتهم مفعول به وبأيديهم متعلقان بيخربون وأيدي عطف على بأيديهم والمؤمنين مضاف إلى أيدي وقرىء يخربون بالتخفيف من أخرب وبالتشديد من خرّب (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) الفاء الفصيحة أي إن تدبرتم هذا وعقلتموه فاتعظوا بحالهم ولا تغدروا ، واعتبروا فعل أمر وفاعل ويا حرف نداء وأولي منادى مضاف منصوب بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والأبصار مضاف إليه (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) الواو استئنافية ولولا حرف امتناع لوجود وأن مصدرية وهي وما بعدها في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ خبره محذوف تقديره موجود وكتب الله فعل وفاعل وعليهم متعلقان بكتب

٣٤

والجلاء مفعول به واللام واقعة في جواب لولا وعذبهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وفي الدنيا متعلقان يعذبهم (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) الواو استئنافية ولهم خبر مقدّم وفي الآخرة حال وعذاب النار مبتدأ مؤخر يعني إن نجوا من عذاب الدنيا فإن عذاب الآخرة لهم بالمرصاد ، ولا يجوز أن تكون الواو عاطفة لأن ذلك يؤدي إلى عطف الجملة على عذبهم في الدنيا وذلك يقتضي أن ينجوا من عذاب الآخرة أيضا لأن لولا تقتضي انتفاء الجزاء بحصول الشرط (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى المذكور من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وبأنهم خبر ذلك وأن واسمها وجملة شاقوا خبرها والواو فاعل والله مفعول به ورسوله عطف على الله (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويشاق فعل الشرط والله مفعول به والجواب محذوف تقديره يعاقب والفاء تعليلية وإن واسمها وخبرها ولك أن تجعل الفاء رابطة والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر المبتدأ.

الفوائد :

روى التاريخ أن بني النضير وهم رهط من اليهود نزلوا المدينة انتظارا منهم لمحمد صلّى الله عليه وسلم فغدروا بالنبي بعد أن عاهدوه وصاروا عليه مع المشركين فحاصرهم رسول الله حتى رضوا بالجلاء وكانوا أول من أجلي من أهل الذمّة من جزيرة العرب ثم أجلي آخرهم في زمن عمر بن الخطاب فكان جلاؤهم أول حشر من المدينة وآخر حشر جلاء عمر لهم ، وقيل أن أول الحشر إخراجهم من حصونهم إلى خيبر وآخر الحشر إخراجهم من خيبر إلى الشام ، قال ابن العربي :«الحشر أول وأوسط وآخر فالأول : إجلاء بني النضير والأوسط إجلاء أهل خيبر والآخر هو يوم القيامة».

٣٥

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥) وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧))

اللغة :

(لِينَةٍ) اللينة بالكسر في اللغة مصدر لان والمراد بها هنا النخلة من الألوان وهي ضروب النخل ما خلا العجوة والبرنية وهما أجود النخيل. وياؤها عن واو قلبت لكسرة ما قبلها كالديمة ، وقيل اللينة النخلة الكريمة كأنهم اشتقوها من اللين قال ذو الرمّة :

كأن قتودي مؤتها عش طائر

على لينة سوقاء تهفو جنوبها

يصف ناقته ، والقتود عيدان الرحل تتخذ من القتاد وهو شجر صلب ذو شوك واللينة النخلة والسوقاء طويلة الساق والجنوب نوع من الريح والضمير للّينه ، شبّه عيدان الرحل فوق الناقة بعشّ الطائر فوق النخلة. وتجمع اللّينة على لين.

٣٦

(أَفاءَ) جعله فيئا أي غنيمة.

(أَوْجَفْتُمْ) أسرعتم ، وفي المصباح : «وجف الفرس والبعير وجيفا عدا وأوجفته بالألف أعديته وهو العنق في السير».

(رِكابٍ) الركاب : الإبل واحدتها راحلة وتجمع على ركب وركائب وركابات وركاب السحاب الرياح والركاب أيضا ما يعلق في السرج فيجعل الراكب رجله فيه وقال الفرّاء : «العرب لا يطلقون لفظ الراكب إلا على راكب البعير ويسمّون راكب الفرس فارسا».

(دُولَةً) بضم الدال وقرىء بفتحها لغتان ما يدول للإنسان أي يدور من الجد يقال دالت له الدولة وأديل لفلان.

الإعراب :

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) ما اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدّم لقطعتم وقطعتم فعل وفاعل في محل جزم فعل الشرط ومن لينة حال واو حرف عطف وتركتموها عطف على قطعتم وقائمة مفعول ثان لترك وعلى أصولها متعلقان بقائمة والفاء رابطة لجواب الشرط وبإذن جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي فقطعها بإذن الله والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) الواو عاطفة والمعطوف عليه محذوف تقديره أذن في قطعها ليسرّ المؤمنين ويغرّهم ويخزي المنافقين والفاسقين ويذلّهم واللام لام التعليل ويخزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بالمحذوف المقدّر والفاسقين مفعول يخزي (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان حال ما أخذ

٣٧

من أموالهم وما اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة أفاء صلة والله فاعل وعلى رسوله متعلقان بأفاء ومنهم حال والفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وما نافية وأوجفتم فعل وفاعل وعليه متعلقان بأوجفتم ومن حرف جر زائد وخيل مجرور بمن لفظا منصوب محلا على أنه مفعول أوجفتم ولا ركاب عطف على خيل (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) الواو حالية ولكن حرف استدراك ونصب والله اسمها وجملة يسلط خبرها ورسله مفعول به ليسلط وعلى من يشاء متعلقان بيسلط وجملة يشاء صلة من (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الله مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبر الله (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) كلام مستأنف مسوق لبيان مصارف الفيء ، وسيأتي سر الفصل فيه ، وما اسم موصول مبتدأ وجملة أفاء صلة والله فاعل وعلى رسوله متعلقان بأفاء ومن أهل القرى حال ، قال مقاتل : يعني قريظة والنضير وخيبر ، والفاء رابطة لما يتضمنه الموصول من معنى الشرط ولله خبر ما وللرسول وما بعده عطف على قوله لله (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) كي حرف تعليل وجر بمعنى اللام ولا نافية ويكون فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد كي واسم يكون مستتر يعود على الفيء ودولة خبرها وبين الأغنياء ظرف متعلق بمحذوف صفة لدولة أي يتداولونه بينهم ومعكم حال (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الواو عاطفة وما اسم موصول في محل نصب مفعول به لفعل محذوف دلّ عليه خذوه ، ويجوز أن تعرب جملة فخذوه خبر ، وجملة أتاكم صلة والكاف مفعول به والرسول فاعل والفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وخذوه فعل أمر وفاعل ومفعول به ، وما نهاكم عنه فانتهوا عطف على ما تقدم (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول وإن واسمها وخبرها.

٣٨

البلاغة :

في قوله : «ما أفاء الله على رسوله» الآية. الفصل وهو ترك عطف جملة على أخرى ، وضدّه الوصل وهو عطف بعض الجمل على بعض وهذا الباب أغمض أبواب المعاني حتى قيل لبعضهم : ما البلاغة؟فقال : معرفة الفصل والوصل قال :

الفصل ترك عطف جملة أتت

من بعد أخرى عكس وصل قد ثبت

ولكلّ منهما مواضع نلخصها فيما يلي :مواضع الفصل : يجب الفصل في خمسة مواضع :

١ ـ أن يكون بين الجملتين اتحاد تام بأن تكون الثانية بدلا من الأولى كالآية التي نحن بصددها ، أو بيانا لها نحو «فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد» أو مؤكدة لها نحو «فمهل الكافرين أمهلهم رويدا» ويقال في هذا الموضع إن بين الجملتين كمال الاتصال.

٢ ـ أن يكون بين الجملتين تباين تام بأن تختلفا خبرا وإنشاء كقوله :

لا تسأل المرء عن خلائقه

في وجهه شاهد يغني عن الخبر

وقول الآخر :

وقال رائدهم أرسوا نزاولها

فحتف كل امرئ يجري بمقدار

فلم يعطف نزاولها على أرسوا لأنه خبر لفظا ومعنى ، وأرسوا إنشاء لفظا ومعنى ، والرائد هو الذي يتقدم القوم لطلب الماء والكلأ للنزول عليه ، وقوله أرسوا أي أقيموا بهذا الكلأ الملائم للحرب وهو

٣٩

مأخوذ من أرسيت السفينة أي حبستها بالمرساة ، وقوله نزاولها أي نحاول أمر الحرب ونعالجها ، وقوله فحتف إلخ تعليل لمحذوف يفيده ما قبله أي ولا يمنعكم من محاولة إقامة الحرب بمباشرة أعمالها خوف من الحتف وهو الموت فكل إلخ ... هذا وقد اختلف في إعراب جملة نزاولها فقيل لا محل لها لأنها تعليل لما قبلها فهي جواب عن سؤال مقدّر فليس الفصل لكمال الانقطاع بل لشبه كمال الاتصال وقيل حال أي أقيموا في حال مزاولة الحرب فلذلك ليس الفصل لكمال الانقطاع بل لأن الحال لا يعطف على الجملة المقيدة به أو بأن لا يكون بينهما مناسبة في المعنى كقولك عليّ كاتب ، الحمام طائر ، ويقال في هذا الموضع إن بين الجملتين كمال الانقطاع.

٣ ـ كون الجملة الثانية جوابا عن سؤال نشأ من الجملة الأولى كقوله تعالى «وما أبرىء نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء» ويقال إن بين الجملتين شبه كمال الاتصال.

٤ ـ أنه تسبق جملة بجملتين يصحّ عطفها على إحداهما لوجود المناسبة وفي عطفها على الأخرى فساد فيترك العطف دفعا للوهم كقوله :

وتظنّ سلمى أنني أبغي بها

بدلا أراها في الضلال تهيم

فجملة أراها يصحّ عطفها على تظن لكن يمنع من هذا توهم العطف على جملة أبغي بها فتكون الجملة الثالثة من مظنونات سلمى مع أنه ليس مرادا ويقال إن بين الجملتين شبه كمال الانقطاع.

٥ ـ أن لا يقصد تشريك الجملتين في الحكم لقيام مانع كقوله تعالى : «وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزىء بهم» فجملة الله يستهزىء بهم لا يصحّ عطفها على إنّا

٤٠