إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١٠

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١٠

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٩

مشبّه بالفعل وإلينا خبر مقدّم لإن وإيابهم اسمها المؤخر وثم حرف عطف للتراخي ، وسيأتي سره في باب البلاغة ، وما بعده عطف على ما قبله مماثل له في إعرابه.

البلاغة :

١ ـ في قوله «لا يسمن ولا يغني من جوع» فن التتميم ، وقد تقدم مرارا ؛ فقوله ولا يغني من جوع جملة لا يمكن طرحها من الكلام لأنه لما قال لا يسمن ساغ لمتوهم أن يتوهم أن هذا الطعام الذي ليس من جنس طعام البشر انتفت عنه صفة الاسمان ولكن بقيت له صفة الإغناء فجاءت جملة ولا يغني من جوع تتميما للمعنى المراد وهو أن هذا الطعام انتفت عنه صفة إفادة السمن والقوة كما انتفت عنه صفة إماطة الجوع وإزالته ، وجعله بعضهم من باب نفي الشيء بإيجابه على حدّ قول امرئ القيس «على لاحب لا يهتدى بمناره» أي أنه لا منار له أصلا وكما تقول ليس لفلان ظل إلا الشمس تريد نفي الظل على التوكيد وليس ببعيد والأول أرصن وأبعد عن التكلّف.

٢ ـ الحذف : تكلمنا في هذا الكتاب كثيرا عن الحذف وسنخصّص هنا لمعة عن حذف المفعول به خاصة لزيادة الفائدة وذلك بمناسبة قوله تعالى «فذكّر إنما أنت مذكّر» فنقول : يجوز حذف المفعول به لغرض إما لفظي كتناسب الفواصل أي رؤوس الآي وذلك في نحو قوله تعالى : «ما ودعك ربك وما قلى» والأصل وما قلاك فحذف المفعول ليناسب قوله : «والضحى والليل إذا سجى» وكالإيجاز في نحو قوله تعالى : «فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا» والأصل فإن لم تفعلوه ولن تفعلوه أي الإتيان بسورة من مثله وإما معنوي كاحتقاره نحو «كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي» أي لأغلبنّ الكافرين فحذف المفعول زيادة في

٤٦١

امتهانه واحتقاره أو لاستهجانه واستقباح التصريح به كقول عائشة رضي الله عنها : ما رأى منّي ولا رأيت منه ، أي العورة.

٣ ـ وفي قوله «إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم» تقديم الجار والمجرور ، والسر فيه التشديد بالوعيد وأن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام وأن حسابهم ليس إلا عليه ، وفي العطف بثم للدلالة على التراخي في الرتبة لا في الزمان أي أنه قد يكون مباشرة بعد الإياب ولكن التفاوت بين الموقفين أمر لا تكتنه أهواله ولا يدري أحد مداه ولا يتصوره العقل على الإطلاق ولا يخفى أن الخبر جاء مؤكدا بإن فأتى طلبيا كأنهم ، وقد ترددوا ، بحاجة إلى تأكيد هذا الأمر الذي أشاحوا عنه ولم يتدبروه.

الفوائد :

١ ـ التصغير ومراميه : أول من تكلم على التصغير الخليل بن أحمد رحمه الله ، ويكون للتحقير والتعظيم والترحم والتحبّب ولتقليل العدد ولتقريب الزمان وقد جمعها بعضهم بقوله :

فعظم وحقر وقرب زماني

ترحم تحبب رزقت الأماني

وأقلل بتصغيرهم يا فتى

فما زلت في محفل من معاني

قال ابن خالويه : «العرب تصغّر الاسم على المدح لا تريد به التحقير كقولهم فلان صديّقي إذا كان من أصدق أصدقائه ومن ذلك قول عمر في ابن مسعود «كنيّف ملىء علما» مدحه بذلك ، وقال الأنصاري :«أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب وحجيرها المؤام» ومن ذلك أن رجلا قال : رأيت الأصيلع عمر بن الخطاب يقبّل الحجر يريد مدحه بذلك».

٤٦٢

واختلف في قول عمر بن أبي ربيعة في رائيته المشهورة :

وغاب قمير كنت أهوى غروبه

وروّح رعيان ونوّم سمّر

فقال سعيد بن المسيب لما سمع هذا البيت : ما له قاتله الله صغّر ما كبر الله قال الله تعالى «والقمر قدّرناه منازل» قال ابن خالويه : «فيجوز أن يكون ابن أبي ربيعة صغّر قميرا على المدح لما ذكرت ، ومع ذلك فإن ابن أبي ربيعة قد أنشد هذه القصيدة لابن عباس فما أنكر عليه شيئا ، ومن ذلك قول الرجل لابنه : يا بنيّ لا يريد تحقيره فاعرف ذلك ولابن أبي ربيعة حجة أخرى وذلك أن العرب تقول للقمر في آخر الشهر وأوله شفا قمير فيصغّرونه» وهذا الذي ذكرناه من معاني التصغير يردّه البصريون وجميع ما ذكرناه عندهم راجع إلى معنى التحقير.

هذا ونضرب على سبيل المثال مثلا بيت لبيد بن ربيعة وهو :

وكل أناس سوف تدخل بينهم

دويهية تصفرّ منها الأنامل

فالكوفيون ذهبوا إلى أن التصغير في قوله دويهية للتعظيم وبيان هذا أن الشاعر أراد بها الموت ولا داهية أعظم منها ، فأما كونه أراد بها الموت فيدل لذلك وصفها بقوله «تصفر منها الأنامل» والأنامل هنا الأظفار وهي إنما تصفر بالموت ، قال الطوسي في شرح ديوان لبيد : إذا مات الرجل أو قتل اصفرّت أنامله واسودّت أظافره» وقد ردّ البصريون أن التصغير يأتي للتعظيم وجرى على مذهبهم الرضي المحقق فقال : «قيل مجيء التصغير للتعظيم يكون من باب الكناية يكنى بالصغر عن بلوغ الغاية لأن الشيء إذا جاوز حدّه جانس ضده ورد بأن تصغيرها على حسب احتقار الناس لها وتهاونهم بها إذ المراد بها الموت أي يجيئهم ما يحتقرونه مع أنه عظيم في نفسه تصفر منه الأنامل» وقال البصريون عن بيت لبيد : «فأما قوله دويهية فالمراد أن أصغر الأشياء قد يفسد الأصول

٤٦٣

العظام فحتف النفوس قد يكون الأمر الذي لا يؤبه له» ولا يخفى ما في هذا القول من الرصانة والقوة فتنبّه لهذا الفصل الذي وإن طال بعض الطول فهو كالحسن ليس بمملول.

٢ ـ الخيال : تختلف الخياليات باختلاف الأسباب والعادات والعرف العام فتتفاوت بالأمم فلا يستنكر قوله تعالى في هدايتهم إلى الاستدلال على الصانع الحكيم «أفلا ينظرون إلى الأمم كيف خلقت» إلخ إلا من يجهل أن الخطاب مع العرب وما في خيالهم إلا الإبل لأن معظم انتفاعهم في مطاعمهم وملابسهم ومتاجرهم منه وإلا أرض ترعاها الإبل وإلا سماء تسقيهم وإياها وإلا جبال هي معاقلهم عند شنّ الغارات ، فظهر أن من وقف على أحوال العربي البدوي يعرف وجه تقارن الصور المذكورة في أذهانهم ووجه وقوعها في القرآن العظيم على المنهج المذكور ، ومن أنكره من أهل الحضر فذلك لجهله بمقتضى الحال ، ولقد أحسن المتنبي إذ قال :

وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السقيم

٤٦٤

سورة الفجر

مكيّة وآياتها ثلاثون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤))

اللغة :

(الشَّفْعِ) الزوج من العدد يقال : أشفع هو أم وتر أي أزوج أم فرد ويجمع على أشفاع وشفاع ، ومصدر شفع يشفع من باب فتح شفعا الشيء أي صيّره شفعا أي زوجا بأن يضيف إليه مثله يقال : كان وترا فشفعه بآخر أي قرنه به ، وفي القاموس : «الشفع خلاف الوتر وهو الزوج وقد

٤٦٥

شفعه كمنعه ويوم الأضحى وقيل في قوله تعالى : والشفع والوتر هو الخلق لقوله تعالى ومن كل شيء خلقنا زوجين أو هو الله عزّ وجلّ لقوله تعالى : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم».

(الْوَتْرِ) في القاموس «الوتر بالكسر ويفتح الفرد أو ما لم يتشفع من العدد ويوم عرفة».

وقال أبو حيان : «والشفع والوتر ذكر في كتاب التحرير والتحبير فيها ستة وثلاثين قولا ضجرنا من قراءتها فضلا عن كتابتها في كتابنا هذا».

وقال الزمخشري : «وقد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون معظم ما يقعان فيه وذلك قليل الطائل جدير بالتلهي عنه».

(حِجْرٍ) عقل ، وسمّي العقل بذلك لأنه يحجر صاحبه عمّا لا يحلّ ولا ينبغي كما سمي عقلا لأنه يعقل صاحبه عن القبائح وينهاه ولأنه ينهى عمّا لا يحلّ ولا ينبغي ، وأصل الحجر المنع وقد تقدم القول في هذه المادة ، وقال ابن خالويه : «هل في ذلك حجر أي لذي عقل ولذي لب» والحجر ديار ثمود وحجر الكعبة والفرس الأنثى.

(جابُوا) قطعوا وفي المختار «وجاب خرق وقطع وبابه قال ومنه قوله تعالى وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وجبت البلاد بضم الجيم من باب قال وباع وأجبتها قطعتها».

الإعراب :

(وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ) الواو حرف قسم وجر والفجر مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بأقسم والواو حرف عطف وليال عطف على

٤٦٦

الفجر مجرور وعلامة جرّه الفتحة نيابة عن الكسرة المقدّرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين. وقد أشار ابن مالك إلى هذه القاعدة الهامة بقوله :

وكن لجمع مشبه مفاعلا

أو المفاعيل بمنع كافلا

أي إن الجمع المشبه مفاعيل أو المفاعيل في كونه مفتوح الفاء وثالثه ألف بعدها حرفان كمفاعل أو ثلاثة أحرف أوسطها ساكن كمفاعيل يمتنع صرفه لقيام الجمع فيه مقام علتين وهي الجمع وعدم النظير في الواحد وشمل قوله مفاعل ما أوله الميم كمساجد أو ما أوله غيرها كدراهم وشمل قوله المفاعيل ما أوله ميم كمصابيح أو ما أوله غيرها كدنانير ثم أن من هذا الجمع ما يجيء معتل اللام وهو قسمان أحدهما ما قلبت فيه الكسرة التي بعد الألف فتحة فانقلبت الياء ألفا نحو عذارى ولا إشكال في منع التنوين والآخر ما استثقلت في بابه الفتحة فحذفت ولحقها التنوين وإلى ذلك أشار بقوله :

وذا اعتلال منه كالجواري

رفعا وجرّا أجره كساري

يعني أن ما كان من الجمع المعتل اللام مثل جوار في كونه على ما ذكر من حذف الحركة يجري مجرى سار في لحاق التنوين بآخره في حالة الرفع والجر فتقول هذه جوار ومررت بجوار ، وسكت عن حالة النصب ففهم أنه على الأصل كالصحيح فتقول رأيت جواري.

وعشر نعت لليال ، قالوا وأراد بالليالي العشر عشر ذي الحجة وجاءت منكرة لفضيلتها على غيرها من ليالي السنة وقيل هي العشر الأواخر من رمضان وقيل العشر الأول من المحرم (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) منسوق على الفجر وليال وكذلك الوتر والليل وإذا ظرف متعلق بفعل القسم المحذوف أو بفعل قسم مقدر وعلى ذلك جرى أبو البقاء ، أي أقسم

٤٦٧

بالليل وقت سراه ، ويسري فعل مضارع مأخوذ من السرى وهو خاص بسير الليل وقد تقدم وقال في المصباح : «سريت الليل وسريت به سرى والاسم السراية إذا قطعته بالسير وأسريت بالألف لغة حجازية ويستعملان متعديين بالباء إلى مفعول فيقال سريت بزيد وأسريت به والسرية بضم السين وفتحها أخصّ يقال سرينا سرية من الليل وسرية والجمع السّرى مثل مدية ومدى ، قال أبو زيد ويكون السرى أول الليل وأوسطه وآخره وقد استعملت العرب سرى في المعاني تشبيها لها بالأجسام مجازا واتساعا قال الله تعالى : والليل إذا يسر والمعنى إذا يمضي ، وقال البغوي : إذا سار وذهب وقال الفارابي : سرى فيه السم والخمر ونحوهما وقال السرقسطي : سرى عرق السوء في الإنسان وزاد ابن القطاع على ذلك ، وسرى عليه الهمّ آتاه ليلا وسرى همّه : ذهب ، وإسناد الفعل إلى المعاني كثير في كلامهم نحو : طاف الخيال وذهب الهم وأخذه الكسل والنشاط وقول الفقهاء سرى الجرح إلى النفس معناه دام ألمه حتى حدث منه الموت وقطع كفّه فسرى إلى ساعده أي تعدّى أثر الجرح وسرى التحريم وسرى العتق بمعنى التعدية وهذه الألفاظ جارية على ألسنة الفقهاء وليس لها ذكر في الكتب المشهورة لكنها موافقة لما تقدم» هذا وقد حذف بعض القرّاء ياء يسر وقفا وأثبتوها وصلا وأثبتها بعضهم في الحالين وحذفها بعضهم في الحالين لسقوطها في خط المصحف الكريم وموافقة رؤوس الآي ، وعبارة ابن خالويه : «وكان الأصل يسري فخزلوا الياء لأن تشبه رؤوس الآي التي قبلها فمن القراء من يثبت الياء على الأصل ومنهم من يحذفها اتباعا للمصحف» (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) معنى الاستفهام هنا التفخيم والتعظيم للأمور المقسم بها وفي ذلك خبر مقدم وقسم مبتدأ مؤخر ولذي حجر نعت وعلى ذلك تكون هل وما في حيّزها جواب القسم وقيل هي للتقرير كقولك ألم أنعم عليك إذا كنت قد أنعمت والجواب على هذا محذوف

٤٦٨

مضمر وتقديره لنجازينّ كل أحد بما عمل وقدّره الزمخشري لتعذبنّ وقيل الجواب مذكور وهو إن ربك لبالمرصاد ، وعبارة السمين : «وقال مقاتل هل هنا في موضع إن تقديره إن في ذلك قسما لذي حجر فهل على هذا في موضع جواب القسم ، وهذا قول باطل لأنه لا يصلح أن يكون مقسما عليه على تقدير تسليم أن التركيب هكذا وإنما ذكرته للتنبيه على سقوطه» (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) الهمزة للاستفهام التقريري أي قد رأيت لأن المراد بالرؤية هنا رؤية القلب وهي العلم ، عبّر عنه بالرؤية لكونه علما ضروريا مساويا في الجلاء والبيان للمشاهدة والعيان ، ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وكيف اسم استفهام في موضع نصب بفعل على أنه مصدر واختاره الزمخشري وابن هشام في المغني والمعنى أي فعل فعل ربك وأعربه ابن خالويه حالا قال «كيف استفهام عن الحال» ولكنه ممتنع لأنه إذا أعرب حالا يكون من الفاعل ووصفه تعالى بالكيفية مستحيل وغير جائز والجملة المعلقة بكيف الاستفهامية سدّت مسدّ مفعولي تر. وفعل ربك فعل ماض وفاعل وبعاد متعلقان بفعل وإرم بدل أو عطف بيان من عاد ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث وهذا الابدال إيذان بأنهم عاد الأولى القديمة وقيل إرم بلدتهم أو أرضهم التي كانوا فيها ، وعبارة أبي البقاء : «إرم لا ينصرف للتعريف والتأنيث قيل هو اسم قبيلة فعلى هذا يكون التقدير إرم صاحب ذات العماد لأن ذات العماد مدينة وقيل ذات العماد وصف كما تقول القبيلة ذات الملك وقيل إرم مدينة فعلى هذا يكون التقدير بعاد صاحب إرم ويقرأ بعاد إرم بالإضافة فلا يحتاج إلى تقدير ويقرأ إرم ذات العماد بالجر على الإضافة» وذات العماد نعت لإرم أي الطول ، قال الزمخشري : «وذات العماد إذا كانت صفة للقبيلة فالمعنى أنهم كانوا بدويين أهل عمد أو طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة ومنه

٤٦٩

قوله رجل معمد وعمّدان إذا كان طويلا وقيل ذات البناء الرفيع وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى أنها ذات أساطين» وسيأتي تلخيص لقصتها الرائعة في باب الفوائد والتي صفة ثانية لإرم وجملة لم يخلق صلة التي ومثلها نائب فاعل يخلق وفي البلاد متعلقان بيخلق وقرىء يخلق بالبناء للمعلوم فتكون مثلها مفعولا به (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) الواو عاطفة وثمود عطف على عاد والذين نعت لثمود وجملة جابوا صلة الذين والصخر مفعول به وبالوادي متعلقان بجابوا والباء للظرفية فهي بمعنى في وحذفت الياء لأنها من ياءات الزوائد (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) عطف على عاد وذي الأوتاد نعت لفرعون كان يدق للمعذب أربعة أوتاد ويشدّه بها مسطوحا على الأرض ثم يعذبه بما يريد من ضرب وإحراق وغيرهما ، وفي المصباح : «الوتد بكسر التاء في لغة الحجاز وهي الفصحى وجمعه أوتاد وفتح التاء لغة وأهل نجد يسكنون التاء فيدغمون بعد القلب فيبقى ود ووتد الوتد أتده وتدا من باب وعد أثبته بحائط أو بالأرض وأوتدته بالألف لغة» (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) الذين إما مجرور على أنه صفة للمذكورين أو منصوب على الذم ، قال الزمخشري : «أحسن الوجوه فيه أن يكون في محل النصب على الذم ويجوز أن يكون مرفوعا على هم الذين طغوا أو مجرورا على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون» وجملة طغوا صلة الذين وفي البلاد متعلقان بطغوا (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) الفاء عاطفة وصبّ فعل ماض مبني على الفتح وعليهم متعلقان بصبّ وربك فاعل وسوط عذاب مفعول به ، وسيأتي معنى هذا التعبير في باب البلاغة (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) الجملة لا محل لها لأنها تعليل لما قبلها وإن واسمها واللام المزحلقة وبالمرصاد متعلقان بمحذوف خبر إن وسيأتي معناها أيضا في باب البلاغة.

٤٧٠

البلاغة :

١ ـ في قوله «فصبّ عليهم ربك سوط عذاب» استعارة مكنية ، فقد استعمل الصب وهو خاص بالماء لاقتضائه السرعة في النزول على المضروب قال :

فصبّ عليهم محصرات كأنها

شآبيب ليست من سحاب ولا قطر

وقال آخر في وصف الخيل :

صببنا عليهم ظالمين سياطنا

فطارت بها أيد سراع وأرجل

واستعار السوط للعذاب لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره ، وعبارة الزمخشري جميلة في بابها قال : «يقال صبّ عليه السوط وغشاه وقنعه ، وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحلّه بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعدّ لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به» والسوط كما في القاموس هو الخلط أو أن تخلط شيئين في إنائك ثم تضربهما بيدك حتى يختلطا كالتسويط والمقرعة لأنها تخلط اللحم بالدم والجمع سياط وأسواط وقال الفراء : «هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب وأصل ذلك أن السوط هو عذابهم الذي يعذبون به فجرى لكل عذاب إذا كان في غاية العذاب».

٢ ـ وفي قوله «إن ربك لبالمرصاد» استعارة تمثيلية ، شبّه كونه

٤٧١

تعالى حافظا لأعمال العباد مراقبا عليها ومجازيا على ما دقّ وجلّ منها بحيث لا ينجو منه بحال من قعد على الطريق مترصدا لمن يسلكها ليأخذه فيوقع به ما يريد ثم أطلق لفظ أحدهما على الآخر.

الفوائد :

خضعت القصة القرآنية في موضوعها وطريقة عرضها وإرادة حوادثها وتسلسل مشاهدها لمقتضيات الأغراض الدينية ، وظهرت آثار هذا الخضوع في سمات متعددة ، ولكن هذا الخضوع الكامل للأغراض الدينية ووفاءها بهذا الغرض تمام الوفاء لم يمنعا بروز الخصائص الفنية في عرضها ولا سيما في التصوير وهو أبرز خصائص القرآن ، وقد كنّا نودّ لو نقلنا لك قصة ذات العماد كما نقلها الرواة والمفسرون ولكن الأمر يطول فحسبنا أن ننقل لك خلاصتها لتلمح على ضوء تلك الخلاصة خصائصها الفنية ثم نحيلك على المطوّلات ؛ فقد رووا أنه كان لعاد ابنان وهما شداد وشديد فملكا وقهرا ثم مات شديد فخلص الأمر لشداد وملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال : سأبني مثلها فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلاثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة أضفى عليها الخيال تهاويل من الوصف الرائع فقصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطّردة ، ولما تمّ بناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا ، وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثم وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقصّ

٤٧٢

عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له ثم التفت فأبصر ابن أبي قلابة فقال : هذا والله ذلك الرجل. وعلى كل حال ليس لهذه أصل ديني تستند إليه ، وقد أدخلت خرافات مختلفة ونسجت أقاصيص منحولة وأساطير مفتعلة في تفسير كتاب الله سبحانه.

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))

٤٧٣

اللغة :

(التُّراثَ) الميراث والتاء بدل من الواو لأنه من الوراثة كما قالوا في تجاه وتخمة وتكأة.

(لَمًّا) جمعا وفي المختار : «أكلا لما فعله من باب رد يقال : لم الله شعثه أي أصلح وجمع ما تفرق من أمره» وقال أبو عبيدة : لممت ما على الخوان إذا أكلت جميع ما عليه بأسره وقال الحطيئة :

إذا كان لما يتبع الذّم ربه

فلا قدّس الرحمن تلك الطواحنا

ومنه لممت الشعث ، قال النابغة الذبياني :

ولست بمستبق أخا لا تلمه

على شعث أيّ الرجال المهذب

(وَثاقَهُ) في المصباح : «وثق الشيء بالضم وثاقه قوي وثبت فهو وثيق ثابت وأوثقته جعلته وثيقا والوثاق بفتح الواو وكسرها القيد والحبل ونحوه والجمع وثق مثل رباط وربط».

الإعراب :

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) الفاء استئنافية ومفهوم كلام الزمخشري أنها عاطفة قال : «فإن قلت بم اتصل قوله فأما الإنسان؟ قلت بقوله : إن ربك بالمرصاد كأنه قيل إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعي للعاقبة وهو مرصد بالعقوبة للعاصي فأما الإنسان فلا يريد ذلك ولا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها» وفي كلامه نفحة اعتزالية واضحة. وأما حرف شرط وتفصيل والإنسان مبتدأ وإذا ظرف متعلق بيقول وما زائدة وجملة ابتلاه في محل

٤٧٤

جر بإضافة الظرف إليها وربه فاعل ، فأكرمه عطف على ابتلاه ونعمه عطف أيضا والفاء رابطة لما في أما من معنى الشرط وجملة يقول خبر الإنسان ولا يمتنع تعلق الظرف بيقول الواقعة خبرا لأن الظرف في نيّة التأخير والتقدير فأما الإنسان فقائل ربي أكرمني وقت الابتلاء وربي مبتدأ وجملة أكرمني خبر وحذفوا الياء من أكرمن اختصارا (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) عظف على الجملة السابقة وإعرابها كإعرابها (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) كلا حرف ردع وزجر للإنسان عن قوله وبل حرف إضراب من قبيح إلى أقبح للترقي في ذمّهم ، ولا نافية وتكرمون اليتيم فعل مضارع مرفوع وفاعل ومفعول به ولا تحاضّون عطف على لا تكرمون وعلى طعام المسكين متعلقان بتحاضّون (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) عطف أيضا والتراث مفعول تأكلون وأكلا مفعول مطلق ولما صفة ، وتحبون المال حبّا جمّا عطف أيضا مماثل للجملة السابقة في الإعراب (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) كلا حرف ردع وزجر لهم عن ذلك كله وإذا ظرف متعلق بيتذكر وجملة دكّت في محل جر بإضافة الظرف إليها والأرض نائب فاعل ودكّا دكّا مصدران في موضع الحال على رأي أبي حيان والزمخشري وليس الثاني تأكيدا بل التكرار للدلالة على الاستيعاب كقرأت النحو بابا بابا ، وأعرب ابن خالويه دكّا الأول مصدرا والثاني تأكيدا وليس بعيدا (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) عطف على ما تقدم وجاء ربك فعل وفاعل والملك عطف على ربك وصفّا صفّا حال أي مصطفين أو ذوي صفوف وهو المسوغ لمجيء الحال جامدا هو الترتيب وضابطه أن يأتي التفصيل بعد ذكر المجموع بجزأيه مكررا ، قال الرضي : وفي نصب الجزء الثاني خلاف ذهب الزجّاج إلى أنه توكيد وذهب ابن جنّي إلى أنه صفة وذهب الفارسي إلى أنه منصوب بالأول لأنه لما وقع موقع الحال جاز أن يعمل قال المرادي والمختار أنه

٤٧٥

وما قبله منصوبان بالعامل الأول لأن مجموعهما هو الحال ونظيره في الخبر هذا حلو حامض ولو ذهب ذاهب إلى أن نصبه بالعطف على تقدير حذف الفاء والمعنى بابا فبابا وصفّا فصفّا لكان مذهبا حسنا ، ونص أبو الحسن على أنه لا يجوز أن يدخل حرف العطف في شيء من المكررات إلا الفاء وخاصة (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) الواو عاطفة وجيء فعل ماض مبني للمجهول ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بجيء وبجهنم في موضع رفع نائب فاعل ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله وهو بدل من إذا وجملة يتذكر الإنسان لا محل لها لأنها جواب إذا والواو حالية وأنى اسم استفهام معناه النفي في محل نصب ظرف مكان وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وله متعلقان بما تعلق به الظرف والذكرى مبتدأ مؤخر ولا بدّ من تقدير حذف المضاف أي ومن أين له منفعة الذكرى وإلا فبين يتذكر وأنى له الذكرى تناف وتناقض (يَقُولُ : يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) الجملة بدل اشتمال من جملة يتذكر أو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ منه كأنه قيل ماذا يقول عند تذكره فقيل يقول ، ويا حرف تنبيه أو المنادى محذوف وليتني ليت واسمها وجملة قدمت خبرها ولحياتي متعلقان بقدمت وجملة النداء مقول القول (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) الفاء عاطفة ويومئذ ظرف متعلق بيعذب والتنوين عوض عن جملة تفيد ما تقدم من هول الموقف ولا نافية ويعذب فعل مضارع مبني للمعلوم وعذابه مفعول مطلق والضمير في عذابه يعود إلى الله ، والعجب من ابن خالويه فقد أعربها مفعولا به ولا أدري ما هي وجهة نظره ، وأحد فاعل يعذب وقرىء يعذب بالبناء للمجهول فيكون أحد نائب فاعل والضمير في عذابه يعود على الكافر وعبارة القرطبي بهذا الصدد هي : «فيومئذ لا يعذب عذابه أحد» أي لا يعذب كعذاب الله أحد ولا يوثق لوثاقه أحد والكناية ترجع إلى الله تعالى وهو قول ابن عباس والحسن وقرأ الكسائي

٤٧٦

لا يعذب ولا يوثق بفتح الذال والتاء أي لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله الكافر يومئذ ولا يوثق كما يوثق الكافر. وقوله ولا يوثق إلخ عطف على الجملة السابقة ويقال في إعرابها ما قيل في الأولى وقد أورد ابن خالويه بحثا طريفا ننقله فيما يلي : «ولا يوثق نسق على يعذب والمصدر أوثق يوثق إيثاقا فهو موثق فإن قال قائل : هل يجوز همز يوثق كما همز يؤمن فقل ذلك غير جائز لأن أوثق فاء الفعل منه مثل أوفض يوفض وأسرع يسرع وأورى يوري وأوقد يوقد كل ذلك غير مهموز قال الله عزّ وجلّ : إلى نصب يوفضون والنار التي تورون وإنما يهمز من هذا ما كانت فاء الفعل منه همزة نحو آمن يؤمن لأن الأصل أأمن فاستثقلوا همزتين في أول كلمة فلينت الثانية فاعرف ذلك وإن كانت فاء الفعل ياء مثل أيسر وأيقن وأيفع الغلام انقلبت الياء واوا في المضارع لانضمام ما قبلها وسكونها ولم يجز أيضا همزها نحو يوقنون ويوفع الغلام ويوسر ، وحدّثني أبو الحسن المقرئ قال : روى أبو خليفة البصري عن المازني عن الأخفش قال سمعت أباحية النميري يقول : يؤقنون مهموزة وأبو حيّة الذي يقول :

إذا مضغت بعد امتناع من الضحى

أنابيب من عود الأراك المخلّق

سقت شعب المسواك ماء غمامة

فضيضا بجادي العراق المروّق

غير أن من العرب من يهمز ما لا يهمز تشبيها بما يهمز كقولهم حلأت السويق ورثأت الميت ، وحدّثني أحمد عن علي عن أبي عبيدة قال : قرأ الحسن ولا أدرأكم به مهموزا وهو غلط عند أهل النحو لأنه من دريت» (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) الجملة في موضع نصب بقول محذوف أي يقول الله للمؤمن ، ويا حرف نداء وأية منادى نكرة مقصودة مبني على الضم وقد مرّت نظائره كثيرا والهاء للتنبيه والنفس بدل والمطمئنة نعت للنفس وارجعي فعل أمر مبني

٤٧٧

على حذف النون والياء فاعل وإلى ربك متعلقان بارجعي وراضية مرضية حالان (فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) نسق على ارجعي وفي عبادي متعلقان بادخلي وادخلي في جنتي عطف أيضا أي انتظمي في سلكهم وادخلي جنتي معهم.

البلاغة :

في قوله «وجاء ربك والملك صفّا صفّا» فن الإفراط في الصفة كما سمّاه ابن المعتز ، وسمّاه قدامة المبالغة ، وسمّاه غيرهما التبليغ ، والمشهورة تسمية قدامة وعرّفه بقوله : هو أن يذكر المتكلم حالا لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف عندها حتى يزيد في كلامه ما يكون أبلغ في معنى قصده ، وهي على ضروب شتى ومنها إخراج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة والإخبار عنه مجاز كقول من رأى موكبا عظيما أو جيشا خضما جاء الملك نفسه وهو يعلم أن ما جاء جيشه فقد جعل في الآية مجيء جلائل آياته مجيئا له سبحانه.

الفوائد :

١ ـ أيها وأيتها : قرأ الجمهور «يا أيتها النفس» بتاء التأنيث وقرأ زيد بن علي يا أيها بغير تاء ولا نعلم أحدا ذكر أنها تذكّر وإن كان المنادى مؤنثا إلا صاحب البديع ، وهذه الآية شاهدة بذلك ، ولذلك وجه من القياس وذلك أنه لم يثن ولم يجمع في نداء المثنى والمجموع فكذلك لم يذكّر في نداء المؤنث ، وأي وأية مبنيان على الضم لكون كلّ منهما منادى مفردا وهاء التنبيه فيهما زائدة لازمة للفظ أي وأية عوضا عن المضاف إليه مفتوحة الهاء.

٤٧٨

٢ ـ كيف يتعدى «دخل» : إذا كان المدخول فيه غير ظرف حقيقي تعدّت إليه «دخل» بفي نحو دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس ومنه فادخلي في عبادي أي في جملة عبادي الصالحين وإذا كان المدخول فيه ظرفا حقيقيا تعدّت إليه في الغالب بغير وساطة «في» ومنه : وادخلي جنتي ، وعلى كل حال تعرب جنتي مفعولا به على السعة لأنه في الأصل لا يتعدى بنفسه كما تقدم.

٤٧٩

سورة البلد

مكيّة وآياتها عشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

٤٨٠