إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧١

١

٢

٣
٤

مقدمة

أما بعد حمد الله على آلائه ، والصلاة والسلام على خاتمة رسله وأنبيائه ، فهذا كتاب «اعراب القرآن وبيانه» ، أتيح له أن يظهر بعد أن طال احتجابه ، وكثر طلابه ، ولعله أول كتاب جمع البيان فأوعى ، ورسم لشداة الآداب السبيل الأقوم والأسنى ، ولست أدل به لأنه عن أئمة البيان مقتبس ، وفيه لمن رام البيان نعم الملتمس ، ولن أتحدث عنه فهو أولى بالحديث عن نفسه ،

والمسك ما قد شف عنه ذاته

لا ما غدا ينعته بائعه

وقد جعلته بعدد أجزاء القرآن الكريم ، ليسهل تناوله فلا يحتاج مقتنيه الى كتاب في الاعراب والبيان ، وقد قطعت جهيزة قول كلّ خطيب بعد الآن.

محيي الدين الدرويش

حمص

جمادى الاولى ١٤٠٠

نيسان ١٩٨٠

٥
٦

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

اللغة :

(أعوذ) : أعتصم وأمتنع (الشيطان) : إمّا أن يكون على وزن فعلان من شاط يشيط بقلب ابن آدم أي مال به وأهلكه ، وإمّا أن يكون على وزن فيعال من شطن أي بعد كأنه بعد عن الخير أو بعد غوره في الشّر. (الرجيم) : فعيل بمعنى مفعول والمرجوم في اللّغة :

المطرود الملعون أو فعيل بمعنى فاعل أي يرجم غيره بالإغواء والتضليل وإلقاء النفس في المتالف.

الاعراب :

(أعوذ) فعل مضارع مرفوع وهو فعل معتل أجوف لأن عين الفعل واو والأصل أعوذ على وزن أفعل فاستثقلت الضمة على الواو فنقلت الى العين فصارت أعوذ وهذه علّة ما كان من هذا الباب وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره : أنا. (بالله) : جار ومجرور متعلقان بأعوذ (من الشيطان) جار ومجرور متعلقان بأعوذ أيضا ومن لابتداء الغاية كما أن إلى لمنتهى الغاية فإذا قلت : لزيد من الحائط إلى الحائط فقد بيّنت به طرفي ماله ، وإذا قال الرجل : لزيد عليّ من واحد الى عشرة فجائز أن يكون عليه ثمانية إذا أخرجت الحدّين وجائز أن يكون عليه عشرة إذا ادخلت الحدّين معا ، وجائز أن يكون عليه تسعة إذا أدخلت حدّا وأخرجت حدّا. (الرجيم) نعت حقيقي للشيطان وجملة الاستعاذة ابتدائية لا محل لها من الاعراب.

٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اللغة :

(اسم) اختلف علماء اللغة في اشتقاق الاسم فذهب البصريّون إلى أنه من السّموّ وهو العلوّ وذهب الكوفيون إلى أنه مشتق من السّمة وهي العلامة وكلاهما صحيح من جهة المعنى وفيه خسس لغات :

اسم بكسر الهمزة ، واسم بضمها ، وسم بكسر السين ، وسم بضمها ، وسمى بوزن هدى ، هذا والاسم هو واحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة تفاديا للابتداء بالسّاكن لسلامة لغتهم من كل لكنة وإذا وقعت في درج الكلام لم تفتقر إلى شيء.

(الله) علم لا يطلق إلا على المعبود بحقّ خاص لا يشركه فيه غيره وهو مرتجل غير مشتق عند الأكثرين واليه ذهب سيبويه في أحد قوليه فلا يجوز حذف الألف واللام منه وقيل : هو مشتق وإليه ذهب سيبويه أيضا ولهم في اشتقاقه قولان :

آ ـ ان أصله إلاه على وزن فعال من قولهم : أله الرّجل يأله إلاهة أي عبد عبادة ثم حذفوا الهمزة تخفيفا لكثرة وروده واستعماله ثم أدخلت الألف واللام للتعظيم ودفع الشّيوع الذي ذهبوا إليه من تسمية أصنامهم وما يعبدونه آلهة من دون الله.

ب ـ أن أصله لاه ثم أدخلت الألف واللام عليه واشتقاقه من لاه يليه إذا تستر كأنّه ، سبحانه ، يسمّى بذلك لاستتاره واحتجابه عن إدراك الأبصار وما أجمل قول الشريف الرّضي الشاعر :

٨

«تاهت العقلاء في ذاته تعالى وصفاته ، لاحتجابها بأنوار العظمة.

وتحيّروا أيضا في لفظ الجلالة كأنه انعكس إليه من تلك الأنوار أشعة بهرت أعين المستبصرين ، فاختلفوا : أسريانيّ هو أم عربي؟ اسم أو صفة؟ مشتقّ وممّ اشتقاقه؟ وما أصله؟ أو غير مشتق؟ علم أو غير علم؟». (الرَّحْمنِ) : صيغة فعلان في اللغة تدل على وصف فعليّ فيه معنى المبالغة للصفات الطارئة كعطشان وغرثان. (الرَّحِيمِ) صيغة فعيل تدل على وصف فعليّ فيه معنى المبالغة للصفات الدائمة الثابتة ولهذا لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر.

الاعراب :

(بِسْمِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف والباء هنا للاستعانة أو للالصاق ، وتقدير المحذوف أبتديء فالجار والمجرور في محل نصب مفعول به مقدم أو ابتدائي فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف وكلاهما جيد و (اللهِ) مضاف اليه و (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) صفتان لله تعالى وجملة البسملة ابتدائية لا محلّ لها من الاعراب.

البلاغة :

في البسملة طائفة من فنون البلاغة :

آ ـ الأولى في متعلق بسم الله أن يكون فعلا مضارعا لأنه الأصل في العمل والتمسّك بالأصل أولى ولأنه يفيد التجدّد الاستمراري وإنما حذف لكثرة دوران المتعلق به على الألسنة وإذا كان المتعلق به اسما فإنه يفيد الديمومة والثبوت كأنما الابتداء باسم الله حتم دائم في كل ما نمارسه من عمل ونردده من قول.

٩

ب ـ الإيجاز بإضافة العام إلى الخاص ويسمى إيجاز قصر.

ح ـ إذا جعلنا الباء للاستعانة فيكون في الكلام استعارة مكنية تبعية لتشبيهها بارتباط يصل بين المستعين والمستعان به وإذا جعلنا الباء للالصاق فيكون في الكلام مجاز علاقته المحلية نحو مررت بزيد أي يمكان يقرب منه لا يزيد نفسه.

الفوائد :

في البسملة فوائد لا يجوز الجهل بها ومنها :

آ ـ اعلم أن البسملة آية من سورة الحمد وآية من أوائل كل سورة عند الشافعي وليست آية في كل ذلك عند مالك وعند أبي حنيفة وأحمد بن حنبل هي آية من أول الفاتحة وليست آية في غير ذلك ، والاحتجاج لذلك مبسوط في كتب الفقه والتفسير فارجع إليها.

ب ـ لم يوصف بالرحمن في العربية بالألف واللام إلا الله تعالى ، وقد نعتت العرب مسيلمة الكذاب به مضافا فقالوا : رحمان اليمامة.

قال شاعر منهم يمدح مسيلمة :

سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا

وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا

ح ـ تكتب بسم الله بغير ألف في البسملة خاصة استغناء عنها بباء الاستعانة بخلاف قوله تعالى : «اقرأ باسم ربك الذي خلق».

د ـ تحذف الألف من الرحمن لدخول الألف واللام عليها.

١٠

ه ـ يقال لمن قال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : مبسمل وهو ضرب من النحت اللغوي وقد ورد ذلك في شعر لعمر بن أبي ربيعة :

لقد بسملت ليلى غداة لقيتها

فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل

ومثل بسمل حوقل إذا قال : لا حول ولا قوة إلا بالله وهيلل إذا قال : لا إله إلا الله وسبحل إذا قال : سبحان الله وحمدل إذا قال : الحمد لله وحيصل وحيعل إذا قال : حي على الصلاة وحي على الفلاح وجعفل إذا قال : جعلت فداك.

هذا والنحت عند العرب خاص بالنسبة أي أنهم يأخذون اسمين فينحتون منهما اسما واحدا فينسبون إليه كقولهم : حضرميّ وعبقسيّ وعبشيّ نسبة إلى حضرموت وعبد القيس وعبد شمس على أن الفراء ذكر عن بعض العرب : معي عشرة فأحد هنّ لي أي صيرهنّ أحد عشر ، وقال الفراء : معنى اللهمّ : يا الله أمّنا بخير أي اقصدنا بخير فكثرت في كلام العرب ونحت العرب من اسمين فقيل عن الصّلدم إنه من الصّلد والصّدم ومنه بلحارث لبني الحارث ولعل الحقّلد وهو السّيء الخلق والثقيل الروح منحوت من الحقد والثقل ونحتوا من فعل وحرف فقالوا : الأزليّ وهو منحوت من لم يزل ، ونحتوا من اسم وحرف فقالوا : من من لا شيء تلاشى ونحتوا من حرفين فقال الخليل : إن كلمة (لن) منحوتة من لا وأن وانها تضمّنت بعد تركيبها معنى لم يكن في أصليها مجتمعين وانما أوردنا هذه الأقوال ، لا لأنها قاطعة فهي موضع خلاف كما رأيت ، ولكننا استأنسنا بها لتتوافر هم المشتغلين باللّغة على النحت ففيه ثروة جديدة للغتنا وتسهيل لكثير من التعابير الحديثة التي نفتقر إليها ، فالنحت من أبرز الظواهو في اللغات الأجنبية الحديثة بفضل ما

١١

يلحق بالأصل من لواحق سابقة أو لاحقة ، أو بفضل ما يعطونه للغتهم من مرونة حين يؤلفون كلمة جديدة من اسمين أو صفتين أو فعلين حى إذا تألفت الكلمة ، وأعطت مدلولا خاصا سارت على الأفواه كل مسير ، ومن أمثلة ذلك في اللغة الفرنسية قولهم المؤلف من فعل واسم niam ـ eisse للمنديل المعد لتنشيف الأيدي وقولهم المؤلف من فعلين : ressap ـ zessial للإذن المكتوب للمرور وقولهم المؤلف من اسمين : sehcnomxuoesio لنوع من طير صغير وغيرها.

وـ كانت قريش قبل البعثة تكتب في أول كتبها : «باسمك اللهمّ» وكان أميّة بن أبي الصّلت أول من كتب باسمك اللهم إلى أن جاء الإسلام ونزلت (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، وروى محمد بن سعد في طبقاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب كما تكتب قريش : باسمك اللهم حتى نزل قوله تعالى : «وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها» فكتب : باسم الله حتى نزل قوله تعالى : «قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ» فكتب باسم الله الرحمن حتى نزل قوله تعالى :

«إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» فكتب : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

١٢

اللغة :

(الْحَمْدُ) : الثناء بالجميل والنداء عليه باللسان ، والشكر هو الثناء على النعمة خاصة فبينهما عموم وخصوص (رَبِّ) الرب : هو السيّد والمالك والثّابت والمعبود والمصلح وزاد بعضهم الصّاحب مستدلا بقوله :

فدنا له رب الكلاب بكفّه

بيض رهاف ريشهنّ مقزّع

والمربي : الذي يسوس من يربيه ويدبره فهو اسم فاعل حذفت ألفه كما قيل : بارّ وبرّ وقيل : مصدر وصف به ويقيّد بالاضافة نحو رب الدّار من ربّه يربّه وقيل : هو صفة مشبّهة مصوغة من فعل متعدّ فلا بد من تقديره لازما بالنقل الى فعل بالضم (الْعالَمِينَ) جمع عالم بفتح اللام وجمع جمع المذكر السالم العاقل تغليبا والمراد به جميع الكائنات ولذلك أدرجه النّحاة فيما ألحق بجمع المذكر والنّكتة فيه هي أن هذا اللفظ لا يطلق عند العرب على كل كائن وموجود كالحجر والتراب وإنما يطلقونه على كل جملة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العاقل الذي جمعت جمعه وان لم تكن منه فيقال : عالم الإنسان ، وعالم الحيوان وعالم النبات والعالم لا واحد له من لفظه ولا من غير لفظه لأنه جمع لأشياء مختلفة (الدِّينِ) : الجزاء ويوم الدّين : يوم الجزاء ومنه قول العرب : «كما تدين تدان» وقول الشاعر :

ولم يبق سوى العدوا

ن دناهم كما دانوا

والدّين ايضا : الطاعة كقوله تعالى «في دين الملك» ، والدّين أيضا : الملّة قال المثقّب العبديّ :

تقول إذا درأت لها وضيني

أهذا دينه أبدا وديني

١٣

(الصِّراطَ) : الطّريق الواضح والمنهاج ، قال جرير :

أمير المؤمنين على صراط

إذا اعوجّ الموارد مستقيم

وفي الصراط أربع لغات : السّراط بالسّين من سرط الشيء إذا بلعه وسمي الطريق سراطا لجريان الناس فيه كما يجري الشيء المبتلع والصراط وبالزاي خالصة وبإشمام الصاد الزاي وكل هذه اللغات قد قرىء به ويذكّر ويؤنّث وتذكيره أكثر.

الاعراب :

(الْحَمْدُ) مبتدأ (لِلَّهِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (رَبِّ) : صفة لله أو بدل منه (الْعالَمِينَ) مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء نيابه عن الكسرة لأنه ملحق بجمع المذكّر السالم (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) صفتان لله تعالى ايضا (مالِكِ) صفة رابعة لله وقرىء ملك وبينهما فرق دقيق وهو أن المالك هو ذو الملك بكسر الميم والملك ذو الملك بضمّها قال أهل النحو : إن ملكا أمدح من مالك وذلك ان المالك قد يكون غير ملك ولا يكون الملك إلا مالكا وجمع الملك أملاك وملوك وجمع المالك ملاك ومالكون (يَوْمِ الدِّينِ) مضاف إليه (إِيَّاكَ) ضمير منفصل في محل نصب مفعول به مقدّم للاختصاص (نَعْبُدُ) فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره نحن (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) عطف على إياك نعبد ونستعين فعل مضارع مرفوع وهو معتلّ أجوف والأصل فيه نستعون فاستثقلت الكسرة على الواو فنقلت الى العين فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها فصار نستعين (اهْدِنَا) فعل أمر مبني على حذف العلّة وهو هنا بمعنى الدّعاء ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت (الصِّراطَ) مفعول به ثان

١٤

أو منصوب بنزع الخافض لأنّ هدى لا تتعدى إلا الى مفعول واحد وتتعدى الى الثاني باللام كقوله تعالى : «يهدي للتي هي أقوم» أو بإلى كقوله تعالى «وإنك لتهدى الى صراط مستقيم» ولكن غلب عليها الاتّساع فعداها بعضهم إلى اثنين وقد نظم بعض الظرفاء أبياتا ضمّنها الأفعال التي تتعدى الى واحد والى الثاني بحرف جر وهي :

تعدى من الافعال طورا بنفسه

وحينا بحرف الجر للثان ما ترى

دعا في الندا سمّى كذا كنى

وزوجه واستغفر اختار غيرا

أمرت صدقت الوعد كلت وزنته

عفا وهدى منّى كذا سأل اذكرا

ومجموعها ستة عشر فعلا (الْمُسْتَقِيمَ) صفة للصراط وهو معتلّ وعين الفعل فيه واو والأصل مستقوم فاستثقلت الكسرة على الواو فنقلت الى القاف فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها (صِراطَ) بدل مطابق من الصراط (الَّذِينَ) اسم موصول مضاف اليه في محل جر (أَنْعَمْتَ) فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك والتاء ضمير متصل في محل رفع فاعل وجملة أنعمت لا محل لها من الاعراب لأنها صلة الموصول (عَلَيْهِمْ) جار ومجرور متعلقان بأنعمت (غَيْرِ) بدل من الضّمير في عليهم أو من الذين أو نعت للذين وسيأتي بحث مسهب عن غير في باب الفوائد (الْمَغْضُوبِ) مضاف اليه (عَلَيْهِمْ) جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل للمغضوب لأنه اسم مفعول (وَلَا) الواو حرف عطف ولا زائدة لتأكيد معنى النفي وهو ما في غير من معنى النفي وهذه الزيادة مطّردة (الضَّالِّينَ) معطوفة على المغضوب عليهم مجرور وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم.

١٥

البلاغة :

اشتملت هذه السورة ، على قصرها ، على أفانين متعددة من البلاغة ندرجها فيما يلي :

١ ـ جملة الحمد لله خبر لكنها استعملت لإنشاء الحمد وفائدة الجملة الاسمية ديمومة الحمد واستمراره وثباته.

٢ ـ في قوله إياك نعبد وإياك نستعين فنّ التّقديم فقد قدّم الضمير لحصر العبادة والاستعانة بالله وحده ، وقدمت العبادة على الاستعانة لأن الاستعانة ثمرتها وإعادة إياك مع الفعل الثاني تفيد أن كلّا من العبادة والاستعانة مقصود بالذات فلا يستلزم كل منهما الآخر ولأن الكاف التي مع إيّا هي الكاف التي كانت تتصل بالفعل أعني بقوله نعبد لو كانت مؤخرة بعد الفعل وهي كناية عن اسم المخاطب المنصوب بالفعل فكثّرت بإيّا متقدمة وكان الأفصح إعادتها مع كل فعل.

٣ ـ وفي قوله لله فن الاختصاص للدلالة على أن جميع المحامد مختصة به وكذلك بالاضافة في قوله مالك يوم الدين لزوال المالكين والأملاك عن سواه في ذلك اليوم.

٤ ـ وفي هذه السورة فن الالتفات من لفظ الغيبة الى لفظ الخطاب ومن لفظ الخطاب الى لفظ الغيبة والغرض من هذا الفن التّطرية لنشاط الذهن جريا على أساليبهم ، ولأنه لما أثنى على الله بما هو أهل له وأجرى عليه تلك الصفات العظيمة ساغ له أن يطلب الاستعانة منه بعد أن مهد لذلك بما يبرر المطالبة وهو ، تعالى ، خليق بالاستجابة ، وللاشعار بأن اولى ما يلجأ اليه العباد لطلب ما يحتاجون اليه هو عبادته تعالى والاعتراف له بصفات الألوهية ، البالغة ، وقال «صراط

١٦

الذين أنعمت عليهم» فأصرح الخطاب لما ذكر النّعمة ثم قال : غير المغضوب عليهم فزوى لفظ الغضب عنه تحنّنا ولطفا وهذا غاية ما يصل اليه البيان ، وهذه مراتب الالتفات في هذه السورة :

آ ـ عدل عن الغيبة الى الخطاب بقوله : إياك نعبد وإياك نستعين بعد قوله : الحمد لله رب العالمين لأن الحمد دون العبادة في المرتبة ألا تراك تحسد نظيرك ولا تعبده فلما كانت الحال بهذه المثابة استعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة في الخبر ولم يقل الحمد لك.

ب ـ ولما صار الى العبادة وهي قصارى الطاعات قال : «إياك نعبد وإياك نستعين» فخاطب بالعبادة إصراحا بها ، وتقرّبا منه عزّ وجلّ بالانتهاء الى عدد محدود منها.

ح ـ وعلى نحو من ذلك جاء آخر السّورة فقال : «صراط الذين أنعمت عليهم» فأصرح الخطاب لما ذكر النعمة ثم قال : «غير المغضوب عليهم عطفا على الأول ، لأن الأول موضع التقرّب من الله بذكر نعمه وآلائه فلما صار إلى ذكر الغضب جاء باللفظ منحرفا عن ذكر الغاضب فأسند إليه النعمة لفظا وزوى عنه لفظ الغضب تحنّنا ولطفا.

د ـ وأتى بنون الجمع في قوله : «نعبد» و «نستعين» والمتكلم واحد لأنه ورد في الشّريعة أنه من باع أجناسا مختلفة صفقة واحدة ثم ظهر للمشتري في بعضها عيب فهو مخيّر بين ردّ الجميع أو إمساكه وليس له تبعيض الصّفقة ، بردّ المعيب وإبقاء السّليم ، وهنا لما رأى العابد أن عبادته ناقصة معيبة لم يعرضها على الله مفردة بل جنح الى ضمّ عبادة جميع العابدين إليها وعرض الجميع صفقة كاملة راجيا قبول عبادته في ضمنها لأنّ الجميع لا يردّ البتّة ، إذ بعضه مقبول

١٧

وردّ المعيب ، وابقاء السليم تبعيض للصفقة وقد نهى سبحانه عباده عنه ، وهو لا يليق بكرمه العظيم ، وفضله العميم فبقي قبول الجميع.

٥ ـ وعلى ذكر استهلال القرآن بالفاتحة نذكر هذا الفنّ في الفاتحة ، وهو براعة الاستهلال ، وهو من ارقّ فنون البلاغة وأرشقها ، وحدّه أن يبتدىء المتكلم كلامه بما يشير الى الغرض المقصود من غير تصريح بل بإشارة لطيفة ، وإيماءة بعيدة أو قريبة ، والاستهلال في الأصل : هو رفع الصوت ، وسمي الهلال هلالا لأن الناس يرفعون أصواتهم عند رؤيته ومن أمثلته في الشعر قول أبي تمام في مطلع قصيدته :«فتح عمورية» :

السّيف أصدق أنباء من الكتب

في حدّه الحدّ بين الجدّ والّلعب

فقد استهلّ قصيدته بذكر السيف وفيه إيماءة قريبة جدا الى الموضوع الذي نظمت القصيدة بصدده وقد اشتهر ابو الطيب ببراعة مطالعه ومن روائعها قوله :

أتراها لكثرة العشّاق

تحسب الدّمع خلقة في المآقي

فقد ألمع الى موضوع قصيدته وهو الغزل برشاقة زادها ابتكار المعنى في حسبان الدمع خلقة في المآقي حسنا وجمالا.

٦ ـ الاستعارة التّصريحيّة في قوله : «اهدنا الصراط المستقيم» فقد شبه الدين الحق بالصراط المستقيم الذي ليس به أدقّ انحراف قد يخرجه عن حدود الاستقامة لأن الخط المستقيم هو أقصر بعد بين نقطتين ووجه الشبه بينهما أن الله سبحانه وإن كان متعاليا عن

١٨

الأمكنة لكن العبد الطالب الوصول لا بد له من قطع المسافات ، ومس الآفات ، ليكرم الوصول والموافاة.

٧ ـ التفسير بعد الإبهام وذلك في قوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)».

٨ ـ التسجيع في الرحيم والمستقيم وفي «نستعين» و «الضالين» والتسجيع هو اتفاق الكلمتين في الوزن والرّويّ.

الفوائد :

انطوت هذه السورة على فوائد لا تحصى وسنورد ما تهم معرفته منها :

١ ـ الألف واللام في الحمد للجنس على الأصح لأن حقيقة المحامد ثابتة لله تعالى.

٢ ـ وسميت هذه السورة «الفاتحة» لأنها أول القرآن وبراعة استهلاله وتسمى أمّ الكتاب لانطوائها على المثل السامية وهي مكية على الأصح ومن أسمائها السبع المثاني والوافية ، والكافية والشافية ، والرّقية ، والكنز والأساس وغيرها.

٣ ـ غير : لفظ غير مذكر مفرد أبدا إلا أنه إذا أريد به مؤنّث جاز تأنيث فعله المسند اليه تقول قامت غير هند وأنت تعني امرأة وهي في الأصل صفة بمعنى اسم الفاعل وهو مغاير ولذلك لا تتعرف بالاضافة ، وقد يستثنى بها حملا على إلّا كما يوصف بإلا حملا عليها وهي من الألفاظ الملازمة للاضافة لفظا أو تقديرا فادخال الألف واللام عليها خطأ.

١٩

٤ ـ آخر الفاتحة «ولا الضّالّين» وأما لفظ آمين فليس منها ولا من القرآن مطلقا وهو اسم بمعنى استجب ويسنّ ختم الفاتحة به وفيه لغتان : المدّ والتقصير قال ابو نواس في المد :

صلى الإله على لوط وشيعته

أبا عبيدة قل بالله : آمينا

وقال آخر في القصر :

تباعد مني فطحل إذ دعوته

أمين فزاد الله ما بيننا بعدا

٥ ـ قد يقال : إن المؤمنين مهتدون فما معنى طلبها؟ والجواب ان المطلوب هو الثبات على الهدى أو زيادته وليس في كون بعض الناس لم يهتدوا ما يخرجه عن أن يكون هدى فالشمس شمس وإن لم يرها الضّرير ، والعسل عسل ، وان لم يجد طعمه المرور ، فالخيبة كل الخيبة لمن عطش والماء زاخر ، ولمن بقي في الظلمة والبدر زاهر ، وخبث والطّيب حاضر.

٦ ـ الأرجح أن الفاتحة هي أول سورة كاملة نزلت وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجعلها أول القرآن وانعقد على ذلك الإجماع ونزول أول سورة العلق وهو «اقرأ باسم ربك الذي خلق» يعتبر بمثابة تمهيد للوحي المجمل والمفصّل فلا ينافي كونها أول سورة من القرآن وذكر السيوطي في الإتقان : أن أول ما نزل من آي القرآن اقرأ باسم ربك ، ويا أيها المدثر وسورة الفاتحة.

٢٠