إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١٠

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١٠

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٩

سورة اللّيل

مكيّة وآياتها احدى وعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))

الإعراب :

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى إِنَ

٥٠١

سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) الواو حرف قسم وجر والليل مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره أقسم وإذا ظرف لمجرد الظرفية المجردة عن الشرط وهو متعلق بفعل القسم وقد تقدم البحث فيه ، وجملة يغشى في محل جر بإضافة الظرف إليها ، والنهار إذا تجلى عطف على الجملة السابقة ، وما خلق : ما مصدرية أو موصولة عطف على ما تقدم ، وإن سعيكم لشتى جواب القسم ؛ أقسم سبحانه على أن أعمال عباده شتى جمع شتيت وقيل للمختلف المتباين شتى لتباعد ما بين بعضه وبعضه والشتات الافتراق وفي المصباح «شت شتا من باب ضرب إذا تفرق والاسم الشتات وشيء شتيت وزان كريم متفرق وقوم شتى فعلى متفرقون وجاءوا أشتاتا كذلك وشتان ما بينهما أي بعد» وإن واسمها واللام المزحلقة وشتى خبر إن (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) الفاء استئنافية وأما حرف شرط وتفصيل ومن اسم موصول مبتدأ وجملة أعطى صلة واتقى عطف على أعطى وصدّق بالحسنى عطف أيضا ، فسنيسّره الفاء رابطة لجواب الشرط والسين للتسويف ونيسره فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ولليسرى متعلقان بنيسّره (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) عطف على ما تقدم مماثل له في إعرابه (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) الواو عاطفة وما نافية ويجوز أن تكون استفهامية في معنى الإنكار في محل نصب مفعول مطلق ليغني أي أيّ إغناء يغني ، وبعضهم يعربها مفعولا مقدّما ويقدّر أي شيء يغني ، ويغني فعل مضارع مرفوع وعنه متعلقان بيغني وماله فاعل وإذا ظرف لمجرد الظرفية متعلق بيغني وجملة تردى في محل جر بإضافة الظرف إليها ، ولابن خالويه في تردى بحث لطيف قال : «تردّى فعل ماض والمصدر تردّى يتردّى تردّيا فهو متردّ ومنه قوله تعالى والمتردية والنطيحة ، يقال : تردّى في بئر وفي أهوية وفي هلكة ، إذا وقع فيها ويقال : ردي زيد يردى ردى إذا هلك وأرداه الله

٥٠٢

يرديه إرداء ويقال ردى الفرس يردي رديانا ، قال الأصمعي : سألت منتجع بن بنهان عن رديان الفرس فقال : هو عدوه بن آريّه ومتمعّكه ؛ الآري الآخيّة أي المعلف والمتمعّك الموضع الذي يتمرغ فيه والآري وزنه فاعول سمى بذلك لحبسه الدابة ، يقال : تأريت بالمكان إذا لزمته وتحبست به» وقال المبرد : «قيل فيه قولان : أحدهما إذا تردى في النار والآخر إذا مات وهل تفعّل من الردى» (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) كلام مستأنف مسوق لإخبارهم بأن عليه سبحانه بمقتضى حكمته بيان الهدى من الضلال. وإن حرف مشبّه بالفعل وعلينا خبرها المقدّم واللام للتأكيد والهدى اسم إن المؤخر (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) الواو عاطفة وما بعدها عطف على ما تقدم مماثل له في الإعراب (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) الفاء عاطفة على مقدّر أي فمن طلب الدنيا والآخرة من غير مالكهما الحقيقي وهو الله فقد أخطأ الطريق وضلّ سواء السبيل ، وأنذرتكم فعل ماض وفاعل ومفعول به ونارا مفعول به ثان وجملة تلظى نعت لنارا وتلظى فعل مضارع والأصل تتلظى ، وعبارة ابن خالويه جيدة وهي : «تلظى فعل مضارع والأصل تتلظى وقد قرأ ابن مسعود بذلك وقرأ ابن كثير :نارا تّلظى بإدغام التاء يريد نارا تتلظى ولو كان تلظى فعلا ماضيا لقيل تلظت لأن النار مؤنثة والمصدر تلظّت تتلظى تلظّيا فهي متلظية ويقال في أسماء جهنم سقر وجهنم والجحيم ولظى نعوذ بالله منها وهذه الأسماء معارف لا تنصرف للتأنيث والمعرفة» (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) لا نافية ويصلاها فعل مضارع مرفوع والهاء مفعول به وإلا أداة حصر والأشقى فاعل يصلاها (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) الذي نعت للأشقى وجملة كذب لا محل لها لأنها صلة وتولى عطف على كذب داخل في حيز الصلة (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) الواو عاطفة والسين حرف استقبال جيء به للتأكيد ويجنبها فعل مضارع مرفوع ومفعول به والأتقى فاعل والذي نعت وجملة يؤتي صلة وماله مفعول به ويتزكى فعل مضارع

٥٠٣

وفاعله مستتر والجملة إما بدل من يؤتي فتكون لا محل لها لأنها داخلة في حيز صلة الذي وإما حال من فاعل يؤتي أي متزكيا به عند الله (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) الواو حرف عطف وما نافية ولأحد الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم وعنده ظرف متعلق بمحذوف حال ومن حرف جر زائد ونعمة مجرور بمن لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ وإلا أداة استثناء بمعنى لكن وابتغاء مستثنى من غير الجنس لأنه منقطع لأن ابتغاء وجه ربه ليس من جنس النعمة أي ما لأحد عنده نعمة إلا ابتغاء وجه ربه والأحسن أن يعرب ابتغاء مفعولا لأجله لأن المعنى لا يؤتي ماله إلا لابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة وقرىء ابتغاء بالرفع على لغة من يقول ما في الدار أحد إلا حمار فتكون بدلا من محل من نعمة ، قال :

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس

وقال بشر بن أبي حازم :

أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها

إلا الجآذر والظلمان تختلف

وسيأتي تفصيل هذه القاعدة في باب الفوائد (وَلَسَوْفَ يَرْضى) الواو عاطفة واللام جواب قسم مضمر أي والله لسوف يرضى ، وسوف حرف تسويف ويرضى فعل مضارع وفاعله هو يعود على أبي بكر الذي نزلت فيه الآية لما اشترى بلالا المعذب على إيمانه من سيده أمية بن خلف وأعتقه فقال الكفار إنما فعل ذلك ليد كانت له عنده.

الفوائد :

إذا كان الاستثناء منقطعا وهو ما لا يكون المستثنى بعض المستثنى منه بشرط أن يكون ما قبل «إلا» دالّا على ما يستثنى فإن لم

٥٠٤

يمكن تسليط العامل على المستثنى وجب النصب في المستثنى اتفاقا نحو ما زاد هذا المال إلا ما نقص ، فما مصدرية ونقص صلتها وموضعهما نصب على الاستثناء ، ولا يجوز رفعه على الإبدال من الفاعل لأنه لا يصحّ تسليط العامل عليه إذ لا يقال زاد النقص ، ومثله ما نفع زيد إلا ما ضرّ إذ لا يقال ما نفع الضرّ وإن أمكن تسليطه على المستثنى نحو ما قام القوم إلا حمارا إذ يصحّ أن يقال قام حمار فالحجازيون يوجبون النصب لأنه لا يصحّ فيه الإبدال حقيقة من جهة أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه وعليه قراءة السبعة : ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ، وتميم ترجحه وتجيز الاتباع ويقرءون إلا اتباع الظن بالرفع على أنه بدل من العلم باعتبار الموضع ومنه قول جران العود عامر بن الحارث :

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس

فأبدل اليعافير والعيس من الأنيس ، وإلا الثانية مؤكدة للأولى واليعافير جمع يعفور وهو ولد البقرة الوحشية والعيس بكسر العين جمع عيساء كالبيض جمع بيضاء وهي الإبل البيض يخالط بياضها شيء من الشقرة ، وذكر سيبويه في توجيه الرفع وجهين : أحدهما أنهم حملوا ذلك على المعنى لأن المقصود هو المستثنى فالقائل ما في الدار أحد إلا حمار المعنى فيه ما في الدار إلا حمار وصار ذكر أحد توكيد ليعلم أنه ليس ثم آدمي ثم أبدل من أحد ما كان مقصوده من ذكر الحمار ، الوجه الثاني أنه جعل الحمار إنسان الدار أي الذي يقوم مقامه في الإنس.

وقال ابن يعيش : «ومن الاستثناء المنقطع قوله تعالى : وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى وبنو تميم يقرءونها بالرفع ويجعلون ابتغاء وجهه سبحانه نعمة لهم عنده».

٥٠٥

سورة الضّحى

مكيّة وآياتها إحدى عشرة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

اللغة :

(سَجى) سكن وركد ظلامه وفي المختار : «وقد سجى الشيء من باب سما سكن ودام وقوله تعالى : والليل إذا سجى أي دام وسكن ومنه البحر الساجي وطرف ساج أي ساكن وسجّى الميت تسجية أي مدّ عليه ثوبا» قال الشاعر :

يا حبذا القمراء والليل الساج

وطرق مثل ملاء النسّاج

والساج أيضا : الطيلسان الأخضر وجمعه سيجان ، وسيأتي مزيد منه

٥٠٦

في باب البلاغة.

(وَدَّعَكَ) قرأ العامة بتشديد الدال من التوديع وهو مبالغة في الودع لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك ، روي أن الوحي تأخر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أياما فقال المشركون : إن محمدا ودعه ربه وقلاه وقيل إن أم جميل امرأة أبي لهب قالت له : يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فنزلت ، وقرىء بالتخفيف من قولهم ودعه أي تركه. وقد اختلف في دع بمعنى اترك هل يتصرف فيأتي منه الماضي والمصدر واسم الفاعل واسم المفعول؟ قال الجوهري : أميت ماضيه وقال غيره : ربما جاء في الضرورة وهو المشهور ولكن حيث جاء في القرآن ما ودعك وفي الحديث «لينتهين قوم عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكوننّ من الغافلين» أي تركهم ، وجاء اسم المفعول وغيره في الشعر فيجوز القول بقلة الاستعمال لا بالإماتة وقال الشاعر :

ليت شعري عن خليلي ما الذي

غاله في الحب حتى ودعه

(قَلى) أبغض وفي المصباح : «قليته قليا وقلوته قلوا من بابي ضرب وقتل وهو الإنضاح في المقلى وهي مفعل بالكسر وقد يقال مقلاة بالهاء اللحم وغيره مقلى بالياء ومقلو بالواو والفاعل قلّاء بالتشديد لأنه صنعة كالعطّار والنجّار وقليت الرجل أقليه من باب رمى قلى بالكسر والقصر وقد يمدّ إذا أبغضته ومن باب تعب لغة» وفي حديث عن عائشة أن رجلا استأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال : إيذنوا له فبئس رجل العشيرة فلما دخل ألان له القول فقالت عائشة : يا رسول الله قلت له الذي قلت فلما دخل ألنت له القول؟ فقال : يا عائشة إن شرّ الناس منزلة يوم القيامة من ودعه الناس ـ أو تركه الناس ـ اتّقاء فحشه.

وقال ابن خالويه : «يقال قلاه يقلاه بفتح الماضي والمستقبل وليس في

٥٠٧

كلام العرب فعل بفتح الماضي والمستقبل فيه مما ليس فيه حرف من حروف الحلق إلا قلى يقلى وجبى يجبى وسلى يسلى وأبى يأبى وغسى يغسى وركن يركن عن الشيباني وأما قوله قلوب البسر والسويق فبالواو والمصدر القلو وأما القلو فالحمار» ولعل رواية الشيباني التي اعتمد عليها ابن خالويه مما انفرد به إذ لم يرد في جميع معاجم اللغة التي بأيدينا إلا ما أورده صاحب المصباح ونص عبارة التاج : على أن قليه في البغض كرضيه يرضاه وفي الحديث : «وجدت الناس أخبر تقله» بالهاء للسكت ولفظه لفظ الأمر ومعناه الناس أي من خبرهم أبغضهم والمعنى وجدت الناس مقولا فيهم هذا القول.

(فَآوى) قرأ العامة آوى بألف بعد الهمزة رباعيا من آواه يؤويه ، وقرأ أبو الأشهب : فأوى ثلاثيا ، وفي المصباح : «أوى إلى منزله يأوي من باب ضرب أويا أقام وربما عدّي بنفسه فقيل أوى منزله والمأوى بفتح الواو لكل حيوان مسكنه وآويت زيدا بالمدّ في التعدّي ومنهم من يجعله مما يستعمل لازما ومتعديا فيقول : أويته وزان ضربته ومنهم من يستعمل الرباعي لازما أيضا وردّه جماعة».

(عائِلاً) فقيرا وهي قراءة العامة ، يقال عال زيد من باب سار أي افتقر وأعال كثرت عياله وقرىء عيّلا بكسر الياء المشددة كسيّد وهذه المادة لها أصلان واوي ويائي ، أما الواوي فقد قال في القاموس فيه :عال أي جار ومال عن الحق والميزان نقص وجار أو زاد يعول ويعيل وأمرهم اشتد وتفاقم والشيء فلانا غلبه وثقل عليه وأهمّه والفريضة في الحساب زادت وارتفعت وعلتها أنا وأعلتها وعال فلان عولا وعيالة كثر عياله كأعول وأعيل وعياله عولا وعئولا وعيالة كفاهم ومانهم كأعالهم وعيّلهم وأعول رفع صوته بالبكاء والصياح كعوّل والاسم العول والعولة والعويل وعليه أدلّ وحمل كعوّل وفلان حرص كأعال وأعيل والقوس

٥٠٨

صوّتت وعيل عوله ثكلته أمه وصبري غلب فهو معول كعال فيهما وعيل ما هو عائله غلب ما هو غالبه يضرب لمن يعجب من كلامه ونحوه والعول كل ما عالك والمستعان به وقوت العيال وعوّل عليه معوّلا اتكل واعتمد والاسم كعنب وعيّلك ككيّس وكتاب من تتكفل بهم واويه يائية والجمع عالة» واستدرك شارحه فقال : «قال الصاغاني في التكملة :العيال جمع عيّل كجياد جمع جيد وهو من يلزم الإنفاق عليه ويكون اسما للواحد كما ذكره الحريري في مقاماته وذكره المطرزي في شرحه».

وأما اليائي فقال صاحب القاموس : «عال يعيل عيلا وعيلة وعيولا ومعيلا افتقر فهو عائل والجمع عالة وعيّل وعيلى كسكرى والاسم العيلة والمعيل الأسد والنمر والذئب لأنه يعيل صيدا أي يلتمس وعالني الشيء عيلا ومعيلا أعوزني وفي مشيه تمايل واختال وتبختر كتعيّل» إلى آخر ما جاء في هذه المادة.

الإعراب :

(وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) الواو حرف قسم وجر والضحى مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف والليل منسوق على الضحى وأجاز ابن هشام أن تكون الواو في والليل عاطفة أو قسمية قال «والصواب الأول وإلا لاحتاج كل إلى الجواب» وإذا ظرف لمجرد الظرفية متعلق بفعل القسم وقد تقدمت له نظائر وجملة سجى في محل جر بإضافة الظرف إليها وما حرف نفي وهو جواب القسم والجملة لا محل لها وودعك فعل ماض ومفعول به وربك فاعل ، وما قلى عطف على ما ودعك (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) الواو عاطفة واللام لام الابتداء وهي مؤكدة لمضمون الجملة

٥٠٩

والآخرة مبتدأ وخير خير ولك متعلقان بخير ومن الأولى متعلقان بخير أيضا (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) الواو عاطفة واللام للابتداء وهي مؤكدة لمضمون الجملة أيضا وجملة سوف يعطيك خبر لمبتدأ محذوف تقديره أنت وإنما لم تكن واو قسم لأنها لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد فتعين أن تكون الابتداء ، ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة المكوّنة من المبتدأ والخبر فتعين تقدير مبتدأ وأن يكون أصله ولأنت سوف يعطيك ربك فترضى ، ومن المفيد أن ننقل لك سؤالا للزمخشري وجوابه قال : «فإن قلت ما معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير؟ قلت معناه أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة» وسوف حرف استقبال ويعطيك ربك فعل مضارع مرفوع ومفعول مقدّم وفاعل مؤخر والفاء عاطفة وترضى فعل مضارع معطوف على يعطيك. وقيل اللام للقسم وأنه إذا حصل فصل بين اللام والفعل امتنعت النون وثبتت لام القسم (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) كلام مستأنف مسوق لتعداد أياديه ونعمه عليه والغرض من تعدادها تقوية قلبه صلّى الله عليه وسلم وتشجيعه على السير في طريقه التي اختارها الله وهي طريق محمودة العواقب سليمة المغاب. والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويجدك فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول ويتيما مفعول به ثان والفاء حرف عطف وآوى عطف على قوله ألم يجدك أي وجدك ويجوز أن يكون الوجود بمعنى المصادفة لا بمعنى العلم فتكون الكاف مفعولا به ويتيما تعرب حالا من المفعول به. وذلك أن أباه مات وهو جنين وقبل ولادته بشهرين وقيل بل بعد ولادته بشهرين وقيل بسبعة أشهر وقيل بتسعة وقيل بثمانية وعشرين شهرا والمشهور الأول ، وتوفيت أمه وهو ابن أربع سنين وقيل خمس سنين وقيل ست

٥١٠

سنين وقيل سبع سنين وقيل ثمان سنين وقيل تسع سنين وقيل اثنتي عشرة سنة وشهر وعشرة أيام ، ومات جدّه وهو ابن ثمان وكان عبد المطلب قد وصّى أبا طالب به لأن عبد الله وأبا طالب من أم واحدة فكان أبو طالب هو الذي كفل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد جده إلى أن بعثه الله نبيا. ووجدك معطوف وضالا مفعول به ثان أو حال ، وأحسن ما قيل في معنى الضلال هو خلوّه من الشريعة فهداه بإنزالها إليه فالمراد بضلاله كونه من غير شريعة وليس المراد به الانحراف عن الحق والتعسف في مهامه الضلال ويؤيد هذا المعنى قوله «ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان» وهناك أقوال كثيرة أربت على العد ضربنا صفحا عنها ويرجع إليها في المطولات ، وسيأتي مزيد من معنى الضلال في باب البلاغة ، ووجدك عائلا فأغنى منسوق على ما تقدم مماثل له في إعرابه ، قال الفراء «لم يكن غناه عن كثرة المال ولكن الله تعالى أرضاه بما أعطاه وتلك حقيقة الغنى». وفي الحديث «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» وقال صلّى الله عليه وسلم : «جعل رزقي تحت ظل رمحي» (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) الفاء الفصيحة وأما حرف شرط وتفصيل واليتيم مفعول به مقدم لتقهر والفاء رابطة لجواب الشرط ولا ناهية وتقهر فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت أي لا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه وهذا تعليم سام أكده النبي بقوله : «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ، ثم قال بإصبعيه : أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) منسوق على ما قبله والأولى أن يكون السائل أعم من أن يسأل المال أو العلم ليوافق التفصيل التعديد ويطابقه (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) منسوق أيضا وبنعمة متعلقان بحدّث والفاء غير مانعة لأنها بمثابة الزائدة والنعمة أعمّ من أن تشمل الدين والغنى والإيواء وما أفاء عليه من الغنائم وأتاح له من النصر والتحدّث بها

٥١١

مندوب إليه لحفز الهمم ودفع النفوس إلى التأسّي والاقتداء ، وما أجمل ما يروى عنه صلّى الله عليه وسلم قال : «إن الله جميل يحب الجمال» ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده ، وروي أن شخصا كان جالسا عند النبي صلّى الله عليه وسلم فرآه رثّ الثياب فقال له صلّى الله عليه وسلم : ألك مال؟ قال : نعم فقال له صلّى الله عليه وسلم : «إذا آتاك الله مالا فلير أثره عليك» وفي الحديث أيضا «إن رجلا سأله صلّى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أعمل البرّ وأخفيه عن المخلوقين ثم يطلع عليه فهل لي في ذلك من أجر؟ فقال : لك في ذلك أجران أجر السر وأجر العلانية».

البلاغة :

١ ـ في قوله : «والليل إذا سجى» مجاز عقلي حيث أسند السكون إلى الليل ، وقد تقدم في المجاز العقلي أنه إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة الإسناد الحقيقي ، ومن روائعه قول أبي الطيب في مديح كافور :

أبا المسك أرجو منك نصرا على العدا

وآمل عزا يخضب البيض بالدم

ويوما يغيظ الحاسدين وحالة

أقيم الشقا فيها مقام التنعم

فإسناد خضب السيوف بالدم إلى ضمير العز غير حقيقي لأن العز لا يخضب السيوف ولكنه سبب القوة وجمع الأبطال الذين يخضبون السيوف بالدم ففي العبارة مجاز عقلي علاقته السببية وفي الآية إسناد السجو إلى ضمير الليل غير حقيقي وإنما المراد أصحابه فهم الذين يسكنون.

٢ ـ وفي قوله «وجدك ضالا فهدى» استعارة تصريحية ؛ شبّه الشريعة بالهدى وعدم وجودها بالضلال وحذف المشبه وأبقى المشبه به

٥١٢

وهو الضلال من ضلّ في طريقه إذا سلك طريقا غير موصلة لمقصده والمقصد هنا العلوم النافعة التي تسمو بالعقل والروح معا.

٣ ـ وفي قوله «فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر» فن الالتزام أو لزوم ما لا يلزم فقد لزمت الهاء قبل الراء ، وفي هاتين الفاصلتين مع الالتزام تنكيت عجيب فإنه يقال : هل يجوز التبديل في القرينتين فتأتي كل واحدة مكان أختها؟ فيقال لا يجوز ذلك لأن النكتة في ترجيح مجيئهما على ما جاءتا عليه أن اليتيم مأمور بأدبه وأقل ما يؤدب به الانتهار فلا يجوز أن ينهى عن انتهاره وإنما الذي ينهى عنه قهره وغلبته لانكساره باليتم وعدم ناصره فمن هاهنا ترجح مجيء كل قرينة على ما جاءت عليه ولم يجز التبديل. وأدرجه بعضهم في باب التخيير من فنون البلاغة وقد تقدمت الإشارة إليه.

٤ ـ وفي قوله «ولسوف يعطيك ربك فترضى» فن الحذف ، فقد حذف مفعول يعطيك الثاني تهويلا لأمره واستعظاما لشأنه ، وإن هذه المعطيات أجلّ من أن تذكر ، وأكبر من أن تدرج أي الشيء الكثير من توارد الوحي عليك بما فيه إرشاد لك ولقومك ومن ظهور دينك وعلو كلمتك وإسعاد قومك بما تشرع لهم وإعلائك وإعلائهم على الأمم في الدنيا والآخرة.

٥١٣

سورة الشّرح

مكيّة وآياتها ثمان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

اللغة :

(وِزْرَكَ) الوزر الذنب أو الحمل الثقيل وقد تقدم شرح هذه المادة.

(أَنْقَضَ) أثقل ، وفي المختار : «وأصل الإنقاض صوت مثل النقر» وقال أبو حيان : «وقال أهل اللغة : أنقض الحمل ظهر الناقة إذا سمعت له صريرا من شدّة الحمل وسمعت نقيض المرجل أي صريره ، قال عباس بن مرداس :

وانقض ظهري ما تطويت منهم

وكنت عليهم مشفقا متحننا

وقال جميل :

٥١٤

وحتى تداعت بالنقيض حباله

وهمت بوأي زورة أن تحطما»

والنقيض صوت الانقضاض والانفكاك.

وعبارة ابن خالويه : «والمصدر أنقض ينقض إنقاضا فهو منقض ومعناه أثقل ظهرك ، والعرب تقول : أنقضت الفراريج إذا صوّتت ، قال ذو الرمة :

كأن أصوات من إيغالهنّ بنا

أواخر الميس إنقاض الفراريج

والنّقض الجمل المهزول وجمعه أنقاض».

والميس شجر تتخذ منه الرحال والمراد به هنا الرحال ، وقد فصل ذو الرمة بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور.

(فَانْصَبْ) فاتعب في الدعاء وفي المختار «ونصب تعب وبابه طرب» وفيه أيضا «فرغ من الشغل من باب دخل وفراغا أيضا» وفيه أيضا : «رغب فيه أراده وبابه طرب ورغبة أيضا وارتغب فيه مثله ورغب عنه لم يرده ويقال : رغبه فيه ترغيبا وأرغبه فيه أيضا».

الإعراب :

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) الهمزة للاستفهام التقريري أي شرحنا ولذلك عطف عليه الماضي قال الراغب : «أصل الشرح بسط اللحم ونحوه يقال شرحت اللحم وشرّحته ومنه شرح الصدر وهو بسطه بنور إلهي وسكينة من جهة الله وروح منه» ونشرح فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره نحن ولك متعلقان بشرح وصدرك مفعول به ، قال ابن خالويه : «وهذه السورة أيضا مما عدّد الله تعالى نعمه على نبيّه صلّى الله عليه وسلم وذكره إياها فلما

٥١٥

أنزل الله تبارك وتعالى : «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام» قال عبد الله بن مسعود : يا رسول الله أو يشرح الصدر؟ قال : نعم بنور يدخله الله فيه قال : وما أمارة ذلك يا رسول الله؟ قال : التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار القرار والاستعداد للموت قبل الفوت» وجاء في الحديث : «اذكروا الموت فإنكم لا تكونون في كثير إلا قلة ولا في قليل إلا كثرة» والمصدر شرح يشرح شرحا فهو شارح والمفعول به مشروح ويقال «شرح الرجل الجارية إذا افتضّها» ولك متعلقان بنشرح وصدرك مفعول به ووضعنا معطوف على ألم نشرح وعنك متعلقان بوضعنا ووزرك مفعول به والذي نعت للوزر وجملة أنقض لا محل لها لأنها صلة الذي وظهرك مفعول به ، قال ابن خالويه : «يقال الظهر والمطا والجوز والمتن والمتنة والقرا كله الظهر قال عقبة بن سابق :

ومتنتان خظاتان

كزحلوق من الهضب

ويقال للحم المتن الذّنوب ويقال لأسفل الظهر القطاة ويقال : إن فلانا من حمقه ورطاته ، لا يعرف لطاته من قطاته ، اللطاة الجبهة والقطاة أسفل الظهر» (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) عطف على ما تقدم ولك متعلقان برفعنا وذكرك مفعول به ، وفي تقديم الجار والمجرور هنا وفيما تقدم على المفعول به الصريح مع أن حقه التأخر عنه لتعجيل المسرّة والتشويق ، وعبارة ابن خالويه جميلة حيث يقول : «وكان مشركو العرب يقولون : إن محمدا صنبور أي فرد لا ولد له فإذا مات انقطع ذكره فقال الله تعالى : إن شانئك هو الأبتر أي مبغضك هو الأبتر الذي لا ولد له ولا ذكر فأما أنت يا محمد فذكرك مقرون بذكري إلى يوم القيامة إذا قال المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله قال أشهد أن محمدا رسول الله» (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) الفاء عاطفة على كلام محذوف لا بدّ من تقديره والتقدير خوّلناك ما خوّلناك فلا يخامرك اليأس فإن مع العسر

٥١٦

يسرا ، وإن حرف مشبه بالفعل ومع العسر ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدّم ويسرا اسمها المؤخر وقرن اليسر مع العسر زيادة في التسلية وتقوية القلب ، وإن مع العسر يسرا جملة مستأنفة لتقرير أن العسر متبوع بيسر والألف واللام في العسر لتعريف الجنس وفي الثاني للعهد ولذلك روي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما : «لن يغلب عسر يسرين» والسبب فيه أن العرب إذا أتت باسم ثم أعادته مع الألف واللام كان هو الأول نحو جاء رجل فأكرمت الرجل وكقوله تعالى كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ولو أعدته بغير ألف ولام كان غير الأول فقوله إن مع العسر يسرا لما أعاد العسر الثاني أعاده بالألف واللام ولما كان اليسر الثاني غير الأول لم يعدو بالألف واللام. وعبارة الزمخشري : «فإن قلت ما معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما لن يغلب عسر يسرين وقد روي مرفوعا أنه خرج صلّى الله عليه وسلم ذات يوم وهو يضحك ويقول لن يغلب عسر يسرين؟ قلت هذا حمل على الظاهر وبناء على قوة الرجاء وإن موعد الله لا يحمل إلا على أو في ما يحتمله اللفظ وأبلغه والقول فيه أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريرا للأولى كما كرر قوله ويل يومئذ للمكذبين لتقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب وكما يكرر المفرد في قولك جاءني زيد زيد ، وأن تكون الأولى عدة بأن العسر مردوف بيسر لا محالة والثانية عدة مستأنفة بأن العسر متبوع بيسر فهما يسران على تقدير الاستئناف وإنما كان العسر واحدا لأنه لا يخلو إما أن يكون تعريفه للعهد وهو العسر الذي كانوا فيه فهو هو لأن حكمه حكم زيد في قولك إن مع زيد مالا إن مع زيد مالا وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد فهو هو أيضا وأما اليسر فنكرة متناولة بعض الجنس وإذا كان الكلام الثاني مستأنفا غير مكرر فقد تناول بعضا غير البعض الأول بغير إشكال فإن قلت : فما المراد باليسرين؟ قلت يجوز أن يراد بهما ما تيسر لهم من

٥١٧

الفتوح في أيام رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما تيسر لهم في أيام الخلفاء وأن يراد يسر الدنيا ويسر الآخرة كقوله تعالى : قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين وهما حسنى الظفر وحسنى الثواب فإن قلت ما معنى هذا التنكير؟ قلت التفخيم كأنه قيل : إن مع العسر يسرا عظيما».

وقال أبو البقاء : «العسر في الموضعين واحد لأن الألف واللام توجب تكرير الأول وأما يسرا في الموضعين فاثنان لأن النكرة إذا أريد تكريرها جيء بضميرها أو بالألف واللام ومن هنا قيل لن يغلب عسر يسرين».

وعبارة ابن خالويه : «قال ابن عباس : لا يغلب عسر يسرين تفسير ذلك أن في ألم نشرح عسرا واحدا ويسرين وإن كان مكررا في اللفظ لأن العسر الثاني هو العسر الأول واليسر الثاني غير الأول لأنه نكرة والنكرة إذا أعيدت أعيدت بألف ولام كقولك جاءني رجل فأكرمت الرجل فلما ذكر اليسر مرتين ولم يدخل في الثاني ألفا ولاما علم أن الثاني غير الأول». وقال ابن هشام في كتابه الممتع مغني اللبيب في الباب السادس من الكتاب في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصواب خلافها «الرابع عشر قولهم إن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى وإذا أعيدت معرفة أو أعيدت المعرفة معرفة أو نكرة كان الثاني عين الأولى ، وحملوا على ذلك ما روي : لن يغلب عسر يسرين ، قال الزجاج : ذكر العسر مع الألف واللام ثم ثنى ذكره فصار المعنى إن مع العسر يسرين. ويشهد للصورتين الأوليين أنك تقول : اشتريت فرسا ثم بعت فرسا فيكون الثاني غير الأول ولو قلت : ثم بعت الفرس لكان الثاني عين الأول وللرابع قول الحماسي :

صفحنا عن بني ذهل

وقلنا القوم إخوان

عسى الأيام أن يرجعن

قوما كالذي كانوا

ويشكل على ذلك أمور ثلاثة : أحدها أن الظاهر في آية ألم نشرح أن الجملة الثانية تكرار للأولى كما تقول : إن لزيد دارا إن لزيد دارا

٥١٨

وعلى هذا فالثانية عين الأولى والثاني : أن ابن مسعود قال : لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه ، إنه لن يغلب عسر يسرين ، مع أن الآية في قراءته وفي مصحفه مرة واحدة فدل على ما ادّعينا من التأكيد وعلى أنه لم يستفد تكرر اليسر من تكرره بل هو من غير ذلك كأن يكون فهمه مما في التنكير من التفخيم فتأوله بيسر الدارين ، والثالث : أن في التنزيل آيات تردّ هذه الأحكام الأربعة فيشكل على الأول قوله تعالى : الله الذي خلقكم من ضعف. الآية ، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ، والله إله واحد سبحانه وعلى الثاني قوله تعالى : فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير ، فالصلح الأول خاص وهو الصلح بين الزوجين والثاني عام ولهذا يستدل بها على استحباب كل صلح جائز ومثله زدناهم عذابا فوق العذاب ، والشيء لا يكون فوق نفسه .... وعلى الرابع : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم مائدة من السماء وقوله : «إذا الناس ناس والزمان زمان» فإن الثاني لو ساوى الأول في مفهومه لم يكن في الإخبار عنه فائدة وإنما هذا من باب قوله : «أنا أبو النجم وشعري شعري» أي وشعري لم يتغير عن حالته ، فإن ادعي أن القاعدة فيهنّ إنما هي مستمرة مع عدم القرينة فأما إن وجدت قرينة فالتعويل عليها سهل» ثم أورد ابن هشام كلمة الزمخشري المذكورة آنفا. وقال التفتازاني في التلويح : «واعلم أن المراد أن هذا هو الأصل عند الإطلاق وخلو المقام عن القرينة وإلا فقد تعاد النكرة نكرة مع عدم المغايرة كقوله تعالى : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ، وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ، الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا ، وشيبة يعني قوة الشباب ومنه باب التأكيد اللفظي ، وقد تعاد النكرة معرفة مع المغايرة كقوله تعالى : وهذا كتاب أنزلناه مبارك ، ثم قال أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين

٥١٩

من قبلنا وقد تعاد المعرفة نكرة مع عدم المغايرة كقوله تعالى : إنما إلهكم إله واحد ومثله في الكلام كثير كقولهم العلم علم كذا ودخلت الدار فرأيت دار كذا وكذا ومنه بيت الحماسي». وبعد أن أوردنا أقوال الأئمة في هذه المسألة نلخصها لك تلخيصا مفيدا فنقول :

١ ـ إن الاسم إذا كرر مرتين فإن كانا نكرتين فالثاني غير الأول.

٢ ـ أو معرفتين أو الثاني فقط فهو عينه.

٣ ـ أو الأول معرفة والثاني نكرة ففيه قولان : فالأول والثاني كالعسر واليسر في قوله تعالى «فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا» والثالث نحو فيها «مصباح المصباح» والرابع كقوله : صفحنا عن بني ذهل «البيتين». وهذه القاعدة أغلبية كما دلّت عليه كلمات الأئمة الواردة آنفا. على أن ابن السبكي جلا هذا الإشكال بعبارة وقعت علينا وقوع الظمآن على القطر وهذا نصها : «الظاهر أن هذه القاعدة غير محررة لانتقاضها بأمثلة كثيرة منها في المعرفتين : «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان» فإن الأول العمل والثاني الثواب وفي تعريف الثاني وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني» فإن المراد بالثاني عموم الظن دون الأول وفي النكرتين «يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير» فإن الثاني هو الأول». وبعد أن كتبنا ما تقدم وكدنا نقنع بحل ابن السبكي عنّ لنا تعليق على هذه الاعتراضات وهو : الظاهر أن هذه الآيات لا تخرج عن القاعدة عند التأمّل بها فإن اللام في الإحسان فيما يبدو للجنس لا للعهد كما قال ابن السبكي وحينئذ يكون في المعنى كالنكرة بخلاف آية العسر فإن أل فيها إما لمعهود ذهني وهو ما حصل له صلّى الله عليه وسلم وللمسلمين من الشدة من الكفار أو للاستغراق كما يفيده الحديث وقد تقدم ذلك وكذا آية الظن لا نسلم فيها بأن الثاني غير الأول بل هو عين الأول قطعا إذ ليس كل ظن مذموما كيف وأحكام الشريعة ظنية وكذا آية الصلح لا مانع من أن يكون المراد بها الصلح المذكور وهو الذي بين الزوجين واستحسان الصلح في جميع الأمور

٥٢٠