إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١٠

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١٠

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٩

والأم بالفتح والتشديد بمعنى المرعى لأنه يؤبّ ويؤمّ أي يقصد والمكرع : المنهل. يقول : نحن من قبيلة قيس ونجد هي دارنا ولنا به أي في نجد المرعى والمروي وفيه تمدح بالشرف والشجاعة.

وقيل إن الصحابة وهم أهل الحجاز وأصحاب اللغة التي نزل بها القرآن لم يفهموا بعض الغريب في آيات الكتاب ، من ذلك ما أخرجه أبو عبيد في الفضائل عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله تعالى : «وفاكهة وأبا» فقال : أي سماء تظلّني وأي أرض تقلّني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم. ونقل عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر «وفاكهة وأبا» فقال : هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟ثم رجع إلى نفسه فقال : إن هذا لهو الكلف يا عمر ، وفي رواية ثم رفض عصا كانت بيده وقال : هذا لعمر الله التكلف وما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأبّ ثم قال : اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه. وقد علّق الزمخشري على كلمة عمر تعليقا بديعا نورده فيما يلي :«فإن قلت فهذا يشبه النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته قلت : لم يذهب إلى ذلك ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم فأراد أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره وقد علم من فحوى الآية أن الأب بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له ولأنعامه فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك ولم يشكل مما عدّد من نعمه ، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأبّ ومعرفة البنات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت ، ثم وصّى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن».

٣٨١

كيف بدأ تفسير القرآن؟

ونرى استيفاء لهذا البحث الهام أن نعرض لهذا الموضوع بشيء من التفصيل لعلاقته التامة بالمنهج الذي جرينا عليه في هذا الكتاب ؛ فالواقع أن القرآن شغل طوائف كثيرة من الناس فترة من الزمن ، شغل به أهل الإيمان ، وتتبعه أهل الكفر كلّ من ناحية اهتمامه ، وأول ما بدأت دراسات القرآن وتفسيره زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم ففي عهده نرى أعرابيا يسأله في معنى بعض ألفاظ القرآن في مثل قوله تعالى «ولم يلبسوا إيمانهم بظلم» قائلا : وأيّنا لم يظلم نفسه؟ وفسّره النبي صلّى الله عليه وسلم بالشرك واستشهد عليه بقوله تعالى : «إن الشرك لظلم عظيم» وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم في كتب الحديث كالبخاري ومسلم وغيرها كثير من الأحاديث التي تتعلق بتفسير القرآن وبعضها ينحصر في ذكر فضائله وتفسير بعض آياته تفسيرا مختصرا يبيّن وجه التشريع أو الموعظة في الآية وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة اقرءوا إن شئتم : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا» على أنه قد لا يوضع موضع الاعتبار كل ما جاء من الحديث في التفسير ، فأحمد بن حنبل ـ في القرن الثالث الهجري ـ يقول : ثلاثة أشياء لا أصل لها : التفسير والملاحم والمغازي ، ولعلّه يقصد بالتفسير الذي خلط فيه الناس بين الصحيح وغير الصحيح من الحديث مما كان مدار أخذ وردّ وقول كثيرين في عصره.

على أن الصحابة وقفوا في صدر الإسلام موقفين : متحرّج من القول في القرآن ومن هؤلاء أبو بكر وعمر وعبد الله بن عمر وغيرهم وكان عبد الله يأخذ على ابن عباس تفسيره القرآن بالشعر والقسم الثاني الذين لم يتحرّجوا وفسّروا القرآن حسب ما فهموا من الرسول أو حسب

٣٨٢

فهمهم الخاص بالمقارنة إلى الشعر العربي وكلام العرب ومن هؤلاء علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس ومن أخذ عنهما وقد وقف ابن عباس على رأس المفسرين بالرأي المتخذين شعر العرب وسيلة إلى كشف معاني القرآن وكان علي بن أبي طالب يثني على ابن عباس ويقول : كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق.

وفي كامل المبرد وأغاني أبي الفرج الأصبهاني أنه دخل عمر بن أبي ربيعة وهو غلام على ابن عباس وعنده نافع بن الأرزق فقال له ابن عباس : ألا تنشدنا شيئا من شعرك يا ابن أخي؟ فأنشده :

أمن آل نعم أنت غاد فمبكر

غداة غد أوم رائح فمهجر

حتى أتمّها وهي ثمانون بيتا فقال له الأزرق : لله أنت يا ابن عباس أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين ويأتيك غلام من قريش ينشدك سفها فتسمعه فقال : تالله ما سمعت سفها فقال : أما أنشدك؟

رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت

فيخزى وأما بالعشي فيخسر

فقال : ما هكذا قال إنما قال : فيضحى وأما بالعشي فيخصر ، قال : أو تحفظ الذي قال؟ فقال والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه ثم أنشدها من أولها إلى آخرها فقيل له : ما رأينا أروى منك فقال : ما سمعت شيئا قطّ فنسيته وإني لأسمع صوت النائحة فأسدّ أذني كراهة أن أحفظ ما تقول ، ثم إن نافعا اتفق له أنه سأل ابن عباس عن قوله تعالى «لا تظمأ فيها ولا تضحى» قال : لا تعرق فيها من شدة حرّ الشمس قال :وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم أما سمعت قول الشاعر «فيضحى» ومن هؤلاء الصحابة الذين يذهبون هذا المذهب ابن مسعود وأبيّ بن كعب وغيرهما وتبعهم الحسن البصري وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم.

٣٨٣

(الصَّاخَّةُ) في المختار : «الصاخة : الصيحة تصمّ بشدتها تقول صخ الصوت من باب ردّ ومنه سمّيت القيامة الصاخة» وقال الزمخشري : «صخ لحديثه مثل أصاخ له فوصفت النفخة بالصاخة مجازا لأن الناس يصخون لها» وقال أبو بكر بن العربي : «الصاخة هي التي تورث الصمم وإنها لمسمعة وهذا من بديع الفصاحة كقوله :

أصمّهم سرّهم أيام فرقتهم

فهل سمعتم بسر يورث الصمما

وقول أبي تمام :

أصم بك الناعي وإن كان اسمعا

وأصبح مغنى الجود بعدك بلقعا

ولعمر الله أن صيحة القيامة مسمعة تصمّ عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة.

(تَرْهَقُها) في المختار : «رهقه غشيه باب طرب ومنه قوله تعالى :ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلّة ، وفي الحديث : إذا صلّى أحدكم على الشيء فليرهقه أي فليغشه ولا يبعد عنه».

(قَتَرَةٌ) سواد كالدخان ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه.

الإعراب :

(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في بيان ما أنعم عليه بعد المبالغة في وصفه بكفران نعم خالقه ، ومن أيّ شيء متعلقان بخلقه والاستفهام للتقرير مع التحقير جمع بينهما بعض المفسرين فقال : «هنا الاستفهام لتقرير التحقير ، ومن

٣٨٤

نطفة بدل بإعادة الجار من قوله من أي شيء خلقه والفاء للترتيب في الذكر وقدّره فعل ماض وفاعل مستتر جوازا تقديره هو ومفعول به (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي والسبيل منصوب على الاشتغال بفعل مقدّر تقديره ثم يسّر السبيل يسّره والتعريف لإفادة العموم ، وجملة يسّره مفسّرة ، وعبارة السمين : قوله ثم السبيل يسّره يجوز أن يكون الضمير للإنسان والسبيل ظرف أي يسّر للإنسان الطريق أي طريق الخير أو الشر كقوله وهديناه النجدين ، وقال أبو البقاء : ويجوز أن ينتصب بأنه مفعول ثان ليسّره والهاء للإنسان أي يسّره للسبيل أي هداه له قلت فلا بدّ من تضمينه معنى أعطى حتى ينصب اثنين أو يحذف حرف الجر أي يسّره للسبيل أي هداه له. وما بعده عطف عليه ، وقال فأقبره ولم يقل فقبره لأن القابر هو الدافن بيده والمقبر هو الله تعالى يقال :قبر الميت إذا دفنه بيده وأقبره إذا أمر غيره أن يجعله في قبر ، ومفعول المشيئة محذوف والتقدير إذا شاء إنشاره (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) ردع وزجر للإنسان المسترسل في عمايته المغترّ باغتراره المتطاول تيها بعجبه ولما حرف نفي جازم ويقض فعل مضارع مجزوم بلما وعلامة جزمه حذف حرف العلة وجزم بلما للدلالة على أن العجب والكبر ما زالا يلازمان الإنسان حتى الساعة التي هو فيها وما مفعول به وجملة أمره صلة والعائد محذوف أي به (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في تعداد النعم المترادفة على الإنسان واللام لام الأمر وينظر فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والإنسان فاعل وإلى طعامه متعلقان بينظر (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) أنّا بفتح الهمزة وهي وما بعدها في تأويل مصدر في محل جر بدل اشتمال من طعامه والمعنى أن صبّ الماء سبب في إخراج الطعام فهو مشتمل عليه وقرىء بكسر الهمزة على الاستئناف المبين لكيفية إحداث الطعام وأن واسمها وجملة

٣٨٥

صببنا فعل وفاعل والماء مفعول به وصبا مفعول مطلق (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في إعرابها ، وسيأتي سرّ إسناد الشقّ له تعالى في باب البلاغة (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا) الفاء عاطفة وأنبتنا فعل وفاعل وفيها متعلقان بأنبتنا وحبا مفعول به وما بعده عطف عليه. والقضب والقضبة : الرطبة (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) متاعا مصدر مؤكد لأنبتنا لأن إنباته الأشياء إمتاع لجميع الكائنات الحيّة أو مفعول لأجله والعامل فيه محذوف تقديره فعل ذلك متاعا لكم ، ولكم متعلقان بمتاعا ولأنعامكم عطف على لكم (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) الفاء استئنافية والكلام مستأنف مسوق للشروع في بيان أحوالهم يوم المعاد ولك أن تجعل الفاء عاطفة والكلام معطوف لترتيب ما بعدها على ما قبلها من النعم السوابغ والآلاء المترادفة ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب المحذوف المفهوم من قوله لكل امرئ والتقدير اشتغل كل واحد بنفسه ، وجملة جاءت في محل جر بإضافة الظرف إليها والصاخة فاعل ويوم بدل من إذا أي يفرّ فيه وجملة يفرّ في محل جر بإضافة الظرف إليها والمرء فاعل ومن أخيه متعلقان بيفر وما بعده عطف على أخيه ولكل امرئ خبر مقدّم ومنهم نعت لامرىء ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله وهو متعلق بيفنيه والتنوين عوض عن أي يوم إذ حصلت هذه الأمور المتعددة وشأن مبتدأ مؤخر وجملة يغنيه نعت لشأن (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) وجوه مبتدأ سوّغ الابتداء به مع أنه نكرة التنويع ويومئذ ظرف أضيف لمثله متعلق بمسفرة والتنوين عوض عن جملة ومسفرة خبر وجوه وضاحكة ومستبشرة خبران آخران لوجوه (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) الواو عاطفة ووجوه مبتدأ ويومئذ ظرف أضيف لمثله متعلق بترهقها وعليها خبر مقدم وغبرة مبتدأ

٣٨٦

مؤخر والجملة خبر وجوه وجملة ترهقها قترة خبر ثان لوجوه وترهقها فعل مضارع ومفعول به مقدم وقترة مبتدأ مؤخر (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والكفرة الفجرة خبران لأولئك أو لهم والجملة خبر أولئك.

البلاغة :

الإسناد المجازي في قوله : (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) إسناد مجازي ، فقد أسند تعالى الشق إلى نفسه من باب إسناد الفعل إلى السبب وقيل الإسناد حقيقي وإن القول بمجازيته هو من أقوال المعتزلة ، ولكن البيضاوي نفسه يتبع الزمخشري في مجازية الإسناد فيقول : أسند الشق إلى نفسه تعالى إسناد الفعل إلى السبب ، والحق مع الزمخشري في هذا فإن مجازيته لا تعني أن أفعال العباد مخلوقة لهم لأن الفعل إنما يسند حقيقة لمن قام به لا لمن أوجده فالاعتراض عليه تعسّف.

٣٨٧

سورة التّكوير

مكيّة وآياتها تسع وعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤))

اللغة :

(كُوِّرَتْ) لفّت وذهب بضوئها وفي المصباح : «كار الرجل العمامة كورا من باب قال أدارها على رأسه وكل دور كور تسميته بالمصدر والجمع أكوار مثل ثوب وأثواب ، وكوّرها بالتشديد مبالغة ومنه يقال

٣٨٨

كورت الشيء إذا لففته على وجه الاستدارة وقوله تعالى : إذا الشمس كوّرت المراد به طويت كطي السجل» وعبارة الزمخشري : «في التكوير وجهان : أن يكون من كورت العمامة إذا لففتها أي يلف ضوءها لفّا فيذهب انبساطه وانتشاره في الآفاق وهو عبارة عن إزالتها والذهاب بها لأنها ما دامت باقية كان ضياؤها منبسطا غير ملفوف أو يكون لفّها عبارة عن رفعها وسترها لأن الثوب إذا أريد رفعه لفّ وطوي ونحوه قوله : يوم نطوي السماء ، وأن يكون من طعنه فجوّره وكوّره إذا ألقاه أي تلقى وتطرح عن فلكها كما وصفت النجوم بالانكدار» ويتلخص مما أوردته معاجم اللغة ما يلي : «كار يكور كورا العمامة على رأس لفّها وأدارها وكور الله الليل على النهار : أدخل هذا في هذا وكورت الشمس جمع ضوءها ولفّ كما تلف العمامة قيل : اضمحلت وذهبت».

(انْكَدَرَتْ) انقضت وتساقطت على الأرض والأصل في الانكدار الانصباب ، وقال أبو عبيدة : انكدرت انصبّت كما تنصبّ العقاب إذا كسرت ، قال العجاج يصف صقرا :

أبصر حرمات فلاة فانكدر

تقصي البازي إذا البازي كسر

(الْعِشارُ) النوق الحوامل جمع عشراء كالنفاس جمع نفساء وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة وهي أنفس ما يكون عند أهلها ، وروي أنه صلّى الله عليه وسلم مرّ في أصحابه بعشار من النوق فغضّ بصره فقيل له : هذه أنفس أموالنا فلم لا تنظر إليها فقال : قد نهاني الله عن ذلك ثم تلا : ولا تمدنّ عينيك الآية.

(سُجِّرَتْ) سجر يسجر سجرا من باب نصر التنور ملأه وقودا وأحماه وسجر الماء النهر ملأه وسجر البحر فاض وسجر الماء في حلقه صبّه وسجر الكلب شدّه بالساجور وسجر الشيء أرسله ، هذا ما ذكرته

٣٨٩

معاجم اللغة بصدد هذه المادة وفي الأساس : «كلب مسجور ومسجّر ومسوجر وقد سجرته وسجّرته وسوجرته : طوقته الساجور وهو طوق من حديد مسمّر بمسامير حديدة الأطراف ، وبحر مسجور ومسجّر ، وعين مسجورة ومسجّرة : مفعمة وسجر السيل الآبار والأحساء ومررنا بكل حاجر وساجر وهو كل مكان مرّ به السيل فملأه وسجر التنور ملأه سجورا وهو وقوده وسجره بالمسجرة وهي المسعر. ومن المجاز :سجرت الناقة سجرا وسجّرت تسجيرا : مدّت حنينتها في إثر ولدها وملأت به فاها قال :

حنّت إلى برك فقلت لها : قرّي

بعض الحنين فإن سجرك شائقي

ومنه ساجرته مساجرة وهي المخالّة والمخالطة وهو سجيري وهم سجرائي لأن كل واحد منهما يسجر إلى صاحبه : يحنّ ومنه ماء أسجر وهو الذي خالطته كدرة وحمرة من ماء السماء يقال : إن فيه لسجرة وإنه لأسجر وقطرة سجراء وعين سجراء قال الحويدرة :

بغريض سارية أدرّته الصبا

من ماء أسجر أطيب المستنقع

وعين سجراء : خالطت بياضها حمرة وإن في عينك لسجرة وفي أعناقهم السواجير أي الأغلال» وقد مرّ شيء من معنى هذه المادة في الطور وعلى هذا كثرت الأقوال في المراد بها هنا وقد أحصى القرطبي كعادته الأقوال فيه ونشير إليها بإيجاز :

١ ـ وإذا البحار سجرت : أي ملئت من الماء فيفيض بعضها إلى بعض فتصير شيئا واحدا.

٢ ـ وقيل أرسل عذبها على مالحها حتى امتلأت.

٣ ـ وقيل صارت بحرا واحدا.

٤ ـ وقيل يبست فلا يبقى من مائها قطرة.

٣٩٠

٥ ـ وقيل أوقدت فصارت نارا.

٦ ـ وقيل : هي حمرة مائها حتى تصير كأنها الدم.

(الْمَوْؤُدَةُ) قال في الأساس : وأد ابنته أثقلها بالتراب «وإذا الموءودة سئلت» وقال الفرزدق :

وجدي الذي منع الوائدات

وأحيا الوئيد فلم يوأد»

ووأد ابنته يئدها من باب ضرب : دفنها في التراب وهي حيّة فالابنة وئيد ووئيدة وموءودة. وقال الزمخشري في الكشاف : «وأد يئد مقلوب من آد يئود إذا أثقل ، قال الله تعالى : ولا يئوده حفظهما لأنه إثقال بالتراب» وتعقبه أبو حيان في البحر فقال : لا يدعى في وأد أنه مقلوب من آد لأن كلّا منهما كامل التصرّف في الماضي والأمر والمضارع والمصدر واسم الفاعل واسم المفعول وليس فيه شيء من مسوّغات ادّعاء القلب والذي تعلم به الأصالة من القلب أن يكون أحد النظمين فيه حكم يشهد له بالأصالة والآخر ليس كذلك أو كونه مجردا من حروف الزيادة والآخر فيه مزيد أو كونه أكثر تصرفا والآخر ليس كذلك أو أكثر استعمالا من الآخر وهذا على ما قرر وأحكم في علم التصريف فالأول كيئس وأيس والثاني كطأمن واطمأن والثالث كشوائع وشواع والرابع كلعمري ورعملي».

الإعراب :

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجوابها في الإثني عشر موضعا التي وقعت فيها قوله : علمت نفس كما سيأتي وهي متعلقة بجوابها والشمس نائب فاعل بفعل مقدّر يفسره ما

٣٩١

بعده وإلى هذا جنح الزمخشري ومنع أن يرتفع بالابتداء لأن إذا تتقاضى الفعل لما فيها من معنى الشرط ولكن ما منعه الزمخشري من وقوع المبتدأ بعدها أجازه الكوفيون والأخفش من البصريين وجملة كورت مفسرة لا محل لها (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) عطف على ما تقدم مماثلة لها في الإعراب ولكن النجوم هنا فاعل بفعل يفسّره قوله «انكدرت» (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ ، وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) عطف أيضا والجبال والعشار نائبا فاعل بفعل محذوف ومعنى تعطيلها تركها بلا راع ولا حلب لما دهاهم من الأمر (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) عطف أيضا (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) عطف أيضا والمعنى ردّت الأرواح إلى أجسادها وهذا بناء على أن التزويج بمعنى جعل الشيء زوجا والنفوس على هذا بمعنى الأرواح ، وقيل : يقرن كل امرئ بشيعته وكل مشاكل بمشاكله فيقرن بين الرجل الصالح والرجل الصالح في الجنة (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) عطف أيضا وبأي متعلقان بقتلت والجملة سدّت مسدّ مفعول سئلت الثاني وكان العرب إذا ولد لأحدهم بنت واستحياها ألبسها جبّة من صوف أو شعر وتركها ترعى الإبل والغنم وإذا أراد قتلها تركها حتى إذا صارت سداسية قال لأمها : طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر حفرة أو بئرا في الصحراء فيذهب بها إليها ويقول لها : انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض ، وقد افتخر الفرزدق وهو أبو فراس همّام بن غالب بن صعصعة بجدّه صعصعة إذ كان منع وأد البنات كما تقدم (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) عطف على ما تقدم أيضا (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) الجملة لا محل لها لأنها جواب إذا كما تقدم وعلمت نفس فعل ماض وفاعل وما مفعول به وجملة أحضرت لا محل لها لأنها صلة ما.

٣٩٢

البلاغة :

التنكير :

في قوله «علمت نفس ما أحضرت» التنكير في نفس وفائدته العموم ، وقد يعترض معترض بأن النكرة لا تفيد العموم إلا إذا كانت في سياق النفي ، وعلى هذا فهي هنا واقعة في سياق الإثبات وهي فيه تكون للإفراد أو النوعية فكيف يتفق الإفراد والنوعية مع المقام الذي يناسبه العموم ، والجواب عن هذا الاعتراض أن ما ذكر من كونها في سياق النفي والإثبات أكثري لا كلّي فلا ينافي أنه قد يقصد بها العموم بمعونة المقام وثمّة جواب آخر عن هذا الاعتراض وهو أن النكرة هنا وقعت في سياق الشرط وسياق الشرط كسياق النكرة في أن النكرة للعموم إذا وقعت في كلّ منهما.

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

اللغة :

(بِالْخُنَّسِ) الخنس : الكواكب كلها والسيارات منها فقط أو بعضها

٣٩٣

من الخنس وهو الرجوع لأنها ترجع في مجراها وراءها والفعل خنس يخنس من باب دخل ، وفي الصحاح : الخنس الكواكب كلها لأنها تخنس في المغيب ولأنها تخفى نهارا ويقال : هي الكواكب السيّارة منها دون الثابتة ، وقال الفرّاء في قوله تعالى فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس أنها النجوم الخمسة زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد لأنها تخنس في مجراها وتكنس كما تكنس الظباء في المغار ، والخنس أيضا مأوى الظباء والظباء نفسها والبقر الوحشية.

(الْكُنَّسِ) في المصباح : وكناس الظبي بالكسر بيته وكنس الظبي كنوسا من باب نزل دخل كناسه ، وتكنس الظبي تغيب واستتر في كناسه وتكنس الرجل : دخل في الخيمة وتكنست المرأة دخلت في الهودج.

(عَسْعَسَ) أقبل بظلامه أو أدبر قال العجاج :

حتى إذا الصبح لها تنفسا

وانجاب عنها ليلها وعسعسا

الإعراب :

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) الفاء استئنافية ولا تقدم القول فيها فجدد به عهدا وأقسم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا وبالخنس متعلق بأقسم والجواري نعت أو بدل والكنس نعت للجواري ، والليل : الواو للقسم أيضا والليل مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وإذا ظرف متعلق بفعل القسم وجملة عسعس في محل جر بإضافة الظرف إليها ، والصبح إذا تنفس عطف على الجملة السابقة وإنما لم نعطف الليل على الخنس لأن الواو ابتداء قسم فإن قيل فقد خالفتم سيبويه فإنه لا يرى الواو المتعقبة للقسم ابتداء قسم بل

٣٩٤

عاطفة وقد جعلتم الواو الأولى وهي متعقبة للقسم ابتداء قسم؟ قلنا إنما تكلم سيبويه في الواو وأما الآية فالقسم الأول فيها بالباء والفعل فجعلنا الواو بعد ذلك قسما وتبعا وهو أبلغ كأنه أقسم بشيئين مختلفين فإن قيل أجل إنما تكلم سيبويه على الواو المتعقبة للقسم فما الفرق بين الواو المتعقبة للقسم بالواو والواو المتعقبة للقسم بالباء وما هما إلا سواء فإن كل واحد منهما آلة له والتاء تدل على الباء فحكمهما واحد قلنا ليستا سواء فإن القسم متى صدر بالواو ولم تله واو أخرى فجعلها قسما الآخر فيه تكرار مستكره إذ الآلة واحدة ولا كذلك الآية إذ اختلفت الآلة فإن عاملة التكرار مأمونة إذا ألا ترى أنه لو صدر القسم بالواو ثم تلاه قسم بالباء لتحتم جعلهما قسمين مستقلين فكذلك لو خولف هذا الترتيب وأيضا فإنه إن كان المانع لسيبويه من جعل الواو الثانية قسما مستقلا فجيء الجواب واحدا واحتياج الواو الأولى إلى محذوف فالعطف يغني عن تقدير محذوف فلا يلزم اطّراد الباء لأنها أصل القسم لا سيما مع التصريح بفعل القسم ثم تأكيده بزيادة لا فإن في مجموع ذلك ما يغني عن إفراده بجواب مذكور ولا كذلك الواو فإنها ضعيفة المكنة في القسم بالنسبة إلى الباء فلا يلزم من حذف جواب تمكنت الدلالة عليه حذف جواب دونه في الوضوح. ونختم الكلام على هذا السؤال بنكتة بديعة :وهي أنه إنما خصصت إيراد السؤال بالواو الثانية في قوله والليل إذا عسعس دون الثالثة لأنه غير متوجه عليها ، ألا تراك لو جعلتها عاطفة لم يلزمك العطف على عاملين لأنك تجعلها نائبة عن الباء وتجعل إذا فيها منصوبة بالفعل مباشرة إذا لم يتقدم في جملة الفعل ظرف تعطف عليه إذا فتصير بمثابة قولك مررت بزيد وعمرو اليوم فاليوم منصوب بالفعل مباشرة وفهم من المثال أن مرورك بزيد مطلق غير مقيد بظرف وإنما المقيد باليوم مرورك بعمرو خاصة لكن يطابق الآية فإن الظرف فيها وإن عمل فيه الفعل مباشرة فهو مقيد للقسم بالليل لا للقسم بالخنس

٣٩٥

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وإن واسمها واللام المزحلقة وقول خبرها ورسول مضاف إليه وكريم نعت ، وسيأتي المراد به في باب الفوائد (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) ذي قوة صفة ثانية لرسول وعند ذي العرش حال من مسكين لأنه كان في الأصل صفة له فلما قدم نصب حالا ، ومكين صفة ثالثة ومطاع صفة رابعة وثم ظرف بمعنى هناك متعلق بمطاع وأمين صفة خامسة (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) الواو عاطفة والجملة عطف على إنه لقول رسول كريم وما نافية حجازية وصاحبكم اسمها والباء حرف جر زائد ومجنون مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) عطف على قوله إنه لقول إلخ فهو داخل في حيز المقسم به واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ورآه فعل ماض وفاعل مستتر وبالأفق متعلقان برآه والمبين نعت للأفق (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) عطف أيضا وما نافية حجازية وهو اسمها وعلى الغيب متعلقان بضنين والباء حرف جر زائد وضنين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما وعلى بمعنى الباء أي فلا يبخل به عليكم بل يخبركم به وقرىء بظنين بالظاء المعجمة أي بمتهم ، وفي المصباح : «والظنة بالكسر التهمة وهي اسم من ظننته من باب قتل إذا اتهمته فهو ظنين فعيل بمعنى مفعول وفي السبعة وما هو على الغيب بظنين أي بمتهم» وفي المصباح أيضا : «ضن بالشيء يضنّ من باب تعب ضنا وضنّة بالكسر وضنانة بالفتح بخل فهو بخيل ومن باب ضرب لغة فيه» (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) عطف أيضا وهو نفي لقولهم أنه كهانة وسحر (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) الفاء عاطفة وأين اسم استفهام في محل نصب ظرف مكان مبهم لا مختص متعلق بتذهبون ، وتذهبون فعل مضارع مرفوع وفاعل أي فأي طريق تسلكون (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) إن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر وذكر خبر وللعالمين متعلقان

٣٩٦

بذكر أو نعت له ولمن بدل من قوله للعالمين بإعادة العامل وهو اللام وجملة شاء لا محل لها لأنها صلة من ومنكم حال وأن وما في حيّزها مفعول به لشاء (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة وما نافية وتشاءون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وإلا أداة حصر وأن وما بعدها في موضع نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بتشاءون والله فاعل ورب العالمين بدل أو نعت لله واختار البيضاوي نصب المصدر المؤول على الظرفية وعبارته : «وما تشاءون الاستقامة يا من تشاءونها إلا أن يشاء الله أي إلا وقت أن يشاء الله مشيئتكم فله الفضل والحق عليكم باستقامتكم».

الفوائد :

اختلف أهل التفسير فذهب منهم الجمّ الغفير إلى أن المراد بالرسول الكريم هاهنا إلى آخر النعوت محمد صلّى الله عليه وسلم ، فإن يكن الأمر كذلك فذلك فضل الله المعتاد على نبيّه ، وذهب منهم الجم الغفير أيضا إلى أن المراد به جبريل عليه السلام ، وقد شجر الخلاف حول المفاضلة بين الملائكة والرسل ، والمشهور عن أبي الحسن الأشعري تفضيل الرسل ، ومذهب المعتزلة تفضيل الملائكة إلا أن المختلفين أجمعوا على أنه لا يسوغ تفضيل أحد القبيلين الجليلين بما يتضمن تنقيص معين من الملائكة ومعين من الرسل لأن التفضيل وإن كان ثابتا إلا أن في التعيين إيذاء للمفضول ، وعليه حمل الحذّاق قوله صلّى الله عليه وسلم : لا تفضّلوني على يونس بن متى أي لا تعينوا مفضولا على التخصيص لأن التفضيل على التعميم ثابت بإجماع المسلمين ، أي تفضيل النبي صلّى الله عليه وسلم على جميع النبيين أجمعين. وكان ابن فارس ، رحمه الله ، يوضّح ذلك بمثال فيقول : لو

٣٩٧

قلت بحضرة جماعة من الفقهاء : فلان أفضل أهل عصره لكان في الجماعة احتمال لهذا التفضيل وإن لزم اندراجهم في المفضولين ولو عينت واحدا منهم وقلت : فلان أفضل منك لأسرع به الأذى إلى بعضك.

وقال القاضي البيضاوي : «واستدل به على فضل جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام حيث عدّ فضائل جبريل واقتصر على نفي الجنون عنه صلّى الله عليه وسلم وهو ضعيف إذ المراد منه ردّ قولهم إنما يعلّمه بشر افترى على الله كذبا أم به جنة ، لا تعداد فضلهما والموازنة بينهما».

أما الكرخي فقال : «ثم إنك إذا أمعنت النظر وقفت على أن إجراء تلك الصفات على جبريل في هذا المقام إدماج لتعظيم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنه بلغ من المكانة وعلو المنزلة عند ذي العرش بأن جعل السفير بينه وبينه مثل هذا الملك المقرّب المطاع الأمين فالقول في هذه الصفات بالنسبة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم رفعة منزلة له كالقول في قوله ذي العرش بالنسبة إلى رفعة منزلة جبريل عليه السلام».

أما الزمخشري فقد أتى بما لعل جبريل صلوات الله عليه ما كان ليرضى به من تقصير في حق البشير النذير بقوله : «وناهيك بهذا دليلا على مكانة جبريل عليه السلام وفضله على الملائكة ومباينة لمنزلة أفضل الإنس محمد صلّى الله عليه وسلم إذا وازنت بين الذكرين حين قرن بينهما وقايست بين قوله : إنه لقول رسول كريم ، ذي قوة عند ذي العرش مكين ، مطاع ثم أمين وبين قوله : وما صاحبكم بمجنون».

وقد ردّ ابن المنير كعادته على الزمخشري فقال : «ثم يعود الكلام

٣٩٨

على الآية بعد تسلم أن المراد جبريل وبعد أن نكله في تعيينه النبي صلّى الله عليه وسلم وعدّه مفضولا إلى الله فنقول : لم يذكر فيها نعت إلا وللنبي صلّى الله عليه وسلم مثله أو لها رسول كريم فقد قال في حقه صلّى الله عليه وسلم في آخر سورة الحاقة إنه لقول رسول كريم وقد قيل أيضا أن المراد جبريل إلا أنه يأباه قوله : وما هو بقول شاعر وقد وافق الزمخشري على ذلك فيما تقدم فهذا أول الفوت وأعظمها وأما قوله ذي قوة فليس محل الخلاف إذ لا نزاع في أن لجبريل عليه السلام فضل القوة الجسمية ومن يقتلع المدائن بريشة من جناحه لا مراء في فضل قوته على قوة البشر وقد قيل هذا في تفسير قوله : ذو مرة فاستوى وقوله عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين فقد نبتت طاعة الملائكة أيضا لنبيّنا صلّى الله عليه وسلم وورد أن جبريل عليه السلام قال للنبي : إن الله يقرئك السلام وقد أمر ملك الجبال يطيعك عند ما آذته قريش فسلم عليه الملك وقال : إن أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت فصبر النبي صلّى الله عليه وسلم واحتسب ، وأعظم ذلك وأشرف مقامه المحمود في الشفاعة الكبرى يوم لا يتقدمه أحد إذ يقول الله تعالى له : ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع وأما أمين فقد قال والله إني لأمين في الأرض أمين في السماء وحسبك قوله : وما هو على الغيب بظنين إن قرأته بالظاء فمعناه أنه صلّى الله عليه وسلم أمين على الغيب غير متهم وإن قرأته بالضاد رجع إلى الكرم فكيف يذهب إلى التفضيل بالنعوت المشتركة بين الفاضل والمفضول سواء».

البلاغة :

١ ـ في قوله : «والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس» استعارة مكنية ، فقد شبّه الليل بإنسان يقبل ويدبر ثم حذف المشبه وأخذ منه

٣٩٩

شيئا من لوازمه وهي لفظة عسعس أي أقبل وأدبر كما شبّه الصبح بكائن حي يتنفس فحذف المشبه وأتى بشيء من لوازمه وهو التنفس أي خروج النفس من الجوف ، أو يقال أنه شبّه الليل بالمكروب الحزين الذي حبس بحيث لا يتحرك فإذا تنفس وجد راحته وهنا لما طلع الصبح فكأنه تخلص من الحزن كلية فعبّر عن ذلك بالتنفس.

٢ ـ وفي قوله «فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس» فن الالتزام فقد لزمت النون قبل السين.

٤٠٠