إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١٠

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١٠

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٩

اللغة :

(ناضِرَةٌ) من النضرة حسنة مضيئة والنضرة هي التنعم ومنه غصن ناضر ، يقال : نضر ينضر من باب دخل ونضر ينضر من باب تعب ونضر ينضر من باب ظرف نضرا ونضرة ونضرا ونضورا ونضارة الوجه أو اللون أو الشجر وغيرها : نعم وحسن وكان جميلا فهو ناضر ونضر ونضير ، وأنضر العود أيضا قال الكميت :

ورت بك عيدان المكارم كلها

وأورق عودي في ثراك وأنضرا

وفي الأساس : «ولها سوار من نضر ونضار وهو الذهب وقيل : كل خالص نضار من ذهب وغيره ، وقدح من نضار وهو أثل ورسيّ اللون بغور الحجاز ، ومن المجاز : نضر وجهه : حسن وغضّ وجارية غضة

٣٠١

ناضرة وغلام غضّ : ناضر ونضر الله وجهه وأنضره : حسّنه وقد يقال نضره بالتخفيف ووجه منضور وليس بذاك ، قال :

نضّر الله أعظما دفنوها

بسجستان طلحة الطلحات

وفي الحديث «نضّر الله من سمع مقالتي فوعاها» ونجار نضار : خالص ، قال الأفوه :

كرم الفعل إذا ما فعلوا

ونجار في اليمانين نضار»

(فاقِرَةٌ) داهية عظيمة تكسر الظهر أو فقاره والفقار بفتح الفاء كما في القاموس وهو جمع فقارة بفتح الفاء وفي المصباح : «وفقرت الداهية الرجل فقرا من باب قتل نزلت به فهو فقير فعيل بمعنى مفعول وفقارة الظهر بالفتح الخرزة والجمع فقار بحذف الهاء مثل سحابة وسحاب ، قال ابن السكيت : ولا يقال فقارة بالكسر والفقرة لغة في الفقارة وجمعها فقر وفقرات مثل سدرة وسدر وسدرات» وفي القاموس : «والفقر بالكسر والفقرة والفقارة بفتحهما ما يتصل من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب».

(التَّراقِيَ) جمع الترقوة وهي العظم الذي في أعلى الصدر بين ثغرة النحر والعاتق وهما ترقوتان والجمع التراقي والترايق ويقال : ترقاه ترقاة أي أصاب ترقوته وقد بلغت روحه التراقي إذا شارف الموت.

(راقٍ) اسم فاعل إما من رقي بالفتح في الماضي والكسر في المضارع من الرقية وهي كلام معد للاستشفاء يرقى به المريض ليشفى وفي الحديث : وما أدراك أنها رقية يعني الفاتحة وهي من أسمائها وإما من رقي بالكسر في الماضي والفتح في المضارع من الرقي وهو الصعود أي إن الملائكة تقول : من يصعد بهذه الروح.

(يَتَمَطَّى) مضارع تمطى وفيه قولان : أحدهما أنه من المطا وهو الظهر ومعناه يتبختر أي يمدّ مطاه ويلويه تبخترا في مشيته والثاني أن أصله يتمطط من تمطط أي تمدّد ومعناه أنه يتمدد في مشيته تبخترا ومن

٣٠٢

لازم التبختر ذلك فهو يقرب من معنى الأول ويفارقه في مادته إذ مادة المطا م ط وو مادة الثاني م ط ط وإنما أبدلت الطاء الثانية ياء كراهة اجتماع الأمثال والمطيطاء التبختر ومدّ اليدين في المشي والمطيط الماء الخاثر أسفل الحوض لأنه يتمطط أي يمتد فيه وفي الحديث : إذا مشيت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم فقد جعل بأسهم بينهم وفي كتب اللغة : ومن المجاز تمطي الليل إذا طال قال امرؤ القيس :

فقلت له لما تمطى بصلبه

وأردف إعجازا وناء بكلكل

وقال بيهس :

كلما قلت قد تقضّى تمطّى

حالك اللون دامسا يحموما

(سُدىً) هملا لا يكلف بالشرائع يقال إبل سدى أي مهملة وأسديت حاجتي أي ضيعتها ومعنى أسدى إليه معروفا أنه جعله بمعنى الضائع عند المسدى إليه لا يذكره ولا يمنّ به عليه ، وفي المصباح «والسدى وزان الحصى من الثوب خلاف اللحمة وهو ما يمدّ طولا في النسج وأسديت الثوب أقمت سداه والسدى أيضا ندى الليل وبه يعيش الزرع وسديت الأرض فهي سدية من باب تعب كثر سداها وسدا الرجل سدوا من باب قال : مدّ يده نحو الشيء وسدّ البعير سدوا مدّ يده في السير وأسديته بالألف تركته سدى أي مهملا وأسديت إليه معروفا اتخذته عنده».

وفي اللسان والأساس وغيرهما : «جمل سدى وإبل سدى مهملة وقوم سدى وأرض سدى لا تعمر ووقع السندي والسدى وهو ما يقع باليل وهذا الثوب سداه حرير ، وأسديته وأسدى الحائك الثوب وسدّاه ومن المجاز : قد أسديت فألحم ، وأسرجت فألجم وأسدى إليه معروفا وسدّى منطقا حسنا وسدّى عليه الوشاة ، قال عمر بن أبي ربيعة :

٣٠٣

وإنّا لمحقوقون أن لا تردّنا

أقاويل ما سدّوا علينا ولصّقوا

وأسدى بين القوم : أصلح وما أنت بلحمة ولا سداة : لا تضرّ ولا تنفع والريح تسدي المعالم وتنيرها ، قال عمر بن أبي ربيعة :

لمن الديار كأنهنّ سطور

تسدي معالمها الصبا وتنير

وتسداه : علاه وأخذه من فوقه كما يفعل سدى الليل قال :

وما أبو سمرة بالرث ألوان

يوم تسدى الحكم بن مروان

وذلك أنه أخذ بناصيته وهو على فرس.

(تَمَنَّى) *) تصب في الرحم ، والمني : ما يخرج عن الجماع من الماء الدافق.

الإعراب :

(كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) حرف ردع وزجر وبل إضراب انتقالي وتحبون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والخطاب لكفّار قريش والإنسان عموما وقرىء بالتاء على سبيل الالتفات وبالياء على طريق الغيبة والعاجلة مفعول به أي الدنيا (وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) عطف على الجملة السابقة وقرىء بالتاء والياء أيضا على ما تقدم (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) وجوه مبتدأ وناضرة نعت له ويومئذ منصوب على الظرفية بناضرة وإلى ربها متعلقان بناظرة وناظرة خبر وجوه والمعنى أن الوجوه الحسنة يوم القيامة ناظرة إلى ربها وهذا معنى صحيح وتخريج سهل ، ويجوز أن يكون وجوه مبتدأ أيضا وناضرة خبره ويومئذ ظرف منصوب بناضرة وسوّغ الابتداء بالنكرة هنا كون الموضع موضع تفصيل ويكون ناظرة نعتا لوجوه أو خبرا ثانيا أو خبرا لمبتدأ محذوف وإلى ربها متعلقان

٣٠٤

بناظرة ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله والتنوين عوض عن جملة أي يوم إذ تقوم القيامة ، وسيأتي مزيد من الكلام على هاتين الآيتين في باب الفوائد (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) عطف على ما تقدم وقد تقدم القول في الإعراب ولا بدّ من التنبيه إلى أن يومئذ ليست تخصيصا للنكرة فيسوغ الابتداء بها لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة وإنما هو معمول لباسرة كما ذكرنا أنه معمول لناضرة فيما تقدم وجملة تظن يجوز أن تكون خبرا على الوجه الأول أو خبرا بعد خبر وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي تظن وبها متعلقان بيفعل وفاقرة نائب فاعل ليفعل ومعنى الظن هنا الإيقان أو التوقع مع غلبة الاعتقاد وذلك لأنه وقت رفع الشكوك (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) كلا ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة وتذكير لهم بما يئولون إليه من الموت الذي تنقطع العاجلة عنده وينتقل منها إلى الآجلة ، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة بلغت في محل جر بإضافة الظرف إليها وفاعل بلغت مستتر تقديره هي يعود إلى النفس الدّال عليها سياق الكلام وإن لم يجر لها ذكر كما قال حاتم :

أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

وتقول العرب أرسلت يريدون جاء المطر ولا تكاد تسمعهم يذكرون السماء. والتراقي مفعول به (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) الواو عاطفة وقيل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو أي من حوله ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وراق خبره وهو مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين وجملة من راق مقول القول ولا أدري معنى قول السمين «وهذه الجملة هي القائمة مقام الفاعل» (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) الواو عاطفة وظن فعل ماض معناه أيقن وسمي اليقين ظنا لأن الإنسان ما دامت روحه في بدنه فإنه يطمع في

٣٠٥

ديمومة الحياة لشدة حبه لها وتعلقه بها ، وأن واسمها والظرف خبرها وأن وما في حيّزها في موضع نصب سدّت مسدّ مفعولي ظن (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) عطف أيضا ، وسيأتي المزيد من معناه في باب البلاغة (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم ويومئذ ظرف متعلق بالمساق وقد أضيف إلى مثله والتنوين عوض عن جمل أربع : وهي بلغت الروح التراقي ، وقيل من راق ، وظن أنه الفراق ، والتفّت الساق بالساق. والمساق مبتدأ مؤخر وجواب إذا الذي هو العامل فيها يدل على قوله إلى ربك يومئذ المساق أي تساق إلى حكم ربها ومشيئته والمساق مفعل من السوق فهو اسم مصدر (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) عطف على قوله أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ولا نافية وصدق فعل ماض وهو دليل على جواز دخول لا النافية على الماضي وفاعله مستتر تقديره هو أي الإنسان ولا صلّى عطف على فلا صدق وقيل عطف على جملة يسأل أيّان يوم القيامة (وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) عطف أيضا ولكن مخففة مهملة وكذب فعل ماض أي الإنسان وتولى عطف عليه (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي والسر الاستبعاد لأن من صدر عنه مثل ذلك ينبغي أن يخاف من حلول غضب الله فيمشي خائفا متطأمنا ولكن هذا يمشي متبخترا متعجرفا يطاول أعنان السماء وهو أهون قدرا وأخسّ مكانا ، وإلى أهله متعلقان بذهب وجملة يتمطى حالية من فاعل ذهب (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) *) تقدم الكلام مطولا حول إعراب هذه الكلمة في سورة القتال (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) عطف على ما تقدم والتكرير للتأكيد وزيادة التهديد ، وقد تشبثت الخنساء بأهداب هذا التكرير فقالت :

هممت بنفسي كل الهموم

فأولى لنفسي أولى لها

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) الهمزة للاستفهام الإنكاري

٣٠٦

ويحسب الإنسان فعل وفاعل وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي يحسب ونائب الفاعل مستتر تقديره وهو سدى حال من الضمير في يترك (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) الهمزة للاستفهام التقريري الإنكاري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويك فعل مضارع ناقص مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون المقدّرة على النون المحذوفة للتخفيف واسم يك مستتر تقديره هو أي الإنسان ونطفة خبرها ومن مني نعت وجملة يمنى بالبناء للمجهول نعت لمني وقرىء بالتاء (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) عطف على ما تقدّم وعطف بثم للتراخي وامتداد المدة لأن بين الخلق الثاني الذي هو خلق النسل وبين الخلق الأول تراخيا وأمدا بعيدا فوجب عطفه بثم ، وكان واسمها المستتر وعلقة خبرها والفاءان للترتيب مع التعقيب (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) عطف أيضا وفيه التعقيب وجعل فعل ماض ومنه في موضع المفعول الثاني والزوجين مفعول جعل الأول والذكر بدل والأنثى عطف عليه (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريري وذلك اسم ليس أي الفعال والباء حرف جر زائد وقادر مجرور لفظا منصوب محلا خبر ليس وعلى أن يحيي الموتى متعلقان بقادر.

البلاغة :

١ ـ الاستعارة التمثيلية في قوله : «والتفّت الساق بالساق» استعارة تمثيلية لشدة كرب الدنيا في آخر يوم منها وشدة كرب الآخرة في أول يوم منها لأنهما يومان قد التفا ببعضهما واختلطا بالكرب كما تلتف الساق على الساق كما يقال شمّرت الحرب عن ساق استعارة لشدّتها وقيل التفافهما لشدّة المرض لأنه يقبض ويبسط ويركب هذه على هذه ، وعبارة الزمخشري : «والتفّت ساقه بساقه والتوت عليها عند علز الموت» وهو الرعدة تأخذ المريض.

٣٠٧

٢ ـ وفي قوله : «والتفّت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق» التجنيس الناقص المسمى أيضا جناس التبديل وهو الذي يوجد في إحدى كلمتيه حرف لا يوجد في الأخرى وجميع حروف الأخرى يوجد في أختها على استقامتها وهو ثلاثة أقسام : قسم تقع الزيادة منه في أول الكلمة كزيادة الميم في المساق وقسم تقع الزيادة وسط الكلمة كقوله تعالى : وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد ، وقسم تقع الزيادة منه في آخر الكلمة كقوله تعالى : ثم كلي من كل الثمرات.

الفوائد :

لا نطيل في مسألة رؤية الله تعالى يوم القيامة فهي مسألة مذكورة في أصول الدين ، ودلائل الطريقين أهل السنّة وأهل الاعتزال معروفة ، ولما كان الزمخشري من المعتزلة ومذهبه أن تقديم المفعول به يدل على الاختصاص قال في صدد قوله تعالى «إلى ربها ناظرة» : «ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلائق كلهم فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظورا إليه محال فوجب حمله على معنى يصحّ معه الاختصاص والذي يصحّ معه أن يكون من قول الناس : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي يريد معنى التوقع والرجاء ومنه قول القائل :

وإذا نظرت إليك من ملك

والبحر دونك زدتني نعما

وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهيرة حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول : عيينتي ناظرة إلى الله وإليكم والمعنى أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم كما كانوا في الدنيا ولا يخشون ولا يرجون إلا إياه» قال ابن عطية : «ذهبوا يعني المعتزلة إلى أن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة أو إلى ثوابه أو ملكه

٣٠٨

فقدّروا مضافا محذوفا وهذا وجه سائغ في العربية كما تقول فلان ناظر إليك في كذا أي إلى صنعك».

وقد عقب ابن المنير كعادته على الزمخشري فقال : «ما أقصر لسانه عند هذه الآية فكم له يدندن ويطيل في جحد الرؤية ويشقق القباء ويكثر ويتعمق فلما فغرت هذه الآية فاه صنع في مصامتها بالاستدلال على أنه لو كان المراد الرؤية لما انحصرت بتقديم المفعول لأنها حينئذ غير منحصرة على تقدير رؤية الله تعالى وما يعلم أن المتمتع برؤية جمال وجه الله تعالى لا يصرفه عنه طرفه ، ولا يؤثر عليه غيره ، ولا يعدل به عزّ وجلّ منظورا سواه ، وحقيق له أن يحصر رؤيته إلى من ليس كمثله شيء ، ونحن نشاهد العاشق في الدنيا إذا أظفرته برؤية محبوبه لم يصرف عنه لحظة ولم يؤثر عليه فكيف بالمحب لله عزّ وجلّ إذا أخطأه النظر إلى وجهه الكريم نسأل الله العظيم أن لا يصرف عنّا وجهه وأن يعيذنا من مزالق البدعة ومزلّات الشبهة وهو حسبنا ونعم الوكيل».

٣٠٩

سورة الإنسان

مدنية وآياتها احدى وثلاثون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢))

٣١٠

اللغة :

(أَمْشاجٍ) أخلاط أي من ماء الرجل وماء المرأة المختلطين الممتزجين ، ووقع الجمع صفة لمفرد أي لنطفة لأنه في معنى الجمع أو جعل كل جزء من النطفة نطفة فاعتبر ذلك فوصف بالجمع وفي المختار : «مشج بينهما خلط وبابه ضرب والشيء مشيج والجمع أمشاج كيتيم وأيتام ويقال نطفة أمشاج لماء الرجل يختلط بماء المرأة ودمها» وعبارة الزمخشري : «نطفة أمشاج كبرمة أعشار وبرد أكباش وهي ألفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد ويقال أيضا نطفة مشج قال الشماخ :

طوت أحشاء مرتجة لوقت

على مشج سلالته مهين

ولا يصحّ أمشاج أن يكون تكسيرا له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما ومشجه ومزجه بمعنى ، والمعنى : من نطفة امتزج فيها الماءان».

(كافُوراً) الكافور : نبت طيب وكأن اشتقاقه من الكفر وهو الستر لأنه يغطي الأشياء براحته والكافور أيضا كمام الشجر التي تغطي ثمرتها.

(مُسْتَطِيراً) : فاشيا منتشرا بالغا أقصى المبالغ من استطار الحريق واستطار الفجر وهو من طار بمنزلة استنفر من نفر يقال : استطار يستطير استطارة فهو مستطير وهو استفعل من الطيران وقال الفراء : «المستطير :المستطيل» كأنه يريد أنه مثله في المعنى إلا أنه أبدل من اللام راءه ، والفجر فجران مستطيل كذنب السرحان وهو الكاذب ومستطير وهو الصادق لانتشاره في الأفق.

(قَمْطَرِيراً) القمطرير : الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه قال الزجّاج : يقال قمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وزقت

٣١١

بأنفها فاشتقته من القطر وجعل الميم زائدة ، وقال أسد بن ناعصة :

واصطليت الحروب في كل يوم

باسل الشر قمطرير الصباح

وفي القاموس : «ويوم قماطر كعلابط وقمطرير شديد واقمطرّ اشتد».

الإعراب :

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) في هل وجهان : أحدهما هي بمعنى قد والثاني هي استفهام على بابها والاستفهام هنا للتقرير وللتوبيخ. وعبارة السمين : «في هل هذه وجهان : أحدهما أنها على بابها من الاستفهام المحض وقال مكّي في تقرير كونها على بابها من الاستفهام الذي معناه التقرير : وهو تقرير لمن أنكر البعث فلا بدّ أن يقول نعم قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه فيقال له : من أحدثه بعد أن لم يكن وكونه بعد عدمه كيف يمتنع عليه بعثه وإحياؤه بعد موته؟ وهو معنى قوله : ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون أي فهلّا تذكرون فتعلمون أن من أنشأ شيئا بعد أن لم يكن قادرا على إعادته بعد موته وعدمه فقد جعلها للاستفهام التقريري لا للاستفهام المحض وهذا هو الذي يجب أن يكون لأن الاستفهام لا يرد من الله تعالى ألا على هذا النحو وما أشبهه ، الثاني أنها بمعنى قد». أما الزمخشري فقال : «هل بمعنى قد في الاستفهام خاصة والأصل أهل بدليل قوله : «أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم» فالمعنى قد أتى على التقرير والتقريب جميعا أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب» أما شطر البيت الذي أورده الزمخشري فهو عجز البيت :

سائل فوارس يربوع بشدتنا

أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم

٣١٢

والبيت لزيد الخيل الذي سمّاه النبي صلّى الله عليه وسلم زيد الخير ، وسائل فعل أمر بمعنى اسألهم وراجعهم في السؤال لتتيقن حقيقة الحال ويربوع أبو حي ، والباء بمعنى عن أي سلهم عن قوتنا والأصل في الاستفهام الهمزة ولذلك كان لها تمام التصدير في الكلام وأصل هل بمعنى قد لكن لكثرة الاستعمال فيه صارت الهمزة نسيا منسيا في حيز الإهمال والاستفهام هنا للتقرير. وأتى فعل ماض وعلى الإنسان متعلقان بأتى وحين فاعل ومن الدهر نعت لحين ، وجملة لم يكن فيها وجهان أحدهما أنها في موضع نصب على الحال من الإنسان أي هل أتى عليه حين في هذه الحالة والثاني أنها في موضع رفع نعتا لحين بعد نعت وعلى هذا فالعائد محذوف تقديره حين لم يكن فيه شيئا مذكورا والأول أرجح ، وعبارة الزمخشري «فإن قلت : ما محل لم يكن شيئا مذكورا قلت محله النصب على الحال من الإنسان كأنه قيل : هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور أو الرفع على الوصف لحين كقوله يوما لا يجزي والد عن ولده» ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم واسمها مستتر تقديره هو يعود على الإنسان وشيئا خبرها ومذكورا نعت لشيئا (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان كيفية خلق الإنسان وإن واسمها وجملة خلقنا الإنسان خبرها ومن نطفة متعلقان بخلقنا وأمشاج نعت لنطفة ، وقد تقدم في باب اللغة سر وقوع الجمع صفة لمفرد على أن أبا البقاء أجاز أن تكون بدلا من نطفة ، وجملة نبتليه فيها وجهان أحدهما أنها حال من فاعل خلقنا أي خلقناه حال كوننا مبتلين له والثاني أنها حال من الإنسان وصحّ ذلك لأن في الجملة ضميرين كلّ منهما يعود على ذي الحال ثم هذه الحال يجوز أن تكون مقارنة إن كان المعنى نبتليه بتصريفه في بطن أمه نطفة ثم علقة وأن تكون مقدّرة إن كان المعنى نبتليه نختبره بالتكليف لأنه وقت خلقه غير مكلّف (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً

٣١٣

بَصِيراً) الفاء عاطفة للترتيب مع التعقيب وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به وسميعا بصيرا مفعول به ثان ، وقد نزلت الكلمتان منزلة الكلمة الواحدة لأنهما كناية عن التمييز والفهم إذ آلتهما سبب لذلك وهما أشرف الحواس تدرك بهما أعظم المدركات أي جعلناه بسبب الابتلاء حين تأهله له سميعا بصيرا ليتمكن من مشاهدة الدلائل واستماع الآيات فالعطف على إرادة الابتلاء لا الابتلاء فيه فلا يرد السؤال الآتي : كيف عطف على نبتليه ما بعده بالفاء مع أن الابتلاء متأخر عنه (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) الجملة تعليل للابتلاء وإن واسمها وجملة هديناه من الفعل والفاعل والمفعول خبر إنّا والسبيل مفعول به ثان أو في محل نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بهديناه وإما حرف شرط وتفصيل وشاكرا وكفورا حالان من الهاء في هديناه أي مكّناه وأقدرناه على حالتيه جميعا أو دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع وكان معلوما أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة ، ويجوز أن يكونا حالين من السبيل أي عرفناه إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا كقوله وهديناه النجدين ويكون وصف السبيل بالشكر والكفر مجازا ، وسيأتي سر المخالفة بين اسم الفاعل وصيغة المبالغة في باب البلاغة (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) الجملة تعليل أيضا لأنه لما ذكر الفريقين اتبعهما الوعيد والوعد ، وإن واسمها وجملة أعتدنا خبرها وللكافرين متعلقان بأعتدنا وسلاسل مفعول به ومنع من الصرف لأنه جمع على وزن مفاعل وقرئ بالصرف للمناسبة مع أغلالا وهما قراءتان سبعيتان. وعبارة أبي حيان : «وقرأ طلحة وعمرو بن عبيد وابن كثير وأبو عمرو وحمزة سلاسل ممنوع الصرف وقفا ووصلا وقيل عن حمزة وأبي عمرو الوقف بالألف وقرأ حفص وابن ذكوان بمنع الصرف واختلف عنهم في الوقف وكذا عن البزّي وقرأ باقي السبعة بالتنوين وصلا وبالألف المبدلة منه وقفا وهي قراءة الأعمش ، قيل : وهذا على ما حكاه

٣١٤

الأخفش من لغة من يصرف كلّ ما لا ينصرف إلا أفعل وهي لغة الشعراء ثم كثر حتى جرى في كلامهم وعلّل ذلك بأن هذا الجمع لما كان يجمع فقالوا صواحبات يوسف ونواكسي الأبصار أشبه المفرد فجرى فيه الصرف وقال بعض الرجّاز :

والصرف في الجمع أتى كثيرا

حتى ادّعى قوم به التخييرا

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) إن واسمها وجملة يشربون خبرها ومن كأس متعلقان بيشربون ومفعول يشربون محذوف أي خمرا من كأس ، والكأس الزجاجة إذا كانت فيها خمر وتسمى الخمر نفسها كأسا ، قال الأعشى :

وكأس شربت على لذة

وأخرى تداويت منها بها

وجملة كان مزاجها كافورا نعت لكأس وكان واسمها وخبرها (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) عينا أفاض النحاة في أوجه إعرابها والأوجه التي أوردوها تتناهى إلى السبعة ونوردها فيما يلي باختصار ثم نعمد إلى الترجيح :

١ ـ بدل من كافورا لأن ماءها في بياض الكافور وفي رائحته وبرودته

٢ ـ بدل من محل من كأس ، وقدّر الزمخشري على هذا الوجه حذف مضاف قال : «كأنه قيل يشربون فيها خمرا خمر عين» وأما أبو البقاء فجعل المضاف مقدّرا على وجه البدل من كافورا فقال :«والثاني بدل من كافورا أي ماء عين أو خمر عين»

٣ ـ مفعول يشربون أي يشربون عينا من كأس

٤ ـ النصب على الاختصاص

٥ ـ منصوب بيشربون مقدّرا يفسّره ما بعده قاله أبو البقاء أيضا

٦ ـ منصوب بإضمار فعل تقديره يعطون

٧ ـ منصوب على الحال من الضمير في مزاجها قاله مكّي. ونرى أن الأول والرابع أرجح الأوجه وأدناها إلى السهولة على أن ذلك لا يمنع الاعتراف بصحة الأوجه التي أوردناها كلها. وجملة يشرب

٣١٥

صفة لعينا وبها جار ومجرور متعلقان بيشرب والضمير يعود على الكأس أي يشربون العين بتلك الكأس والباء للإلصاق ، قال الزمخشري : «فإن قلت لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أولا وبحرف الإلصاق أخيرا؟قلت : لأن الكأس مبدأ شربهم وأول غايته وأما العين فبها يمزجون شرابهم فكأن المعنى يشرب عباد الله بها الخمر كما تقول شربت الماء بالعسل» وقيل : الباء زائدة أي يشربها ويدل له قراءة يشربها معدى إلى الضمير بنفسه وإنها بمعنى من فتكون للتبعيض أثبته الأصمعي وابن مالك والفارسي والقتبي وجعلوا منه هذه الآية وقوله تعالى فامسحوا برءوسكم وعليها بنى الشافعي مذهبه في مسح بعض الرأس في الوضوء لما قام عنده من الأدلة ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال أي ممزوجة ويجوز أن يتضمن يشربون معنى يلتذون بها شاربين أو يتضمن معنى يرتوي أي يرتوي بها عباد الله. وجملة يفجرونها في موضع نصب على الحال أي يجرونها حيث شاءوا من منازلهم فهي سهلة لا تمتنع عليهم أو نعت ثان لعينا وتفجيرا مفعول مطلق (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) كلام مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل : بم استحقوا هذا النعيم؟ فقيل يوفون ، ويوفون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وبالنذر متعلقان بيوفون ويوما مفعول به وجملة كان صفة ليوم وشره اسم كان ومستطيرا خبرها (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) عطف على يوفون ويخافون ، والطعام مفعول به وعلى حبه متعلقان بمحذوف حال أي محبين له وعلى بمعنى مع أي للمصاحبة وحبه مصدر أضيف للمفعول فالضمير للطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه ونحوه «وآتى المال على حبه» ويصحّ رجوع الضمير لله أي على حب الله أي لوجه وابتغاء مرضاته والأول أمدح أن فيه الإيثار على النفس والطعام محبوب للفقراء والأغنياء وأما على الثاني فقد يفعله الأغنياء أكثر ومسكينا مفعول به ثان وما بعده عطف عليه وخصّ هؤلاء

٣١٦

بالذكر لسر يأتي في باب البلاغة (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) الجملة تعليل لبيان سبب الإطعام وإنما كافّة ومكفوفة ونطعمكم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره نحن ومفعول به ولوجه الله متعلقان بنطعمكم وجملة لا نريد إلخ حالية ولا نافية ونريد فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ومنكم متعلقان بنريد وجزاء مفعول به ولا شكورا عطف عليه (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) تعليل لقوله إنما نطعمكم وإن واسمها وجملة نخاف خبرها وفاعل نخاف ضمير مستتر تقديره نحن ومن ربنا متعلقان بنخاف ويوما مفعول به وعبوسا نعت وقمطريرا نعت ثان ليوما (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) الفاء عاطفة لبيان السبب أي فبسبب خوفهم وقاهم الله أي دفع عنهم شرّ ذلك اليوم ووطأته ، ووقاهم فعل ماض ومفعول به مقدّم والله فاعل مؤخر وشر مفعول به ثان وذلك مضاف إليه واليوم بدل من اسم الإشارة ولقاهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ونضرة مفعول به ثان وسرورا عطف على نضرة (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) وجزاهم عطف أيضا وجزاهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وبما متعلقان بجزاهم وما مصدرية أي بصبرهم وجنة مفعول به ثان وحريرا عطف على جنة.

البلاغة :

١ ـ في قوله : «إنّا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا» لما كان الشكر قلّ من يتّصف به قال شاكرا فعبّر عنه باسم الفاعل للدلالة على قلته ، ولما كان الكفر كثيرا من يتّصف به ويكثر وقوعه من الإنسان قال كفورا فعبّر عنه بصيغة المبالغة.

٢ ـ وفي قوله : «ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا»

٣١٧

خصّ هؤلاء الثلاثة بالذكر لأن المسكين عاجز عن اكتساب قوته بنفسه واليتيم مات أبواه وهما اللذان يكتسبان وبقي عاجزا عن الكسب لصغره والأسير لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا ولا نصرا ولا حيلة ، قال عطاء :نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب وذلك أنه أجّر نفسه ليلة ليسقي نخلا بشيء من شعير حتى أصبح وقبض الشعير وطحنوا ثلثه فجعلوا منه شيئا ليأكلوه فلما تمّ نضجه أتى مسكين فأخرجوا له الطعام ثم صنع الثلث الباقي فلما تمّ نضجه أتى يتيم فأطعموه ثم الثالث فلما تمّ نضجه أتى أسير من المشركين فسأل فأطعموه وطووا يومهم ذلك فأنزل الله فيهم هذه الآيات.

٣ ـ في قوله «إنّا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا» مجاز إسنادي وقد تقدمت له نظائر كثيرة في هذا الكتاب ، لأن وصف اليوم بالعبوس مجاز كما يقال نهاره صائم وليله قائم والمراد أهلهما.

الفوائد :

١ ـ «كان» في القرآن على خمسة أوجه :

١ ـ بمعنى الأول والأبد نحو «وكان الله عليما حكيما».

٢ ـ بمعنى المضي المنقطع نحو «وكان في المدينة تسعة رهط».

٣ ـ بمعنى الحال نحو «كنتم خير أمة».

٤ ـ بمعنى الاستقبال نحو «ويخافون يوما كان شره مستطيرا».

٥ ـ بمعنى صار نحو «وكان من الكافرين».

٢ ـ ولإما خمسة معان :

١ ـ الشك نحو : جاءني إما زيد وإما عمرو إذا لم تعلم الجائي منهما.

٣١٨

٢ ـ الإبهام نحو «وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم» أي إن الله تعالى عالم بحقيقة حالهم ، وقصد الإبهام على السامع.

٣ ـ التخيير نحو «إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا» ولا يكون إلا بعد الطلب فيقدّر في الآية والأصل : يا ذا القرنين افعل فإما أن تعذب إلخ.

٤ ـ الإباحة نحو تعلّم إما فقها وإما نحوا.

٥ ـ التفصيل نحو : «إنّا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا».

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢))

٣١٩

اللغة :

(زَمْهَرِيراً) في المختار : «الزمهرير : شدة البرد قلت : قال ثعلب الزمهرير أيضا القمر في لغة طيء وبه فسّر قوله تعالى : لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا أي فيها من الضياء والنور ما لا يحتاجون معه إلى شمس ولا قمر».

وعبارة أبي حيّان : «الزمهرير أشد البرد وقال ثعلب هو القمر بلغة طيء وأنشد قول الراجز :

وليلة ظلامها قد اعتكر

قطعتها والزمهرير ما ظهر

وعبارة الزمخشري : «يعني أن هواءها معتدل لا حرّ شمس يحمي ولا شدّة برد تؤذي وفي الحديث : هواء الجنة سجسج لا حرّ ولا قرّ».

(قَوارِيرَا) القارورة إناء صاف توضع فيه الأشربة قيل ويكون من الزجاج.

(زَنْجَبِيلاً) الزنجبيل قال الدينوري : نبت في أرض عمان عروق تسري وليس بشجر يؤكل رطبا وأجوده ما يحمل من بلاد الصين كانت العرب تحبه لأنه يوجب لذعا في اللسان إذا مزج بالشراب فيتلذذون به ، قال الشاعر :

كأن القرنفل والزنجبي

ل باتا بفيها وأريا مشورا

وقال المسيب بن علس :

وكأن طعم الزنجبيل به

إذ ذقته وسلافة الخمر

والضمير في به يعود للفم وإذ ذقته أي حين ذقت ريقه فهو مجاز

٣٢٠