مصابيح الظلام - ج ١

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ١

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-1-9
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٤٦٢

كونه حقّا ، إذ محال أن يكون خلافه حقّا وهو واضح.

ثمّ اعلم! يا أخي! أنّ من جزم بكون درهم ـ مثلا ـ زيوفا ، بسبب قول جماعة من الصيارفة مع كونهم غير ظاهري العدالة ، ولا يحصل الجزم من مجموع ما ذكرنا ، فلا شكّ في أنّه إمّا قاصر ؛ ما لاحظ أقوال الفقهاء وما أشرنا إليه ، أو ذهنه مؤوف معيوب ، أو بالشبهات المخالفة للبديهة مشوب ، وقد عرفت حالها ، أو أنّه يبغض الفقهاء وينفر منهم ، وهم طوائف ثلاث :

الأولى : الصوفية فإنّهم من قديم الأيّام إلى الآن يبغضونهم ، بل ولا يبغضون أحدا سواهم ، وعلى فرض أن لا يصل حال شخص منهم إلى حدّ البغضاء ، فلا شكّ في كمال نفرته ، وكذا شغله الاستخفاف والطعن عليهم ، والميل إلى طريقة الصوفية وإن كانوا من العامة ، فربّما أدّى ذلك إلى إنكار ضروري مذهب الشيعة من نفي الجبر وكون القول به مخرجا عن الإيمان ، وحلّية الغناء ، وأمثالهما ممّا عليه الصوفية كلّهم أو جمع منهم.

والثانية : جماعة يشتغلون بمذاكرة مثل تفسير البيضاوي ، ويزاولون ويعتادون إلى أن يحصل لهم إلف تامّ وانس كامل بطريقة أهل السنّة ، فيميل قلوبهم إليها ، ويعجبهم شأنها ، فيتنفّرون عن طريقة الخاصّة وما أسّسه علماؤهم ، ويشنّعون عليهم وبسوء عقيدتهم في علمهم وفهمهم حتّى فيما أجمعوا عليه ، بل وربّما أدّى ذلك إلى إنكار ضروري المذهب من كون الوضوء بمسح الرجلين دون الغسل ، وكون الإمامة والعدل من اصول الدين. وأمثال ذلك.

والثالثة : طائفة رفعت اليد عن تحقيق المذهب والدين وتأسيسهما وتشديدهما ، والطعن على المخالفين والكافرين ، واشتغلوا بالطعن على المؤسّسين للمذهب والدين والمتكفّلين لأيتام المعصومين والحجج على الناس بعد الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام.

٦١

وأشرنا فيما سبق إلى ذرّة من فضلهم وقطرة من بحار علمهم ، الذي ببركتهم اهتدوا ، وبتأسيسهم نجوا عمّا ذهب إليه المخالفون والكافرون في اصول الدين وفروعه ، إذ مدارهم فيما عليهم غالبا وفيما خالفوهم إنكار لضروري العقل والنقل ، أو قطعيتهما (١) بالبديهة ، ما دعاهم إلى ما ذكر إلّا شبهات سوفسطائية مخالفة للبديهة.

منها : أنّ موافقة الفقهاء تقليد ، وما لم يخالفهم أحد لم يكن فقيها جديدا ، وأنّ الفقه العتيق ليس بشي‌ء ، بل الفقيه من يحصّل فقها جديدا.

ومنها : أنّ شرائط الاجتهاد باطلة ، بل مفسدة ، لأنّها ليست بحديث ، ولأنها من بدع العامة ، سيّما اصول الفقه ، لأنّ المعصومين حين ما كانوا يخاطبون الرواة ما كانوا يخاطبون بشرائط الاجتهاد ، وكذا الراوي لراو آخر ، وهكذا.

ولا يخفى أنّ الراوي عن المعصوم عليه‌السلام كان يعلم أنّ الخطاب كلامه ، ويعلم مرامه ، ولم يكن له معارض أو كان ، لكن علمه العلاج.

وأمّا نحن فلا نعلم الحال ـ بحسب السند ، وكذا بحسب المتن ـ أنّ المتن نفس عبارة المعصوم عليه‌السلام أم لا ، وبحسب الدلالة ، لأنّ المعتبر اصطلاح المعصوم عليه‌السلام مع الراوي بالبديهة ولم يظهر لنا ، وكون العبرة باصطلاح زماننا أو أهل اللغة عند الانفراد أو الاجتماع والتعارض يحتاج إلى دليل ، وأنّه ربّما كان قرينة حاليّة أو مقاليّة انعدمت من الصدمات التي ظهرت لنا ، أو تبدّلت ، أو لم يكن فحدثت كما ظهر كثيرا.

وكذا الحال في التعارض ، إذ لا يكاد يتحقّق بغير معارض ، وإنّ العلاج هل الجمع ، أو الترجيح؟ وكذا كلّ نوع منهما. إلى غير ذلك ممّا أشرنا إليه في رسالتنا في

__________________

(١) في (د ٢) زيادة : أو علميّتهما.

٦٢

الاجتهاد والأخبار (١) وغيرها (٢).

فمن جهات أربع حصل المانع من العلم ، وحصل الاختلاف (٣) الموجب للعلاج ، بل كلّ جهة من تلك الجهات حصل فيها اختلالات (٤) كثيرة محتاجة إلى العلاج ، وكلّ ذلك بديهي مشاهد ، فأين حال الرواة عنهم من حالنا؟ والشرائط ليست إلّا نفس تلك العلاجات بالبديهة.

وأمّا الراوي عن الراوي ، فإن كان حاله حاله فلا كلام ، وإن كان حالهم حالنا ، فلا شكّ في أنّهم كانوا يعرفون العلاج ، والعلاج منحصر فيما ذكروه بالبديهة ، مع أنّ الانحصار بالنسبة إلينا بما لا يمكن التأمّل فيه ، ولذلك حكم الفقهاء بكون الاحتياج إلى الاصول ضروريّا ، وصرّحوا بذلك (٥) ، وأثبتناه في الرسالة (٦) وغيرها (٧) مشروحا.

هذا ؛ وهم في الفقاهة يقلّدون الفقهاء من حيث لا يشعرون بالبديهة والوجدان ، يفتون للعوام في مقام تقليدهم مع تصريحهم بحرمة الاجتهاد والتقليد ، ومن لطف الله على العباد أنّه سلّط على هؤلاء عدم الشعور بأنّهم يقلّدون الفقهاء ، وإلّا لكان الدين يضمحلّ بالمرّة لو كان بناؤهم على شبهاتهم المخالفة للبديهة ، كما لا يخفى على من له أدنى فطنة.

نعم ؛ ربّما يتفطّنون فيصدر منهم مخالف العقل والنقل الضروري واليقيني.

__________________

(١) راجع! الرسائل الاصوليّة : ٥.

(٢) الرسائل الاصوليّة : ٤٥٤.

(٣) في (د ١ ، ٢) : اختلال.

(٤) في (ز ١) : اختلافات.

(٥) معالم الدين في الاصول : ٢٤٠.

(٦) الرسائل الاصوليّة : ٩٤.

(٧) الرسائل الاصوليّة : ٩٤ ـ ١١٠.

٦٣

ومن هذا ترى العلماء يتعرّضون لذكر مذهب الكفّار وأهل الضلال ، بل الزنادقة الملاحدة ، بل شبهات سوفسطائيّة ، وردّوا عليهم ، ولم يتعرّضوا لذكر أقوال الأخباريّين ، ولا واحد منها لا في اصول الدين ولا في فروعه ، حتّى لأجل الردّ عليهم ، ولم يعتنوا بشأنهم أصلا ورأسا ، وتعرّض نادر من المتأخّرين لداع دعاه ، لكن قال فيهم ما قال (١).

ثمّ اعلم! أنّ المصنّف رحمه‌الله إذا رأى مع إجماع العلماء خبرا ولو كان ضعيفا ، يحكم بأنّه إجماع ، وإن لم ير معه خبرا يقول : قالوا : إنّه إجماع ، وإن وجد عوض الخبر ظنيّا آخر ، بل ظنيّا متعدّدا ، كما اتّفق منه في تحريم الزنا بذات البعل وذات العدّة الرجعيّة ، فإنّه نقل موضع الخبر قياسين بطريق أولى (٢).

مع أنّ الاستقراء أيضا يعضدهما فإنّ حالهما بحسب الشرع واحد غالبا ، ويعضده أيضا أنّهم نقلوا النصّ على أنّ ذات العدّة الرجعيّة بحكم ذات البعل (٣) ، وغير ذلك ممّا أشرنا في «حاشية الكفاية» (٤) ، وكذا حاله في غير هذا الموضع ، وشاع ذلك بين تابعيه.

وغير خفي أنّ هذا ليس إلّا مجرّد الاشتباه ، كما لا يخفى.

شبهة منكر حجّيّة الإجماع المنقول بخبر الواحد ؛ أنّه ظنّيّ.

وفيه ؛ أنّ حاله حال خبر الواحد ، بل هو نوع منه ، كما عرفت.

وشبهة اخرى ؛ إنّ الناقل لو كان مثل السيّد والشيخ ومن تأخّر عنهما ، بعد حصول القطع لهم بقول المعصوم ـ صلوات الله عليهم ـ لتوقّف ذلك على العلم

__________________

(١) الوافية : ٢٦٠ ـ ٢٨٠ و ٢٨٣ ـ ٢٩٩.

(٢) مفاتيح الشرائع : ٢ / ٢٤٤.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٠ / ٤٥٥ الحديث ٢٦٠٨١.

(٤) الحاشية على كفاية المقتصد (مخطوط).

٦٤

بوجود مجهول النسب ، وهي في أمثال زمانهم ممّا لا يتيسّر عادة.

وفيه منع التوقّف ، لأنّه مبنيّ على طريق واحد من الطرق الثلاثة بحجيّة الإجماع ، كما بيّناه في رسالتنا في الإجماع (١) وغيرها (٢).

سلّمنا ؛ لكن عرفت سابقا تيسّر العلم به وحصوله كثيرا.

وأعجب من هذا أنّ بناء صاحب هذه الشبهة على حجيّة الإجماع من أوّل الفقه إلى آخره ، واعتماده عليه على سبيل الجزم ، بل ويصرّح كثيرا أنّ الدليل هو إجماع العلماء وفتاواهم ، وأنّه يكفي ، وأنّه لا يبقى مع ذلك تأمّل. إلى غير ذلك ، فلاحظ «المدارك» (٣) وغيره (٤).

ثمّ قال : وإن بنى الناقل على الوصول ، فالخبر مرسل ، فلا يكون حجّة.

وفيه ؛ أنّ الناقل هو بنفسه يدّعي الإجماع كما تدّعيه أنت ، لا أنّه وصل إليه ومثل هذا ليس خبرا مرسلا ، فإنّ من يدّعي أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان موجودا ، وكان من العرب ومن أهل مكّة ، ومن ولد إبراهيم ، وأنّ مكّة موجودة ، وأمثالها ليس خبرا مرسلا ، فإنّ الاعتماد على علم نفسه ويقينه لا على نقل ناقل واحد عن واحد له.

مع أنّ ناقل الإجماع لا شكّ في كونه من الفقهاء ، إذ ليس شأن غيرهم ، فلا ضرر في مثل هذا المرسل يقينا ، ومن أراد بسط الكلام فعليه بمطالعة الرسالة (٥) وغيرها.

__________________

(١) الرسائل الاصوليّة : ٢٩٨.

(٢) الفوائد الحائريّة : ٣٨٧ ـ ٣٨٩.

(٣) مدارك الأحكام : ١ / ١٢٦ و ١٤٩ و ١٥٤.

(٤) نهاية المرام : ١ / ٥٠ و ٧١ و ١١٢.

(٥) أي : رسالة الإجماع.

٦٥

قوله : (أو ذكره من يوثق به). إلى آخره.

أقول : الظاهر أنّ مراده منه صاحب «المدارك» و «المسالك» ، فإنّه اعتمد عليهما نهاية الاعتماد ، إلى أن قلّدهما أشدّ تقليد إلّا ما شذّ وندر ، بل في الحقيقة كتابه هذا ليس إلّا «المدارك» و «المسالك» اختصرهما ، وكان الأولى أن يسمّيه مختصر المدارك والمسالك.

نعم ، ربّما زاد فيه بعض الامور ، مضافا إلى ما ندر من المخالفة ، وإلّا ففي الحقيقة هو مقلّدهما وإن قال ـ فيما سبق ـ : من غير تقليد الغير وإن كان من الفحول (١).

وما ذكرنا من التقليد الشديد غير خفيّ على من له أدنى اطّلاع وتفطّن ، فإنّا وجدنا في الكتابين اشتباهات كثيرة واضحة غاية الوضوح ، مثل كونه ربّما نقل فيهما الحديث بنحو ، وليس كذلك قطعا ، وكذلك كلام الفقهاء ، وكذلك دليل المسألة.

وربّما ذكر فيهما حديث دليلا للحكم موردا للاعتراض (٢) ، وليس دليله ذلك بلا شبهة ، بل دليله حديث آخر بلا شبهة وريبة.

وربّما اقتصر فيهما على نقل الخلاف من بعض ، مع أنّ المخالف أزيد.

وربّما اقتصر على نقل بعض الخلافات في مسألة مع أنّها أزيد ، بل ربّما كانت أزيد بمراتب شتّى.

وربّما لم ينقل فيهما كثير من المسائل الخلافيّة ، والمصنّف في جميع ما ذكر على

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٤ من هذا الكتاب.

(٢) في (د ٢) و (ز ٢) و (ط) : مورد الاعتراض.

٦٦

طبق كتابيهما.

وربّما لم يتعرّضا لذكر الأخبار ، والمصنّف وافقهما.

بل ربّما يكتفيان بنقل بعض الأخبار ، على ما يظهر ـ غاية الظهور ـ أنّهما اكتفيا به عمّا لم ينقلا ، والمصنّف توهّم أنّ الحديث مختصر فيما نقلا ، مثل ما صدر منه في مسألة انفعال ماء القليل ، حيث قال : لمفهوم الصحيحين وظاهر الآخرين (١).

مع أنّ الأخبار الدالّة أزيد منها بمراتب شتّى ، بحيث لم يخف على الأطفال الذين لاحظوا كتب الأخبار فضلا عن غيرهم ، بل الأخبار متواترة بلا شبهة ، فإنّه صرّح بذلك صاحب «المعالم» (٢) ، وجدّي العلّامة المجلسي (٣) ، وغيرهما (٤).

ونبّهنا على التواتر في حاشيتنا على «المدارك» (٥) ، مع أنّ من له أدنى تتبّع في الأخبار لا يحتاج إلى التنبيه ، لنهاية الوضوح ونهاية الوفور والتواتر.

وأيضا ربّما ذكرا فيهما في مسألة : إنّا لم نجد نصّا فيها. والمصنّف تبعهما ، مع أنّ النصوص موجودة في الكتب المشهورة ، بل ربّما كان في الكتب الأربعة ، بل ربّما كان في مقام ذكر تلك المسألة ، بل ربّما كان في غير المقام نصوص كثيرة في كتب غير المشهورة ، أو المشهورة ، أو الأربعة ، أو هي أيضا مشهورة.

وأيضا ربّما اقتصرا على ذكر بعض الأدلّة ، والمصنّف تبعهما ، وربّما قالا : لم نجد دليلا ، والمصنّف تبعهما ، مع أنّ الدليل موجود قطعا ، بل وربّما يكون واضحا ، بل وربّما يكون في الكتب مذكورا.

__________________

(١) مفاتيح الشرائع : ١ / ٨٣.

(٢) معالم الدين في الاصول : ٤ / ١٩٧.

(٣) روضة المتّقين : ١ / ٥٤.

(٤) لاحظ! مفتاح الكرامة : ١ / ٧٣.

(٥) الحاشية على مدارك الأحكام للوحيد رحمه‌الله : ١ / ٦٠ و ٦١.

٦٧

وأيضا ربّما اقتصرا على نقل الإجماع عن بعض ، وربّما لم ينقلا الإجماع ، مع أنّ الناقل موجود ، بل ربّما يكون متعدّدا.

وأيضا ربّما ادّعيا الإجماع أو نقلا ، وظهر أنّه ليس كذلك يقينا ، وربّما كان الأمر بالعكس. إلى غير ذلك من الاشتباهات ، مثل ما وقع في فهم الحديث ، أو الجمع أو الطرح أو الترجيح ، أو غير ذلك ، مثل الحكم بصحّة حديث ليس بصحيح وبالعكس ، ومثل الاصول والقواعد الفقهيّة والاصوليّة وغيرها ، والمصنّف تبعهما.

ونحن نبّهنا على الاشتباهات المذكورة وغيرها في حاشيتنا على «المدارك» ، و «الذخيرة» ، وشرح الإرشاد للمقدّس الأردبيلي ، و «الوافي» ، وكذا قليلا من الحواشي التي كتبناها على المفاتيح ـ هذا الكتاب ـ و «الكفاية» و «المسالك» وغيرها.

وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّقني لجمع الجميع ، لجعله شرحا لهذا الكتاب ، حتّى يسهل الله سبحانه وتعالى للطالب معرفتها ، فإنّه فيّاض للعباد والهادي إلى الحقّ والرشاد ، والموفّق للخير والصلاح والفلاح (١) والنجاح والسداد في المبدأ والمعاد ، بحقّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيّد المختار ، وعليّ والد الأئمّة الأطهار ، وباقي الأئمّة الأخيار الحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمّد بن علي وجعفر بن محمّد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمّد بن علي وعلي بن محمّد والحسن بن علي ومحمّد بن الحسن صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين إلى يوم الدين.

__________________

(١) لم ترد في (د ٢) : والفلاح.

٦٨

فنّ العبادات والسياسات

وفيه كتب : مفاتيح الصلاة ، مفاتيح الزكاة ، مفاتيح الصيام ، مفاتيح الحجّ ، مفاتيح النذور والعهود ، مفاتيح الحسبة والحدود ، خاتمة في الجنائز ، ويدخل في الأوّل مباحث النجاسات والطهارات ، وفي الثاني الخمس والصدقات ، وفي الثالث الاعتكاف والكفّارات ، وفي الرابع العمرة والزيارات ، وفي الخامس الأيمان وأصناف المعاصي والقربات ، وفي السادس الإفتاء وأخذ اللقيط والدفاع والقصاص والديات ، وفي الخاتمة أحكام المرضى وبعض الوصيّات.

ولله الحمد

٦٩
٧٠

كتاب مفاتيح الصلاة

قال الله تبارك وتعالى (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (١).

وقال سبحانه (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (٢).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصلاة عمود الدين» (٣) «إذا قبلت قبل ما سواها وإذا ردّت رد ما سواها» (٤).

وفي الصحيح عن مولانا الصادق عليه‌السلام : «ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة ، ألا ترى إلى العبد الصالح عيسى بن مريم ـ على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ـ قال (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) (٥)» (٦).

وفيه عن أبيه عليهما‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بين المسلم وبين

__________________

(١) النساء (٤) : ١٠٣.

(٢) العنكبوت (٢٩) : ٤٥.

(٣) المحاسن : ١ / ٤٤٦ الحديث ١٠٣٤ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤ و ٣٥ الحديث ٤٤٤٥.

(٤) المقنع : ٧٣ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤ و ٣٥ الحديث ٤٤٤٥ ، بحار الأنوار : ٨٠ / ٢٠ الحديث ٣٧ مع اختلاف يسير.

(٥) مريم (١٩) : ٣١.

(٦) الكافى : ٣ / ٢٦٤ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٨ الحديث ٤٤٥٣.

٧١

أن يكفر إلّا أن يترك الصلاة الفريضة متعمّدا ، أو يتهاون بها فلا يصلّيها» (١).

وفي الحسن عنه عليه‌السلام قال : «بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس في المسجد ، إذ دخل رجل فقام فصلّى ، فلم يتمّ ركوعه ولا سجوده ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نقر (٢) كنقر الغراب ، لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتنّ على غير ديني» (٣).

والنصوص في فضلها أكثر من أن تحصى ، وهي قسمان : فريضة ونافلة.

والفرائض ستّة : اليوميّة ، والجمعة ، والعيديّة ، والآييّة ، والطوافيّة ، والالتزاميّة (٤).

ووجوب الأوّلين وبعض الأخير من ضروريات الدين ، والبواقي من ضروريّات المذهب.

والنوافل يوميّة وغير يوميّة ، والثانية موقّتة وغير موقّتة ، وثبوتها في الجملة من ضروريّات الدين.

__________________

(١) المحاسن : ١ / ١٦٠ الحديث ٢٢٨ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٤٢ الحديث ٤٤٦٧.

(٢) النقر : هو التقاط الطائر الحبّة بمنقاره ، ويجوز قراءته في الحديث بصيغة المصدر والماضي معا. «منه رحمه‌الله».

(٣) الكافي : ٣ / ٢٦٨ الحديث ٦ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣١ الحديث ٤٤٣٤.

(٤) أمّا الصلاة على الأموات فليست بصلاة حقيقة ، وإطلاق اسم الصلاة عليها إنّما هو على سبيل المجاز العرفي. وفي الحديث : «الصلاة ثلاثة أثلاث : ثلث طهور ، وثلث ركوع ، وثلث سجود» ، [الكافي : ٣ / ٢٧٣ الحديث ٨ ، وسائل الشيعة : ١ / ٣٦٦ الحديث ٩٦٧] وكلّ ذلك منتف فيها ، ولهذا لم نوردها في هذا الكتاب ، وإنّما نذكرها في خاتمة الفنّ إن شاء الله تعالى. «منه رحمه‌الله».

٧٢

قوله : (والالتزامية). إلى آخره.

المراد ما يلتزم شرعا بالنذر والعهد واليمين ، والتحمّل عن الغير ولو باستيجاره.

وسيجي‌ء في كتاب المعاملات عن المصنّف منعه عن جواز أخذ الاجرة على كلّ ما يعتبر فيه النيّة ، واضطرابه في تصحيح أخذ الاجرة على الحجّ الثابت بالنصوص والإجماع ، بأنّه إنّما يجب بعد الاستيجار ، وأنّ فيه تغليبا لجهة الماليّة (١).

وفيه ؛ أنّ النيّة معتبرة فيه قطعا ، فإن كانت منافية لأخذ الاجرة ، فالمنافاة بحالها ، وما ذكر من التغليب أيّ فائدة فيه؟ وما ذكر من أنّه بعد الاستيجار فهو مصحّح لكلّ ما يعتبر فيه النيّة ، لأنّ أخذ الاجرة في الكلّ بعد الاستيجار وتماميّة العقد ، وحين العقد لا يشترط النيّة ، والعقد صحيح ، للعمومات مع جواز فعل العبادة عن الميّت تبرّعا بالإجماع والأخبار (٢).

وكلّما يجوز فعله عن الغير يجوز الاستيجار فيه ، ويصحّ بالعمومات والإجماع ، وبعد العقد يصير الفعل واجبا عليه شرعا وإن لم يأخذ الاجرة ، ولا يكون بإزائها ، وحاله بعينه حال النذر وأخويه ، إذ يصحّ أن ينذر : إن كان الشخص الفلاني أعطاه كذا وكذا ، أو حفظ ماله أو ردّه عليه ، أو غير ذلك من المباحات أن يصلّي لله كذا وكذا ، أو يصوم ، أو غير ذلك ممّا يشترط فيه النيّة ، فإنّه صحيح ومنعقد ، ويجب فعل (٣) ما نذر بعد حصول شرطه ، وإن كانت الصلاة والصوم

__________________

(١) مفاتيح الشرائع : ٣ / ١٢.

(٢) راجع! وسائل الشيعة : ٢ / ٤٤٣ الباب ٢٨ من أبواب الاحتضار.

(٣) لم ترد في (ز ٢) و (ط) : فعل.

٧٣

لنفس ذلك الشرط ينافي نيّة الإخلاص ، فتأمّل جدّا ، وتتمّة الكلام سيجي‌ء في موضعه إن شاء الله تعالى.

واعلم! أنّ صلاة الاحتياط داخلة في اليوميّة كقضاء الصلوات اليوميّة ، لما ستعرف من أنّها في الحقيقة من اليوميّة ، وقضاء غير اليوميّة داخلة فيما هو أداؤه ، لما ذكر.

٧٤

الباب الاوّل

القول في اليوميّة والجمعة

قال الله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) (١).

وقال عزوجل (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) (٢).

١ ـ مفتاح

[وجوب الصلوات الخمس على كلّ مكلّف]

يجب على كلّ مكلّف خال عن الحيض والنفاس ، واجد للطهور ، في الليل والنهار خمس صلوات ، هي سبع عشرة ركعة في الحضر ، لكلّ من الظهر والعصر والعشاء أربع ، وللمغرب ثلاث ، وللصبح ثنتان ، إلّا في يوم الجمعة

__________________

(١) الإسراء (١٧) : ٧٨.

(٢) الجمعة (٦٢) : ٩.

٧٥

لمن اجتمعت له الشرائط الآتية ، فإنّ للظهر حينئذ ركعتين وتسمّيان بالجمعة.

وفي السفر كلّها ركعتان إلّا ما للمغرب فثلاث ، كلّ ذلك للنصوص المستفيضة والإجماع.

٧٦

قوله : (واجد للطهور). إلى آخره.

أقول : يظهر أنّ غير الواجد للطهور (١) ليس عليه صلاة ، وجهه عموم ما دلّ على اشتراطها بالطهور ، مثل حديث : «لا صلاة إلّا بطهور» (٢) وغيره.

والمشروط عدم عند عدم شرطه ، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم لغة ، والصلاة إن كانت اسما للأركان الصحيحة فالنفي على حقيقته ، وإن كانت اسما لمجرّد الأركان فأقرب المجازات نفي الصحّة.

وقيل بوجوب الصلاة حينئذ (٣) ، للأخبار الدالّة على أنّ «الميسور لا يسقط بالمعسور» (٤) ، وأنّ «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (٥) ، وأنّه إذا امرنا بشي‌ء فعلينا أن نأتي منه ما استطعنا (٦).

والأوّلان عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والثالث عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، رواها المشايخ وذكروها في كتب الاستدلال وغيرها ، وضبطها ابن [ابي] الجمهور في غواليه ، فليلاحظ.

ويظهر منهم أنّها معتبرة عندهم يتمسّك بها متمسّكهم في استدلاله ، ولم نر من خصمه الطعن عليها بأنّها لا أصل لها ، أو ليست بمعتبرة.

__________________

(١) لم ترد في (ز ٢) و (ط) و (د ٢) : للطهور.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٢ الحديث ٦٧ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ١٤٠ الحديث ٥٤٥ و ٥٤٦ ، وسائل الشيعة : ١ / ٣٦٥ الحديث ٩٦٠.

(٣) لاحظ! الحدائق الناضرة : ٤ / ٣١٨.

(٤) عوالي اللآلي : ٤ / ٥٨ الحديث ٢٠٥ مع اختلاف يسير.

(٥) عوالي اللآلي : ٤ / ٥٨ الحديث ٢٠٧ مع اختلاف يسير.

(٦) عوالي اللآلي : ٤ / ٥٨ الحديث ٢٠٦ ، بحار الأنوار : ٢٢ / ٣١ مع اختلاف يسير.

٧٧

مضافا إلى غاية شهرتها في ألسن العلماء حتّى أنّهم في محاوراتهم ومكالماتهم يذكرونها ويتمسّكون بها ، لكن لا نفع لها للمستدلّ ، لما عرفت من أنّ الصلاة بغير طهور ليست بصلاة أصلا ، وليست بصحيحة أصلا.

مضافا إلى أصالة البراءة ، وأصالة العدم ، وأصالة بقاء ما كان على ما كان.

ومنها ظهر أنّه لو قال القائل بأنّ «لا صلاة إلّا بطهور» وغيره ، ورد مورد الغالب ، لا ينفعه ، لأنّ حاله حال ما دلّ على وجوب الصلاة.

فإن قال : عمومه لغوي ، واللغوي يشمل الغالب وغيره ، فقد عرفت أنّ «لا صلاة» أيضا عمومه لغوي ، فيثبت أنّه لا يجب أداؤها.

فهل يجب قضاؤها إذا تمكّن من الطهور؟ الأظهر نعم ، وهو المشهور ، لعموم ما دلّ على وجوب قضاء الفوائت (١) ولا شك في أنّها فاتت ، ويصدق عليها الفوت ـ لغة وعرفا ـ ، لا أنّها لم تكن مطلوبة ومشروعة أصلا ، كالصلاة قبل دخول وقتها ، إذ لا يصدق عليها قبل وقتها أنّها فاتت ، لأنّها لم تجئ بعد ، فكيف فاتت؟

وبالجملة ؛ الفرق واضح بين شروط المطلوبيّة بحيث لو لم يتحقّق لم يتحقّق المطلوبيّة والمشروعيّة ، وبين التمكّن من المطلوب والقدرة عليه ، فإنّ المطلوبيّة والمشروعيّة متحقّقة إلّا أنّ المكلّف غير قادر ، لا يمكنه إيجاد المطلوب المشروع ، إذ عدم تمكّنه وعدم قدرته لا يصير منشأ لزوال المشروعيّة والمطلوبيّة عند الله تعالى ، وعدم الحسن ـ بعنوان الوجوب ـ الذي لها عنده تعالى.

والحاصل ؛ أنّه فرق واضح بين عدم القدرة على ما هو حسن عقلا وشرعا ومطلوب عندهما ، وبين عدم كون الشي‌ء حسنا ومطلوبا ، وفي الأوّل يقال : فات منه الحسن والمطلوب والمشروع ، بخلاف الثاني ، وكما أنّ المقدور ـ مع كونه

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٢٥٣ الباب ١ من أبواب قضاء الصلاة.

٧٨

مقدورا ـ ربّما لا يكون مطلوبا ، فكذا العكس ، فإنّ المطلوب ـ مع كونه مطلوبا ـ ربّما لا يقدر عليه ، أمّا على رأي الأشاعرة فظاهر ، وأمّا على رأي الحقّ (١) ، فلأنّ الحسن والقبح ذاتيّان ، والشرع والعقل متطابقان ، وعدم القدرة على فعل الحسن لا يرفع حسنه ولا يمنع مطلوبيّته ، وإن قلنا بأنّه بالوجوه (٢) والاعتبارات.

ولذا يقال : نسيت أوجب الواجبات عليّ ، ونمت عن أشدّ الفرائض عليّ وصرت محروما منها ، وفات عنّي الموهبة العظمى ، وأمثال هذا ، كما لا يخفى.

نعم ، عدم القدرة يمنع مطالبة الحكيم ومؤاخذته إن لم يكن ناشئا عن تقصير في العلّة القريبة أو البعيدة ، وإلّا جاز المؤاخذة كما كان الله يفعل في الامم السابقة ، ومن هذا يصحّ أن يقال (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) (٣) الآية ، وورد في الأخبار (٤) عليه القضاء ، عقوبة لنسيانه (٥) ، وأمثال ذلك.

وقيل بعدم القضاء (٦) أيضا ، لأنّ الطهور شرط لكون الصلاة مطلوبة وواجبة ومشروعة ، وبعدمه ينعدم المطلوبيّة والمشروعيّة.

وفيه ؛ أنّ الصلاة بغير طهور وإن كانت غير مطلوبة وغير مشروعة ، إلّا أنّ الصلاة مع الطهارة مطلوبة مشروعة بالبديهة ، والمكلّف غير قادر على ذلك المطلوب المشروع (٧) ، ولأجله فات منه وصدق ـ عرفا ولغة ـ أنّه فات منه ، فيجب

__________________

(١) في (ز ٣) : الإماميّة والمعتزلة ، بدلا من : الحقّ.

(٢) في (ز ٢) و (ط) : وإن قلنا بالوجوه ، وفي (ز ٢) : وإن قلت بالوجوه.

(٣) البقرة (٢) : ٢٨٦.

(٤) لم ترد في (ز ١ ، ٢) و (ط) : في الأخبار.

(٥) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٥٤ الحديث ٧٣٨ ، الاستبصار : ١ / ١٨٢ الحديث ٦٣٨ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٨١ الحديث ٤٢٣٢.

(٦) قاله العلّامة في منتهى المطلب : ٧ / ١٠١.

(٧) في (ز ٣) : الشرعي.

٧٩

القضاء الذي ليس معناه إلّا تدارك ما فات ، لعموم ما دلّ على وجوب القضاء ، وسيجي‌ء إن شاء الله.

٨٠