مصابيح الظلام - ج ١

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ١

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-1-9
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٤٦٢

السلام (١).

مضافا إلى وجدان ذلك منهم ، وأنّه لم يوجد في ذلك غيرهم ، والمدار في الأعصار والأقطار والأمصار ليس إلّا على فقههم وحديثهم وترويجهم وتأسيسهم ، وسنشير إلى بعض مدائح بعضهم في الحاشية الآتية في مقام الجواب عن شبهات نفي الإجماع ، فلاحظ.

مضافا إلى ما ورد من مدح رواة أحكامهم ، وفقهاء شيعتهم ، وعلماء دينهم ، والمشيّدين لقلوب عوام شيعتهم ، بل الخواصّ أيضا (٢) ، ما تشيّد دينهم ، ولا تأسّس مذهبهم ، ولا انتظم شرعهم وفقههم إلّا منهم وببركتهم ، جزاهم الله عنّا وعن الإسلام والإيمان والفقه والشرع والحديث والقرآن خيرا ، آمين بمحمّد وآله الميامين.

وما ذكره من قوله : «وللتناقض». إلى آخره ، إن أراد منه وجدان مخالف في بعض إجماعاتهم المنقولة ، ففيه : أنّ الإجماع عند الشيعة لا يجب أن يكون الكلّ متّفقين ، بل القدر الذي يحصل العلم منه بقول المعصوم ـ صلوات الله عليهم ـ ، وصرّحوا بأنّ خروج معلوم النسب غير مضرّ (٣) ، بل وصرّحوا بأنّ مائة من فقهائنا لو خرجوا لم يضرّوا (٤).

وأمّا من اعتبر وفاق الكلّ ، فإنّما اعتبر وفاق أهل عصر وزمان واحد ، لا جميع الأعصار (٥) ، وإلّا لما تحقّق الإجماع إلّا بعد انقراض الدنيا ، ولم يظهر من ناقل

__________________

(١) رجال الكشّي : ١ / ١٠ الرقم ٥ ، بحار الأنوار : ٢ / ٩٢ الحديث ٢٢.

(٢) راجع! وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٣٦ الباب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٣) معارج الاصول : ١٣٢.

(٤) المعتبر : ١ / ٣١ ، الفوائد المدنيّة : ١٦.

(٥) الجوامع الفقهيّة (غنية النزوع) : ٤٨٠ ، معارج الاصول : ١٣١ ، معالم الدين في الاصول : ١٨٠.

٤١

الإجماع أنّ مراده إجماع أهل عصر ذلك المخالف ، ودون ظهوره خرط القتاد.

وإن أراد أنّه ربّما ادّعي الإجماع على خلاف ما ادّعي الإجماع عليه ، فما ذكره من التوجيه والتأويل لا يرفع التناقض بالبديهة ، مع أنّ ذلك إنّما هو في نادر من الإجماعات ، وليس النادر قرينة على الغالب فضلا عن الكلّية ، بل يكون مقصورا في موضعه كما هو مسلّم ، وإلّا يلزم خروج الأخبار وكلام اللغوي وغير ذلك عن الحجيّة ، بل كثر في الأخبار الخروج عن الظاهر ، وكلام أهل العرف استعمال الأمر في المستحب والعام في الخاص إلى أن اشتهر : «ما من عامّ إلّا وقد خصّ» ، فإذا كان هذا حال الغالب ، فما ظنّك بالنادر؟

وممّا ذكر ظهر فساد ما ارتكبه بعض الفقهاء ، من تأويل خصوص الإجماع الذي ظهر فيه مخالف بأنّ المراد ما ذكره المصنّف أو الشهرة أو غيرهما (١) ، فإنّ ذلك صدر منه غفلة بلا شكّ وشبهة ، وقلّده غيره غفلة كذلك.

فإن قلت : فما العذر في الإجماعات المتعارضة؟

قلت : قد عرفت أنّ الإجماع ليس اتّفاق الكلّ ، ومعلوم أنّ الأئمّة ـ صلوات الله عليهم ـ قد كثر منهم الأحكام المتعارضة ، ولذا لا يكاد يوجد خبر بغير معارض ، بل وربّما تصدر اختلافات متعدّدة في مسألة واحدة.

فربّما صرّحوا لطائفة حكما ، وشاع وذاع ذلك بينهم ، بحيث يحصل القطع بأنّه من إمامهم ، وصرّحوا لطائفة اخرى خلافه ، فشاع وذاع إلى أن حصل القطع بأنّه من إمامهم.

ألا ترى أنّهم عليهم‌السلام منعوا عن العمل بالظنّ في الأحكام الشرعيّة ، كلّ ظنّ يكون ، خبر الواحد يكون أو غيره ، وبالغوا في ذلك ، وجعلوا ذلك منشأ لاحتياج

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ١ / ٤٩.

٤٢

الناس في كلّ زمان إلى معصوم عليه‌السلام ، وجعلوا أيضا من أعظم المطاعن على العامّة ، وأصحابهم الكلاميّة كانوا يعارضون مع العامّة ويخاصمون ويحتجّون بالأدلّة القرآنيّة والعقليّة عليهم ، وشاع وذاع ذلك منهم إلى أن نسب العامّة جميع الشيعة إلى المنع من العمل بخبر الواحد.

ثمّ لمّا رأوا عليهم‌السلام أنّ الشيعة في البلدان كثيرون ، بل بلدانهم في غاية الكثرة والتشتّت ، وأنّه لا يتيسّر لكلّ فقيه عالم منهم أن يأخذ جميع شرعه بالخبر اليقيني ، سيّما مع كثرة اختلاف الأحكام منهم عليهم‌السلام ، لسبب التقيّة والمصالح ، وغير ذلك من أسباب الاختلاف ، مثل وهم الراوي وغيره ، جوّزوا لهم العمل بأخبار الثقات من جهة عدم تمكّنهم من إيصال الحقّ الواقعي إلى كلّ واحد (١) منهم ، وشاع وذاع ذلك بين محدّثيهم ، وصرّحوا في كتب الحديث والرجال بالجواز عن الثقات ، وبحثوا عن توثيق الرجال وغيره ممّا تعلّق بالعمل به.

والسيّد رحمه‌الله لمّا كان انسه وإلفه بالكلام أزيد ، وكان من جملة المتكلّمين ، صرّح بالإجماع على المنع ، بل جعله من ضروريّات المذهب ووجّه كلام المحدّثين في الرجال والحديث بتوجيهات (٢).

والشيخ لمّا كان انسه بكلام المحدّثين أزيد وكان منهم ، صرّح بالإجماع على الجواز ، ووجّه كلام المتكلّمين وأدلّتهم بتوجيهات (٣) ، كما لا يخفى على المطّلع.

ولمّا كان توجيه كلّ واحد منهما عند نفسه ظاهرا ، بملاحظة ما وجده من الإجماع اطمئنّ بذلك الإجماع ، وإلّا فالّذي ظهر لي هو ما أشرت ، وأنّ حال

__________________

(١) في (د ١ ، ٢) : أحد.

(٢) رسائل الشريف المرتضى : ١ / ٢٤.

(٣) عدّة الاصول : ١ / ١٢٦ ـ ١٢٨.

٤٣

الأئمّة عليهم‌السلام في ذلك حالهم في طعنهم على العامّة في اختلافهم في الحكم والدين ، مع كون الحكم واحدا والدين غير متعدّد ، ومع ذلك صدر منهم عليهم‌السلام الاختلاف أكثر ممّا صدر من العامّة ، وجعلوا شيعتهم أشدّ اختلافا ، إلى غير ذلك ممّا طعنوا على العامّة ، ومع ذلك ألزموا شيعتهم بذلك تقيّة ومصلحة ، وربّما كانوا يقولون للقمّيين حكما ، وللعراقيّين خلافه ، وقس على هذا.

وممّا ذكر ظهر أنّه لا مانع عقلا من أنّ فقيها واحدا يعتقد في وقت إجماعا وفي وقت آخر عدمه ، بل في وقت آخر الإجماع على خلافه ، لكن الأخير فرضه نادر ، ولذا إن وقع من نادر منهم فعلى سبيل الندرة.

ومعلوم أنّ كلّ اعتقاد لا يجب أن يكون مطابقا للواقع ، ولا يستحيل تخلّفه عنه ، ولذا إجماعهم المنقول عنهم لا يوجب العلم لنا إلّا أن يصير متواترا أو محفوفا بالقرينة المفيدة للقطع ، نعم يورث المظنّة إن لم يكن اختلاف لا علاج لرفعه ، أو ريبة فيه ، كسائر أخبار الآحاد ، وأمّا أنّه حجّة لنا أم لا فسيجي‌ء الكلام فيه.

قوله : (ولم أعتمد منه إلّا على ما علم). إلى آخره.

أجمع علماء الشيعة على حجيّة الإجماع ، لما عرفت من كونه مفيدا للقطع بقول المعصوم عليه‌السلام ، وأنّه ما لم يقطع به لم يكن إجماعا قطعا ، بل يكون شهرة ، وسيجي‌ء حال الشهرة.

فإذا حصل القطع بقوله عليه‌السلام لم يكن فرق بينه وبين خطاب المعصوم عليه‌السلام مشافهة ، فكلّ ما دلّ على حجيّة خطابه الشفاهي دلّ على حجيّة الإجماع من دون تفاوت أصلا ، بل الإجماع أولى وأقوى ، لأنّ دلالة الألفاظ ظنيّة ما لم يكن قرائن عقليّة.

فما يقوله بعض : إنّ الإجماع ليس بحجّة (١) إن أراد غير الاصطلاحي فهو

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ١ / ٣٥ ، ٩ / ٣٦١.

٤٤

جهل منه ، وإن أراد الاصطلاحي فلا شكّ في كفره ، لأنّه عبارة عن عدم حجيّة قول المعصوم عليه‌السلام ، فهو إمّا خارج عن الإسلام إن كان المعصوم هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو الإيمان إن كان هو الإمام.

وربّما يقول : لم يرد حديث على أنّ الإجماع حجّة (١) ، ولا يدري أنّ المجمع عليه لا ريب فيه هو كلام المعصوم عليه‌السلام ، والحديث فيه الريبة من جهات متعدّدة : بحسب السند ، وبحسب المتن ، وكذلك بحسب الدلالة ، وكذلك بحسب علاج التعارض ، إذ قلّما يتحقّق حديث من غير معارض حجّة ، بل عرفت أنّ الإجماع أقوى من خطابه بالمشافهة ، مع أنّك ستعرف أخبارا كثيرة متواترة على حجيّة الإجماع.

ثمّ الإجماع إمّا ضروريّ الدين ، وهو إجماع جميع فرق الإسلام ، بحيث صار ضروريّا عندهم ، أي صار مثل البديهيّات ، لا يتوقّف الحكم به على دليل وملاحظة منشأ لثبوته ، كوجوب الصلاة اليوميّة والصيام وغيرهما ، ومنكر هذا كافر بالكفر المقابل للإسلام.

وإمّا ضروريّ مذهب الشيعة ، وهو إجماعهم بحيث ، صار ضروريّا عندهم كحلّية المتعة ، ومنكره كافر بالكفر المقابل للإيمان ، وكلّ من الضروريّين لا يتعلّق به اجتهاد ولا تقليد ، بل الكلّ على حدّ سواء ، بل الكفّار أيضا إذا اطّلعوا على أقوالنا وأفعالنا يحكمون أنّ الأوّل في شرع الإسلام ، والثاني في الإيمان.

وأمّا أنّه لم يصل إلى حدّ الضرورة لكن وصل حدّ العلم فهو الإجماع النظري ، كأكثر الإجماعات التي سيذكرها المصنّف.

وإمّا ظنّي وهو الإجماع المنقول بخبر الواحد ، فهو عند الناقل يقينيّ قطعا ، إلّا

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ١ / ٣٩.

٤٥

أنّه عندنا ظنّي ، فحاله حال الخبر الواحد ، وسيجي‌ء حكمه أيضا.

إذا عرفت ما ذكرنا ، ظهر عليك أنّ الإجماعات التي اعتمد المصنّف عليها من أوّل كتابه إلى آخر كتابه ليست منحصرة في الضروريّات ، بل جلّها ليست بضروريّة بالبديهة ، فإمّا أنّه تغيّر رأيه ، أو غفل ، أو أراد من الضروري أمرا آخر ، أو أنّه حين حصول القطع له توهّم كونه ضروريّا ، والأوّل أظهر ، لأنّ اليقين يحصل من غير كونه ضروريّا ، كما ستعرف.

إذا تقرّر ما ذكرنا نقول : قد عرفت عدم إمكان إنكار حجيّة الإجماع. وأمّا ثبوت الإجماع فعند المحقّقين : أنّ كلّا من الضروري والنظري ثابت ، والظنّي حجّة.

وأنكر بعض جميع الإجماعات وحصر المدرك في الكتاب والسنّة (١) ، وبعض النظري ، دون الضروري (٢) ، وبعض الظنّي خاصة (٣) ، وبعد إبطال غير ما عليه المحقّقون ثبت طريقة المحقّقين.

أمّا بطلان قول منكر الكلّ ودعواه الحصر ، أمّا بالنسبة إلى العقل ، فلأنّ كثيرا من الأحكام تثبت من اليقينيّات ، مثل بطلان العقدين المتنافيين لاستحالة اجتماعهم ، والترجيح من غير مرجّح ، ومثل قبح تكليف الغافل والجاهل ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ، واستحالة اجتماع الأمر والنهي ، وغير ذلك ، لأنّ الحسن والقبح عندنا عقليّان ، فكلّ من العقل والشرع متطابقان يكشف كلّ منهما عن الآخر ، والآيات (٤) والأخبار المتواترة على كون العقل حجّة ، بعض منها مذكور في كتاب العقل والجهل من «الكافي» (٥).

__________________

(١) منهم صاحب الحدائق الناضرة : ٩ / ٣٦٢.

(٢) نظير صاحب معالم الدين في الاصول : ١٧٥.

(٣) الوافية : ١٥٥.

(٤) البقرة (٢) : ٤٤ و ٧٣ ، آل عمران (٣) : ١١٨.

(٥) راجع! الكافي : ١ / ١٠ كتاب العقل والجهل.

٤٦

وأمّا بالنسبة إلى الإجماع ، فقد عرفت من الحاشيتين السابقتين أنّه لا محيص عنه في الأحكام الشرعيّة ، وأنّها لا تثبت إلّا به أو بمعونته.

ومن ذلك أنّ الأمر بغسل النجاسة (١) ظاهر وحقيقة في الوجوب لنفسه ، ونحن نفهم الوجوب لغيره ، وحقيقة في الوجوب الشرعي ، ونفهم الوجوب الشرطي ، ولذا نوجب في الوضوء ـ مثلا ـ أن يكون غاسل الوجه واليدين مثلا هو المخاطب بنفسه ، ولا نجوّز مباشرة غيره ، بخلاف غسل النجاسات ، بل نجوّز فيه أن يكون الغسل من غير إذنه ، بل ومع منعه عنه ، بل وأن لا يكون غاسل ، مثل أن يتحقّق بالمطر والوقوع في الماء ، مع أنّك عرفت أنّ الغسل لا يستلزم النجاسة أصلا ، فكيف يدلّ عليه؟ إلى غير ذلك ممّا مرّ.

وأيضا المستحبّات جلّها واردة بلفظ الأمر والفرض والوجوب وعليك أن تفعل. وأمثال ذلك ، كما في كتب الحديث والأدعية ، ولا نفهم سوى الاستحباب من دون معارض ، أو يكون في قليل من المقام معارض لا نطّلع عليه ، أو نطّلع لكن لا يتوقّف فهمنا عليه.

وأيضا الآية ظنيّة الدلالة ، والأخبار ظنيّة سندا ومتنا ودلالة وعلاجا للتعارض ، بل في كلّ منهما وجوه من الظنّ ، كما عرفت.

والأحكام القطعيّة من الكثرة بمكان ، ولا يمكن أن يصير الظنّ مستندا للقطع.

ومتمسّك المنكر الشبهات المخالفة للبديهة ، مثل أنّ العلم بإجماع الكلّ محال ، لتوقّفه على أن يدار [في] البيوت ، ويسمع من كلّ واحد واحد ، مع أنّه متى سمع من واحد فحين ما يسمع من الآخر لعلّ الأوّل رجع عن رأيه.

__________________

(١) في (ز ٢) و (ط) و (د ٢) : النجاسات.

٤٧

ومثل أنّ غير المعروف بشخصه ونسبه ، كيف يمكن العلم بقوله؟

ومثل أنّ الحكم إن صدر من الشارع (١) فحديث ، وإلّا فكيف يمكن العلم به؟

ومثل أنّ طريقة الرواة والمحدّثين كانت الاقتصار على الآية والحديث إلى أن وصل إلى زمان المفيد رحمه‌الله ومن بعده ، فأحدثوا البدعة في الدين ، وتبعوا العامّة.

ومثل أنّ كلّ واحد من المجمعين يجوز خطأه البتة ، فكذلك المجموع.

ومثل أنّ الإجماع لو كان حجّة لكان خلافة أبي بكر حقّا ، وأمثال ما ذكر من المزخرفات ، سيّما مع مخالفتها لما وجدت بالعيان من الإجماعات الضروريّة.

فإنّا نعرف بالبديهة أنّ المسلمين في شرق الأرض وغربها مجمعون على أنّ الله سبحانه وتعالى موجود وواحد ، ومحمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسوله ، والصلاة واجبة ، وغير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

وعلى فرض أن لا نعلم أنّ جميعهم كذلك ، فلا شكّ أنّ أكثرهم كذلك ، مع أنّا ما درنا في البيوت ولم نسمع منهم ولم نعرف شخصهم ولا نسبهم.

فإن قلت : لعلّ وجود الأدلّة اليقينيّة والأخبار المتواترة في الامور المذكورة صار سببا ليقيننا.

قلت : ليس كذلك ، إذ كثيرا ما يكون أدلّة يقينيّة وأخبار متواترة ولم نجد إجماعهم ، بل نجد عدم إجماعهم كما في أدلّة العدل والإمامة ، وغير ذلك.

وربّما كان المجمع عليه لم يرد فيه خبر أصلا ، مثل نجاسة ماء الورد الذي لاقاه خرء الخنزير والفأرة ، إذ لم نجد آية ولا حديثا في نجاسة خرء الخنزير وغيره ، ولا انفعال ماء الورد به ، وكذا الحال في سائر أرواث ما لا يؤكل لحمه ، والمياه المضافة ، وغير ذلك من الأحكام.

__________________

(١) في (د ١ ، ٢) : الشرع.

٤٨

مع أنّك عرفت أنّ الآية والأخبار لا تخلوان عن الظنّ ، ومستند اليقين لا يكون ظنّا ، مع أنّ القطع بالإجماع حاصل مع قطع النظر عن الأدلّة ، بل القطع حاصل للعوام والكفّار (١) ، ولا اطّلاع لهم بحديث ولا آية ولا غيرهما.

مع أنّا نعرف قطعا أنّ أهل السنّة ـ مثلا ـ مجمعون على خلافة أبي بكر وفلان وفلان من غير أن نعرفهم بأشخاصهم وأنسابهم ، ولا نعرف بلدانهم وأقطارهم فضلا عن أهلهما ، بل الذين وجدنا منهم ربّما لم نسمع منهم ما ذكر أصلا ، وإن سمعنا من نادر منهم ، فربّما لا نسمع جميع عقائدهم.

وما ذكره من أنّ الحكم إن صدر. إلى آخره ، فيه ؛ أنّه لا شكّ في صدوره ، إلّا أنّه لم يصل إلينا بعنوان الحديث كما عرفت ، لأنّ الإجماع عندنا هو الاتّفاق الكاشف عن قول المعصوم عليه‌السلام ، ولا شكّ في أنّ قول المعصوم عليه‌السلام حديث وصل إلينا بوساطة الإجماع وظهر لنا من جهته ، وإن كان لفظ الحديث بعنوان الإطلاق صار مصطلحا فيما وصل إلينا بنحو المعنعن ، وجلّه بل كلّه مكتوب في الكتب ، مضبوط مودع فيها ، وليس طريق الوصول منحصرا في الثاني بالبديهة.

وذلك لأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذا الأئمّة عليهم‌السلام ، وكذا كلّ صاحب الشرع ، وكذا كلّ مجتهد إذا صدر منهم حكم صريح ، فجميع من تبعهم ليس بيدهم دواة وقلم يكتب ذلك بعنوان الحديث ، وينقل للآخر بعنوان الحديث ، إذ لو كان كذلك ، لكان كلّ واحد واحد من أحكامهم يصل إلى الكلّ بعنوان الخبر المتواتر الذي لا يحصى عدد كلّ واحد واحد من كلّ واحد واحد من طبقات السند ، وبالبديهة لم يوجد مثل هذا التواتر أصلا فضلا عمّا ذكر.

بل دأبهم التلقّي بالقبول في القلوب ، والارتكاب في الأعمال ، والنقل

__________________

(١) لم ترد في (ط) : الكفّار.

٤٩

والسراية إلى آخر بالتطلّع والتظافر والتسامع بأنّه يجب كذا ، ويستحبّ كذا ، وأمثال ذلك ، كما هو الحال في الإجماعات الضروريّة والنظريّة وغيرهما ، وكما هو الحال في مقلّدي المجتهدين ، وجميع تبعة أرباب الشرائع الصحيحة أو الفاسدة.

ومن هذا ترى أمّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمانه كانوا من الكثرة بحيث لا يحصون ، وكذا شيعة الباقر وكذا الصادق عليهما‌السلام ، وغيرهما إلى القائم عليه‌السلام ، ومع ذلك لا يوجد من ألف ألف ألف رجل منهم يكون راويا ، وذلك الراوي ما روى من ألف ألف ألف حكم إلّا حكما.

بل مثل زرارة ممّن كثر عنه الرواية مجموع رواياته ما يفي بعشر معشار الشرع ، ولا شكّ في أنّه كان لهم شرع.

بل الكليني لم يكن مذهبه مقصورا في رواياته ، إذ كثيرا من بديهيّات مذهب الشيعة لم يروه ، وكثيرا ما روي ما هو مخالف لمذهب الشيعة من غير أن يروي المعارض ، مثل ما أشرنا إليه في أمر المستحبّات ، ولا شكّ أنّ مداره كان على الإجماع ، وربّما صرّح بالإجماع ، وأنّه بسببه رفع اليد عن الأخبار التي ذكرها ، مع تصريحه بكونها صحيحة كما فعل في كتاب الميراث (١) وغيره.

وكذا الحال في الفقهاء المتقدّمين على الكليني ، كما لا يخفى على المطّلع ، وكذا في المتأخّرين عنه مثل الصدوق رحمه‌الله ، سيّما مع تصريحه كثيرا بأنّ ذلك مذهب الإماميّة وعقائدهم ، كما في اعتقاداته (٢) ، وأماليه (٣) ، وغيرهما (٤).

وممّا ينبّه على ما ذكرنا أنّ الرواة حين ما كانوا يسألون عن الأئمّة عليهم‌السلام يظهر

__________________

(١) الكافي : ٧ / ١١٥ ذيل الحديث ١٦.

(٢) انظر! على سبيل المثال اعتقادات الصدوق : ٣ و ٩ و ١٠ و ١٤.

(٣) أمالي الصدوق : ٥١٠ المجلس ٩٣.

(٤) الهداية : ٤٨.

٥٠

من سؤالهم أنّهم كانوا يعرفون الأمر الذي سألوا وكثيرا من أحكامه ، وما كان إشكالهم إلّا عن حكم أو حكمين أو ثلاثة منه ، ولذا ما كانوا يجابون إلّا الذي سألوا ، وما كانوا أصلا يسألونهم أنّ باقي أحكام ما سألت من أين عرفت؟ حتّى أنّك تقتصر في سؤالك على خصوص إشكالك ، مع أنّهم ما رووا لنا سوى ما سألوا ، ولو كانوا يدرون ما بقي ذلك من جهة الرواية لكانوا يروون لنا.

وممّا ذكرنا (١) ظهر ما في شبهتهم أنّ طريقة الرواة كانت الاقتصار. إلى آخره.

مع أنّ تأسيس مذهب الشيعة صار في زمان المفيد رحمه‌الله (٢) ، مع ما أشرنا إلى جلالته وجلالة أمثاله فيما سبق (٣) ، مضافا إلى ما ورد من التوقيعات عن القائم ـ عجّل الله فرجه الشريف ـ في جلالته ، فلاحظ «الاحتجاج» (٤).

وقد رثاه القائم عليه‌السلام يوم وفاته بمرثية ذكرتها في تعليقاتنا على الرجال (٥).

وورد عنهم عليهم‌السلام في حقّه الخطاب بـ «يا شيخي ، ويا معتمدي ، الحقّ مع ولدي» (٦) مريدا من الولد : السيّد المرتضى رحمه‌الله ، وقد لقّبه جدّه بـ «علم الهدى» (٧) ، ومداره في الفقه على الإجماع (٨) بسبب منعه عن العمل بخبر الواحد (٩) وغيره من

__________________

(١) في (د ١ ، ٢) و (ز ٢) و (ط) : ذكر.

(٢) لا يخفى أنّ المراد من التأسيس التقوية ، كما قال الشارح رحمه‌الله في وصف العلماء : هم المؤسّسون لدين النبي والأئمّة عليهم‌السلام .. وما تشيّد دينهم ولا تأسّس مذهبهم .. إلّا منهم وببركتهم.

(٣) راجع! الصفحة : ٤٠ و ٤١ من هذا الكتاب.

(٤) الاحتجاج : ٤٩٥.

(٥) تعليقات على منهج المقال : ٣١٨.

(٦) راجع! مقابس الأنوار : ٦ ، قصص العلماء : ٤٠٧.

(٧) رياض العلماء : ٤ / ١٨.

(٨) راجع! الانتصار فإنّه يدّعي الإجماع في كلّ مسألة.

(٩) الذريعة إلى اصول الشريعة : ٢ / ٥٢٨.

٥١

الظنون ، وقصره في اليقين.

وحال الأعاظم الموافقين له ممّن تقدّم عليه أو تأخّر عنه أيضا كذلك.

مع أنّ جمعا منهم وصلوا إلى خدمة الأئمّة عليهم‌السلام ، وربّما كان بعضهم من سفرائهم ، بل جمع من متأخّري فقهائنا وصلوا إلى خدمة القائم عليه‌السلام ، وحكايات الوصول مشهورة (١).

هذا ؛ مضافا إلى الكرامات الصادرة عنهم ، بل وعن قبورهم أيضا ، بل هي محالّ الفيوض الإلهيّة ونيل حوائج الدنيا والآخرة ، وسمعنا من الثقات عجائب منها ، مع الرؤيا الدالّة على عظم المنزلة ونهاية الرفعة بالنسبة إليهم حقيقة في غاية الكثرة ، بل ربّما يظهر منها أيضا كرامات عجيبة.

وما ذكر من أنّ كلّ واحد من المجمعين .. إلى آخره فقد عرفت حقيقة الإجماعات ، وستعرف بطلان أصل الشبهة مع أنّها شبهة وردت في نفي المتواتر ، والمسلم بناء دينه على المتواترات ، فكيف يجوز له التمسّك بهذه الشبهة؟

وأمّا أنّ حجيّة الإجماع يوجب حقيّة خلافة أبي بكر ففيه ؛ أنّ الأخبار (٢) التي أوردوها على إمامته وخلافته (٣) ، وكذا سائر اعتقاداتهم وشرعهم ، ومنه كفر الرافضي ووجوب قتله (٤) ، إلى غير ذلك ممّا لا تحصى عددا ، فعلى ما ذكرتم لزم عدم حجيّة الأخبار بطريق أولى ، ثمّ أولى.

مع أنّ العامّة كثيرا ما يتمسّكون بالقرآن ، فلا بدّ أن لا يكون القرآن حقّا.

ومعلوم أنّ الإجماع لم يتحقّق على خلافته ، وإلّا لكان حقا البتّة ، إذ

__________________

(١) بحار الأنوار : ٥٣ / ٢٢٢ ـ ٣١٣.

(٢) سنن ابن ماجة : ١ / ٣٦.

(٣) في (د ١) و (ز ٢) و (ط) : جلالته.

(٤) لسان الميزان : ١ / ٢٠ ، كنز العمّال : ١ / ٢٢٣ الحديث ١١٢٧ و ١١٢٨.

٥٢

أمير المؤمنين والحسنان وفاطمة عليهم‌السلام كانوا من الامّة في ذلك الزمان ، وهم يدّعون أنّهم قالوا بخلافته ، ولا شكّ في أنّ واحدا من هؤلاء المعصومين عليهم‌السلام لو قال بخلافته لكانت حقّا.

وبالجملة ؛ الضروريّات من الكثرة بحيث لا يتيسّر إحصاؤها ، وليس منحصرا فيما أشرنا إليه بالبديهة ، فإن كان هؤلاء ينكرونها فلا شكّ في كفرهم ، إذ إنكار واحدة منها يوجب الكفر ، فكيف المجموع؟

وإن كانوا معترفين بها ، فإن قالوا : إنّها مدلولة الآيات والأخبار فقد عرفت أنّ كثيرا منها ليس في القرآن والخبر منه عين ولا أثر.

وكثيرا منها تعارض النصوص بحيث توجب تأويلها ، وليس التأويل إلّا من جهته ، كما هو حال المستحبّات غالبا وغيرها كثيرا.

وكثيرا منها لو لم [يكن إجماع عليها] لم تدلّ الأخبار ، لو لم نقل : إنّ كلّ الأخبار كذلك كما هو حال النجاسات وغيرها.

وكثيرا منها وإن كانت موافقة لظاهر آية أو خبر ، إلّا أنّ الظنّ لا يصير مستند اليقين فضلا عن الضروري ، لأنّ الضروري يبادر إلى الفهم ، ويحكم به من دون توقّف على دليل وعلّة ، ولذا يفهمه العوام والكفّار والمطّلعون.

وجميع ما ذكر لا يقبل الاستتار ، بل كالشمس في وسط النهار ، فإذا كان نظر لا يرى الشمس بهذه المثابة ، فكيف يرى الشعرة وعشر معشار الشعرة؟ إذ الفقه بهذا القدر من التفاوت يختلف اختلافا عظيما ، ويثمر ثمرا كثيرا.

مضافا إلى أنّه يصير حكما بغير ما أنزل الله ، فيكون الحاكم كافرا (١) فاسقا (٢)

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) المائدة (٥) : ٤٤.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) المائدة (٥) : ٤٧.

٥٣

ظالما (١) مفتريا على الله ، هالكا مهلكا (٢) ، إلى غير ذلك ممّا ورد فيه ولا شكّ يعتريه ، فكيف يستأهل للفقاهة مع ما فيه من السفاهة؟ وكيف له قابليّة الاجتهاد مع ما في قلبه من اللجاج والعناد؟

إذ بعد التنبيه التام ، والمبالغة في إظهار ما هو أظهر من الشمس ، وإتمام الحجّة ، تراهم ينكرون الإجماع مطلقا كما كانوا ينكرون ، ويقولون بانحصار مدرك الشرع في الآية والخبر كما كانوا يقولون ، بل ويزيدون في اللجاج ، وينسبون جميع الفقهاء إلى سوء الفهم والاعوجاج ، بل وإلى الحكم بغير ما أنزل الله والقياس ، والهلاك وإهلاك الناس ، والبدعة ، ومتابعة العامّة ، أو مخالفة طريقة الشيعة ، وغير ما ذكر من الامور الشنيعة.

وقلب المجتهد لا بدّ أن يكون سالما عن المعايب ، وخاليا عن الشوائب ، مائلا عن الميل والانحراف ، سالكا سبيل الإنصاف.

ومن أنكر واحدا من اصول الدين الخمسة لا يكون معذورا ، وإن كان نظريّا ، بل يستحقّ بذلك دخول النار وخلودها ، فكيف من ينكر ما هو أظهر من الشمس ولا يقبل الاستتار ، يستأهل للاجتهاد؟ سيّما وأن يصرّ في اللجاج والعناد ، هدانا الله سبيل الرشاد ، والصلاح والسداد.

ثمّ إنّ بعضهم ربّما يلجأهم جميع ما ذكرناه بعد المبالغة التامّة والإصرار وفي غاية الإكثار ، إلى القول بوجود غير الآية والحديث ، وحصول العلم من غير جهتهما أيضا ، لكن يقول : من أين هو الإجماع؟ إذ لعلّه شي‌ء آخر.

فكنت أقول : العلم بما ذكر ليس فطريّا بالبديهة ، بل العقل لا طريق له أصلا

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ) المائدة (٥) : ٤٥.

(٢) لاحظ! الكافي : ١ / ٤٣ الحديث ٩ ، وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٩٢ الحديث ٣٣٥٧٠.

٥٤

إلى وجوب مثل الصلاة والنجاسة وأمثالهما ، بل لا طريق له عندك أصلا ، فلا بدّ من حصوله من النقل بالبديهة ، فإذا لم يكن من الآية والحديث ، انحصر في الإجماع ، إذ لا منشأ للعلم هنا إلّا اتّفاق المسلمين أو الشيعة ، ولو كانت المسألة خلافيّة لم يتحقّق هذا العلم بالبديهة ، إلّا إذا كان الخلاف شاذّا.

فظهر أنّ المنشأ هو الوفاق ، على أنّه أيّ شي‌ء يكون المنشأ نحن نسمّيه بالإجماع ، ولا مشاحّة في التسمية ، ونسمّيه أيضا بالضروري أو الوفاق والإطباق ، فأيّ اسم ترضى فسمّه به ، وأقلّه ما ذكرت من أنّه علم آخر وطريق ثالث ، وإنّي لا أدري أنّ المنشأ ما ذا؟ ولا مشاحّة في الاصطلاح عند جميع من له فهم.

فإن قلت : الفقهاء ذكروا في تعريف الإجماع أنّه اتّفاق العلماء بحيث يحصل القطع بقول المعصوم عليه‌السلام (١) ، وأنت قلت : اتّفاق المسلمين والشيعة.

قلت : لمّا كانت العبرة عندهم بكلام العلماء لا العوام كما ستعرف ، ذكروا كذلك.

شبهة المذهب الثالث ـ وهو ثبوت الضروريّات خاصّة ـ إنّها ثابتة بالضرورة وأمّا النظريات فلمّا كانت من حدس واجتهاد ، لا يمكن حصول العلم فيها ، بجواز خطأهم في الاجتهاد ، ألا ترى أنّ أهل السنّة اتّفقوا على أحكام باطلة ، وكذا الكفّار ، مثل قدم العالم وغيره وبعض الشبهات التي ذكرت ، وظهر فسادها.

وأمّا هذه الشبهة ، فهي واضحة الفساد أيضا ، فإنّ الإجماع النظري ليس المراد منه ما يكتسب بالنظر ، بل بإجماع الامّة ، أو الشيعة ، أو علمائهم.

وأمّا الضروري ؛ فقد عرفت أنّه ليس من الفطريّات ، ولا المشاهدات ، ولا

__________________

(١) مبادئ الاصول : ١٩٢ ، معارج الاصول : ١٢٦ و ١٣٠ ، معالم الدين في الاصول : ١٧٣.

٥٥

التجربيّات ، بل عرفت أيضا أنّه ليس من المتواترات ، ومسلّم عندك أيضا ، وعلمت أنّه أيضا من إجماع هؤلاء ، وأنّه لو لا إجماعهم لم يتحقّق الضرورة.

وعلمت أيضا أنّ العلم بإجماعهم من التظافر والتسامع ، والتطلع والتتبّع ، والتحدّس والتفرّس ، إلى أن وصل حدّ الضرورة.

ومعلوم أنّ هذا المعنى لا يمكن حصوله عادة في آن واحد دفعة واحدة ، بل لا يتحقّق إلّا باطّلاع بعد اطّلاع ، وسماع بعد سماع ، ويتكثّر ويتكرّر إلى أن يصل إلى ذلك الحدّ ، وإلّا فمعلوم أنّ الاطّلاع على حال واحد منهم ، وسماع كلام شخص منهم لا يفيد العلم فضلا عن الضرورة ، بل ربّما لا يفيد الظنّ أيضا ، بل بعد ما يتزايد يتحقّق الظنّ ، ثمّ لا يزال يتزايد إلى أن يصل إلى حدّ العلم ، وابتداء حدّ العلم هو الإجماع النظري ، لصدق تعريفه ، وأحكامه وهي عدم كفر منكره ، وتحقّق التقليد فيه ، وتوقّف العلم والحكم على ملاحظة المنشأ وما هو سبب للعلم وغير ذلك.

ثمّ لا يزال يتأكّد العلم ويتشدّد ويتقرّر ويستحكم إلى أن يصل حدّ الضرورة ، ويتحقّق أحكامها ومنها كفر منكرها وغير ذلك ، فبحسب العادة ما لم يتحقّق الرجحان والظنّ لم يتحقّق العلم ، وما لم يتحقّق العلم لم يتحقّق الضرورة ، فإنكار النظري ـ مع الاعتراف بالضروري ـ فاسد بالضرورة.

وأيضا قد عرفت بعنوان الضرورة أنّ الضروريّات ليست بحسيّات ، ولا حاصلة من خصوص حسيّات ، بل ولا من الحسيّات ، كما عرفته مفصلا.

مع أنّ تبعة أرسطو إذا اتّفقوا على شي‌ء نعلم أنّه ليس منهم ، بل نعلم أنّه من أرسطو وإن كانوا كفّارا ، وليس ذلك من قبيل اتّفاقهم على قدم العالم بالبديهة.

والحاصل ؛ أنّ حال الإجماع حال التواتر ، وكما لا يحصل من التواتر في قدم العالم العلم به ، ويحصل من التواتر في أنّه قديم عند فلان ـ مثل أرسطو ـ العلم بأنّه قديم عنده ، وكذا لا يحصل من الإجماع العلم بأنّ المسألة كذا ، بل يحصل منه العلم

٥٦

بأنّها عند الشارع كذا ، فمتعلّق الإجماع أمر حسّي ، وإن كان المجمع عليه ليس أمرا حسيّا.

وكذا حال مقلّدي مجتهد في المسألة الشرعيّة ، وإن كانوا أقلّ من عشر من معشار الشيعة ، وكذا تبعة مقنّن قانون.

وأيضا كلّ مسألة شرعيّة في نفسها تحتمل احتمالات ، وبعد ما رأينا فقيها صالحا متّقيا عادلا متقنا عارفا ورعا مطّلعا ماهرا مقدّسا أفتى فيها ، يترجّح في النظر ما أفتى به ، وليس وجود فتواه كعدمه على السواء قطعا ، وإنكار ذلك بهت ومكابرة ولجاج واعوجاج وعناد ولداد ، إذ ليس بأدون من نحوي في النحو ، وكذا من صرفيّ في الصرف ، وطبيب في الطبّ ، وصرّاف في الصرافة ، وكذا أهل سائر الصناعات والخبرة ، إذ يحصل من قولهم ظنّ ، وإن كانوا كفّارا أو فجّارا ، فضلا أن يكونوا صلحاء ، فضلا أن يكونوا عدولا ، فضلا أن يكونوا أرباب القوّة القدسيّة ، والكمالات النفسيّة ، والزهد والتقوى ، واولي الذكاء والنهى ، كما هو حال الفقهاء ، بل حالهم أعلى ممّا ذكر بمراتب شتّى.

ثمّ إذا رأينا فقيها آخر يوافق الأوّل ، يحصل من فتواه ظنّ آخر ومن توافقهما ظنّ آخر ، وهكذا كلّما زاد فقيه في الفتوى يحصل منه ظنّ آخر ، ومن التوافق به ظنّ آخر ، ومن توافق المتوافقين ظنّ آخر ، وهكذا إلى أن يصل إلى العلم.

فإنّ كثرة الظنونات وكثرة التوافق يقتضي العلم عادة ، بل إذا اتّفق صيارفة كثيرة من أهل سوق على كون درهم معيّن زيوفا يحصل العلم بأنّه زيوف ، سيّما إذا كانت كثرة وافرة ، مع عدم ثبوت عدالتهم ، بل وثبوت العدم.

فما ظنّك باتّفاق فقهاء الشيعة؟ مع اتّصافهم بما أشرنا فيه ، بل أشرنا إلى عظم شأنهم في الجملة في الحاشية السابقة المكتوبة على قوله : (كما هو الظاهر من تلك). إلى آخره ، مضافا إلى ما اشير إليه في هذه الحاشية آنفا ، فلاحظ وتأمّل إنّه

٥٧

حقّ أم لا؟!

ثمّ بعد ذلك لاحظ إجماع أمثال هؤلاء كيف حاله؟ سيّما مع مؤيّدات كثيرة ، وقرائن وافرة ، مثل اتّفاقهم على حرمة تقليدهم ، ووجوب استفراغهم للوسع ، وبذل الجهد ، واستحصالهم جميع شرائط الاجتهاد ، ومنها القوّة القدسيّة التي اعتبروها ، ومراعاة جميع ماله دخل في درك الحقّ ، مثل التخلية ، ومراعاة المنطق مادّة وهيئة ، وغير ذلك ، وعدم اكتفائهم بالاجتهاد الأوّل ولا الثاني وهكذا.

ولذا تغيّر رأي أكثرهم ، بل وكلّهم مكرّرا ، بل كثيرا ، لأنّهم يلتزمون بالاستفراغ في الاجتهاد في كلّ نظر نظر ، ولكلّ نظر يلتزمون استفراغا مجدّدا ونهاية بذل جهد على حدة ، ولا يمكن ـ عادة ـ أن لا يتغيّر الرأي أصلا باستفراغ الوسع الجديد في الامور الاجتهادية ، إلّا من يغلب عليه التقليد ، أو خمود القريحة الشديدة.

هذا كلّه ؛ مضافا إلى شدّة اختلافهم في الفقه والفهم ، بل وفي اصول الفقه أيضا ، حتّى أنّهم في خبر الواحد اختلفوا اختلافا عظيما كثيرا ، منهم منع القول بحجيّته شرعا لأنّه ظنّ (١) ، وبعضهم عقلا أيضا لذلك (٢) ، وبعضهم استحال التعبّد به (٣) ، ومن قال بحجيّته ، اختلفوا اختلافا عظيما في أنواع ما هو حجّة ، والقائلون بكلّ نوع ، اختلفوا اختلافا عظيما في أشخاصه.

وكذا الحال في اختلافهم في دلالات الأخبار والآيات ، فشخص من ظنّيّ يكون حجّة عند الجميع معدوم قطعا ، إلّا قليل من دلالات الآيات ، مع تأمّل فيه أيضا ، لو لم يكن إجماع أو دليل عقلي.

__________________

(١) الذريعة إلى اصول الشريعة : ٢ / ٥٢٨ ، الجوامع الفقهيّة (غنية النزوع) : ٤٧٥.

(٢) كابن سريج والقفال والبصري ، كما ذكر في حاشية مبادئ الاصول : ٢٠٥.

(٣) لاحظ! الذريعة إلى اصول الشريعة : ٢ / ٥١٩ ، معارج الاصول : ١٤١ ، معالم الدين في الاصول : ١٨٩.

٥٨

وكيف كان ؛ لو لم يكن المجمع عليه ظاهرا من القرائن ، فلا شكّ في أنّ المستند أمر قطعي.

وأمّا الظنّيّ ؛ فإن كان قطعي الحكم ، فلا شكّ في أنّ المستند هو الإجماع ، إلّا أن يكون عقليّا يقينيّا فيحتملهما.

وأمّا الظنّيّ الذي يكون اتّفاق الأصحاب عليه ، ولم يكن قطعي الحكم ممّا لم نجده ، بل تراكم أفواج الفتاوى عليه لا تدعه باقيا على ظنّه بملاحظة ما ذكرنا ، وما سنذكر ، مثل ما ورد في الأخبار الكثيرة (١) المتواترة ، موافقا لما ثبت بالأدلّة اليقينيّة الكلاميّة ، ويكون من ضروريّات مذهب الشيعة أنّ العصر لا يخلو من إمام معصوم عليه‌السلام حافظ للشرع وللناس عن الضلالة (٢).

مضافا إلى ما ثبت ، ومسلّم عند الفحول أنّ تقرير المعصوم عليه‌السلام حجّة ، ونعلم أنّه لا مانع أصلا من أن يظهر بعنوان مجهول النسب ، ويزيل شبهتهم ، ويلقّن حجّته ، ويلقي قولا بين الأقوال.

مع أنّا في الامور الإجماعيّة لا نجد ممّا ذكر عينا ولا أثرا ، وجعل الشيخ رحمه‌الله ـ موافقا لبعض المحقّقين ـ ما ذكرنا هذا ؛ طريقا آخر مستقلّا في حجيّة الإجماع من غير حاجة إلى الضميمة ، وليس ببعيد.

واعترض عليه على هذا التقدير باعتراضين أجبنا عنهما في رسالتنا في الإجماع (٣) ، وغيرها.

وممّا يعضد أيضا ما ورد في المقبولة عند جميع الفقهاء من الأمر بالأخذ

__________________

(١) لم ترد في (ز ٢) و (ط) : الكثيرة.

(٢) راجع! الكافي : ١ / ١٧٨ باب أنّ الأرض لا تخلو من حجّة.

(٣) الرسائل الاصوليّة : ٢٨٠.

٥٩

بالمجمع عليه بين الأصحاب ، معلّلا بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه (١) ، والدلالة واضحة.

والقول بأنّ المراد الخبر المجمع عليه فلا ينفع الإجماع ، مبني على الجهل بالإجماع ، إذ عرفت أنّ الإجماع هو خبر بالأصل ، إلّا أنّه لم يصل إلينا بعنوان معنعن ظنّي ، بل وصل بعنوان علم يقيني ، فكون الظنّي حجّة دون اليقيني لا يتكلّم به إلّا أحمق غبيّ ، مع أنّ العلّة المذكورة عقليّة يقينيّة لا تعبّديّة شرعيّة.

فما ذكر ـ من أنّ السند ظنّي ، فكيف يصير دليل العلمي ـ اتّضح فساده ، إذ حال هذا الخبر حال الأخبار المتضمّنة للدليل على وجود الله سبحانه ووحدته وعدالته ، وأمثالها ، مع أنّه مقبول عند الكلّ ، وموافق لما ورد في القرآن من قوله : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) الآية ، والأخبار المتضمنّة للأمر بلزوم الجماعة ، والمنع عن التفرقة (٣) ، فإنّ المستضعفين إن أخذوا بما اتّفق عليه المسلمون نجوا ، ولا يزال طائفة من أمّتي على الحقّ ، وما ورد في شأن الأئمّة عليهم‌السلام : إنّهم نشروا شرائع الأحكام وبيّنوا الحلال والحرام (٤) ، وأمثال ذلك.

هذا كلّه إذا كان الحكم ممّا لم يعمّ به البلوى ، وإذا كان ممّا يعمّ ، فلا شكّ في أنّه بمجرّد صدوره عن الشارع ينشر ويشيع ، لعموم البلوى به ، وكثرة الحاجة التي هي سبب لكثرة المزاولة والمداولة والتكلّم به وإظهار حكمه ، كما هو مقتضى العادة.

وكلّما طال الزمان يشتدّ ما ذكرنا ، ويزيد انتشارا واشتهارا وشيوعا وذيوعا ، فإذا أجمع مثل من أشرنا إليه من الفقهاء على حكم ذلك ، فلا شكّ ولا شبهة في

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الحديث ٣٣٣٣٤.

(٢) النساء (٤) : ١١٥.

(٣) راجع! الكافي : ١ / ٤٠٣ الحديث ١ و ٢ ، بحار الأنوار : ٢ / ١٤٨ الحديث ٢٢ و ٢٦٦ الحديث ٢٤ و ٢٥.

(٤) راجع! الكافي : ١ / ١٩٨ باب نادر جامع في فضل الإمام وصفته.

٦٠