فرسان الهيجاء في تراجم أصحاب سيّد الشهداء عليه السلام - ج ١

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

فرسان الهيجاء في تراجم أصحاب سيّد الشهداء عليه السلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


المحقق: محمّد شعاع فاخر
الموضوع : التراجم
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-503-145-7
ISBN الدورة:
978-964-503-144-0

الصفحات: ٤٩٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

يرون الردى في الله أعذب مورد

ومرّ الردى في الله أعذب مورد

فسلّ بهم جيش العدى حيث جلجلت

ترفّ رفيف البارقات بموعد

من احتلّ في تامورها خرز القنا

فصدّعها صدع الزجاج الممرّد

أولئك هم أنصار دين محمّدٍ

سلام على أنصار دين محمّد

٣١ ـ جعفر بن عقيل بن أبي طالب

في زيارة الناحية المقدّسة : « السلام على جعفر بن عقيل بن أبي طالب ، لعن الله قاتله وراميه بشر بن خوط الهمداني » ومثلها ورد في الزيارة الرجبيّة.

يقول أبو الفرج في « مقاتل الطالبيّين » : أُمّه أُمّ الثغر بنت عامر (بنت الهضاب) الكلابي (١) العاغمري من بني كلاب ... ويقال : أُمّه الخوصاء (بنت الثغريّة) واسمه عمرو بن عامر الكلابي (٢).

أقول : لا منافاة في ذلك فأُمّ الثغر كنيتها وخوصاء اسمها. وقال بعضهم : تكنى أُمّ البنين.

وقال في العوالم : فبرز جعفر بن عقيل وهو يرتجز ويقول :

أنا الغلام الأبطحيّ الطالبي

من معشر في هاشم من غالب (٣)

ونحن حقّاً سادة الذوائب

هذا حسين أطيب الأطايب

من عترة البرّ التقيّ الثاقب (٤)

__________________

(١) زيادة من المؤلّف. وكذا في الموضع الآتي.

(٢) مقاتل الطالبيّين ، ص ٦١.

(٣) العوالم : وغالب.

(٤) في العوالم : « العاقب » بدل « الثاقب ». راجع : العوالم للشيخ عبدالله البحراني ، ص ٢٧٦ وفيه عدد الذين قتلوا بسيفه.

٨١
 &

ثمّ حمل على الكفّار كأنّه شعلة نار إلى أن قتل بناءاً على المشهور خمسة عشر نفراً وأنزلهم دار البوار.

مرثية جعفر بن عفّان الطائي (توفّي حدود سنة ١٥٠ هجرية)

لبيك على الإسلام من كان باكيا

فقد ضيّعت أحكامه واستحلّت

غداة حسين للرماح دريئة

وقد نهلت منه السيوف وعلّت

وغودر في الصحراء لحماً مبدّداً

عليه عتاق الطير باتت وظلّت

فما نصرته أُمّة السوء إذ دعا

لقد طاشت الأحلام منها وضلّت

ألا بل محوا أنوارهم بأكفّهم

فلا سلمت تلك الأكفّ وشلّت

وناداهم جهداً بحقّ محمّدٍ

فإنّ ابنه من نفسه حيث حلّت

فما حفظوا قرب الرسول ولا رعوا

وزلّت بهم أقدامهم واستزلّت

أذاقته حرّ القتل أُمّة جدّه (١)

وإن هي صامت للإله وصلّت

كما فجعت بنت الرسول بنسلها

وكانوا كماة الحرب حين استقلّت

قال ابن الأثير الجزري : رماه عبدالله بن عامر الخثعمي بسهم فأراده صريعاً وقتله اللعين بشر بن خوط لعنه الله.

فصلٌ فيه تاريخ عقيل بن أبي طالب

رأيت من المناسب هنا أن أستعرض نتفاً مفيدة من تاريخ عقيل لأنّه أوّلاً حاز النصيب الأوفر من الشهداء في الطفّ وأولاده يذكرون كثيراً في الكتاب.

وثانياً : لافتعال أخبار من صنع بني أُميّة منسوبة إليه لا علم لروحه بها ، ومن

__________________

(١) أقول : المحفوظ عندي : « فلا قدّس الرحمن أُمّة جدّه » وهذا الصدر لا يلائم العجز.

٨٢
 &

اللّائق بنا أن نوضح المطلب هنا ليعلم الجميع بذلك أنّ عقيلاً طاهر الردن منها ، منزّه عنها ، وهي لا تعدو الأراجيف.

عقيل وإخوته الثلاثة : جعفر وطالب وعليّ من أُمّ واحدة وأب واحد. وبكر فاطمة بنت أسد أُمّهم طالب وبعد عشر سنوات ولدت عقيلاً ، وبعده بعشر سنين ولدت جعفراً ، وبعده ولدت أمير المؤمنين عليه‌السلام بعشر سنين أيضاً. وكال عمر عقيل حتّى بلغ السادسة والتسعين ، وتوفّي سنة خمسين أو خمس وخمسين أو ثمان وخمسين ، وكنيته أبو يزيد ، وكان أبو طالب يحبّه حبّاً شديداً.

وفي عمدة الطالب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعقيل : إنّي أُحبّك حبّين : حبّاً للرحم ، وحبّاً لأنّ عمّي أبا طالب يحبّك.

وروى الشيخ الصدوق في أماليه عن ابن جبير ، عن ابن عبّاس ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا رسول الله ، إنّك لتحبّ عقيلاً ؟! قال : إي والله إنّي لأُحبّه حبّين : حبّاً له وحبّاً لحبّ أبي طالب له ، وإنّ ولده لمقتول في محبّة ولدك فتدمع عليه عيون المؤمنين ، وتصلّي عليه الملائكة المقرّبون. ثمّ بكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى جرت دموعه على صدره ثمّ قال : إلى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي (١).

وروى ابن أبي الحديد في كتابه شرح نهج البلاغة ، قال : كان أبو طالب يحبّ عقيلاً أكثر من حبّه سائر بنيه ... (وكان النبيّ يقول :) يا أبا يزيد ، إنّي أُحبّك حبّين : حبّاً لقرابتك منّي وحبّاً لما كنت أعلم من حبّ عمّي إيّاك. (ثمّ يقول :) أُخرج عقيل إلى بدر مكرهاً كما أُخرج العبّاس ، وأُسر وفدي وعاد إلى مكّة ثمّ أقبل مسلماً

__________________

(١) أمالي الصدوق ، ص ١٣٨.

٨٣
 &

مهاجراً قبل الحديبيّة وشهد غزاة مؤتة مع أخيه جعفر عليه‌السلام .. (١).

وقال ابن سعد في الطبقات : فشهد غزوة مؤتة ثمّ رجع فعرض له مرض فلم يسمع له ذكر في فتح مكّة ولا الطائف ولا خيبر ولا في حنين (٢).

وروى الزبير بن بكّار عن الإمام الحسن المجتبى أنّ عقيل من الذين ثبتوا في حنين ولم يفر ، وكان عالماً بأنساب قريش ومآثرها ومثالبها ، وكان الناس يتعلّمون منه علم النسب في مسجد المدينة ، وكان سريع الجواب المسكت.

وحدّث هشام الكلبي عن ابن عبّاس أنّ الناس متى ما أرادوا العلم بنسب إنسان علماً كاملاً رجعوا إلى عقيل.

وقال ابن أبي الحديد : وشهد غزاة مؤتة مع جعفر .. (وله دار بالمدينة معروفة) وخرج إلى العراق ثمّ إلى الشام ثمّ عاد إلى المدينة ولم يشهد مع أخيه أمير المؤمنين شيئاً من حروبه أيّام خلافته ، وعرض نفسه وولده عليه فأعفاه ولم يكلّفه الحضور (٣).

ومن أكاذيب ابن حجر قوله في الإصابة في ترجمة العقيل : « تأخّر إسلامه إلى عام الفتح » ومعاذ الله أن يبقى عقيل إلى السنة الثامنة من الهجرة ـ وفيها كان فتح مكّة ـ كافراً ، وابن أبي الحديد صرّح بأنّه هاجر إلى المدينة مسلماً.

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ، ج ١١ ص ٢٥٠.

(٢) الطبقات الكبرى ، ج ٤ ص ٤٢ ونفى حضوره في حنين لا كما قال المؤلّف.

(٣) وكان عقيل أنسب قريش وأعلمهم بأيّامها ، وكان مبغوضاً عندهم لأنّه كان يعدّ مساويهم ، وله دار بالمدينة معروفة ، وكانت له طنفسة تطرح في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيصلّي عليها ويجتمع إليه الناس في علم النسب وأيّام العرب ، وكان حينئذٍ قد ذهب بصره وكان أسرع الناس جواباً وأشدّهم عارضة. راجع : شرح النهج ، ج ١١ ص ٢٥٠ و ٢٥١ ولم يجعل المؤلّف هذه الحاشية ضمن المتن.

٨٤
 &

وعقيدتي أنّ عقيلاً وعمّه العبّاس أسلما يوم أسلم أمير المؤمنين عليه‌السلام وجعفر عليه‌السلام ولكنّهما خشيا قريشاً من إعلانه ، إلى أن كانت حرب بدر فأعلن عقيل إسلامه كما فعل عمّه العبّاس. وأمّا جعفر فإنّه تعرّض لظلم قريش وعسفهم بعد إسلامه فلجأ إلى الهجرة إلى حبشة مع زوجه أسماء ، وهاجر معه المستضعفون.

والأُسطورة الأُخرى مزعمة المدائني من أنّ عقيلاً ذهب إلى الشام في خلافة أمير المؤمنين ومن نقل من العلماء وأصحاب الرجال شيئاً من هذا فإنّما نقلوه عن المدائني بمن فيهم الشيعة ، فهو منشأ هذا الكذب على عقيل عليه‌السلام.

وفي أغاني أبي الفرج وثلاثة أرباعه مشكوك فيه لا اعتبار له بل فيه ما هو مقطوع بكذبه ، ومن هذا ما نسبه إلى عقيل ، من أنّه طلب من معاوية شراء جارية قيمتها أربعون ألف درهم ، كما يأتي تفصيل ذلك في ترجمة مسلم عليه‌السلام ، وتزعم الرواية أنّه ابنها ، وبناءاً على هذا يكون في صفّين عمره إمّا سنتان أو أنّه لم يولد بعد ، بينما كان مسلم في صفّين أحد قادة أمير المؤمنين عليه‌السلام.

يقول محمّد بن علي بن شهرآشوب في المناقب : فلمّا استهلّ صفر سنة سبع وثلاثين أمر عليّ فنودي بالشام والإعذار والإنذار ثمّ عبّى عسكره فجعل على ميمنته الحسن والحسين وعبدالله بن جعفر ومسلم بن عقيل ، وعلى ميسرته محمّد بن الحنفيّة ومحمّد بن أبي بكر وهاشم بن عتبة المرقال .. الخ (١).

وهذه العبارة صريحة بأنّ عقيلاً لم يذهب إلى الشام في حياة أمير المؤمنين وهي فرية لا حقيقة لها. ويكون ذهابه إلى الشام بعد أمير المؤمنين لا يترتّب عليه ضرر يعتدّ به كما فعل بعض الوافدين والوافدات على معاوية من أجل مصالح

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ، ج ٢ ص ٣٥٢.

٨٥
 &

خاصّة أو تناول حقوقهم ، وكان يغلظون له القول ، وكتاب « الوافدين والوافدات » شاهد صدق على ما نقول.

ويقول العلّامة المعاصر الحاجي ميرزا خليل كمرئي في كتابه « مسلم » (١) نقلاً عن شرح ابن أبي الحديد حيث قال عن خروج عقيل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام هل كان في حياته أو بعد شهادته : فأمّا عقيل فالصحيح الذي اجتمع ثقات الرواة عليه أنّه لم يجتمع مع معاوية إلّا بعد وفاة أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢) والشاهد على ذلك الرسالة المتبادلة بين الإمام عليه‌السلام وبين عقيل ، والعلّامة المذكور أعلاه أسند الرسالة إلى عدد من المصادر في كتابه مثل الأغاني لأبي الفرج (٣) وشرح ابن أبي الحديد (٤) والإمامة والسياسة لابن قتيبة (٥) ، والدرجات الرفيعة (٦) لسيّد علي خان ، وجمهرة رسائل العرب (٧) وتحتوي الرسالة : لمّا علم عقيل بخذلان أهل الكوفة للإمام حتّى لجأ الإمام إلى الاحتجاب عنهم في بيته ، كتب إليه هذه الرسالة :

لعبدالله عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، من عقيل بن أبي طالب ، سلامٌ عليك ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أمّا بعد ، فإنّ حارسك من كلّ سوء وعاصمك من كلّ مكروه وعلى كلّ حال ، إنّي قد خرجت إلى مكّة معتمراً فلقيت عبدالله بن أبي سرح في نحو من أربعين شابّاً من أبناه الطلقاء فعرفت المنكر في وجوههم ،

__________________

(١) مسلم ، ص ٧٥.

(٢) مسلم ، ص ٧٠. وفي شرح النهج ، ج ١٠ ص ٢٥٠.

(٣) الأغاني ، ج ١٥ ص ٤٤.

(٤) شرح نهج البلاغة ، ج ١ ص ١٥٥.

(٥) الإمامة والسياسة ، ج ١ ص ٤٥.

(٦) الدرجات الرفيعة ، في ترجمة عقيل. (المؤلّف)

(٧) جمهرة رسائل العرب ، ج ١ ص ٥٩٦.

٨٦
 &

فقلت : إلى أين يا أبناء الشانئين ؟! أبمعاوية تلحقون عداوة لله منكم قديماً غير مستنكرة تريدون بها إطفاء نور الله وتبديل أمره ؟! فأسمعني القوم وأسمعتهم ، فلمّا قدمت مكّة سمعت أهلها يتحدّثون أنّ الضحّاك بن قيس أغار على الحيرة فاحتمل من أموالها ما شاء ثمّ انكفأ راجعاً سالماً فأُفٍّ لحياة في دهر جرّأ عليك الضحّاك بن قيس ، وما الضحّاك فقع بقرقره وقد توهّمت حيث بلغني ذلك أنّ شيعتك وأنصارك خذلوك ، فاكتب إليّ يابن أُمّي برأيك ، فإن كنت الموت تريد تحمّلت إليك ببني أخيك وولد أبيك ، فعشنا معك ما عشت ، ومتنا معك إذا متّ ، فوالله ما أُحبّ أن ألقى في الدنيا بعدك فواقاً ، وأُقسم بالأعزّ الأجلّ أنّ عيشاً نعيشه بعدك في الحياة لغير هنيء ولا مريء ولا نجيع ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

جواب الإمام لعقيل :

فكتب إليه عليه‌السلام : من عبدالله أمير المؤمنين إلى عقيل بن أبي طالب ، سلامٌ عليك ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أمّا بعد ، كلأنا الله وإيّاك كلائة من يخشاه بالغيب إنّه حميد مجيد ، قد وصل إليّ كتابك مع عبدالرحمن بن عبيد الأزدي تذكر فيه أنّك لقيت عبدالله بن سعد بن أبي سرح مقبلاً من قديد في نحو أربعين فارساً من أبناء الطلقاء ، متوجّهين إلى جهة الغرب ، وإنّ ابن أبي سرح طالما كاد الله ورسوله وكتابه وصدّ عن سبيله وبغاها عوجاً ، فدع ابن أبي سرح ودع عنك قريشاً ، وخلّهم وتركاضهم في الضلال وتجوالهم في الشقاق ، ألا وإنّ العرب قد أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعها على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل اليوم فأصبحوا قد جهلوا حقّه وجحدوا فضله وبادروه العداوة ونصبوا له الحرب ، وجهدوا عليه كلّ الجهد ، وجرّوا إليه جيش الأحزاب ، اللهمّ فأجز قريشاً عنّي الجوازي فقد قطعت رحمي وتظاهرت عليَّ ودفعتني عن حقّي وسلبتني سلطان ابن أُمّي ، وسلّمت

٨٧
 &

ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول وسابقني في الإسلام إلّا أن يدّعي مدّع ما لا أعرفه ولا أظنّ الله يعرفه ، والحمد لله على كلّ حال.

فأمّا ما ذكرته من غارة الضحّاك على أهل الحيرة فهو أقلّ وأذلّ من أن يلمّ بها ، أو يدنو منها ولكنّه قد كان أقبل في جريدة خيل على السماوة حتّى مرّ بواقصة وشراف والقطقطانة ممّا والى ذلك الصقع فهوجّهت إليه جنداً كثيفاً من المسلمين ، فلمّا بلغه ذلك فرّ هارباً فأتبعوه فلحقوه ببعض الطريق وقد أمعن وكان ذلك حين طفلت الشمس للإياب فتناوشوا القتال قليلاً كلّا ولا فلم يصبر لوقع المشرفيّة وولّى هارباً وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلاً ونجا جريضاً بعد أن أخذ منه بالمخنق فلأياً بلأي ما نجا.

فأمّا ما سألته أن أكتب برأيي فيما أنا فيه ، فإنّ رأيي جهاد المحلّين حتّى ألقى الله ، لا يزيدني كثرة الناس معي عزّة ، ولا تفرّقهم عنّي وحشة لأنّني محقّ والله مع المحقّ ، ووالله ما أكره الموت على الحقّ ، وما الخير كلّه إلّا بعد الموت لمن كان محقّاً.

وأمّا ما عرضت عليَّ به من مسيرك إليّ ببنيك وبني أبيك فلا حاجة لي في ذلك فأقم راشداً محموداً فوالله ما أُحبّ أن تهلكوا معي إن هلكت ، ولا تحسبنّ ابن أُمّك ـ ولو أسلمه الناس ـ متخشّعاً ولا متضرّعاً ، إنّه لكما قال أخو بني سليم :

فإن تسأليني كيف أنت فإنّني

صبور على ريب الزمان صليب

يعزّ عليَّ أن ترى بي كآبة

فيشمت عادٍ أو يساء حبيب (١)

يستفاد من هذه الفقرة أنّ الإمام عليه‌السلام أعفى عقيلاً وأولاده من حضور المعركة

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ، ج ٣ ص ١١٨ ـ ١٢٠ وذكرنا الرسالة بطولها توخّياً للبركة والفائدة ، والمؤلّف اقتصر على صدرها والشطر الأخير منها. (المترجم)

٨٨
 &

وأجابه بصراحة تامّة « فأقم راشداً محموداً ». ويظهر من هذه الجملة أنّ إقامته حيث هو لم تكن مجرّدة عن المسئوليّات بل عهد إليه أن يكون عوناً وعيناً للإمام عليه‌السلام حيث يقيم. وأخيراً نحصل من الكتاب وجوابه على نتائج متعدّدة :

الأُولى : بأنّ عقيلاً لم يفارق أمير المؤمنين ولم يذهب إلى الشام في حياته كما صرّح بذلك ابن أبي الحديد.

الثانية : لم يغب عن الحرب بإعراض الإمام عنه بل المستفاد من الكتاب عكس ذلك حيث أنّه تأخّر لاقتضاء المصلحة ذلك منه ، وهنا ينتفي ما توهّمه بعض القاصرين من عدم حضور الحروب الثلاثة التي خاضها أخوه الإمام عليه‌السلام لعيب فيه كفقدان البصر مثلاً لأنّ تصوّر هذا الأمر باطل محضاً ، ولا يبعد أن يكون فقده بصره وبلوغه الثمانين عاملاً أساسيّاً في غيابه عن المعامع الثلاث إذ ما الفائدة المتوخّاه من شيخ أضرّ في الثمانين أن يحضر الحرب سوى أن يكون كلّاً إضافيّاً.

وأمّا أولاده السبعة فعند كلّ واحد بنت من بنات الإمام ولا بدّ أن يكون تأيّمها صعباً على والدها وأمّا مسلم عليه‌السلام وقد مرّت الإشارة إلى حضوره وإسناد دور قيادي إليه فليس من المستبعد أن يكون قبل طلب أبيه الحضور في الميدان.

الثالثة : من النتائج توثيق عقيل ، فقد اتضح جليّاً خلال ذلك الكتاب ويكون توقّف بعضهم في توثيقه لا محلّ له ، ولقد بالغ السيّد الجليل السيّد عبدالرزّاق المعاصر في كتابه العبّاس (ص ٤٦) في الثناء على عقيل نظماً ونثراً فراجعه هناك.

الرابعة : من الأكاذيب التي أُلصقت بساحة قدس عقيل وأُوردت على لسان أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه كان عالماً بمثالب قريش فكرهوه ، ونقل هذه الفرية لا سيّد عبدالرزّاق عن الصفدي ، يقول : كان عقيل عالماً بمثالب قريش وكان محيطاً بعلم الأنساب وذا بديهة مِن ثمّ كرهه الناس فرموه بأُمور باطلة هو مبرءٌ منها ونسبوا إليه الحمق ونالوا من جنابه بأقوال مفترات وهو بمنأيً عنها ووضعوا على لسان

٨٩
 &

أمير المؤمنين بعضاً منها ليضعوا من قدره ويخدشوا كرامته .. كما يزعمون ويصمون أُسرة أبي طالب بوصمات لا حقيقة لها لكي يظهروهم بالمستوى الإنساني الأدنى هذا بعد عجزهم من الحطّ من مقام سيّد الأوصياء عليه‌السلام فعمدوا إلى نسج هذه الفرى الباطلة لأهله وإخوانه ورهطه الأدنين لا سيّما أباه أبا طالب عليه‌السلام ولكن هذه القبيلة الطاهرة المطهّرة لا تؤثّر فيها افتعال الافتراءات الملفّقة وشيئاً فشيئاً أفصحت عن نفسها هذه النيّة الخبيثة وعلم الجميع ببطلانها هذه النسب المردودة ، وعلموا أنّها بعيدة عن الصواب.

من ذلك ما رووه من أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : ما زلت مظلوماً منذ الصغر ولقد كان عقيل إذا اشتكى عينيه يقول : لا أدعكم تضعون فيها الدواء حتّى تضعوه في عين عليّ ، فيضعون الدواء في عيني لرضى به عقيل من غير علّة فيّ.

وإني ما فتأت يدركني العجب حين أقرأ مثل هذا القول الباطل كيف قبلوه لأنّ سنّ عقيل أكبر من الإمام بعشرين عاماً وهل يقبل العقل هذا من شابّ في العشرين لا يقبل مداواته إلّا إذا تجرّع أخوه ابن الرابعة ما يتجرّعه من حرقة الدواء ؟! إنّ هذا لا يحدث أبداً مهما كان مستوى صاحبه من الضعة والانحطاط ، فما بالك بعقيل الذي رُبِّي في حجر أبي طالب وتغدّى من ثدي المعرفة بخاصّة في حقّ أخيه واسطة العقد وأصغر إخوته. أجل لا يصدر هذا إلّا من قلب ملئآن بالأحقاد والعداوات أو ظرف ينظر إلى أهل البيت نظر السوء ، وينسب هذه الافتراءات الشنيعة إلى ساحة قدس بيت الطهر والشرف والنبوّة ...

نعم ، كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : ما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يؤثر عنه غير هذا القول أبداً ، وغرضه من ذاك غصب حقّه ، وتقديم من لا يستحقّ التقديم عليه ، ولمّا علموا أنّ هذا القول يصيب جماعتهم حرّفوه إلى وجهة أُخرى غير وجهته ، وألصقوا هذا الطابع بذلك السيّد العظيم ، ولكن

٩٠
 &

هيهات ، لا تضمّ الشمس القبضة ، ولا يوضع الماء في الغربال ، ولا تخفي الشمس حفنة من الرمال ، وعقيل فرع من الشجرة الطيّبة ، ونشأ في بيت الشرف والفضيلة ، وربّي فيه (وكان شريفاً مبجّلاً خلّف أولاداً كراماً (وهم) الذين لم يسبقهم سابق ولا يلحق لاحق ، ولو لم يكن لعقيل شيء من الخطر والعظمة لتسنّم بهؤلاء الأكارم أوج العُلا والرفعة) (١).

وكم أب قد علا بابن ذُرى شرف

كما علا برسول الله عدنان

وأما الحديدة المحماة : فليس فيها دلالة على ارتكاب عقيل لمحظور أو أنّه تفلّت من أداء الواجب بل عمد الإمام بفعله هذا معه إلى تهذيبه ليرتفع بمستواه الخلقي فوق مستوى الإنسان العادي ، وينال الخلق الجدير به ، لأنّه من أبناء النبوّات ومن رهط الخلافة فكان الأليق به أن يجتنب حتّى المكروهات والأعمال التي يجلّ عنها مقامه الخاصّ.

أراد الإمام تفهيمه الضعف البشري الذي يأن من حديدة محماة وما تزال بعيدة من جسمه ، فكيف به إذا غاص في لهوات النار الأُخرويّة التي تنتزع الجلد من العظم بشدّة ، وينبغي على الإنسان الكامل أن يقي نفسه الوقوع فيها ليقتدي به من هو دونه ، وربّما كان الفعل المباح يُعدّ ذنباً من عقيل ولا يلام عليه فاعل من سائر الناس لأنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

سفره إلى الشام :

ونقل العلّامة المعاصر ميرزا خليل الكمرئي في كتابه « مسلم » مضمون ما قاله سيّدنا المعاصر العلّامة البحّاثة عبدالرزّاق الموسوي المقرّم النجفي في كتاب العبّاس ، عن الدرجات الرفيعة لسيّد علي خان ، فيقول :

__________________

(١) وردت هذه الفقرة باللغة العربيّة ولذا وضعناها بين قوسين.

٩١
 &

جزم العلّامة الجليل السيّد علي خان في الدرجات الرفيعة أنّه يستفاد من الآثار الواردة في هذا الشأن أنّ سفر عقيل إلى الشام كان بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وبناءاً على هذا يكون ذهابه إلى الشام أمراً جرت به العادة ولم يقتصر الأمر عليه ، بل كان أكثر الرجال المنتمين إلى أهل البيت بالنسب أو الولاء يذهبون إلى حاضرة معاوية في ذلك العهد المظلم بحكم الضرورة لأنّهم ذووا الحاجات ولا وسيلة لهم في الإبقاء على رمق الحياة أو الحيلولة دون هجوم معاوية عليهم إلّا بهذا ، ولا يلام أيٌّ منهم على ذلك ، بل ربّما مدحهم العقلاء على هذا التصرّف لأنّ للتقيّة حكمها ولا لوم على المضطرّ إذا سلك مسلكاً لا مناص من سلوكه ، مضافاً إلى أنّ التحاق عقيل بمعاوية ليس اعترافاً بإمامته ولم يؤثّر عن جنانه خضوع أو استكانة منه إزاء هبات معاوية ، بل بعكس ذلك كان لا ينال منه معاوية إلّا التقريع واللوم وطعنه في حسبه ونسبه وإراقة ماء وجهه بكشفه مساوئه ومطاعنه مقرونة بالإشارة إلى فضل أخيه أمير المؤمنين عليه‌السلام.

أقول : كان ذهاب عقيل إلى الشام واجباً يومذاك في نظري ـ المؤلّف ـ والذي يعتقد بأنّ ذهابه كان طمعاً في المال ارتكب خطأ فاحشاً ، وكانت هذه النظرة سبباً في نقص شأن عقيل كما يتصوّر عند الناس لأنّه من رأى حقّه مغصوباً بأيدي الناس فعليه أن يستنقذه بالوسائل المُتاحة لديه ، ومعاوية اغتصب خمس بني هاشم واعتبره حقّاً من حقوقه كما فعل من كان قبله.

ولعقيل أُسرة مؤلّفة من ذكور وإناث ، ويحتاجون إلى المعاش لتمتدّ بهم الحياة ، فما المانع أن يتذرّع عقيل بوسيلةٍ مّا لإنقاذ حقّه واستخلاص معاشهم من براثن العدوّ وإن كان بالهوادة واللين كالذهاب إلى الشام مثلاً ، فمن أيّ وجه يتوجّه اللوم إليه ؟

من جهة أُخرى لو أنّ عقيلاً أخلد إلى السكوت في المدينة وقبل صلاة معاوية

٩٢
 &

الشحيحة القليلة لاعتبر ذلك رضاً منه بولاية هذا الغاصب ، مِن ثمّ كان ذهابه إلى الشام بذلك اللسان الذي هو أمضى من شفرة الحسام وأحدّ من أنياب الضرغام بحيث طلى وجه معاوية بالغار وألبسه العار ، وساواه بالتراب النتن ، ونشر معايبه ومثالبه على ملأ من الناس ، وتوعية الناس بما عليه معاوية بدءاً وختاماً ، وأفئدة أعوانه وأصحابه بسهم ينتظمهم معه ، وكشف للناس أنّ أعوان معاوية وبطانته جميعاً أولاد زناً مضافاً إلى ما أظهره من حقّ أمير المؤمنين بالكناية أحياناً وبالتصريح أحياناً أُخرى ، عند معاوية وشيعته.

وممّا أفاد في قدومه على معاوية إبائه وشمم نفسه حيث رمى على معاوية بمأة ألف أعطاها إيّاه ممّا حمل معاوية على الاعتذار إليه وعرّفه بأنّ لعقيل مبادئ هامّة لا تُشترى بالبدر السمينة.

وإنّ سفراً يحتوي على هذه الفوائد يعتبر سفراً لازماً بل واجباً يحتمه الشرع والخلق ، والآن لننظر في جملة من الأقوال والأحداث التي جرت بين معاوية وبين عقيل :

في العقد الفريد : قال ابن عبد ربّه : قال معاوية يوماً لعقيل : يا أبا يزيد ، أجيشي خير أم جيش أخيك ؟ فقال عقيل : مررت بعسكر أخي فرأيت ليلهم كليل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويومهم مثل يومه إلّا أنّ رسول الله ليس فيهم فما رأيت منهم إلّا قائماً مصلّياً ولم أسمع إلّا تالياً لكتاب الله ، ولمّا مررت بعسكرك استقبلني أبو الأعور السلمي ومعه جمع من المنافقين الذين نفّروا برسول الله ليلة العقبة ليغتالوه أو أنّه قال : ليلهم كليل أبي سفيان ويومهم مثل يومه إلّا أنّه ليس فيهم (١).

وذكر الشيخ الطوسي في أماليه عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام أنّه قال : وبلغ ذلك

__________________

(١) الحكاية مترجمة.

٩٣
 &

معاوية ـ أي قدوم عقيل عليه ـ فقال : اركبوا أفره دوابّكم والبسوا من أحسن ثيابكم فإنّ عقيلاً قد أقبل نحوكم وأبرز معاوية سريره فلمّا انتهى إليه عقيل قال : مرحباً بك يا أبا يزيد ، ما نزع بك ؟ قال : طلب الدنيا من مظانّها (إلى أهل الدنيا) (١).

أقول : بهذه الكلمة نفى استحقاق معاوية للخلافة لأنّ خليفة المسلمين لا ينبغي أن يميل إلى الدنيا ....

قال : وقّفت وأصبت ، قد أمرنا لك بمائة ألف ، فأعطاه المائة ألف ثمّ قال : أخبرني عن العسكرين اللذين مررت بهما : عسكري وعسكر عليّ ، قال : في الجماعة أخبرك أو في الواحدة ؟ قال : بل في الجماعة ، قال : مررت على عسكر عليّ فإذا ليل كليل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ونهار كنهار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّ رسول الله ليس فيهم ، ومررت على عسكرك فإذا أوّل من استقبلني أبو الأعور وطائفة من المنافقين والمنفّرين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّ أبا سفيان ليس فيهم ، فكفّ عنه حتّى إذا ذهب الناس قال له : يا أبا يزيد ، أيش صنعت بي ؟ قال : ألم أقل لك في الجماعة أو في الوحدة ، فأبيت عليَّ ، قال : أمّا الآن فاشفني من عدوّي ، قال : ذلك عند الرحيل (٢).

وقال معاوية لعقيل : يا أبا يزيد ، أنا لك خير من أخيك عليّ ، والله إنّ عليّاً غير حافظ لك ، قطع قرابتك وما وصلك ولا اصطنعك. فقال له عقيل : والله لقد أجزل العطيّة وأعظمها ، ووصل القرابة وحفظها ، وحسن ظنّه بالله إذ ساء به ظنّك ، وحفظ أمانته وأصلح رعيّته إذ خنتم وأفسدتم وجرتم ، فاكفف لا أباً لك فإنّه بمعزل عمّا تقول.

وقال له معاوية يوماً : أبا يزيد ، أنا لك خير من أخيك عليّ ، قال : صدقت ، إنّ

__________________

(١) زيادة من المؤلّف.

(٢) أمالي الشيخ الطوسي : ٧٢٤.

٩٤
 &

أخي آثر دينه على دنياه وأنت آثرت دنياك على دينك فأنت خير لي من أخي ، وأخي خير لنفسه منك (١). ثمّ صاح عقيل بأعلى صوته : يا أهل الشام ، إنّي رأيت أخي وضع دينه أمام دنياه وخاف من الله ولم يخش لومة لائم ، ورأيت معاوية وضع دنياه أمام دينه وراح يعدو ورائه ، وركب مركب الضلالة واتّبع هواه ، لذلك أعطاني هذا النزر اليسير الذي لم يعرق بجمعه جبينه ، ولم تجهد به يمينه ، ولكن الله أجراه على يديه وعليه حسابه غداً وليس عليَّ ، فلن أشكره ولن أحمده ، ثمّ أقبل على معاوية وقال : يابن هند ، إنّك تعطي الإحسان ولكنّك تكدّره بالمنّ والقول القبيح ، فاصبر لعلّ الذي تخشاه يخترمك مفاجئة من حيث لا تشعر.

فغضب معاوية من هذا القول الذي هو أشدّ عليه من لدغ الأفاعي فطأطأ برأسه إلى الأرض ثمّ رفعه وقال : وماذا أصنع ؟ ومتى أُرضي بني هاشم بإعطائهم حقّهم ؟! ثمّ أنشد :

أزيدهم الإكرام لي يشعبوا العصا

فيأبي لدى الإكرام ألّا يكرّموا

وها أنا ذا أعطفتهم رقّة بهم

نأوا حسداً عنّي فكانوا هم هم

وأعطيتهم صفو الحياة كأنّني

معاً وعطاياي المباحة علقم

وأغضي عن الذنب الذي لا يقيله

من القوم إلّا الهزبريّ المعقم

حبّاً واصطباراً وانعطافاً ورقّة

وأكظم غيظ القلب إذ ليس يكظم

وخلاصة الحديث إنّ معاوية شرع بهذه الأبيات بتقريع بني هاشم وتبكيتهم ، فيقول : أزيد بني هاشم عطاءاً ويأبون الإكرام ، وأعطف عليهم ويبعدوني عنهم

__________________

(١) العقد الفريد ، كتاب المجنبة في الأجوبة ، وحدث تقديم وتأخير في النقل من المترجم ، وعلّق المؤلّف على جواب عقيل فقال في الهامش : وفي العبارة ثلب آخر لمعاوية ومعنى قول عقيل عنه وعن الإمام ، إنّ الإمام يعطي الحقوق طبقاً لنظر الشرع فالقريب والبعيد عنده سواء ولكنّك تعطيها طبقاً لهوى نفسك.

٩٥
 &

بالحسد وهم هم ، وأنا أبرّهم صفاءاً ومودّة وإخاءاً وأرحمهم وأجزل عطائهم وكأنّني أسقيهم السمّ الناقع ، وأغضي عن هناتهم وعوارتهم وأصب وأحلم عنهم وأكظم غيظي في مواضع ينكر الحلم فيها الحليم.

ثمّ أقبل على عقيل وقال : يابن أبي طالب ، أُقسم بالله لولا أنّ الناس يرمونني بالعجلة ويقولون ضاق ذرعاً به واكتوى قلبه بلسانه وعجز عن جوابه لتركت رأسك أخف بأيدي الرجال من حبّ الحنظل ، أي إنّي أقتلك حتّى يتهادى الرجال رأسك.

فلمّا سمع عقيل شعره أخذ ينشده بجرأة وعدم مبالاة ، فقال :

عذيرك منهم من يلوم عليهم

ومن هو منهم في المقالة أظلم

لعمرك ما أعطيتهم منك رأفة

ولكن لأسباب وحولك علقم

أبي لهم أن ينزل الذلّ دارهم

بنو حرّة زهر وعقل مسلم

وإنّهم لم يقبلوا الذلّ عنوة

إذا ما طغى الجبار كانوا هم هم

فدونك ما أسديت فاشدد يداً به

وخيرك المبسوط والشرّ فالزموا

قال هذا ورماه ببدرة المال وخرج من المجلس. فاغتمّ معاوية من فعله وقوله وندم على ما قال ، فكتب إليه كتاباً سجحاً سمحاً ويدعوه للعودة إليه ، لأنّه رأى فتله قد انكث وغرضه قد انتقض لأنّه أراد أن يوهم الناس بأنّ عقيلاً معهم ومنتسب إلى حزبهم.

ثمّ كتب معاوية إلى عقيل :

أمّا بعد ، يابن عبدالمطّلب ، أُقسم بالله إنّكم فرع من قصى ولبّ لباب عبد مناف والمصطفون من نسل هاشم ، عقلكم راسخ ، استوت عليكم خلع الكمال والفضيلة ، وبكم ازدانا ، وثمّ ما زلتم أصحاب الأمر والنهي ، لكم أخلصت القبائل وأحبّتكم ، ولكم العفو والصفا ، وأنتم أهل الوفاء وقرن فضلكم بشرف النبوّة

٩٦
 &

وعزّ الرسالة ، والله إنّي لنادم لما جرى منه غاية الألم ، وإنّي أُعاهدك على أن لا أعود لمثله حتّى أُضع في حفرتي.

فكتب إليه عقيل في جوابه :

صدقت وقلت حقّاً غير أنّي

أرى أن لا أراك ولا تراني

ولست أقول سوءاً في صديقي

ولكنّي أصدّ إذا جفاني

فعاد معاوية وكتب إليه واستعتبه وأقسم عليه أن يحسن العفو وأصرّ عليه وبالغ بالإلحاح حتّى عاد إليه ، فقال له معاوية : لماذا جفوتنا يا أبا يزيد ؟ فأجابه بهذا البيت :

وإنّي امرئ منّي التكرّم شيمة

إذا صاحبي يوماً على الهون أضمرا

يابن أبي سفيان ، إنّ الدنيا وإن مهّدت لك المهاد ومدّت عليك سجفها ، نسجت لك غزلها ، فهي لا تعدل عندي شيئاً يزيد رغبتي بك أو فرقي منك لكي أذلّ لك.

فقال معاوية : يا أبا يزيد ، لقد وصفت الدنيا وصفاً ارتعدت له فرائصي ، ثمّ قال له : يا أبا يزيد ، إنّك اليوم علينا لعزيز ولدنيا لحبيب ، وأنا لم أضمر لك الشرّ في دخائلي .. وإلى هنا ختم السيّد عبدالرزّاق المقرّم هذه النقول أخذاً من الدرجات الرفيعة والعقد الفريد وربيع الأبرار وأوردها في كتابه العبّاس ، وأنا روّبت مضمون النقل (١) وظهر من هذا كلّه عظم مقام عقيل.

روى الشيخ الطوسي في الأمالي وأوصل السند إلى الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : جاء عقيل إليكم بالكوفة وكان عليّ عليه‌السلام جالساً في صحن المسجد وعليه قميص

__________________

(١) وحملت المترجم الضرورة على ترجمة هذه المضمون ، وعلى القارئ أن يرجع إلى المصدر إن وسعه ذلك ولا يعتدّ بالترجمة.

٩٧
 &

سنبلانيّ ، قال : فسأله ، فقال : أكتب لك إلى ينبع ، قال : ليس غير هذا ؟ قال : لا ، فبينما هو كذلك إذ أقبل الحسين عليه‌السلام ، فقال : اشتر لعمّك ثوبين ، فاشترى له ، قال : يابن أخي ، ما هذا ؟ قال : هذه كسوة أمير المؤمنين ، ثمّ أقبل حتّى انتهى إلى عليّ عليه‌السلام ، فجلس يضرب يده على الثوبين وجعل يقول : ما ألين هذا الثوب يا أبا يزيد ! قال : يا حسن ، خذ عمّك ، قال : والله ما أملك صفراء ولا بيضاء. قال : فمر له ببعض ثيابك ، قال : فكساه بعض ثيابه ، قال : يا محمّد ، أخذ عمّك ، قال : والله ما أملك درهماً ولا ديناراً ، قال : فاكسه بعض ثيابك ، قال عقيل : يا أمير المؤمنين ، ائذن لي إلى معاوية ، قال : في حلّ محلّل ، فانطلق نحوه وبلغ ذلك معاوية ... الحديث (١).

فضح معاوية وجلسائه

وفي الأمالي أيضاً أنّ عقيلاً سأل معاوية يوماً وقد قدم عليه : من ذا عن يمينك ؟ قال : عمرو بن العاص ، فتضاحك ثمّ قال : لقد علمت قريش بالمدينة أنّه لم يكن أخصى لتيوسها من أبيه ، ثمّ قال : من هذا ؟ قال : هذا أبو موسى ، فتضاحك ثمّ قال : لقد علمت قريش بالمدينة أنّه لم يكن بها امرأة أطيب ريحاً من قبّ أُمّه ، وكناية عن كونها معروفة بالزنا عند الرجال (٢).

وفي رواية ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : إنّ عقيلاً قال لمعاوية : من هذا عن يمينك يا معاوية ؟ قال : هذا عمرو بن العاص. قال : هذا الذي اختصم فيه ستّة نفر فغلب عليه جزّار قريش ، فمن الآخر ؟ قال : الضحّاك بن قيس الفهري ،

__________________

(١) الأمالي للطوسي ، ص ٧٢٣ و ٧٢٤.

(٢) نفسه ، ص ٧٢٥.

٩٨
 &

قال : أما والله لقد كان أبوه جيّد الأخذ لعسب التيوس (١) ، فمن الآخر ؟ قال : أبو موسى الأشعري ، قال : هذا ابن السراقة.

فلمّا رأى معاوية أنّه قد أغضب جلسائه علم أنّه إن استخبره عن نفسه قال فيه سوءاً فأحبّ أن يسأله ليقول فيه ما يعلمه من السوء فيذهب بذلك غضب جلسائه ، فقال : يا أبا يزيد ، فما تقول فيّ ؟ قال : دعني من هذا. قال : لتقولنّ ، قال : أتعرف حمامة ؟ قال : ومن حمامة يا أبا يزيد ؟ قال : قد أخبرتك ، ثمّ قام فمضى فأرسل معاوية إلى النسّابة فدعاه فقال : من حمامة ؟ قال : ولي الأمان ؟ قال : نعم ، قال : حمامة جدّتك أُمّ أبي سفيان كانت بغيّاً في الجاهليّة صاحبة راية ، فقال معاوية لجلسائه : قد ساويتكم عليكم فلا تغضبوا (٢).

ويقول أيضاً : وقال معاوية لعقيل : إنّ فيكم يا بني هاشم ليناً ، قال : أجل إنّ فينا ليناً من غير ضعف وعزّاً من غير عنف ، وإنّ لينكم يا معاوية غدر وسلمكم كفر ، فقال معاوية : ولا كلّ هذا يا أبا يزيد.

وقال الوليد بن عقبة لعقيل في مجلس معاوية : غلبك أخوك يا أبا يزيد على الثروة ؟ قال : نعم ، وسبقني وإيّاك إلى الجنّة. قال : أما والله إن شدقيه لمضمومان من دم عثمان. فقال : وما أنت وقريش ! والله ما أنت فينا إلّا كنطيح التيس. فغضب الوليد وقال : والله لو أنّ أهل الأرض اشتركوا في قتله لأرهقوا صعوداً ، وإنّ أخاك لأشدّ هذه الأُمّة عذاباً ، فقال : صه ! والله إنّا لنرغب بعبد من عبيده عن صحبة أبيك عقبة بن أبي معيط.

__________________

(١) وفسّروا هذه العبارة على أنّه كان ينزل الذكر على الأُنثى في الجاهليّة بأجر يأخذه ولكنّي أرى غير ذلك ، أي إنّ عقيل يرميه بالأُبنة وأنّ قوته من هذا السبيل لأنّه يأخذ أجراً على ذلك ... المؤلّف ، وكان المؤلّف قد وضع هذه الفقرة ضمن المتن فأخرجتها إلى الحاشية. (المترجم)

(٢) شرح نهج البلاغة ، ج ٢ ص ١٢٤.

٩٩
 &

وقال أيضاً وعنده عمرو بن العاص وقد أقبل عقيل : لأُضحكنّك من عقيل ، فلمّا سلّم قال معاوية : مرحباً برجل عمّه أبو لهب ، فقال عقيل : وأهلاً برجل عمّته حمّالة الحطب في جيدها حبل من مسد ، لأنّ امرأة أبي لهب أُمّ جميل بنت حرب ابن أُميّة (أُخت أبي سفيان وعمّة معاوية) (١). قال معاوية : ما ظنّك بعمّك أبي لهب ! قال : إذا دخلت النار فخذ على يسارك تجده مفترشاً عمّتك حمّالة الحطب ، أفناكح في النار خير أم مكنوح ! قال : كلاهما شرّ والله (٢).

وفي رواية أُخرى أنّ عقيلاً لمّا استقرّ عند معاوية أقبل على الناس وقال : أتعرفون هذا ؟ عمّه أبو لهب. فقال عقيل : وهذا عمّته حمّالة الحطب في جيدها حبل من مسد.

وقال أيضاً : قال الوليد لعقيل يوماً : غلبك أخوك يا أبا يزيد على الثروة ، قال : نعم وسبقني وإيّاك إلى الجنّة.

وروى أيضاً في شرح نهج البلاغة قال : سأل معاوية عقيلاً عن قصّة الحديدة المحماة المذكورة فبكى وقال : أنا أُحدّثك يا معاوية عنه ، ثمّ أُحدّثك عمّا سألت ، نزل بالحسين ابنه ضيف فاستسلف درهماً اشترى به خبزاً واحتاج إلى الأدام فطلب من قنبر خادمهم أن يفتح له زقّاً من زقاق عسل جاءتهم من اليمن ، فأخذ منه رطلاً فلمّا طلبها عليه‌السلام ليقسمها ، قال : يا قنبر ، أظنّ أنّه حدث بهذا الزقّ حدث ، فأخبره فغضب عليه وقال : عليَّ بحسين ، فرفع عليه الدرّة فقال : بحقّ عمّي جعفر ، وكان إذا سُئل بحقّ جعفر سكن ، فقال : ما حملك أن أخذت منه قبل القسمة ؟ قال : إنّ لنا فيه حقّاً فإذا أُعطيناه رددناه ، قال : فداك أبوك وإن كان لك فيه

__________________

(١) زيادة من المؤلّف.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ، ج ٤ ص ٩٣ و ٩٤.

١٠٠