فرسان الهيجاء في تراجم أصحاب سيّد الشهداء عليه السلام - ج ١

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

فرسان الهيجاء في تراجم أصحاب سيّد الشهداء عليه السلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


المحقق: محمّد شعاع فاخر
الموضوع : التراجم
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-503-145-7
ISBN الدورة:
978-964-503-144-0

الصفحات: ٤٩٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

ورماه بالسهم اللعين بنحره

فسقاه من دم نحره العنّابا

وتصاعدت روح الرضيع لربّه

وجرت دماه لوالديه خضابا

عجز الرضيع عن الكلام وأرسل الـ

بسمات في عين الحسين عِذابا

وله أيضاً

ز دستم اى على اصغر سوى باغ جنان رفتى

جهان نديده بکام دل از جان رفتى

ز مهد سينهٴ مادر ملول گرديدى

بگهوارهٴ آغوش حوريان رفتى

تو را هواى على اکبر جوان بر سر

فتاده سوى على اکبر جوان رفتى

چه شير از تو بريدم بسوى جدّهٴ خويش

براى شکوه بفردوس جاودان رفتى

من از تو منفعلم اى پسر که با لب خشک

بخاک تيره از اين تيره خاکدان رفتى

ز سنگ حادثه‌اى طاير بهشتى من

ز باغ دل بسوى خلد پرفشان رفتى

سکينه چشم براه تو تو از نظرش

چه نور ديده‌اى اى نور ديدگان رفتى

مباراة الشعر أو تقريب معناه بالعربيّة :

غبت من بيتي وودّعت الحياة

قاصداً مهد الجنان الوارفات

لم تر العالم حتّى مرّة

ولقد أغفوت في حضن الوفاة

مهد صدري عفته مستبدلاً

عنه في أحضان حور زاكيات

٤٠١
 &

وأخوك الأكبر الغالي مضى

لرُبى الخلد سريع الخطوات

أترى اشتقت إلى رؤيته

وإلى رؤية آباء هداة

ولذا أسرعت للأُخرى الخُطى

قبل أن تشرب من ماء الفرات

جفّ من صدري لباني فأنا

جئت أسقيك دموعي المرسلات

أنت بالفردوس لا تشكو الظما

فستأتيك من الله الهبات

غير أنّي أبداً عاتبة

حين تمضي بشفاه يابسات

وتركت الوكر من قبلي إلى

جنّة الخلد ربيع الطيّبات

فإلى مهدك عُد ثانية

يا حبيب القلب ما هذا السباة ؟

وعلى الدرب رنت آمنة

ورجت إنّ أخاها الطفل آت

ولدي فارق عيني نورها

وادلهمّت حين فارقت الحياة

١٣٦ ـ سلالة النبوّة عليّ الأكبر عليه‌السلام

أُمّه « أُمّ » (١) ليلى بنت أبي مرّة بن مسعود الثقفي بلا خلاف ، وأُمّ ليلى ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب بن أُميّة بن عبدشمس ، وأبوها أبو مرّة ابن عروة بن مسعود الثقفي ، وعروة بن مسعود هذا أحد السادات الأربعة كما نقل ذلك صاحب نفس المهموم عن أُسد الغابة لابن الأثير الجزري عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أربعة سادة في الإسلام : بشر بن هلال العبدي ، وعدي بن حاتم ، وسراقة بن مالك المدلجي ، وعروة بن مسعود الثقفي (٢).

__________________

(١) سمّاها المؤلّف أُمّ ليلى وكرّر ذلك مرّات وهو مخالف لإجماع المؤرّخين من ثمّ أعرضنا عمّا ذكره وتابعنا الشايع المعروف.

(٢) نفس المهموم ، ص ٢٧٩ والهامش : أُسد الغابة ، ج ١ ص ١٩١.

٤٠٢
 &

وعروة هذا أحد الرجلين العظيمين في قوله تعالى حكاية عن كفّار قريش : ( وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَـٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (١) وهما عروة بن مسعود الثقفي والوليد بن المغيرة لأنّهما أثرى الناس في هاتين القريتين (الطائف ومكّة) وهو الذي أرسلته قريش للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الحديبيّة فعقد معه الصلح وهو كافر ثمّ أسلم سنة تسع من الهجرة بعد رجوع المصطفى من الطائف واستأذن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الرجوع لأهله فرجع ودعا قومه إلى الإسلام فرماه واحد منهم بسهم وهو يؤذّن للصلاة فمات ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا بلغه ذلك : مَثَل عروة مثل صاحب « يس » دعى قومه إلى الله فقتلوه. كذا في شرح الشمائل المحمّديّة في شرح قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ورأيت عيسى بن مريم فإذا أقرب من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود » (٢).

أمّا حضور ليلى في كربلاء أو كونها ما تزال على قيد الحياة عند وقوع المأساة ولو في المدينة فإنّه لم يعرض لي وما رووه من أمر الحسين إيّاها بالدعاء لولدها في كربلاء فقد أنكره النوري وقال : لا أصل له ، وهذه نسبة كاذبة ، فإنّ كثيراً من المؤرّخين نصّوا على وفاتها قبل واقعة كربلاء ، ولم يعرف مقدار عمرها ، والله العالم.

وأمّا مقدار عمره :

وقع الخلاف بين عليّ الأكبر وزين العابدين عليهما‌السلام من الأكبر منهما ، وفي عمر

__________________

(١) الزخرف : ٣١.

(٢) نفس المهموم ، ص ٢٧٨ و ٢٧٩ ونقلنا هنا عبارة نفس المهموم لأنّ المؤلّف أخذها وأعاد صياغتها بالترجمة.

٤٠٣
 &

عليّ الأكبر هل ثمانية عشر عاماً أو تسعة عشر عاماً كما في المناقب لابن شهر آشوب وإعلام الورى الطبرسي وإرشاد المفيد رحمهم‌الله أو عشرون عاماً أو ثلاث وعشرون عاماً كما نصّ على ذلك ابن نما في مثير الأحزان أو خمس وعشرون عاماً أو ثمان وعشرون عاماً كما في التواريخ المعتبرة ، والأقوى والأصحّ في عمره عليه‌السلام عند شهادته أنّه بين الخامسة والعشرين والثامنة والعشرين يوم ذاك لما ذكره فحل الفقهاء ابن إدريس في مزار السرائر من أنّ ولادته كانت في خلافة عثمان ولكنّه لم يعيّن السنة والمنقول عن الحدائق الورديّة أنّه في حدود سنة ثلاث وعشرين من الهجرة ، وبناءاً على هذا يكون عمره سبعاً وعشرين عاماً لذلك يُدعى بعليّ الأكبر ولو احتملنا ولادته في آخر خلافة عثمان فإنّ عمره حينئذٍ يكون خمساً وعشرين سنة. ويقول في نفس المهموم : هذا هو الآثر (١).

وكذلك في كتاب ذخيرة الدارين والحدائق الورديّة بناءاً على قول العقيقي وكثير من الطالبيّة والكلبي ومصعب بن الزبير وكثير من أهل البيت أنّه ولد قبل انقراض خلافة عثمان بسنتين. وقال أبو الفرج : ولد في خلافة عثمان (٢).

ويقول العلّامة النوري في هديّة الزائر : كان ابن خمس وعشرين سنة.

ويرى المرحوم فرهاد ميرزا في القمقام الزخّار أنّ ولادته في خلافة عثمان (٣).

وفي مقاتل الطالبيّين يقول هو يستعرض ما جرى في مجلس يزيد لعنه الله : ثمّ دعى يزيد لعنه الله بعليّ بن الحسين فقال له : ما اسمك ؟ قال : علي. قال : أولم يقتل الله عليّ بن الحسين ؟! قال : قد كان لي أخ أكبر منّي يُسمّى عليّاً فقتلتموه ،

__________________

(١) راجع نفس المهموم ، ص ٢٨٣ و ٢٨٤ والمؤلّف أخذ منه اختلاف الأقوال في سنّ عليّ الأكبر.

(٢) مقاتل الطالبيّين ، ص ٨١.

(٣) القمقام ، ج ٢ ص ٣٠٠ الترجمة العربيّة.

٤٠٤
 &

قال : بل الله قتله ، قال عليّ : ( اللَّـهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (١) وهذه العبارة

__________________

(١) مقاتل الطالبيّين ، ص ١٢١ « ويؤيّده ما ذكره ابن إدريس من تسميته بعليّ الأكبر وزين العابدين بعليّ الأصغر وهذا متواتر لا مرية فيه عند أرباب السير والأخبار والنسّابين منهم زيادة على ما تقدّم ، ومحمّد بن جرير الطبري في الجلد السادس من تاريخه ص ٢٦ قال : قال حميد بن مسلم : انتهيت إلى عليّ بن الحسين بن عليّ الأصغر وهو منبسط على فراش له وهو مريض (تاريخ الطبري ، ج ٤ ص ٣٤٧ ، مؤسّسة الأعلمي ببيروت ، مقابلة على نسخة لندن سنة ١٨٧٩ م ـ المترجم)

وقال في المنتخب : ولد الحسين عليّ بن الأكبر ولا عقب له ، وعليّ الأصغر أُمّه أُمّ ولد.

ويقول ابن قتيبة في كتاب المعارف ص ٩٣ : ولد الحسين عليّ الأكبر أُمّه بنت أبي مرّة ، وعليّ الأصغر أُمّه أُمّ ولد ، وفي ص ٩٤ يقول : أمّا عليّ بن الحسين الأصغر فليس للحسين عقب إلّا منه (راجع طبعة دار إحياء التراث العربي سنة ١٣٩٠ هـ / ١٩٧٠ ـ المترجم).

وكتب في الأخبار الطوال : فكان أوّل من تقدّم منهم فقاتل عليّ بن الحسين الأكبر ، ص ٢٥٦ ، وذكر في ص ٢٥٦ أنّه لم ينج من أصحاب الحسين إلّا ابنه عليّ الأصغر ... (عبارة المؤلّف كما يلي : ولم ينج من أصحاب الحسين عليه‌السلام وولده وولد أخيه إلّا ابناه عليّ الأصغر وكان قد راهق والا عمر وقد كان بلغ أربع سنين ... راجع ص ٢٥٩ ـ المترجم).

وفي تاريخ اليعقوبي وهو أقدم المؤرّخين ج ٢ ص ٢٤ : أمّا عليّ بن الحسين فليس للحسين عقب إلّا منه.

ويقول في تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي ص ١٥٦ : عليّ بن الحسين الأكبر قتل مع أبيه وله عقب ... (أنا أنقل لك عبارة التذكرة لتكون على بصيرة ممّا قاله مؤلّفها : عليّ بن الحسين قُتل مع أبيه يوم كربلاء ولا بقيّة له ... وعليّ الأصغر وهو زين العابدين والنسل له ... الخ ص ٢٤٩ منشورات الشرف الرضي ١٤١٨ هـ ـ المترجم).

وفي لواقح الأنوار ج ١ ص ٢٣ : كان للحسين عليه‌السلام من الأولاد عليّ الأكبر والعقب لعليّ الأصغر.

وفي الروض الأنف للسهيلي ج ٢ ص ٣٢٦ : عليّ الأكبر قُتل مع أبيه ولم يُقتل عليّ الأصغر وأُمّه أُمّ ولد تُدعى سلافة ، وكانت بنت كسرى يزدجرد.

وفي تاريخ الخميس ج ٢ ص ٣١٩ : كان زين العابدين مع أبيه ويعرف بعليّ الأصغر وأمّا عليّ الأكبر فقُتل مع أبيه (أنا أنقل لك عبارة تاريخ الخميس لتعرف الفارق بين العبارتين : وهو عليّ

=

٤٠٥
 &

نصّ صريح على أنّ الإمام يقول أمام يزيد بأنّ له أخاً أكبر منه واسمه عليّ فقتلتموه ... الخ.

ويقول محمّد بن إدريس في السرائر في خاتمته : فإذا زرت الحسين فزر ولده

__________________

= الأصغر فأمّا عليّ الأكبر فإنّه قُتل مع الحسين وكان على هذا أيضاً مع أبيه وهو ابن ثلاث وعشرين سنة إلّا أنّه كان مريضاً نائماً على فراش فلم يُقتل ... الخ ج ٢ ص ٢٨٦ ـ المترجم).

وفي نور الأبصار للشبلنجي : عليّ الأكبر قُتل مع أبيه ، وعليّ الأصغر هو زين العابدين.

وقال ابن خلِّكان في تاريخه في ترجمة الإمام زين العابدين : يقال لزين العابدين عليّ الأصغر وليس للحسين عقب إلّا منه (ج ٣ ص ٢٦٧) وكان أوّل من قُتل من آل (بني) أبي طالب يومئذٍ عليّ الأكبر وأُمّه ليلى ج ٢ ص ٣٠ (ج ٤ ص ٧٤ ط ١٣٨٦ هـ / ١٩٦٦ م ، دار صادر ـ بيروت ـ المترجم).

وفي مروج الذهب للمسعودي ج ٢ ص ١٩ وكتاب التنبيه والإشراف له أيضاً ض ٢٦٣ : قتل عليّ الأكبر مع أبيه.

مثله ابن الصبّاغ في الفصول المهمّة ، وفي شيرات الذهب ج ٢ ص ٦٦ قال : قُتل مع الحسين ولداه عليّ الأكبر وعبدالله.

ويقول محبّ الدين الطبري في ذخائر العقبى : عليّ الأكبر واستشهد مع أبيه ، ص ١٥١.

وذكر الوطواط في الفصل الثاني من غرر الخصائص ص ٧٢١ : أوّل من قُتل من أهل بيت الحسين عليّ الأكبر.

ويقول ابن إدريس الحلّي في السرائر والبلاذري والمزّي والنسّابة العمري صاحب ، وأبو عليّ بن همّام في الأنوار ، ومنظومة الشيخ الحرّ العاملي ، وشفاء الصدور في شرح زيارة العاشور (منّ الله سبحانه على عبده الفقير راجي رحمته فترجمته إلى العربيّة مع تحقيق أنيق ـ المترجم) وتذكرة الأئمّة لملّا محمّد اللّاهيجي وغير هؤلاء ومن بين هؤلاء الكتاب والمؤرّخين انفرد الشّيخ المفيد في الإرشاد والطّبرسي في إعلام الورى بأنّ الشهيد هو عليّ الأصغر ، والأكبر أُمّه شاه زنان بنت يزدجرد ، والظاهر أنّ الشبهة داخلت هذين العلمين من تصحيف العدد الثامن والعشرين إلى الثامن عشر (أقول « المترجم » : لا دليل على هذا التصحيف ، بل الدليل والاعتبار قائم على خلافه فإّ القدماء لا ينقلون الرواية عن الكتب فإنّ ذلك عيب معيب عندهم ويسمّون صاحبه الصحفي ينبزونه به وإنّما يروون ذلك بالنقل والتخريج مشافهة وحينئذٍ يبطل ما رآه المؤلّف ..) والحاشية المتقدّمة منه رحمه‌الله إلّا ما دار عليه القوسان فإنّه من المترجم.

٤٠٦
 &

عليّ المولود في خلافة عثمان ـ إلى أن يقول رادّاً على المفيد ـ وينبغي أن يردّ هذا المطلب إلى أهل الصنعة أي صنعة التاريخ والأنساب كالزبير بن بكّار ثمّ يصرّح بأسماء جماعة منهم ، وخلاصة كلامه أنّ سنّه عليه‌السلام يتراوح بين السبعة والعشرين والخامسة والعشرين ، والله العالم.

وروى القطب الراوندي في الخرايج ، والخزّاز الرازي في كفاية الأثر بسنده عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة أنّه قال : كنت عند الحسين بن عليّ عليهما‌السلام إذ دخل عليّ ابن الحسين الأصغر فدعاه الحسين عليه‌السلام وضمّه إليه ضمّاً وقبّل ما بين عينيه ثمّ قال : بأبي أنت ما أطيب ريحك وأحسن خلقك ... الخ (١) (وقال : الإمامة ظاهرة ما بين عينيه ـ المؤلّف).

وهذه آراء المؤرّخين وعقائدهم في عليّ الأكبر والإمام زين العابدين فقد اتفقوا على أنّ زين العابدين هو الأصغر وعليّ الشهيد هو الأكبر ، ويبقى القول في سنّه الثامنة عشرة بلا دليل.

أمّا اسمه وكنيته :

اسمه عليّ الأكبر بلا خلاف ، ولعلاقة المولى الحسين عليه‌السلام المتميّزة بوالده سمّى أولاده باسمه وقال : تمنّيت لو كان لي مئآت الأولاد لسميّتهم جميعاً « علي » من سمّى عليّاً الأكبر وسمّى زين العابدين عليّاً الأصغر إلى أن ولد له عليّ الأصغر من الرباب سمّى زين العابدين عليّاً الأوسط.

وكنيته الشريفة أبو الحسن ، وبهذه الكنية أفصح الإمام الصادق عليه‌السلام لأبي حمزة الثمالي حين علّمه الزيارة فقال : إذا وصلت إلى قبر عليّ الأكبر الشهيد ضع خدّك

__________________

(١) كفاية الأثر ، ص ٢٣٠ وما نقله المؤلّف يختلف عمّا في الكتاب وقد وضعناه بين قوسين.

٤٠٧
 &

على القبر وقل : صلّى الله عليك يا أبا الحسن ـ ثلاثاً ـ ... (١).

وأمّا كونه أوّل شهيد أو غيره ففي ذلك اختلاف وظاهر الزيارة المرويّة من الناحية المقدّسة (٢) أنّه عليّ الأكبر وبعضهم يراه عبدالله بن مسلم كما تقدّم في ترجمته ، ولا داعي للتحقيق والتحليل حول هذه المسألة إذ ما من حاجة تدعو إلى ذلك ، والله العالم.

وأمّا شمائله وفضائله :

متى يستطيع امرئ حصر صفات من هو مرآة من فرق رأسه إلى أخمص قدمه تعكس صفات النبي وشمائله ، فقد ذكروا صفاته على النحو التالي : إنّه صلت الجبين ، أزجّ الحاجبين ، أدعج العينين ، سهل الخدّين ، درّيّ المقلتين ، ياقوتيّ

__________________

(١) كامل الزيارات ، ص ٤١٧.

(٢) في زيارة الناحية المقدّسة والرجبيّة : « السلام عليك يا أوّل قتيل من نسل خير سليل من سلالة إبراهيم الخليل صلّى الله عليك وعلى أبيك إذ قال فيك : قتل الله قوماً قتلوك يا بنيّ ، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول ، على الدنيا بعدك العفا ، كأنّي بك بين يديه ماثلاً وللكافرين (قاتلاً) وقائلاً :

أنا عليّ بن الحسين بن علي

نحن وبيت الله أولى بالنبي

أطعنكم بالرمح حتّى ينثني

أضربكم بالسيف أحمي عن أبي

ضرب غلام هاشميّ عربي

والله لا يحكم فينا ابن الدعي

حتّى قضيت نحبك ، ولقيت ربّك ، أشهد أنّك أولى بالله وبرسوله (وأنّك ابن رسوله) وأنّك ابن حجّته (وذرّيّته وابن أمته) وأمينه ، حكم الله لك (لعن الله) على قاتلك مرّة بن منقذ بن النعمان العبدي (الليثي) لعنه الله وأخزاه ومن شرك في قتلك (وكان) وكانوا عليك ظهيراً ، أصلاهم الله جهنّم وسائت مصيراً ، وجعلنا الله من (مرافقيك) ملاقيك ومرافيقك ومرافقي جدّك وأبيك وعمّك وأخيك وأُمّك والمظلومة ، وأبرأ إلى الله من قاتليك ، وأسأل الله مرافقتك في دار الخلود (وأبرأ إلى الله من أعدائك) محمّد المشهدي ، المزار ، ص ٤٨٧ ، والمؤلّف لم يشر إلى المصدر ، وما بين القوسين من إضافاته رحمه‌الله.

٤٠٨
 &

الشفقتين ، بعيد ما بين المنكبين ، عريض الفخذين ، أفرج الثنايا ، أقنى الأنف ، مدوّر الهامة ، مربوع القامة ، عنقه كإبريق الفضّة ، ذؤابتاه يسيل على شحمة أُذنه ، أصيل الأصل ، طويل الفرع ، كحيل الطرف ، جميل الخلق ، عميم الفضل ، عظيم الجود ، كان وجهه أقمر ، وجبينه أزهر ، وريحه أذكى من المسك الأذفر ، ولفظه أحلى من السكّر ، وإذا مشى كأنّه البدر إذا أبدر ، والوبل إذ أمطر ، مخلوق من الحسن الشامخ والنسب الباذخ ... الخ.

تا که ابروى تو را از مژگان ساخته‌اند

بهر صيد دل ما تير کمان ساخته‌اند

من رمش عينك يبري القوس باريها

لكي يصيد فؤاد المبتلى فيها

وأنفه دقيق طويل فيه احديداب (١) ، ويبرق النور منه ، وجنتاه غير نتئتين ، فمه الحسن البيان ، لا هو بالكبير ولا بالصغير ، وماذا أقول عن شفتيه الياقوتيّتين :

اى لعل لبت به دلنوازى ممتاز

چشم سيهت به ترک تازى ممتاز

با زلف تو قصّه است مشکل ما را

همدون شب يلدا به درازي ممتاز (٢)

أسنانه المباركة بيضاء وبرّاقه ومفلجة ، وكأنّ عنقه في صفائها ونورها الدمية من الفضّة المصقولة ، أعضائه معتدلة ، وتدلّ القوّة والاستواء والجمال ، وتلتقي بطنه بصدره ليس بينهما انخفاض أو ارتفاع ، بعيد ما بين المنكبين ، ضخم الكراديس ، تنبئ عن شجاعة خارقة ، دقيق المسربة ، شثن الكفّين كأنّهما براثن

__________________

(١) رأيتني ملجأ إلى ترجمة عبارات المؤلّف لعدم وجودها في النصّ العربي على أنّي أسوق للقارئ بمشيئة الله ما ورد في وصف النبيّ في الخصال للمقارنة وهنا كلمة أقنى تغني عمّا ترجمته عن أنفه.

(٢) حمل حبّ النبيّ الشيخ الجليل المحلّاتي رحمه‌الله على ذكر هذين البيتين في الغزل ورأيت عدم ترجمتها لأنّه في ذلك إسائة أدب إلى قدسيّة النبوّة منّي صلّى الله على صاحبها ورحم الله الشيخ المحلّاتي فقد كان محبّاً وامقاً للنبيّ وأهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٤٠٩
 &

الأسد واسعهما ، لطيف الأصابع سبطهما ، ساعداه وساقاه ملفوفان باعتدال ، وليس لقدمه قبتان لا يلتقي باطنهما بالأرض إذا سقطت قطرة ماء على قدميه انحدرت من غير توقّف ، يمتد خيط من الشعر الأسود المتألق من صدره إلى سرّته ، وكان يسبقه عطره إذا اجتاز بدرب ملأ الدرب طيباً كأنّه المسك والعنبر ، ويظلّ موّاجاً ساطعاً فيه إلى يومين ، ويعرف الناس مرور النبي من هنا بهذا الطيب الزكي.

الورد في خدّه والدرّ في فيه

والبدر من وجهه في الحسن يحكيه

أقول قول زليخا في عواذلها

فذلكنّ الذي لُمتُنّني فيه

قمر تكامل في نهاية سعده

يحكي القضيب على رشاقة قدّه

البدر يطلع من بياض جبينه

والشمس تغرب في شقائق خدّه

حاز الكمال بأسره فكأنّما

حسن البريّة كلّها من عنده

اى مصحف آيات الهى رويت

وى سلسلهٴ اهل ولايت مويت

سرچشمهٴ زندگى لب دلجويت

محراب نماز عارفان ابرويت

*       *      *

فكأنّ وجهك مصحف آياته

تتلى وشعرك فيه سلسلة الذهب

عين الحياة شفاك طيّبة الجنى

والحاجب المحراب بالنور احتجب

*       *      *

الله أكبر الحسن في العرب

كم تحت غرّة هذا البدر من عجب

قوامه تمّ إن مالت ذوائبه

من خلقه فهي تغنيه عن الإرب

وملخّص القول هذه طائفة من شمائل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان شبيهه عليّ الأكبر حائزاً عليها حيث يقول الإمام عليه‌السلام : أشبه الناس برسول الله خلقاً وخلقاً ومنطقاً ،

٤١٠
 &

ولو لم يحز عليّ الأكبر جميع صفات النبيّ لم يطلع الحسين عليه‌السلام مثل هذا التعبير (١).

أمّا خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

إنّ النسخة الثانية عليّ الأكبر وما يستطيع القائل أن يقول بعد قوله تعالى : ( إِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢) يقول المجلسي في حياة القلوب موجزاً : لا يجرّ قدميه إذا مشى وإنّما يزول قلعاً ، مشيهُ غاية في الوقار ، وإذا كلّمه أحد أو كلّم أحداً لا ينظر إليه بمؤخّر عينيه بل يقبل عليه بكلّه ، وفي أكثر أحواله يرمق الأرض بطرفه عند الكلام ، ونظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء ، ويبدأ من يراه بالسلام ، دائم الفكرة ، لا يخلو من الاشتغال بالتفكير ، لا يتكلّم إلّا لحاجة ، وله جوامع الكلم ، الألفاظ القليلة بالدلالة الكبيرة ، لم يكن فظّاً في أخلاقه ولا غليظاً ، ولا يحتقر أحداً ، وتعظم في عينه النعم القليلة ، لم يذمّ نعمة قطّ ، لا يحزن على ففوات

__________________

(١) وإليك سيّدي القارئ هذه الصفات الشريفة من كتاب الخصال فعند قوله تقف الأقوال ، لأنّه الصدوق وما أدراك من الصدوق ؟ فقال : يا شابّ ، صف لي محمّداً كأنّي أنظر إليه حتّى أؤمن به الساعة ، فبكى أمير المؤمنين عليه‌السلام ثمّ قال : يا يهوديّ ، هيّجت أحزاني ، كان حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلت الجبين ، مقرون الحاجبين ، أدعج العينين ، سهل الخدّين ، أقنى الأنف ، دقيق المسربة ، كثّ اللحية ، براق الثنايا ، كأنّ عنقه إبريق فضّة ، كان له شعيرات من لبّته إلى سرّته ملفوفة كأنّها قضيب كافور لم يكن في بدنه شعيرات غيرها ، لم يكن بالطويل الذاهب ، ولا بالقصير النزر ، كان إذا مشى مع الناس غمرهم نوره ، وكان إذا مشى كأنّه ينقلع من صخر أو ينحدر من صبب ، كان مدوّر الكعبين ، لطيف القدمين ، دقيق الخصر ، عمامته السحاب ، وسيف ذو الفقار ، وبغلته دلدل ، وحماره اليعفور ، وناقته العضباء ، وفرسه لزاز ، وقضيبه الممشوق ، وكان عليه‌السلام أشفق الناس على الناس ، وأرأف الناس بالناس ، كان بين كتفيه خاتم النبوّة ، مكتوب على الخاتم سطران ... الخ. وهذه الرواية طويلة وأوّلها عن عبدالله بن عبّاس قال : قدم يهوديّان أخوان من رؤساء المدينة بالمدينة ، فقال ، الخ. ونحن ذكرنا هذه الجملة من الرواية للبركة ولك أن ترجع إليها في الخصال ص ٥٩٩ جماعة المدرّسين ، قم ١٨ ذي قعدة الحرام ١٤٠٣ تحقيق علي أكبر غفاري.

(٢) القلم : ٤.

٤١١
 &

الدنيا ، وإذا أشار بيده لا بالغمز ، وضحكه التبسّم ، وقلّما سمع له ضحك ، ويعطي ذا الفضل على قدر فضله ، ويوقّر كريم كلّ قوم ، لا يؤاخذ الناس بما بدر منهم من خطأ ، يواسي الناس ، ولا يظهر التبرّم بهم ، ولا يترك البشر والطلاقة.

أعماله بين الإفراط والتفريط ، أعظم الرجال عنده أعظمهم عوناً وخدمة ومواساة الناس ، ليس له مجلس خاص يجلس به ، وينهى الناس عن ذلك ، ويعامل الناس معاملة يظنّ كلّ واحد منهم أنّه الأعلى عنده ، وإذا جالس أحداً لا يقوم حتّى يقوم ، ومن سأله حاجة قضاها له أو سعى في قضائها فإذا حال دون ذلك حائل أرضاه بالقول الحسن والوعد الصادق ، وشمل خلقه العظيم جميع الخلق ، يوقّر الكبير ويرحم الصغير ، ولا يملّه من جالسه ، لم يؤنّب أحداً ولم يرتفع صوته في وجه أحد ، ولا يلتمس لأحد عيباً ، وينهى الناس عن ذلك.

وجملة القول : كان عليّ الأكبر وهو خلاصة شجرة النبوّة وثمرتها ، وكذلك الولاية ، متخلّقاً بهذه الأخلاق ، ولو لم يكن كذلك لما قال الإمام : اللّهمّ اشهد أنّه برز إليهم غلام أشبه الناس خلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك ، وكنّا إذا اشتقنا إلى لقاء نبيّك نظرنا إليه.

وأحسن منك لم تر قطّ عيني

وأجمل منك لم تلد النساء

خلقت مبرّءاً من كلّ عيب

كأنّك قد خُلقت كما تشاء

لعليّ الأكبر عيال وأولاد :

ينبغي أن يعلم بأنّ ما اشتهر على الألسنة والأقلام من كون عليّ الأكبر ليس له زوجة وأولاد هو مجرّد اختلاق محض ، مختلف تماماً مع ما عليه سيرة أهل البيت عليهم‌السلام من التعجيل في تزويج أبنائهم ولم يؤثر بقاء أحدهم دون قران حتّى

٤١٢
 &

الثامنة والعشرين ، ولعلّ الغاية من تعليل سنّه إلى الثامنة عشرة هو ترويج هذه الشائعة. ولو افترضنا صحّة الثامنة عشرة فلا مانع من تزويجه فيها فإنّ القاسم وهو ابن الثالثة عشرة كانت له عروس مسمّاه من آل البيت (١).

فكيف يبلغ عليّ الأكبر الثامنة عشرة ولم يتزوّج كما يزعمون ؟ وكيف كان ففي رواية الكافي بسنده عن الإمام الرضا عليه‌السلام والرواية كما يلي :

قال : ثمّ اعلم أنّه يظهر من بعض الروايات والزيارات أنّ له عليه‌السلام ولداً وأهلاً ؛ أمّا الرواية فقد رويت عن ثقة الإسلام الكليني عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن أحمد ابن محمّد بن أبي نصر البزنطي عن أبي الحسن الرضا قال : سألت عن أبيك : الرجل يتزوّج المرأة ويتزوّج أُمّ ولد أبيها ، فقال : لا بأس بذلك ، فقلت له : بلغنا عن أبيك عليّ بن الحسين تزوّج ابنة الحسن بن عليّ وأُمّ ولد الحسن وذلك أنّ رجلاً من أصحابنا سألني أن أسألك عنها ، فقال عليه‌السلام : ليس هكذا ، إنّما تزوّج عليّ ابن الحسين ابنة الحسن وأُمّ ولد لعليّ بن الحسين المقتول عندكم (٢).

وهذه الرواية ذكرها المجلسي في البحار ، والعلّامة النوري في المستدرك ،

__________________

(١) لا أظنّ أنّ محقّقاً بمثابة هذا الشيخ التقي الورع ينساق وراء الفرية التي ثبت زيفها قطعاً من زواج القاسم في الطفّ كما لا أظنّ أنّ الرجل يدع القضيّة غفلاً من التحقيق ولكن الذي أراه أنّه يشير إلى قضيّة خاصّة لا ترتبط بعرس القاسم ولعلّه عثر على شيء لم نعثر عليه طبعاً وسوف نطلع على رأيه القاطع في المسألة عندما يبلغ ترجمة سيّدنا القاسم عليه‌السلام.

(٢) الرواية التي نسبها المؤلّف إلى الكافي كان قد وضعها في الهامش ولكنّي رفعتها إلى المتن علماً منّي بأنّها ترجمة لها فلا موجب لبقائها في الهامش ، بعد ترجمة المتن إلى العربيّة كان من حقّ المؤلّف أن يدرجها في المتن كما يفعل غيره مع ترجمتها أو يكتفي بالترجمة ويشير إليها في الهامش ، وقد فعل الأمر الثاني. راجع للرواية الكافي ، ج ٥ ص ٣٦١ ؛ البحار ، ج ٤٦ ص ١٦٤ وج ١٠١ ص ١٨.

٤١٣
 &

والمحدّث القمّي في نفس المهموم ، ونقلها غيرهم ، وهذا صريح بكونه صاحب أهل وعيال (١).

وأمّا عبارة الزيارة المرويّة عن أبي حمزة الثمالي عن الصادق عليه‌السلام فقد جاء فيها لفظ أهل بيتك وأولادك ، وقد نقلها العلّامة المجلسي في المزار وفي تحفة الزائر ، والحاجي النوري في هدية الزائرين. ويقول الحاجي النوري بعد أن قوّى القول الثامن والعشرين أو الخامس والعشرين : وبناءاً على ما تقدّم فإنّ ما ينقله بعض الذاكرين في مصيبة عليّ الأكبر نظماً ونثراً من القول المشعر بعدم زواجه وأنّه فارق الدنيا عزباً فلا أصل له ولا واقع لأنّه بعيد عن سيرة أهل البيت من بلوغهم هذه السنّ وبقائهم عزّاباً مع ما يحرضون به الشيعة من التكبير في تزويج أبنائهم.

طائفة من مكارم أخلاق شبيه المصطفى وكرمه وسخائه :

بعد ما ذكرناه آنفاً من تمثيل عليّ الأكبر جدّه المصطفى من الفرق إلى القدم كما تمثّل المرآة الناظر فيها فلا تحتاج مكارم أخلاقه إلى الاستدلال أو الإثبات ولم يُبق قول الحسين عليه‌السلام قولاً لقائل ، ومن المقطوع به بأنّ فضائله الخلقيّة تدرّجت في رتبها الراقية حتّى طوت مراحل الكمال وبلغت أقصاه ، وهكذا يتمّ التدرّج بالنسبة للإنسان الكامل ، وعليّ الأكبر عليه‌السلام قطع هذا الطريق الطويل النائي بأسرع وقت

__________________

(١) وأمّا الزيارة الطويلة المرويّة عن الثمالي عن الصادق قال في زيارة عليّ بن الحسين المقتول بالطفّ : صلّى الله عليك وعلى عترتك وأهل بيتك وآبائك وأبناءك وأُمّهاتك الأخيار. حادي عشر البحار ، ج ٤٥ ص ٣٣٤ ، وص ١٤٧ من تحفة الزائر وهديّة الزائرين. (منه)

أقول : راجع كذلك : كامل الزيارات ، ص ٤١٦ ؛ وبحار الأنوار ، ج ٩٨ ص ١٨٦ ؛ وجامع أحاديث الشيعة ، ج ١٢ ص ٤٨٥ ـ المترجم. وقال المؤلّف في الهامش : وفي كامل الزيارة بسند صحيح عن رجال كبار من أهل الثقة مثل ابن مهزيار وابن أبي عمير أنّ الزيارة كما يلي : « صلّى الله عليك وعلى عترتك وأهل بيتك وآبائك وأُمّهاتك الأخيار ».

٤١٤
 &

وألقى رحله في المنزل المعدّ له ووقف في الطليعة من الكُمّل والشهداء والصدّيقين.

يقول سعدي :

کس در نيامده است بدين خوى از درى

هرگز نيارود چه تو فرزند مادرى

ما دخل الدار شبيه له

أو ولدت والدة مثله

إنّ شابّاً يقضي من عمره ثمانية سنين مع جدّه أمير المؤمنين ، وتسعة عشر عاماً مع عمّه المجتبى ، وكان أبوه السيّد الشهيد يبالغ في تربيته لأنّه ولده الأكبر ولشبهه بجدّه فقد مالت أعناق الأهل والأقرباء نحوه في درجة الأُولى والأصحاب والمسلمين في الدرجة الثانية. وكان يجد الإمام الحسين لذّة فائقة في اختصاصه بولد كهذا الولد هو مظهر قوله تعالى : ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (١).

روى أبو الفرج الإصفهاني بسنده عن أبي عبيدة وخلف الأحمر أنّ هذه الأبيات قيلت في عليّ الأكبر :

لم تر عين نظرت مثله

من محتفٍ يمشي ومن ناعل

يغلي نئيّ اللحم حتّى إذا

أنضج لم يغل على الأكل

كان إذا شبّت له ناره

أوقدها بالشرف القابل

كيما يراها بائس مرمل

أو فرد حيّ ليس بالآهل

أعني ابن ليلى ذا السدى والندى

أعني ابن بنت الحسب الفاضل

لا يؤثر الدنيا على دينه

ولا يبيع الحقّ بالباطل

ويقول في نامه « دانشوران ناصرى » أنّ العادة جرت بين العرب في القبائل

__________________

(١) القلم : ٤.

٤١٥
 &

إيقاد النار في الليالي المظلمة ليستدلّ بها الصادر والوارد على الطريق فيصلوا إلى مبتغاهم بيسر (١) وينزلوا أضيافاً عليهم ولا يقضوا ليلهم في القفر وهذه النار تُسمّى نار القرى ، وفي فصل الشتاء يفرّقون الكلاب على أخبيتهم ويوثقونها بالأعمدة لكي تزداد وحشيّة وتزيد النباح فيستدلّ السالك في الصحراء أو التائه على وجود الحي فيقصدونه وينزلون أضيافاً عليه ، ولم تذكر هذه المكرمة من نار القرى لواحد من أبناء الأئمّة إلّا لشبيه رسول الله عليّ الأكبر عليه‌السلام.

ما قاله معاوية في عليّ الأكبر عليه‌السلام :

يقول صاحب نفس المهموم في عليّ الأكبر : وناهيك به فارساً في هذا الميدان ونقاباً يخبر عن مكنون هذا الأمر بواضح البيان ـ إلى أن يقول : ـ وما رواه أبو الفرج عن مغيرة قال : قال معاوية : من أحقّ الناس بهذا الأمر ؟ قالوا : أنت ، قال : لا ، أولى الناس بهذا الأمر عليّ بن الحسين بن عليّ ، جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيه شجاعة بني هاشم وسخاء بني أُميّة وزهو ثقيف (٢).

ولا يخفى أنّ قول معاوية هذا ليس يخلو من الغرض الشخصي فقد أراد أن يثبت له نصيباً من هذه الخصال الثلاث.

ثمّ هو أوّلاً أراد أن ينفي النصّ على الحسين عليه‌السلام لكي يكون الحكم طليقاً فيجري في بني أُميّة أيضاً وتميل الأعناق عن صاحبها الحقيقي.

وثانياً : أراد استبعاد شروط الخلافة عنها ، وهي العلم والعصمة ، والنصّ من الله ورسوله.

__________________

(١) المعروف أنّها تسمّى نار القرى ، لأنّها توقد ليستدلّ بها الضيف على وجود القرى والطعام ، أمّا الطريق فلا يهتدي إليه بنار توقد في موضع واحد. (المترجم)

(٢) نفس المهموم ، ص ٢٨٥ الهامش : مقاتل الطالبيّين ، ص ٨٠.

٤١٦
 &

ثالثاً : أراد أن يثبت السخاء في بني أُميّة ليقلب الأُمّة نحوهم ومن أجل التعمية على السامعين أدخل ثقيفاً في هذه المنظومة الثلاثيّة. مع أنّ التاريخ لا يحدّثنا عن سخاء آبائه الأمويّين ولم يصفهم واصف بهذه الخصلة بل لم يعرفوا بها في الجاهليّة والإسلام ، وكان جدّهم الأعلى عبد شمس يعيش في ظلّ أخيه هاشم ، وكان اسمه عمرو العلا ، ولكثرة إطعامه الناس ونحره الذبائح من إبل وغنم وماشية دعي هاشماً اشتقاقاً من الهشم لأنّ معناه كسر العظم ، وكان أُميّة قد سلخ عشرين عاماً من عمره في بيت عبدالمطّلب وكان أبو سفيان غاية في البخل حتّى كان يمسك عن النفقة على عياله وكانت هند تسرق قوتها منه ، فلا أدري إذن من أين هبط عليهم هذا السخاء الذي فخر به معاوية ؟!

وما من شكّ في استجماع عليّ الأكبر للصفات الكماليّة ولو لم يستشهد لكان هو الإمام بعد أبيه ، لاجتماع الفضائل فيه ، وكانت ذاته المودعة فيه من صنع الله سبحانه ، ولا بدع في فضل الله ولا غرابة في أن يعري وجوداً قدسيّاً من كلّ عيب ونقص خلقيّ ليكون مثالاً يحتذى للأخلاق الإسلاميّة.

جاء في الزيارة الرجبيّة الخاصّة : « وكما منّ عليك من قبل وجعلك من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً .. (١).

والتطهير شاهد على العصمة والفقه الذاتيّة الواجب توفرهما في الإمام ولم يكن عليّ الأكبر خارج هذه الدائرة ، ولقد تحلّى بحلية الشرف والمجد ونبل الشأن وعظمة المنزلة والخصال الحميدة وعرف بين العرب بالسيادة وعزّة النفس وسموّا الذات فكان يحيا بينهم بالكمال والوقار والعظمة.

ولم يقتصر عليّ الأكبر في شبهه بالنبيّ أن يحكي صورته وجماله وخطوه

__________________

(١) الشهيد الأوّل ، المزار ، ص ١٤٦.

٤١٧
 &

وحديثه وحركاته وسكناته كما تحكي المرآة الطالع فيها ، بل كان مجمع المحامد والسجايا النفسانيّة النبويّة والإماميّة ، كما كان موئل الفقه والعصمة ومبائة الأدب والشجاعة ، وكان كبد الحسين وهو كبد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد تعلّق بولده تعلّقاً لا نظير له ، وكان يسرّه أن يكون ولده مرآة جدّه من الفرق إلى أخمص القدم ، فتظهر عليه ملامح الجمال النبوي وآيات الرسالة.

في مدينة المعاجز للسيّد هاشم البحراني ، وضياء العالمين وذخيرة الدارين ونفس المهموم وغيرها عن زفر بن يحيى عن كثير بن شاذان قال : شهدت الحسين بن عليّ عليهما‌السلام وقد اشتهى عليه ابنه عليّ الأكبر عنباً في غير أوانه ، فضرب بيده إلى سارية المسجد فأخرج له عنباً وموزاً فأطعمه ، فقال : ما عند الله لأوليائه أكثر (١).

وروى أبو مخنف عن عقبة بن سمعان قال : لمّا كان آخر الليل أمر الحسين بالاستقاء من الماء ثمّ أمرنا بالرحيل ففعلنا. قال : فلمّا ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرنا ساعة خفق الحسين عليه‌السلام برأسه خفقة ثمّ انتبه وهو يقول : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والحمد لله ربّ العالمين. قال : ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثاً ، قال : فأقبل إليه ابنه عليّ بن الحسين عليه‌السلام على فرس له ، فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والحمد لله ربّ العالمين ، يا أبت جعلت فداك ممّ حمدت الله واسترجعت ؟ قال : يا بني ، إنّي خفقت برأسي خفقة فعنّ لي فارس على فرس فقال : القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم ، فعلمت أنّها أنفسنا نعيت إلينا ، قال : يا أبت ، لا أراك الله سوءاً ، ألسنا على الحقّ ؟ قال : بلى والذي إليه مرجع العباد ، قال : يا أبت ، إذاً لا نبالي نموت محقّين ، فقال له : جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده ... (٢).

__________________

(١) مدينة المعاجز ، ج ٣ ص ٤٥٣ ، الدرّ النظيم ، ص ٥٣١ ، الطبري الشيعي ، دلائل الإمامة ، ص ١٨٣.

(٢) أبو مخنف ، مقتل الحسين ، ص ٩٢.

٤١٨
 &

هكذا يكون رباطة الجأش وقوّة الإيمان عند عليّ الأكبر الذي لم يجد الخوف أو الفرق طريقاً إلى فؤاده ، وعزّى أباه باللطف عمّا كرب قلبه.

ورث الصفات الغر وهي تراثه

من كلّ غطريف وشهم أصيد

في بأس حمزة في شجاعة حيدر

بإبا الحسين وفي مهابة أحمد

وتراه في خلق وطيب خلائق

وبليغ نطق كالنبيّ محمّد

مقتله عليه‌السلام :

وملخّص ما ذكره أصحاب المقاتل من حادثة مصرعه على النحو التالي : ولمّا رأى عليّ الأكبر وحدة أبيه ولم يبق له ناصر جائه يستأذنه في القتال ، فلمّا رآه الحسين أرخى عينيه بالدموع واحتضن ولده وراح يشمّه ويئنّ من فراقه. ثمّ أفرغ عليه لامة حربه وأدرع بدرع عادية ومغفر فولاذي وأسرج له العقاب فرس رسول الله بالسرج الذي ورثه من أبيه ، وكان عليّ الأكبر في صباحة الغرّة وملاحة الوجه بالمحلّ الذي يشرف أهل المدينة على السطوح المطلّة على الجواد التي يمرّ بها لرؤيته ومشاهدة بهائه ، وما زال يلحّ في طلب الإذن حتّى أذن له ، ثمّ أمّ الخيمة لوداع الأهل والعيال ، فدرن به عمّاته وأخواته وباقي النسوة ، ثمانون امرأة من صغيرة وكبيرة كالفراشات تدور على مشعل النور ، الله أكبر ، إنّ الحجر الصوّان يتفتّت لرؤية هذا المنظر المريع ، ولم يعلم إلّا الله بما في قلوب أهل البيت من الحزن ذلك اليوم (١).

__________________

(١) في الدمعة الساكبة ، قال : لمّا توجّه إلى الحرب اجتمعت النساء حوله كالحلقة وقلن له : ارحم غربتنا ولا تستعجل إلى القتال فإنّه ليس لنا طاقة في فراقك ، فلم يزل يبالغ ويجتهد في طلب الإذن من أبيه حتّى أذن له فأرخى الحسين عليه‌السلام عينيه الدموع ثمّ قال : اللهمّ اشهد على هؤلاء القوم إنّه قد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقاً وخلقاً ومنطقاً برسولك وكنّا إذا اشتقنا إلى لقاء نبيّك

=

٤١٩
 &

وعلى كلّ حال ، فقد ودّع أهل بيته واستقبل ميدان القتال ، وفي هذه الأثناء تحادرت دموع الحسين عليه‌السلام على خدّيه البدريّين وقبض على لحيته الكريمة ورفع رأسه إلى السماء وقال : اللهمّ اشهد على هؤلاء القوم الجفاة الذين ضيّقوا علينا المسالك فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقاً وخلقاً ومنطقاً وسيرة بجدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، اللهمّ كنت إذا اشتقت إلى جدّي نظرت إليه. ثم نظر إلى ابن سعد لعنه الله وعيونه جارية وصاح به : قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ولم ترع قرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأسأل الله أن يزيل منك البركة ويسلّط عليك من يذبحك على فراشك ، ويفصل رأسك عن بدنك. ويريد الإمام بهذا القول أنّنا قرشيّان فقطعت ما بيني وبينك من الرحم ، قطع الله منك رحمك (١) ، وكان ابن سعد يدرك ذلك فقد قال بعد رجوعه من كربلاء ولقياه الأوّل مع ابن زياد : إنّي قطعت رحمي ووصلت خصمي وخالفت ربّي ... الخ.

ومجمل القول أنّ الإمام الحسين قال للقوم : اللهمّ أمنعهم بركاتك ، وفرّقهم طرائق قدداً ، واهتك أستارهم ، وفرّق جمعهم ، وسلّط عليهم ولاتهم ، وعادهم وأمقتهم فإنّهم طغاة عتات فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يقتلوننا ..

يكلّ البيان ويعجز اللسان ويضيق القلم عن بيان هذا المشهد الذي كان عليه

__________________

= نظرنا إليه. ثمّ صاح : يابن سعد ، قطع الله رحمك ولا بارك الله لك في أمرك كما قطعت رحمي ولم تحفظني في رسول الله ، وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك ، فرفع يديه إلى السماء وقال : اللهمّ أمنعهم بركات الأرض ، وفرّقهم تفريقاً ، ومزّقهم تمزيقاً واجعلهم طرائق قدداً ، ولا تُرض الولاة عنهم أبداً فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يقاتلوننا ، ثمّ رفع صوته وتلا هذه الآية : ( إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ). (منه رحمه‌الله) الدمعة الساكبة ، ج ٤ ص ٣٢٩ و ٣٣٠ باختلاف يسير.

(١) الذي أراه أنّ الإمام يدعو عليه بهلاك أهله كما قتل أهل الحسين من إخوان وأولاد وأبناء إخوان وأعمام ، وهذا معنى « كما قطعت رحمي » والله أعلم.

٤٢٠