كتاب القضاء - ج ٢

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ٢

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٩
الجزء ١ الجزء ٢

العمل بمقتضى البينة الصريحة ، فإن العمل بها ليس تكذيبا للبينة الظاهرة ، بخلاف العكس فان العمل بالبينة الظاهرة تكذيب للعمل بالبينة الصريحة.

وهذا غير مستبعد من بناء الفقهاء أيضا ، بل الظاهر أن بناءهم على ذلك حيثما يتعارض البينتان واحتمل في أحدهما ما لا يحتمل في الأخرى ، فإنهم يقدمون الغير المحتمل فيه كما يأتي إنشاء الله بعض الإشارة إليه عند اختلاف البينتين في الملك بالقدم والحدوث.

وهذا الجمع هو الذي جعلناه القسم الثاني من أقسام الترجيح فيما سبق ، فإنه ترجيح من وجه وجمع من آخر.

ولا يبعد دعوى بناء العقلاء على مثل هذا الجمع أيضا في الموارد التي تتعارض فيها الامارات العرفية خصوصا البينات ، فان لم نقل به فلا إشكال في تقديم بينة الخارج في هذه الصورة الرابعة أيضا. وأما ان قلنا بذلك وأنه القاعدة في تعارض البينات نظير الجمع فيما إذا صرح احدى البينتين بسبب لا ينافي تصديقه في ذلك تصديق البينة الأخرى كالملك القديم والجديد ، فلا شبهة في تقديمه على الترجيح بالمرجحات الناظرة الى صدق الشهود وكذبهم أعني مطابقة قولهم للواقع ومخالفته له كالا عدلية والاوثقية والأكثرية وأضرابها إذا لم نعول في الترجيح بها على التعبد بالأخبار.

وأما تقديمه على الترجيح بالخروج ، ففيه تفصيل ، وهو أنه لو بنينا على ترجيح بينة الداخل فلا اشكال وان بنينا على ترجيح بينة الخارج فهذا يحتمل أن يكون لأحد أمور أشرنا إليها : أحدها أن يكون وجه التقديم هو عدم حجية بينة المنكر رأسا مطلقا. والثاني أن يكون الوجه عدم اعتبارها إذا كان للمدعي بينة على دعواه ، نظير عدم اعتبار الشاهد واليمين في مقابل البينة. والثالث أن يكون الوجه عدم اعتبارها عند وقوع المعارضة بينها وبين بينة المدعي.

١٦١

والفرق بينه وبين سابقة أن عدم بينة المدعي على الأول شرط لا جعل حجية بينة الداخل شأنا ، وعلى هذا التقدير شرط الحجية فعلا ، فان كان الوجه هو الأول أو الثاني وجب في هذه الصورة ترجيح بينة الخارج أيضا ، وان كان الوجه هو الثالث كان الترجيح لبينة الداخل ، لان بينة الداخل حجة إذا لم يعارضها المدعي ، وقد ظهر أنه في المقام لا معارضة بينهما حقيقة.

والذي استظهرنا من الأدلة هو بطلان الوجه الأول ، أعني عدم كون بينة الداخل حجة مطلقا حتى مع عدم بينة للمدعي. وأما الوجهان الاخران فقد يقال بسكوت الأدلة التي استظهرنا منها ما قوينا ، أعني كون بينة المدعي علة تامة غير صالحة للمعارضة عن تعيين أحد هما ، لان عمدة تلك رواية منصور ولا ظهور لها في أن عدم قبول البينة من الذي في يده المال المدعى به لا من الوجهين المذكورين.

فعلى الفقيه إمعان النظر واختيار الراجح ، فان لم يترجح في نظره شي‌ء منها فليرجع الى عموم أدلة حجية البينة ، ومقتضاه حجية بينة الداخل في الصورة المفروضة ، لما حققنا من كون العمل بها حينئذ جمعا عمليا للفقيه ، فلا يصار الى ترجيح بينة الخارج لكونه طرحا لبينة الداخل من غير سبب.

فان قلت : قد استظهرت من الأدلة كون بينة المدعي علة تامة لثبوت حقه على المنكر ، وهو عام يتناول صورة المعارضة وعدمها.

قلنا : تلك الأدلة بين الأدلة الفعلية التي لا عموم فيها ، مثل المأثور عن النبي والوصي عليهما الصلاة والسلام لمجرد إقامة المدعي البينة وعدم انتظار شي‌ء آخر وبين القولية ، وأقواها دلالة رواية منصور المتقدمة بمواضع أربعة :

الأول قوله « حقها للمدعي » ، والثاني قوله « لا أقبل من الذي في يده بينة » ، والثالث قوله « لان الله تعالى أمر أن يطلب البينة من المدعي » ، والرابع قوله

١٦٢

« والا فيمين الذي هي في يده ». دلت بهذه المواضع منطوقا ومفهوما تصريحا وتلويحا على عدم سماع البينة من ذي اليد مطلقا أو في مقابل بينة المدعي مطلقا ، سواء كان الجمع بينهما ولو عملا أمرا ممكنا أم لا ، بأن تكونا متعارضتين.

لكن في دلالة الكل على هذا الإطلاق نظرا :

( أما الأول ) فلاحتمال رجوع ضمير « حقها » إلى الشاة لا إلى البينة ، وعليه فلا ربط لها بالمدعى ، وعلى تقدير رجوعها إلى البينة ـ كما هو مبنى الاستدلال ـ لم يدل على انحصار حق البينة في المدعى الا في مورد الرواية أو في مثله مما يكون شهادة كل من البينتين فيه بالملك المقيد على وجه موجب لتعارضهما ، لا في مثل ما نحن فيه الذي عرفت أن البينتين فيه غير متعارضتين.

وبذلك يجاب عن الثاني أيضا.

( وأما الثالث ) فلا دلالة فيها الا على عدم مطالبة البينة من المنكر ، وأما عدم القبول فلا. ولو سلم الدلالة عليه أيضا ـ بقرينة وقوعه تعليلا لقوله « لا أقبل » ـ ففيه ما عرفت من اختصاص نفي القبول بمورد المعارضة الذي هو مورد الرواية.

فإن قلت : قوله عليه‌السلام « فان الله أمر أن يطلب البينة من المدعي » وقع علة لقوله « لا أقبل » ، ولا يصح دعوى اختصاص العلة بالمورد والا لغي التعليل فعموم العلة قاض بعدم قبولها من المنكر مطلقا.

قلت : لو سلم ذلك أمكن أن يدعى معنى قوله عليه‌السلام « ان الله أمر » إلخ ، هو أن الله جعل البينة التي هي حجة تامة غير قابلة للمعارضة للمدعي ولم يجعلها للمنكر ، وعدم كون البينة حجة تامة للمنكر لا ينافي كونها حجة غير تامة له ، بمعنى كونها في حقه قابلة للمعارضة ، فيستدل على اعتبارها في حقه بعموم ما دل على حجية البينة ، وقضية ذلك العمل بها مع عدم المعارضة كما فيما نحن فيه.

( وأما الرابع ) فالجواب عنه ان إلزام اليمين على المنكر بعد فقد بينة

١٦٣

المدعي انما سيق لرفع الإلزام بالبينة التي قد ركزت في أذهان الناس مطالبته من كل صاحب دعوة واقعية مثبتا كان أو نافيا ، كما اشتهر عند العلماء أن النافي والمثبت كليهما محتاجان الى الدليل ، فلا يفيد سوى رفع مشقة البينة عن المنكر.

وهذا مثل ما قلنا في حديث « البينة على المدعي واليمين على المنكر » في رد توهم من زعم أن قضية التفصيل عدم كون وظيفة المنكر الا اليمين ، من أن الفقرة الثانية نظير الأمر الوارد في مقام توهم الحظر لا يفيد سوى الرخصة والترفيه.

فان قلت : إذا مضت عموم رواية منصور وسائر الأدلة ، فبما ذا تستدل على عموم الحكم للصور الثلاث المذكورة مع أن صورتين منها خارجتان عن مورد رواية منصور.

قلنا : نستدل بالمناط القطعي ، إذ بعد تقديم بينة الخارج على بينة الداخل في صورة كونهما مسببين يعلم تقديمها عليها في المطلقين ، وفي كون صورة كون الداخل مطلقا والخارج مقيدا بالمناط أو بالفحوى ـ فافهم.

فظهر أن ما ذهب إليه الأكثر في الصورة الرابعة من تقديم بينة الداخل لا يخلو عن قوة. والله العالم.

فروع تظهر في تنبيهات

( الأول ) انه قد سبق الإشارة الى أن المراد بالداخل ليس هو خصوص ذي اليد ، كما قد يوهمه المحكي عن التحرير والمبسوط ، بل يتناول كل من يصدق عليه المنكر بموافقة أصل أو أمارة شرعيين.

ويفصح عن ذلك تصريحاتهم في مسائل التنازع من كل باب ، ففي باب

١٦٤

الإجارة ذكروا أنه لو اختلف المؤجر والمستأجر في زيادة الأجرة ونقصانها وأقام كل منهما بينة بني على مسألة تعارض بينة الداخل والخارج ، وكذا ذكروا فيما إذا تنازع البائع والمشتري في صحة البيع وفساده وأقام كل منهما بينة أنه يبنى على تلك المسألة.

( الثاني ) لو أقام الداخل البينة بعد قضاء الحاكم للخارج بينته وتسليم الحق إليه ، كما لو ادعى زيد عينا في يد عمرو وأقام عليها البينة فقضى له وسلمت العين اليه ثمَّ أقام عمرو بينة على أنها له. فقد اختلف فيه على قولين : أحدهما ما عن الشيخ من نقض القضاء واعادة العين الى عمرو في المثال ، والثاني ما اختاره في الشرائع بعد نقل مذهب الشيخ من عدم النقض وإبقائها في يد زيد.

وليس في كلام هؤلاء تعرض لحال ما إذا كانت إقامة البينة قبل ازالة يد الداخل وهو عمرو في المثال المذكور ، وقد صرح الشهيد « ره » في القواعد بنقض القضاء حينئذ وإبقاء العين في يد عمرو نظرا الى بقاء اليد حسا ، وهو المحكي عن التحرير. وربما يقضي به ظاهر هؤلاء أيضا ، نظرا الى ما في كلامهم من مفهوم القيد ، أي قيد « بعد زوال اليد ».

ثمَّ ان البينة اما أن تصرح بحدوث ملكية العين بعد القضاء عند احتمال تجددها بعده ، أو تصرح بالملكية قبل القضاء ، أو تطلق في الشهادة.

ولا إشكال في القسم الأول ، لأنه لا مانع فيه من سماع دعوى الداخل حينئذ للملكية ولا من سماء بينته والحكم بعد فرض عدم معارضة بينته لما أقامه الخارج من البينة.

كما لا ينبغي الإشكال في سماعها على الثالث ، لان احتمال تجدد الملك كاف في سماع الأمرين ، وانما يظهر من المسالك دخوله تحت محل النزاع أيضا ، والظاهر انه ليس كذلك.

١٦٥

فبقي الاحتمال الثاني لأن القضاء فيه للداخل لا يخلو عن اشكال ، وعليه فنقول : ان اقامة البينة اما أن تكون قبل ازالة يد الداخل عن العين أو بعدها ، وعلى التقديرين فالبحث في هذه المسألة انما يتفرع ويتعلق على القول بتقديم بينة الداخل في المسألة المتقدمة ، وأما على القول بتقديم الخارج فالظاهر سقوط هذا الفرع رأسا ، بمعنى تعين عدم النقض وإبقاء العين في يد المدعي لو كانت مسلمة إليه ، خلافا لصاحب المسالك « ره » ، فإنه بنى المسألة في مفروض كلام المحقق « ره » ، أعني ما إذا كانت إقامة البينة بعد ازالة يد الداخل عن العين على المسألة السابقة ، أعني تقديم بينة الخارج أو الداخل وان العبرة بالدخول والخروج حال ملك المدعي أو حال إقامة البينة وحال التعارض.

فان بنى على تقديم بينة الخارج وان العبرة في الخروج بحال إرادة البينة نقض الحكم وحكم بها لعمرو لأنه حال إقامة البينة خارج باعتبار اقتضاء القضاء صيرورة زيد داخلا ، وكذا لو بنى على تقديم بينة الداخل وجعل العبرة فيه بحال الملك لان عمرو في حال الملك الذي يدعيه كان داخلا وان صار بسبب القضاء خارجا والا لم ينقض الحكم وأقرت العين في يد زيد.

والظاهر أن ما ذكره ليس على ما ينبغي ، إذ على القول بتقديم بينة الخارج لا يعقل انقلاب الداخل خارجا بنفس تقديم الخارج ، لأنه من باب استلزام وجود الشي‌ء وعدمه ، وهو دور محال ، بل ربما يتسلسل. فإنه إذا قضى للخارج بينة صار ذلك سببا لصيرورة الداخل المحكوم عليه خارجا ، فاذا سمع بينته وقضى له انعكس الأمر ، وهكذا الى الدورة الثانية والثالثة.

نعم ما ذكره صحيح في الاحتمال الأول ، أعني ما إذا شهدت البينة بالملك المتجدد بعد القضاء للأول ، وكذا في الاحتمال الثالث ، أعني صورة الإطلاق كما هو الأظهر. وأما الاحتمال الثاني الذي نتكلم فيه ـ وهو ما إذا صرحت

١٦٦

البينة بالملك قبل القضاء وقبل ازالة اليد ـ فلا يعقل أن يكون القضاء للخارج حينئذ سببا لانقلاب الداخل خارجا مقدما ببينته على بينة المدعي.

كيف وثمرة القضاء للخارج انفصال الخصومة وعدم الإصغاء إلى بينة الداخل في حال القضاء ، فلو بنى على أن هذا القضاء الواقع للخارج قضاء عليه فلا يكون قضاء له ، وهو خلف بين وكلام هين.

بل التحقيق أن البحث في هذا الفرع انما يتم على القول بتقديم بينة الداخل ، وهو الذي يظهر أيضا من محكي شرح الإرشاد لابن فهد ، حيث أنه بعد ما أشار الى ما في المسألة من الاحتمالات من حيث القول بتقديم بينة الخارج أو الداخل وكون المناط بالدخول والخروج هو الدخول والخروج في حال الدعوى أو في حال إقامة البينة ، قال : ان نقض القضاء واعادة العين انما يتم على القول بتقديم بينة الداخل وكون العبرة بالدخول في حال الدعوى التي سماها في المسالك بحال الملك. وعليه فمبني المسألة ما أشار إليه الشهيد في القواعد من أن يد الداخل انما أزيلت لفقد البينة فبعد وجودها لا بد من عودها ، ومن أن القضاء لا ينتقض إلا بقطعي.

توضيحه : ان الحكم ببينة المدعي حكم تعليقي مراعي بعدم إقامة المدعي عليه بينة معارضة لبينته بناء على هذا القول ـ أعني تقديم بينة الداخل عند التعارض ـ فإذا أقام المدعي بينة ولم يظهر الحاكم بينة معارضة لها تشهد للداخل كان حكم الحاكم على طبقها حينئذ حكما تعليقيا ، لان العمل بكل أصل أو أمارة معلق ومشروط ، بأن لا يكون لها معارض واقعا. فلا بد من إحراز ذلك الشرط اما بالعلم والوجدان فيقع الحكم على طبقه حينئذ منجزا أو بالاتكال على الأصل فيكون حينئذ حكما ظاهريا معلقا في الواقع على انتفاء المعارض لميزان

١٦٧

ذلك الحكم ، بحيث إذا ظهر مخالفة الأصل للواقع وتبين وجود المعارض انتفى الحكم جدا.

وهذا ليس نقضا للحكم بل انتقاضا ، لان استعداد الحكم للبقاء يتبع استعداد ميزانه ، فان كان ميزانه منجزا من حيث الوجود ومن حيث الاعتبار مثل بينة الخارج إذا شهدت بالملك المسبب على القول بتقديم بينته عند التعارض مع بينة الداخل مطلقا وقع الحكم أيضا منجزا ، فلا ينتقض الا بقاطع.

وأما إذا كان في ميزانه تعليق اما من حيث الوجود مثل البينة التي تشهد اتكالا بالاستصحاب أو من حيث الاعتبار مثل بينة الخارج على القول الأخر ـ أعني تقديم بينة الداخل ـ وقع الحكم معلقا إذا كان ميزانه بحسب الظاهر سليما عن المعارض أو الوارد ، ويراعى الى ظهور الوارد لو كان التعليق في أصل وجودها مثل ما إذا كان مستندا بالاستصحاب ، ولذا يسمع البينة عن المحكوم عليه بالدين لو ادعى الإبراء أو الى ظهور المعارض لو كان التعليق في اعتبارها لا في وجودها مثل بينة الخارج على هذا القول. فاذا ظهر ما يبطل أثر البينة بأحد الوجهين انتقض الحكم بنفسه ، وليس هذا القضاء مجمعا على بطلانه إلا بقطعي.

هذا وجه انتقاض الحكم وعود العين الى يد عمرو ، وأما وجه عدم الانتقاض فهو الذي يظهر في بادي الرأي من أن القضاء إذا وقع وقع مستداما. ولا شبهة في وقوع القضاء للخارج فلا ينتقض بعده بالبينة.

فإن قلت : على ما ذكرت لا يقع القضاء أبدا الا معلقا ، لان كل بينة يقيمها المدعي يحتمل ظهور المعارض له بعد القضاء ولو من غير الداخل ، لاحتمال معارضتها ببينة خارج آخر مثله ، فقولك ان بينة الخارج ـ على القول بتقديم

١٦٨

ما ليس فيها تعليق ـ باطل ، لان التعليق ثابت ولو بالقياس الى ظهور معارض لها من خارج آخر ، فأين قولهم لا ينقض القضاء إلا بقطعي وفي أي مورد يقال ذلك.

قلت : ليس الأمر كذلك بالنسبة إلى بينة خارج آخر ، لان بينة أحد الخارجين بالنسبة إلى بينة الأخر يعد من المعارض ، وأما بينة الداخل بالنسبة إلى بينة الخارج فهي بمنزلة الدليل بالنسبة الى الأصل على القول بتقديمها.

ولا نقول بالتعليق إلا في القسم الثاني ، لأن القول به في القسم الأول ـ أعني التعليق بعدم وجود المعارض ـ ينجر الى نحو تسلسل ، من حيث أن اعتبار أحد المتعارضين ليس معلقا على انتفاء مطلق المعارض حتى يرتفع اعتباره بمجرد ظهور المعارض كما في القسم الثاني بل على انتفاء معارض أقوى.

فإذا ظهر معارض أقوى كان الحكم بتقديمه أيضا تعليقيا مراعي بعدم ظهور الأقوائية في الأول ، لأن ذلك أمر ممكن ، بأن ينضم الى ذلك الدليل الأول بعد ظهور المعارض الأقوى بعض ما يوجب انقلاب الأقوائية من المرجحات كالكثرة مثلا فإنها مما أمكن أن تزيد شيئا فشيئا يوما فيوما ، ثمَّ بعد ظهور ذلك المرجح وانقلاب الأقوائية يكون تقديمه أيضا تعليقيا مراعي بعدم تجدد القوة لمعارضة فيما بعد ، وهكذا هلم جرا.

فاضطررنا في باب القضاء أن نجعل العبرة بوجود المعارض وعدمه حين قيام الحجة وحال القضاء وعدم الالتفات الى احتمال وجوده واقعا وظهوره فيما بعد والا لاختل باب القضاء ولا يترتب عليه أثره المقصود. فلا بد من وقوع القضاء منجزا حيثما يقع وعدم كونه معلقا ومراعي الى ظهور وجود المعارض.

نعم ما ذكرت من كون العمل بالدليل دائما تعليقيا حق في الأحكام ، حتى انه لو اتفق في يوم واحد ظهور المعارض بعد عدم ظهوره في حال العمل ألف

١٦٩

مرة انتقض العمل كذلك ولا ضير فيه ، وأما في باب القضاء فليس يمكن الالتزام بتعليقية القضاء مطلقا حتى بالقياس الى ظهور المعارض الذي يكون نسبته الى ميزان القضاء كنسبة أحد الدليلين المتعارضين بالنسبة إلى الأخر.

نعم لا ضير في الالتزام به بالنسبة إلى القسم الأول من المعارض ، أعني ما كان نسبته الى ميزان القضاء كنسبة الدليل الى الأصل.

وبعبارة أخرى : المعارض الذي لا يشترط العمل به بشي‌ء بل يكون وجوده علة تامة للحكم غير معلق على شي‌ء ، مثلا بينة الداخل على القول بتقديمها على بينة الخارج فان العمل بها على هذا القول لا يتوقف على شي‌ء ، فإذا ظهر وجب انتقاض الحكم المستند الى بينة الخارج والقضاء للداخل قضاء منجزا غير متوقف ومعلق على شي‌ء.

والحاصل ان معارض ميزان القضاء على قسمين :

قسم يجب العمل به منجزا غير معلق على شي‌ء حتى عدم المعارض ، وذلك مثل بينة الداخل على القول باعتبارها ، فان العمل بها متعين بلا انتظار شي‌ء آخر حتى المعارض ، إذ لا معارض لها حتى ينتظر وجودها ، سواء كان موجودا في زمان اقامة الخارج البينة أو ظهر بعدها وبعد القضاء له.

وقسم يجب العمل به معلقا على نحو تعليق العمل بالميزان الذي استند اليه القضاء ، وذلك مثل بينة خارج آخر مثل المدعي ، فان العمل ببينة المدعي كما أنه معلق على عدم معارض أقوى كذلك العمل بالمعارض الأقوى أيضا معلق لسلامته على عدم معارض أقوى ، سواء كانت الأقوائية باعتبار تجدد صفة رجحان في بينة المدعي أو باعتبار ظهور مدع آخر.

ففي القسم الأول لا مضايقة عن الالتزام بتعليقية القضاء ، بل لا بد من القول بها بعد معلومية توقف اعتبار الأدلة والحجج والامارات فعلا على إحراز عدم

١٧٠

المعارض أو الحاكم بالأصل. وأما في القسم الثاني فالالتزام بالتعليق فيه أمر غير ممكن لاستلزامه التزلزل في جميع القضوات وانجراره الى التسلسل كما عرفت.

فظهر أن القول بالانتقاض فيما نحن فيه كما عليه الشيخ بناء على أصله من تقديم بينة الداخل لا يخلو عن وجادة وسدادة.

ولا يدفعه ما ذكره الشهيد في القواعد من أن القضاء لا ينقض إلا بقطعي ، لأنه ليس نقضا بل انتقاضا كما عرفت.

الا أن يقال : ان ظهور المعارض في أدلة الأحكام أمر ممكن ، فلا بد أن يكون العمل بكل دليل في حكم من الاحكام مراعي الى ظهور المعارض ، وأما في باب القضاء والبينات فأمر غير متصور الا على بعض الوجوه الخارج منها المقام ، لان المدعي حين إقامة البينة ولم يقم الداخل بينة معارضة له فقد تحقق شرط عدم المعارض ، واما أن المعارض ليس سوى شهادة البينة لا اعتقاد البينة في نفس الأمر ، والشهادة كانت منتفية حين القضاء واقعا وظاهرا. وفيه ما لا يخفى فتأمل.

بقي الكلام في وجه ما فصل الشهيد « ره » في القواعد من اختيار نقض القضاء مع بقاء يد الداخل والاشكال مع زوالها. وقد يوجه ذلك بأن بقاء اليد سبب لبقاء الدخول العرفي بحاله ، فلا بد من تقديم بينته على بينة الخارج عملا بمقتضى الأدلة.

ولا يقدح في ذلك وقوع القضاء للخارج وصيرورته داخلا بسبب القضاء ، ومع قطع النظر عنه فكل من هو داخل مع قطع النظر عن القضاء يقدم بينته ، ومع بقاء اليد حسا يكون الداخل عمرا كما كان قبل القضاء.

بخلاف ما لو زالت اليد ، فان زوالها سبب لزوال صفة الدخول العرفي ،

١٧١

فلا وجه لتقديم بينته على بينة المدعي الخارج حينئذ. بل ينبغي العكس ، لان العين بعد انتقالها الى يد المدعي ـ أعني زيدا في المثال المذكور ـ يكون هو الداخل عرفا بمقتضى أصالة صحة يده وتصرفه. وأما مع عدم انتقالها فهو بعد خارج وان كان قضي له ، إذ لا عبرة بالدخول الحاصل من جهة القضاء.

هذه غاية ما يوجه به التفصيل المزبور. ولكنه غير وجيه ، لان اليد المستندة إلى القضاء حالها كحاله ، فلا تصلح منشأ لصيرورة صاحبها داخلا ، بعد ما عرفت من أن المناط في الدخول والخروج ما كان مع قطع النظر عن القضاء أو عما هو مستند إليه ، لأن المستند الى المستند إلى الشي‌ء مستند الى ذلك الشي‌ء ، فالدخول المستند اليد إلى المستندة إلى القضاء مستند إليه حقيقة ، فلا عبرة به.

وأما دعوى أصالة الصحة في يد المدعي ـ وحاصلها عدم استناد الدخول الى القضاء بل الى اليد بعد ملاحظة احتمال حقيقتها وإجراء أصالة الصحة فيها ـ فيدفعها ان أصالة الصحة في يده معارضة بأصالة الصحة في يد المأخوذ منه الداخل ـ أعني عمرا في المثل المزبور ـ وهي حاكمة على أصالة الصحة في يده ، لان الشك في صحة يده وفسادها مسبب عن الشك في صحة يد الداخل وفسادها كما لا يخفى. فالأظهر عدم الفرق بين بقاء اليد الحسية وزوالها. والله العالم.

( الثالث ) إذا قدمنا بينة الداخل فهل يحتاج معها الى اليمين كما في القواعد أم لا؟.

والتحقيق فيه أن ينظر الى وجه التقديم : فان كان هو تساقط البينتين وسلامة اليد عن المعارض افتقر الى اليمين ، لان القضاء بدونها حينئذ يكون قضاء بلا ميزان ، وان كان هو ترجيح بينة الداخل للاعتضاد باليد فاليمين غير لازمة ، لان الحاكم للداخل على هذا الوجه مستند الى بينته ، ومع البينة لا حاجة الى اليمين.

١٧٢

وان كان هو التعبد بالأخبار فلا بد من النظر ، لأن الأخبار مختلفة : منها ما يشتمل على الترجيح مع اليمين ، ومنها بدونها. فبأيهما استند الحكم ـ أي تقديم بينة الداخل ـ يتبع حكمه من حيث اليمين وعدمها.

( الرابع ) إذا أراد ذو اليد إقامة البينة قبل ادعاء من ينازعه للتسجيل ، ففي القواعد كما عن التحرير الأقرب الجواز. ولعل وجه الجواز النظر الى عمومات الحكم بين الناس السابق إليها الإشارة في أول هذا الباب ، بل يمكن الاستدلال عليه بعمومات القضاء وفصل الخصومة أيضا بناء على كون المقام من الفصل للخصومة التقديرية.

توضيح المقام : ان حكم الحاكم قد يتعلق بالموضوعات على وجه ليس المقصود منه رفع الخصومة وان ترتب عليه ذلك أحيانا ، كالحكم بالهلال والقبلة وطهارة شي‌ء ونجاسته وأمثال ذلك ، وقد يتعلق على وجه يكون المقصود منه رفع الخصومة ، وهذا أيضا على قسمين ، لأن الخصومة اما أن تكون محققة ولو مع عدم حضور أحد الخصمين كالحكم على الغائب ، وقد يكون مقدرة أي شأنية ، والحكم في الأول رفع الخصومة وفي الثاني دفع لها.

لا إشكال في جواز الحكم على الوجه الأول منهما المقصود منه رفع الخصومة الفعلية ، وأما جوازه على الوجه الثاني المقصود منه رفع الخصومة الشأنية فالظاهر أيضا نهوض عمومات الحكم والقضاء بين الناس بإثباته على هذا الوجه. وأما جوازه على الوجه الأول الغير الراجع الى فصل الخصومة لأحد الوجهين المذكورين فهو مبني على تمامية عمومات الحكم بين الناس ، ولأجل ذلك يستشكل فيه.

وما نحن فيه ـ أعني إقامة البينة للتسجيل ـ من القسم الثاني من الوجه

١٧٣

الثاني ، وهو عكس الحكم على الغائب لعدم حضور المدعى عليه هناك وعدم حضور المدعي هنا.

هذا هو الكلام في مدرك المسألة ، وأما معنى إقامة البينة للتسجيل فقد ظهر مما ذكرنا ، وهو دفع الخصومة التقديرية ، بمعنى إثبات الحق المتنازع فيه قبل تحقق التنازع بموازين القضاء وحكم الحاكم.

وأما فائدته فهي على القول بتقديم بينة الداخل واضحة ، إذ يترتب على هذه البينة والحكم ما يترتب على بينة الداخل مع وجود المدعي وتعارض البينتين ، فيثمر مع موت الشهود أو فسقهم أو نحو ذلك. وأما على القول بتقديم بينة الخارج فلا يثمر الا على تقدير ظهور المدعي ولا يكون له بينة ، ومعه يثمر بناء على كون بينة المنكر مسقطة عن يمينه كما يأتي إنشاء الله تعالى.

فما قاله بعض مشايخنا من عدم الفائدة لغرض التسجيل قبل تحقق الخصومة ، ليس على ما ينبغي.

( الخامس ) إذا لم يكن للمدعي بينة وأقام ذو اليد أو كل منكر بينة ، فهل هي تسقط عنه اليمين كما في القواعد؟.

والتحقيق هو أنه لو قيل بتقديم بينة الداخل بلا يمين فلا إشكال في سقوط اليمين هنا ، لأنه إذا اكتفى ببينة المنكر عن اليمين في صورة معارضة بينته لبينة المدعي ففي صورة عدم المعارضة لزم الاكتفاء والإقناع بها عنها بطريق أولى ، وان قيل بتقديمها مع البينة فإن كان وجه اليمين هو تساقط البينتين بعد تعارضهما وصيرورة اليد سليمة عن المعارض فهنا لا حاجة الى اليمين ، لسلامة بينته هنا عن المعارض مع كونها حجة كما هو المفروض على هذا البناء. وان كان الوجه هو التعبد بظاهر بعض الاخبار الدال على اليمين مع البينة ، ففي الحكم

١٧٤

بسقوط اليمين هنا اشكال ، لاحتمال توقف الحكم لذي اليد على أمور ثلاثة البينة واليد واليمين تعبدا.

الا أن يقال : ان اليمين وحدها كافية للمنكر إذا لم يكن للمدعي بينة ، فوجود البينة معها يصير لغوا. وهو خلف ، إذ المفروض حجية بينة الداخلي.

هذا على القول بتقديم بينة الداخل عند التعارض ، وأما على القول بتقديم بينة الخارج فسقوط اليمين هنا مبني على كون اليمين من المنكر رخصة أو عزيمة ، وقد سبق مرارا أن قوله عليه‌السلام « اليمين على من أنكر » لا يدل على العزيمة بل على الرخصة ، وأنه لو أقام البينة كان كافيا في الحكم له ، فالأظهر ما ذكره العلامة من الكفاية مطلقا.

( السادس ) قضية تقديم بينة الداخل هو أن يطلب الحاكم البينة أولا من المدعى عليه ، فان كان له بينة قضى له ولا يصغى الى مقالة المدعي ، إذ لا فائدة في ذلك ، لان غاية ما للمدعي إقامة البينة على دعواه ، والمفروض تقديم بينة الداخل على بينته.

وهذا على خلاف ما هو المعهود المتعارف بين الناس من مطالبة البينة أولا من المدعي ، وخلاف صريح ما هو المأثور قولا وفعلا من النبي والأئمة صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا أيضا من شواهد بطلان القول بتقديم بينة الداخل.

فان قلت : لا يلزم من تقديم بينة الداخل مطالبة البينة منه أولا على ما هو المتعارف ، لان المدعي هو صاحب الحق والمطالب به ، ومقتضى القاعدة مطالبة البينة ممن يطلب الحق ، ثمَّ لو لم يكن له بينة فله إحلاف المنكر. نعم لو أقام المدعي البينة وقال المنكر ولي أيضا بينه قضي له ، وهذا لا ينافي سؤال البينة أولا من المدعي.

قلت : اما أن نقول بأن الحاكم بعد قيام البينة يجب عليه تلقين المنكر ان

١٧٥

لك إقامة البينة أيضا مثل تلقينه حق الجرح إياه أولا نقول به ، فان قلنا به كان الابتداء بسؤال البينة من المدعي لغوا صرفا وأكلا من القضاء ، إذ لا يستقر القضاء الا بعد النظر في حال المدعى عليه من حيث استطاعته على إقامة البينة على خلاف بينة المدعي وعدمه ، فمقتضى الوضع الطبيعي حينئذ الابتداء بسؤال البينة من المدعى عليه ، لأن الأمر بالأخرة ينتهي إلى سؤالها عنه. وان لم نقل بذلك ساوى بينة المدعي وبينة المدعى عليه حينئذ من حيث الابتداء بالسؤال ، فللحاكم الابتداء بأيهما يريد ، مع أن المعهود الالتزام بسؤال البينة أولا من المدعي ـ فافهم.

( السابع ) إذا أقام البينة على الداخل فادعى الشراء من المدعي أو ثبت الدين فادعى الإبراء ، ففي القواعد ان كانت البينة حاضرة سمعت قبل ازالة اليد وتوفية الدين ، وان كانت غائبة طولبت في الوقت بالتسليم ثمَّ إذا أقام البينة استرد.

وقد يشكل الفرق بين ما ذكره في المسألتين وبين ما إذا ادعى فسق الشهود وكان الخارج غائبا فإنه يمهل ثلاثة أيام كما هو مصرح به في محله.

ثمَّ الفرق بين حضور الشهود وغيابها أيضا لا يخلو عن إشكال ، لان المدعي بعد إثبات دعواه ان كان مستحقا للحكم وجب الحكم ويترتب عليه أثره من التسليم ثمَّ إذا أقام الداخل البينة يسترد ، ففيه جمع بين حق المدعي والداخل ، وان لم يكن مستحقا للحكم باعتبار كون بينة المدعي معلقة على عدم المعارض فلا بد للحاكم من إيقاف الحكم حتى يتفحص عن المعارض لم يستحق الحكم ووجب مطلقا على الحاكم إمهال الداخل إلى إحضار بينته.

وكشف الحال عن هذا المقال : ان القضاء قد يكون تنجيزيا وقد يكون

١٧٦

تعليقيا ، وقد سبق أن التعليق والتنجيز في القضاء يستتبع التعليق والتنجيز في الميزان ، والتعليق في الميزان يتصور على وجوه ثلاثة :

أحدها : أن يكون التعليق في موضع البينة ، بمعنى توقف تحقق البينة الشرعية على عدم شي‌ء لو وجد أوجب انتفاء أصل وجود البينة ، وذلك مثل تعليق وجود البينة المعدلة على عدم مجي‌ء الجارح ، فان عدم الجارح من شرائط وجود البينة التي هي ميزان القضاء.

والثاني : أن يكون التعليق في تحقيق مدلولها ، مثل البينة التي تشهد بالملك بمقتضى الاستصحاب ، فان مضمون هذه البينة موقوف على عدم الدليل على ارتفاع الحالة السابقة.

والثالث : أن يكون التعليق في أصل اعتبارها ، مثل بينة الخارج بالنسبة إلى بينة الداخل ، فان اعتبارها على القول بتقديم بينة الداخل معلق على انتفائها.

والمدعى عليه في هذه الصور الثلاث ان لم يدع المعارض فللحاكم الحكم للمدعي بمقتضى أصالة عدم المعارض ، فيكون الحكم واقعا على نحو التعليق. وأما ان ادعى المعارض فاما ان يقال بوجوب إيقاف الحكم في المواضع الثلاثة مطلقا تفحصا عن المعارض ورجاء لإتيان الداخل به بناء على كون العمل بالأصل في باب القضاء كالعمل به في باب الاحكام من حيث افتقار العمل به الى الفحص عن المعارض. واما أن يقال بعدم إيقاف الحكم مطلقا ، نظرا الى عدم الدليل على وجوب الفحص عن المعارض عليه كما يجب على المجتهد.

فلا وجه لتعطيل حق المدعي مع سلامة حجته ظاهرا عن المعارض ، أو يفصل بين الوجه الأول والوجهين الأخيرين ، فيلتزم في الأول بلزوم الإمهال

١٧٧

وإيقاف القضاء حتى يحضر البينة ، لأن البينة قبل إحراز سلامتها عن الجارح لا تصلح حجة للمدعي فليس له حق يجب مراعاته.

ودعوى إحراز السلامة بحكم الأصل. غير نافعة ، لأن التمسك بالأصل إنما ينفع في الدعاوي مع وجود المقتضى ، وعدم المعارض هنا جزء للمقتضي.

وأما مع عدم المقتضي فلا اعتداد به ، لان الشارع جعل للقاضي موازين غير الأصول كالبينة ونحوها ، فلا يجوز له إهمال دعوى أحد إلا بعد وجود بعض تلك الموازين ، فقبل وجوده يجب عليه التوجه الى الدعوى وعدم الالتفات الى كونها مخالفة للأصل. والا فكل دعوى مخالفة فيلزم أن لا يجاب المدعى من إحضار خصمه ولا الالتفات الى سماع قوله لأصالة عدم الحق وأصالة عدم البينة ونحوهما ، مع أنه ضروري البطلان ، وليس ذلك الا لوجوب إهمال الأصول على القاضي والنظر الى ما دل على وجوب طي الدعاوي بالموازين المعهودة.

ولا كذلك إذا وجد الميزان وأقيمت البينة ، فإنه بعد وجوده لا عذر للقاضي في القضاء غير احتمال وجود معارض ، وهو من قبيل المانع يدفع بالأصل كسائر المقامات.

ومما ذكرنا يظهر أنه لا يرد أن يقال : ان الأصل حجة شرعية ، سواء كان في مقام رفع المانع أو تكميل المقتضي. ووجه عدم الورود ان اتكال القاضي في تحصيل المقتضي بالأصل مناف لما دل على وجوب سماع الدعاوي وفصلها بالموازين ، لان مقتضى وجوب السماع عدم الالتفات إلى أصالة عدم حقيقة الدعوى ، ومقتضى جعل الموازين عدم استناد الفصل الى غير تلك الموازين ، فحيث توقف القضاء على ما ليس بميزان له الا بمؤنة الأصل لم يجز ذلك له.

بخلاف ما لو توقف على ما هو ميزان له في نفسه ، فإنه يجب لوجود المقتضي

١٧٨

بالأدلة الدالة على وجوبه بالبينة مثلا وعدم المانع بحكم الأصل وفي الأخيرين بعدم الإمهال ، لما ذكر في وجه عدم الإمهال مطلقا من عدم الدليل على وجوب الفحص على الحاكم بعد قيام الحجة ، أو يفصل بين صورة حضور البينة فيوقف القضاء حتى يقيمها الداخل مطلقا وفي المواضع الثلاثة ، وبين الغيبة فيقضي بلا مهلة ، لأن حضور البينة يمنع عن العمل بالأصل في إحراز عدم المعارض ، اما لعدم جريانها أو لاستلزام العمل به مع حضورها مخالفة الواقع كثيرا. أو لأن بينة المدعي في هذه الصورة ـ أعني صورة حضور الشهود ـ ليس ميزانا تاما عند العرف ، لان مدعي الدين مثلا ان أثبت مدعاه ببينة الا أن الثبوت الاستصحابى مع ادعاء المديون البراءة الفعلية بالإبراء وادعاء حضور البينة على ذلك ليس مما يترتب عليه عرفا الحكم بالاشتغال الفعلي ، إذ لا بد من نهوض بينة المدعي بإثبات الاشتغال الفعلي ، وهو لا يتم إلا بضميمة الاستصحاب الذي ليس بناء العرف على الالتفات إليه في باب القضاء مع دعوى الإبراء ودعوى حضور الشهود.

والتحقيق أن حضور البينة ـ أي بينة من يدعي الإبراء بعد ثبوت الاشتغال الاستصحابي أو من يدعي الشراء بعد ثبوت ملكية العين ـ يمنع عن التسليم ، كما ذكره العلامة مرسلا له إرسال المسلمات ، لأنه في معرض ضياع حق المدعي الذي وجب لحفظه سماع الدعوى على الحاكم ولو كان ذلك الحق الغرض المتعلق بالعين.

نعم الظاهر أنه لا يمنع عن سائر التصرفات كالركوب والسكنى والبيع والإجارة ونحوها ، فإنه لا مانع منها.

ولعل مراد العلامة أيضا من عدم التسليم ليس هو المنع من التصرفات ، إذ الظاهر أن المراد بالتسليم هو التسليم على وجه التسليط بالإتلاف ، فإنه الذي

١٧٩

لا يجوز مع حضور البينة. والدليل على ذلك هو الأدلة على وجوب فعل الدعاوي والتوجه إليها ، فإن معنى التوجه الى الدعوى والتعرض لفصلها عدم ترك المدعى عليه على حاله التي كان عليها قبل الدعوى ، إذ لو ترك على حاله لم يترتب على سماع دعوى المدعي الأثر المقصود من السماع وهو إيصال الحقوق ، فكل شي‌ء ينافي وصول المدعي الى حقه على تقدير إقامة البينة فلا بد من منع المدعى عليه عنه ، وذلك مثل الإتلاف دون سائر التصرفات.

فلو ادعى دارا مثلا فللمدعي عليه بيعها وإجارتها وسكناها وغير ذلك من التصرفات ما لم يقم المدعي البينة ولو في

حال الدعوى ، واما إتلافها فيمنع منه ، لأنه مناف لحكمة وجوب سماع الدعوى ـ أعني إيصال الحقوق ـ إذ الغرض المتعلق بالعين يفوت بالإتلاف ولا يتداركه دفع القيمة على تقدير ثبوت حق المدعي ، بل قد يتعذر دفع القيمة أيضا. بخلاف سائر التصرفات ، فإنها غير منافية لتوصله الى حقه ولو كان نقلا عينا أو منفعة.

وحينئذ نقول : ان المدعى عليه إذا ادعى الشراء فليس للحاكم تسليم العين الى المدعي الذي أثبت ملكيتها على وجه يتسلط على إتلافها ، وهو المراد بالتسليم في المقام لا مطلقة ولو مع المنع من الإتلاف ، وكذا لو ادعى الإبراء فإنه ليس للحاكم أيضا إلزامه بالتسليم من دون انتظار لقيام البينة على الإبراء ، وكذا الحال في الوجه الثالث من وجوه التعليق في البينة ، أعني ما إذا كان المعلق عليه فقدان المعارض ، كبينة الداخل على القول بتقديمه. بل وكذا الحال في كل مقام يدعي المدعي مع حضور البينة ، فان المدعى عليه لا يخلى وسبيله على وجه يفعل في المدعى به ما يشاء ، بل يمنع عن التصرفات المتلفة ولا يعمل بالأصل في هذه الحالة بالنسبة إلى تلك التصرفات.

ومجمل القول في المقام على وجه كلي هو أن المدعي لا قامة البينة سواء

١٨٠